[FRAME="11 70"]ابن الفارض شاعر القصيدة الصوفية والحب الإلهي
ليلى الدردوري
لا تزال أشعار الشاعر العباسي عمر بن الفارض وضع اختلاف في تفسير ماهية الحب الذي قصده، فمن قراء ديوان شعره من فهموا معانيه على ظاهر لفظه، وادعوا أن حب ابن الفارض أرضي مادي، وأن غزله كغزل أبي نواس وغيره، ومنهم من تفهموا معاني غزله الحقيقية، ووقفوا على أسرار نفس صاحبه المتجردة، ففسروه، تفسيراً صوفياً. حتى دعي ابن الفارض “سلطان العاشقين”، إلا أن حبه هو ذلك الحب الرفيع الذي يسمو على المادة وينفلت من قيودها للحاق بمبدع الجمال، وينبوع كل بهاء، ولابن الفارض مذهب خاص في الحب كما له فيه انصراف شديد الوطأة على نفسه، وهو أن يستسلم الإنسان للحب الإلهي استسلاماً كاملاً، وأن يتلاشى فيه، فإن الموت فيه حياة، والتلاشي نعيم وسعادة:
فإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به شهيدا وإلا فالغرام له أهل وابن الفارض يريد أيضا أن يخلع المرء الحياة في اتباع ذلك الحب السامي، فهو لا يخفي أنه قتال وأن “أوله سقم وآخره قتل”. هذا القتل هو أن تحلل إرادة المحب في إرادة المحبوب، وأن ينوب المحب في حقيقة المحبوب. وأما تصرف الشاعر فكان انطلاقا شديدا في طريق حب أسقمه وقتله:
وقد علموا أني قتيل لحاظها
فإن لها في كل جارحة نصل
وحبه ليس له مثل، كما أنه ليس لمحبوب مثل، وليس له بعد، ولا قبل، وهو حب سخي، مندفع يجود حتى بالروح:
ما لي سوى روحي وباذل نفسه
في حب من يهواه ليس بمسرف
وقد استولى على كل جوارح روح صاحبه،
فأسعده من حيث أشقاه وعذبه:
وتعذيبكم عذب لدي وجوركم
علي بما يقضي الهوى لكم عدل
وفي ديوان ابن الفارض مقطوعات كثيرة تصلح للغناء، قد يكون الشاعر نظمها للتغني بها وأشهر شعره الصوفي قصيدتان:
الخمرية ومطلعها:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وقد تغنى فيها الشاعر بخمرة الوحدة الإلهية، وبالسكر الروحي، وبين صفات تلك الخمرة:
صفاء ولا ماء، ولطف ولا هوا
ونور لا نار، وروح لا جسم
ثم هناك التائية الكبرى: وهي قصيدة تقع في 760 بيتاً وتسمى “نظم السلوك” لأنها تشبه طريقا روحيا للارتقاء إلى الله. وقد سميت ب”التائية الكبرى” تمييزا لها من قصيدة تائية أخرى، أما مطلعها فهو:
سقتني حميا الحب راحة مقلتي
وكأسي محيا من عن الحسن جلت
وقد ضمنها الشاعر تجاربه الصوفية فكانت نشيدا من أناشيد الوجد الصوفي، وتمثيلا للعراك المستمر بين الثنائية الضدية الصلاح والشر، والفوز النهائي بمشاهدة الجمال المطلق، جمال الخالق الذي يتجلى في كل ما هو جميل في الطبيعة وكذا في الإنسان. وقد اهتم المتصوفون والعلماء لهذه التائية اهتماما كبيرا فأكثروا من تفسيرها والتعليق عليها. ومن شارحيها الفرغاني(1876م/ 1293ه) والكاشاني (1892م/ 1310ه).
أما الذي شرح ديوان ابن الفارض على ظاهر معناه فهو الشيخ حسن البوريني سنة (1615/1024ه)، واشهر شروح الصوفية شرح الشيخ عبد الغني النابلسي سنة (1730م/ 1143ه).
والمعروف عن ابن الفارض أنه حموي الأصل، ولد في القاهرة سنة (1181م/ 576ه)، نشأ في كنف والديه في عفاف وصيانة وتزهد، واشتغل بالفقه الشافعي، وأخذ الحديث عن ابن عساكر، ثم انحاز إلى التصوف، فاعتزل الناس عدة سنوات، وانفرد للعبادة والتأمل والتجرد، وأوى أولاً إلى مكان خاص في جبل المقطم يعرف بوادي المستضعفين، كان المتجردون يختلفون إليه، ثم انقطع عنه ولزم أباه، ولما توفي والده عاد ابن الفارض إلى التجريد والسياحة الروحية، أو سلوك طريق الحقيقة، فلم يفتح عليه بشيء، ولم يبلغ الكشف، فقصد مكة، وأقام فيها مجاورا نحوا من خمس عشرة سنة، فنضجت شاعريته وكملت مواهب الروحية.
ولما عاد إلى مصر استقبل كرجل بار، وكان الأيوبيون هناك شديدي العناية بفتح المدارس وبعث الروح الدينية، كما كان للصوفية مكانة فريدة بسبب عنايتها الكبرى برياضة الروح. فاحتفل الناس بابن الفارض احتفالا عظيما، وأكرموه على اختلاف طبقاتهم إكراما جزيلا، حتى روي أن الملك الكامل نفسه كان ينزل لزيارته بقاعة الخطابة في الجامع الأزهر.وقد توفي في القاهرة سنة 1237م/ 632ه، ودفن في حضيض جبل المقطم.
