-----------------------------------------------------
قال الطبري رحمه الله--
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ، مذكِّره آلاءه عنده، وإحسانه إليه، حاضاً له بذلك على شكره على ما أنعم عليه، ليستوجب بذلك المزيد منه: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } يا محمد، للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحقّ { صَدْرَكَ } فنلين لك قلبك، ونجعله وعاء للحكمة { وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ } يقول: وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر: «وَحَلَلْنا عَنْكَ وِقْرَكَ» { الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ } يقول: الذي أثقل ظهرك فأوهنه، وهو من قولهم للبعير إذا كان رجيع سفر، قد أوهنه السفر، وأذهب لحمه: هو نِقْضُ سَفَر.
******************************
ثمّ قال"
وقوله: { أنْقَضَ ظَهْرَكَ } قال: أثقل ظهرك.
# قتادة، قوله: { أَلَمَ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ }: كانت للنبيّ ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له. #.
# الضحاك يقول، في قوله: { وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ } يعني: الشرك الذي كان فيه
.# قال ابن زيد، في قوله: { ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ } قال: شرح له صدرَه، وغفر له ذنبَه الذي كان قبل أن يُنَبأ، فوضعه. وفي قوله: { الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ } قال: أثقله وجهده، كما يُنْقِضُ البعيرَ حِمْله الثقيل، حتى يصير نِقْضاً بعد أن كان سميناً { وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ } قال: ذنبك الذي أنقض ظهرك: أثقل ظهرَك، ووضعناه عنك، وخفَّفنا عنك ما أثقل ظهرَك.
وقوله: { وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ } يقول: ورفعنا لك ذكرك، فلا أُذْكَرُ إلا ذُكِرْتَ معي، وذلك قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
.
----------------------------------------
ثمّ ذكر حديثا فقال"
عن رسول الله ، أنه قال: " أتانِي جِبْرِيلُ فَقالَ: إنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: كَيْفَ رَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ؟ قال: اللّهُ أعْلَمُ، قال: إذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي "
---------------------------- ثمّ قال"
وقوله: { فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد : فإنّ مع الشدّة التي أنت فيها، من جهاد هؤلاء المشركين، ومِن أوَّله: ما أنت بسبيله، رجاءً وفرجاً بأن يُظْفِرَك بهم، حتى ينقادوا للحقّ الذي جئتهم به طوعاً وكَرهاً.ورُوي عن النبيّ أن هذه الآية لما نزلت، بَشَّر بها أصحابه وقال: " لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ "
وقوله: { فَإذَا فَرَغْتَ فانْصَبْ } اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فإذا فرغت من صلاتك، فانصب إلى ربك في الدعاء، وسله حاجاتك.
------------------
ثمّ قال"
وقال آخرون: بل معنى ذلك: { فَإذَا فَرَغْتَ } من جهاد عدوّك { فانْصَبْ } في عبادة ربك.
------------------------------------
ثمّ قال"وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإذا فرغت من أمر دنياك، فانصب في عبادة ربك.
-----------------------
ثمّ رجح قولا فقال"
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن الله تعالى ذكره، أمر نبيه أن يجعل فراغه من كلّ ما كان به مشتغلاً، من أمر دنياه وآخرته، مما أدّى له الشغل به، وأمره بالشغل به إلى النصب في عبادته، والاشتغال فيما قرّبه إليه، ومسألته حاجاته، ولم يخصُصْ بذلك حالاً من أحوال فراغه دون حال، فسواء كلّ أحوال فراغه، من صلاة كان فراغه، أو جهاد، أو أمر دنيا كان به مشتغلاً، لعموم الشرط في ذلك، من غير خصوص حال فراغ، دون حال أخرى.
---------------------------------------------
ثمّ قال"
وقوله: { وَإلى رَبِّكَ فارْغَبْ } يقول تعالى ذكره: وإلى ربك يا محمد فاجعل رغبتك، دون من سواه من خلقه، إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد.
-----------------------------------------------------------------------------
قال الطبري رحمه الله
أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالضحى، وهو النهار كله، وأحسب أنه من قولهم: ضَحِيَ فلان للشمس: إذا ظهر منه؛ ومنه قوله: وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى : أي لا يصيبك فيها الشمس.
وقد ذكرت اختلاف أهل العلم في معناه في قوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا مع ذكري اختيارنا فيه. وقيل: عُنِي به وقت الضحى.
وقوله: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) وهذا جواب القسم، ومعناه: ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك. وقيل: ( وَمَا قَلَى ) ومعناه. وما قلاك، اكتفاء بفهم السامع لمعناه، إذ كان قد تقدّم ذلك قوله: ( مَا وَدَّعَكَ ) فعرف بذلك أن المخاطب به نبيّ الله .
وذُكر أن هذه السورة نـزلت على رسول الله تكذيبا من الله قريشا في قيلهم لرسول الله، لما أبطأ عليه الوحي: قد ودّع محمدًا ربه وقلاه.
* ذكر نماذج من الرواية بذلك:
# : لما أبطأ جبريل على رسول الله ، فقالت امرأة من أهله، أو من قومه: ودّع الشيطان محمدا، فأنـزل الله عليه: ( وَالضُّحَى )... إلى قوله: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
# : أبطأ جبريل على النبيّ حتى قال المشركون: ودّع محمدا ربه، فأنـزل الله: ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
#قالت إمرأة لرسول الله : ما أرى صاحبك إلا قد أبطأ عنك، فنـزلت هذه الآية: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
ثمّ قال "
وقوله: ( وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى ) يقول تعالى ذكره: وللدار الآخرة، وما أعد الله لك فيها، خير لك من الدار الدنيا وما فيها. يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها.
