( رمضان كريم ) هكذا يردّدها المسلمون في أكرم الشهور على الله ، غيـر أنهَّـم لـم يخطـر على بالهم ، أن يهـلّ على أمّـتنا هلالـُه هذا العام ، وحالـُها مخـتلفٌ جـداً ، ليكـونَ أكرمَ شهـر بالخيرات على الأمـّة منذ عقود كثيرة ، إذ عروش الطغـاة بين مُطـاح به ، ومتزلـزل بصيحات الله أكبـر ، ومنتظـر دورُه ليتهاوى إلى أسفل سافليـن .
ولاعجـب ، إذ شهر رمضان هو شهر الثورة على الطغيـان في تاريخ الإسلام .
فغزوة بدر الكبرى ، وفتح مكة ، ووقعـة البُويب التي كُسِرت فيها جيوشُ كسرى _ وهي نظير اليرموك في الشام _ وفتح النوبة ، وفتح الأندلس ، وموقـع بلاط الشهداء ( بواتيه ) في العمق الفرنسي ، وفتح عمورية ، وعين جالوت ، وموقعة شقحب ، وفتح قبرص ، ومعركة المنصورة ضدّ الصليبين ، وغيرها من أيـّام الأمـّة الإسلاميّة العظمى ،
كلُّهـا إنما كانت في شهر رمضان المبارك المعظـَّم .
لقد كان رمضان في العقيدة الإسلامية مرتبطـاً بالقرآنِ المنزَّل ، والجهاد الذي بالعـزِّ مجلّل ، والتخفُّف من شهوات الدنيا والعيش المدلَّل ، للإستعداد لحمل رسالة السماء ، والصعود إلى مدارج العـلاء .
.
ولم يرتبط بموائد الطعام والشـراب ، وليالي السَّهر أمام مرائي الخراب ، إلاّ بعدما انحطـَّت الأمـّة بترك الجهاد ، وتفرّقـت أيادي سبأ بين البلاد ، وتسلّط فيها أهـلُ الجـوْر على العباد .
وهاهي أمـّتنا المجيـدة تعيد رمضانها الذي كان ، لتجمع فيه بين شهر القرآن ، والثورة على الطغيـان ، فتصوم نهارَهـا عن شهوات الدنيا ، فاتحةً الطريق أمام الـروح لتنتشـي بعبـق رسالتها الحضارية الداعية إلى أن تكون أمـةً ناشـرةً ألويـة الخير والإحسـان ، ومحاربة للشر والطغيـان .
قال الحق سبحانه : ( كنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) ، وإنما صـرنا كذلك بسبب حمل رسالتنا للعالم ،
.
وبهذا فسـّر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم هذه الآية ، كما في الصحيح مرفوعا ( خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلـوا في الإسـلام ) ، وقال ابن كثيـر رحمه الله : ( أنفع الناس للناس ) .
وأيُّ نفع _ ليت شعري _ أعظمُ للناس ، من إزالة الظلم ، والطغيـان ، الواقعيْن على الخـلق ، ورفـع كابوس الأنظمة القمعيـّة التي تسوم الناس سوء العذاب ،
وهل بعث الله الأنبياء ، وأنزل عليهم الكتب ، إلاّ لـردع طغيان شياطين الجـنِّ ، والإنس ، ومحاربة الفساد في الأرض .
قال تعالى : ( وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُـمْ غَضَبِي ، وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ) ، وقال جلّ شأنُه : ( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْض لِيُفْسِدَ فِيهَا ، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ) .
وقد اختصر الله تعالى سبب الخُسران في الآخرة بالطغيان ، قال تعالى : ( فأَمَّا مَنْ طَغَى ، وَآثَـرَ الْحَيَاةَ ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى )
وإذا كان الصومُ يضيِّـق مجاري الشيطان في الإنسان ، فيكبح عنه طغيان القوة الغضبية ، والشهوانية ، وذاك من حِكَمِهِ العظيـمة .
فكيف لو ضيَّقنـا في شهر الصـوم ، مجاري شياطيـن الزعماء الطواغيـت في بلادنا ، الذين طغـوْا في البلاد ، فأكثـروا فيها الفساد ، وجعلنا عليهم هذا الشهـر لعنـةً تلعنهم إلى يوم الدين ، كما هو على المؤمنين مغفـرة رحمـة من رب العالمـين ؟!
.
وإذا كانت شياطين الجنّ تُسلسل في هذا الشهر الكريم ، فما أعظـم _ إستدلالاً بأفعال الله تعالى من باب القياس _ أن تقوم الأمـّة بوضع الأغلال في أعنـاق شياطين الطغـاة ، كما وضعتها في عنق شين الفاجرين ، وفرعون مصر ، والبقية تأتي بإذن الله تعالى .
وإذا كان رمضان هو شهر القرآن ، والقرآن لم يُنـزَل ليُتْلـى في المنابر ، ويتسابق الناس فيه ختماته في التروايح ، ويتنافس المتنافسون في حسن الصوت في تغنّيه في المحاريـب فحسـب ،
بل أعظـم سبب لنزولـه هو ماقال الله تعالى في شأنه : ( فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) . وقال : ( وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) .
فشأن القـرآن إذن أنـّه إذا قرىء في ليالي رمضان ، يحـرّك الأمّـة لتجـاهد الطغيان ، ليحكم القرآنُ بين الناس بالحـقّ ، إذ لايقف في وجـه حُكْمِهِ ، ولا يـردُّ الناس عن سبيلِهِ ، ويبتغيها عوجـاً ، إلاّ الطغـاة ، ألـم تروْا إلى إعقـاب الله تعالى إرساله موسى لفرعون بعلة الطغيان : ( إذهب إلى فرعون إنه طغـى ) .
فاكتفى بهذه العلة ، لأنَّ الطغيان هو رأس الإفساد ، وأصل خراب البلاد والعباد ، وأسُّ الصدِّ عن سبل الهدى ، والرشــاد .
وإذا كان رمضان هو شهر غذاء الروح ، فهي إنما تغـذّى لتقوى على حمل الجسد إلى المهام الجسيمة ، والمقامات العظيمـة ، وأيّ مهمة أعظم ، وأيّ رسالة أفخـم ، من مواجهة الذين يفسدون في الأرض ، ومجاهدتهـم ، حتى إنَّ الكلمة في مواجهـتهم هي الجهاد الأفضـل ، وشهيدها هو الشهيـد الأكـمل .
وهل فضـّل الله تعالى أولي العزم من الرسل إلـى بأدائهم هذه المهمّة ، فهذا نوح عليه السلام ، كافح الطغيان ألف سنة إلاّ خمسين عاما ، وإبراهيم واجه وحيـداً أعظم طغاة الأرض بعد فرعون وهو النمروذ ، وموسى الكليم زلزل عرش فرعون ، وعيسى روح الله سيواجه أعظم طاغية في التاريخ ، وهو الأعور الدجال .
وأما محمّد _ صلى الله عليه وسلم _ سيد ولـد آدم ، المصطفى على الناس ، المختـار من بين كـلّ الأنفاس ، فقد بعثه الله ليواجه كـلَّ طغاة العالم ، فزلزل عروشهم ، وحطـَّم طغيانهـم ، وأقام حضارة العـدل ، والخيـر ، والإيـمان ، وعقـد لـواء الرحمة والإحسـان ، إلى آخـر الزمـان .
حامد بن عبدالله العلي