وفن ابن الفارض في الحب فن الشاعر الذي اضطرم فيه الحب اضطراما حتى أذهله أحيانا، وقد أراد التعبير عن ذلك الحب والإفصاح عما يجول في نفسه منه، فكان كلامه شعرا تضيق بحوره، وقوافيه عن اندفاع الحب وثورته، وتقصر الألفاظ عن تصوير حقيقته، لذا يحس القارئ أن الشاعر في ضيقة فيبطل القصائد، ويعمد إلى التكرار اللفظي والمعنوي، ويحاول أن يحمل اللفظ مثل ما يحمل المعنى، فيحشر فيه وجوه البديع من جناس وطباق، ويغالي في ذلك مغالاة قلما وصل إليها شاعر، ويعمد إلى التصغير فيكثر منه كما يعمد إلى أساليب الوجدان من مناجاة ومناداة:
ابن الفارض لا يغفل عن الموسيقا الشعرية إلا نادرا، فهو يتغنى بشعره تغنيا، وينظمه موقعا على أوتار نفسه، فتتصاعد أنغام عذبة من الصور اللينة، وتآلف الألفاظ والحروف، وتتكرر بعضها تكرارا موسيقيا، ومن القوافي التي تردد صدى ألحان الحب الداخلية:
خفف السير واتئد يا حادي
إنما أنت سائق بفؤادي
قف بالديار وحي الأربع الدرسا
ونادها فعساها أن تجيب عسى
قصارى القول إذن ان ابن الفارض شاعرسامي الروح، صادق العاطفة،متدفق المعاني، جمع من الموسيقا الشعرية، وعذوبة الكلام الشيء الكثير، وإن لم يخل شعره من ثقل وغموض بسبب الصنعة التي انتشرت في عصره انتشارا شديدا فتسربت إلى الشعر بنزعة من التقليد.
وفي هذا الجو المضطرب سياسيا واجتماعيا،والذي دوت فيه أصوات الثائرين،والخارجين وأصحاب النحل، وفي هذه البيئة التي كان السلطان فيها للظاهرين من القواد والكبراء، وكانت “الدنيا لمن غلب” والدين وسيلة إلى الغايات، في هذا الجو الذي دعا كل ذي طموح إلى التشبه بالقادة، ودعاة البدع الجديدة، وفي هذا العهد الذي شهد معايب وقبائح لم تكن مألوفة في المجتمع العربي الصافي، وإنما هي صدى لجانب منحرف من الخلق الفارسي، إذ انتشرت الزندقة والشعوبية والإسراف في كراهية العرب.
[FRAME="11 70"]التائية الكبرى
للحبيب السيد عبدالله بن علوي الحداد رضي الله عنه
قال السيد الإمام الهمام الحبيب محمد بن زين بن علوي بن سميط نفع الله بالجميع آمين في ( غاية القصد والمراد ) :
القصيدة التائية الكبرى التي مطلعها ( بعثت لجيران العقيق تحيتي ) عدة أبياتها مئتان وخمسون بيتا .
قال سيدنا ومولانا الناظم نفع الله به : هذه القصيدة من أعلى ما نظمناه وأظهرناه لأن لنا قصائد لم نظهرها وإن أقل شرح لها لو شرحت كل بيت عشر ورقات لأن فيها شيئا من مقدمات علوم الكشف ولو رأينا لأهل الزمان رغبة في الخير لشرحناها .
وقال رضي الله عنه : إن السيد العلامة إسماعيل البيتي سألنا أن نأذن له أن يشرح هذه القصيدة ، فأبينا وقلنا له إن فيها علوما غامضة أو نحو هذا ، إن أردت فاشرح الرائية فإن فيها مناسك وسيرا وعلوما ظاهرة .
(وسمعت) أن بعض العلماء الكبار سأل من سيدي أن يشرحها هو . قال سيدي : فقلنا له انظرها وتأملها مرارا . ففعل ، ثم قال لنا لا أقدر على شرحها وقد ظهر لي فيها أربعة عشر علما .
(وسمعت) سيدي ووالدي يروي عن السيد الفاضل شيخ بن حسن الجفري باعلوي وهو يروي عن الشيخ الصوفي حسين بافضل المكي قال : إن بعض علماء الحرمين المتفننين لما وقف عليها أو على غيرها زعم أنه رأى في موضع منها شيئا معيبا ، فذاكر سيدنا الناظم في ذلك فقال له رضي الله عنه : أرنا هذا الموضع الذي زعمت أنه معيب . قال : فطلب العالم ذلك الموضع حتى أعيا في طلبه فلم يره ولم يقع عليه أبدا وكرر ذلك مرارا فلم يره ولم يقع عليه فعرف أن ذلك من كرامات سيدي وتصرفه وكان ذلك سبب تعلقه وانطوائه .
( وقيل ) لسيدي رضي الله عنه : قولكم فيها ومنهم ومنهم في تعاد مراتب الأولياء من الذي هو أثقل أمرا وأشد منهم فيما هو فيه . فأنشد هذا البيت :
ومنهم رجال ظاهرون بأمره = لإرشاد هذا الخلق نهج الطريقة