وقوله: ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) يقول تعالى ذكره: ولسوف يعطيك يا محمد ربك في الآخرة من فواضل نعمه، حتى ترضى.
---------------------------------------------------------------------
وقد اختلف أهل العلم في الذي وعده من العطاء،
وإليكم ماذكروه
# عن عليّ بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: عرض على رسول الله ما هو مفتوح على أمته من بعده كَفْرا كَفْرا، فسرّ بذلك، فأنـزل الله ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) فأعطاه في الجنة ألف قصر، في كلّ قصر، ما ينبغي من الأزواج والخدم .
# .
عن قتادة ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) ، وذلك يوم القيامة.
# عن ابن عباس، في قوله: ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) قال: من رضا محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار.
-------------------------------------
ثمّ قال"
وقوله: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ) يقول تعالى ذكره معدّدا على نبيه محمد نعمه عنده، ومذكِّره آلاءه قِبَله: ألم يجدك يا محمد ربك يتيمًا فآوى، يقول: فجعل لك مأوى تأوي إليه، ومنـزلا تنـزله ( وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى ) ووجدك على غير الذي أنت عليه اليوم.
# عن السديّ( وَوَجَدَكَ ضَالا ) قال: كان على أمر قومه أربعين عاما.
وقيل: عُنِيَ بذلك: ووجدك في قوم ضلال فهداك.
وقوله: ( وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ) يقول: ووجدك فقيرا فأغناك، يقال منه: عال فلان يَعيل عَيْلَة، وذلك إذا افتقر؛ ومنه قول الشاعر:
----------------------------------------------------------------------
ثمّ قال"
وقوله: ( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) يقول: وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) : يقول: فاذكره.
------------------------------
قال أبو جرير رحمه الله"
يقول تعالى ذكره مقسما بالليل إذا غشَّى النهار بظلمته، فأذهب ضوءه، وجاءت ظُلمته: ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ) النهار ( وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) وهذا أيضا قسم، أقسم بالنهار إذا هو أضاء فأنار، وظهر للأبصار. ما كانت ظلمة الليل قد حالت بينها وبين رؤيته وإتيانه إياها عِيانا، وكان قتادة يذهب فيما أقسم الله به من الأشياء أنه إنما أقسم به لعِظَم شأنه عنده.
# عن قتادة، قوله (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) قال: آيتان عظيمتان يكوّرهما الله على الخلائق.
قال أبو جرير رحمه الله"
وقوله: ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ) يحتمل الوجهين اللذين وصفت في قوله: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وفي وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وهو أن يجعل " ما " بمعنى " مَنْ، فيكون ذلك قسما من الله جلّ ثناؤه بخالق الذّكر والأنثى، وهو ذلك الخالق، وأن تجعل " ما " مع ما بعدها بمعنى المصدر، ويكون قسما بخلقه الذكر والأنثى.
-----------------------------------------
قال أبو جرير رحمه الله"
قراءة "( والذَّكَرِ والأنْثَى )"
وقد ذُكر عن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: أنهما كانا يقرآن ذلك ( والذَّكَرِ والأنْثَى ) ويأثُرُه أبو الدرداء عن رسول الله .
*
# أتى علقمة الشام، فقعد إلى أبي الدرداء، فقال: ممن أنت ؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال: كيف كان عبد الله يقرأ هذه الآية (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) فقلت: ( وَالذَّكَرِ والأنْثَى ) قال: فما زال هؤلاء حتى كادوا يستضلُّونني، وقد سمعتها من رسول الله .
.
# عن قتادة ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ) قال: في بعض الحروف ( والذَّكَرِ والأنْثَى ).
# عن الحسن أنه كان يقرأها( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ) يقول: والذي خلق الذكر والأنثى؛ قال هارون قال أبو عمرو: وأهل مكة يقولون للرعد: سبحان ما سبَّحْتَ له.
# عن علقمة بن قيس أبي شبل: أنه أتى الشام، فدخل المسجد فصَّلى فيه، ثم قام إلى حَلْقة فجلس فيها؛ قال: فجاء رجل إليّ، فعرفت فيه تحوّش، القوم وهيبتهم له، فجلس إلى جنبي، فقلت: الحمد لله إني لأرجو أن يكون الله قد استجاب دعوتي، فإذا ذلك الرجل أبو الدرداء، قال: وما ذاك ؟ فقال علقمة: دعوت الله أن يرزقني جليسا صالحا، فأرجو أن يكون أنت، قال: مِنْ أين أنت ؟ قلت: من الكوفة، أو من أهل العراق من الكوفة. قال أبو الدرداء: ألم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمِطْهَرة، يعني ابن مسعود، أو لم يكن فيكم من أُجير على لسان النبيّ من الشيطان الرجيم، يعني عَمَّار بن ياسر، أو لم يكن فيكم صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره، أو أحد غيره، يعني حُذَيفة بن اليمان، ثم قال: أيكم يحفظ كما كان عبد الله يقرأ ؟ قال: فقلت: أنا، قال: اقرأ: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) قال علقمة: فقرأت: ( الذكر والأنثى )، فقال أبو الدرداء: والذي لا إله إلا هو، كذا أقرأنيها رسول الله فوه إلى فيّ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردّونني عنها.
وقوله: ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) يقول: إن عَمَلَكُمْ لمختلف أيها الناس، لأن منكم الكافر بربه، والعاصي له في أمره ونهيه، والمؤمن به، والمطيع له في أمره ونهيه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) يقول: لمختلف.
وقوله: ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) جواب القسم، والكلام: والليل إذا يغشى إن سعيكم لشتى، وكذا قال أهل العلم.
*
------------------------------------------------------ .
يتبع