لرابعة : وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به ، لأنهم إذا كانوا عدولاً شهدوا على الناس . فكل عصر شهيد على من بعده ، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين ، وقول التابعين على من بعدهم . وإذ جعلت الأمة شهداء فقد وجب قبول قولهم . ولا معنى لقول من قال : أريد به جميع الأمة ، لأنه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة . وبيان هذا في كتب أصول الفقه .
قوله تعالى : "ويكون الرسول عليكم شهيدا" قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة . وقيل : عليكم بمعنى لكم ، أي يشهد لكم بالإيمان . وقيل : أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم .
قوله تعالى : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" قيل : المراد بالقبلة هنا القبلة الأولى ، لقوله : "كنت عليها" . وقيل : الثانية ، فتكون الكاف زائدة ، أي أنت الآن عليها ، كما تقدم ، وكما قال : "كنتم خير أمة أخرجت للناس" أي أنتم ، في قول بعضهم ، وسيأتي .
قوله تعالى : "إلا لنعلم من يتبع الرسول" قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه تعالى عنه : معنى لنعلم لنرى . والعرب تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم ، كقوله تعالى : "ألم تر كيف فعل ربك" بمعنى ألم تعلم . وقيل :المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم ، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها . وقيل : المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك ، حكاه ابن فورك ، وذكره الطبري عن ابن عباس . وقيل : المعنى إلا ليعلم النبي واتباعه ، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه ، كما يقال :فعل الأمير كذا ، وإنما فعله اتباعه ، ذكره المهدوي وهو جيد . وقيل : معناه ليعلم محمد ، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصاً وتفضيلاً ، كما كنى عن نفسه سبحانه في قوله :
يا ابن آدم مرضت فلم تعدني الحديث . والأول أظهر ، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء ، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة ، علم ما يكون قبل أن يكون ، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقاً واحداً .
وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى : "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء" ، "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين" وما أشبه . والآية جواب لقريش في قولهم : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" وكانت قريش تألف الكعبة ،فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه . وقرأ الزهري إلا ليعلم فـ من في موضع رفع على هذه القراءة ، لأنها اسم ما لم يسم فاعله . وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول . "يتبع الرسول" يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة . "ممن ينقلب على عقبيه" يعني ممن يرتد عن دينه ، لأن القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم ، ولهذا قال : "وإن كانت لكبيرة" أي تحويلها ، قاله ابن عباس و مجاهد وقتادة و التقدير في العربية : وإن كانت التحويلة .
قوله تعالى : "وإن كانت لكبيرة" . ذهب الفرء إلى أن إن واللام بمعنى ما وإلا ، والبصريون يقولون : هي إن الثقيلة خففت . وقال الأخفش : أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة . "إلا على الذين هدى الله" أي خلق الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم ، كما قال تعالى : "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان" .
قوله تعالى : "وما كان الله ليضيع إيمانكم" اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس ، كما ثبت في البخاري من حديث البراء بن عازب ، على ما تقدم . وخرج الترمذي " عن ابن عباس قال : لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله ، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى : "وما كان الله ليضيع إيمانكم" الآية" ، قال :هذا حديث حسن صحيح . فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل . وقال مالك : إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة : إن الصلاة ليست من الإيمان .
وقال محمد بن إسحاق : "وما كان الله ليضيع إيمانكم" أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم ، وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين . وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك "وما كان الله ليضيع إيمانكم" . قال : صلاتكم .
قوله تعالى : "إن الله بالناس لرؤوف رحيم" الرأفة أشد من الرحمة . وقال أبو عمرو بن العلاء : الرأفة أكثر من الرحمة ، والمعنى متقارب . وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى فلينظر هناك . وقرأ الكوفيون وأبو عمرو لرؤف على وزن فعل ، وهي لغة بني أسد ، ومنه قول الوليد بن عقبة :
وشر الطالبين فلا تكنه يقاتل عمه الرؤف الرحيم
وحكى النسائي أن لغة بني أسد لرأف ، على فعل . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع لرؤف مثقلاً بغير همز ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى ، ساكنة كانت أو متحركة .
"
copy/paste من الموقع المذكور أعلاه
__________________
**********
كن كالنخيل عن الاحقاد مرتفعا ::: يلقى بصخر فيلقى اطيب الثمر
|