ضوابط فقهية
ويرى د.عبد الفتاح الشيخ رئيس اللجنة الفقهية بمجمع البحوث الإسلامية أنه في حالة انتشار الوباء، وتأكيد الأطباء حدوث ضرر حقيقي -وليس ظنيا- فلا مفر منه؛ فإن دفع الضرر المحقق (العدوى) مقدم على المصلحة، سواء كان أداء الحج أو العمرة، أو حتى الصلاة في المساجد، شريطة أن يقر الأطباء والفقهاء ذلك بشكل جماعي، مشيرا إلى أهمية عرض القضية على مجمع البحوث للتوصل إلى رأي نهائي فيها.
وشدد على ضرورة اتخاذ الاحتياطات اللازمة للتوثق من خطورة انتشار العدوى، معللا ذلك بأن الإصابة بالمرض في حكم الظني "ولا يمنع الواجب الظن"، خاصة أن القضية تتعلق بفريضة الحج، وهو من الفرائض الخمس التي بني عليها الإسلام، حسب تعبير الشيخ.
وألمح إلى أهمية أن يستمع علماء الدين لتحليل وشرح دقيق من مختلف المتخصصين قبل أن يصدروا فتوى في هذا الموضوع، منبها إلى ضرورة ألا يقتصر الحظر على التجمعات الدينية الإسلامية فقط، بل يجب أن يعمم على جميع التجمعات (دور السينما، والمدارس، والكنائس، ووسائل المواصلات العامة، وغيرها).
وأوضح الشيخ أن قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لا يتنافى مع العمل على دفع الضرر والبعد عن أسبابه؛ تطبيقا لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
الأطباء قبل الفقهاء
د.محمد رأفت عثمان عضو مجمع البحوث الإسلامية يرى أن القضية طبية بالأساس، وأن الأطباء هم أصحاب القرار الحقيقي الذي يتم على أساسه بناء الحكم الفقهي؛ فإذا رأوا أن التجمعات تنشر المرض فلا مانع شرعا من اتخاذ كل الإجراءات الوقائية التي تحفظ للناس حياتهم، وفى هذه الحالة -يؤكد عثمان- ينال المسلم الأجر من الله تعالى؛ لأنه يأخذ حكم "الإحصار الشرعي" أي الذي يريد تأدية عبادة ولا يصل إليها لعذر خارج عن إرادته.
وبين عثمان أنه لا مانع من قصر صلاة الجمعة بل والجماعات على الخلاء، واستخدام الكمامة الواقية فيها؛ حيث ورد أن عمر بن الخطاب أمر مجموعة من الحجاج بالرجوع قبل أن يصلوا إلى بلدة -في طريقهم- ينتشر فيها الطاعون، وحينما رأى أحد الصحابة أن هذا فرار من قدر الله رد عمر: "نفر من قدر الله إلى قدر الله".
ومتفقا معه أشار د.حامد أبو طالب عضو مجمع البحوث الإسلامية إلى عظمة الإسلام، من حيث إنه دين واقعي يراعي ظروف الواقع، وليس مجرد نصوص جامدة، ولهذا أعطى الفقهاء مجالا للاجتهاد في القضايا المستحدثة، وأقر بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.
ولفت إلى رأي أبي حنيفة فيما يتعلق بالفقه الأكبر الذي يستوعب جميع نواحي الحياة دون أن يكون قيدا على حركتها، مضيفا بأنه يجوز لكل من نوى العمرة في هذه الأيام التي يتزايد فيها خطر إنفلونزا الخنازير أن يؤجلها لحين انتهاء هذا الخطر؛ لأن حماية الحياة أولى من العمرة.
وأكد أنه في حالة تزايد الخطر فلا مانع من تأجيل الحج في دولة ما بناء على اتفاق آراء الفقهاء والأطباء، مشددا على ضرورة أن تتخذ السعودية من الإجراءات ما يكفل منع انتشار الوباء، لافتا إلى حقها في عدم منح التأشيرات لبعض الدول التي انتشر فيها الوباء.
ونصح من ابتلاه الله بالمرض ويرغب في الحج أو العمرة أن يصبر ويحتسب وله الأجر من الله تعالى، مدللا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد»، وقال أيضا: «الطاعون شهادة لكل مسلم».
الحياة أهم من الشعائر
وتؤكد د.سعاد صالح أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر أن المحافظة على الحياة أحد المقاصد الرئيسية للشريعة، لافتة إلى أن الإسلام دين يسر لا عسر، والمشقة فيه تجلب التيسير؛ حيث يقول تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، ويقول جل شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
ودعت د.سعاد إلى تطبيق قاعدة «درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة» مستنكرة أن يخاف المسلمون من تأجيل العمرة أو حتى الحج، وكذلك الصلاة في الخلاء؛ لأنه يجب أن يكون خوفهم على حياتهم أكبر من خوفهم على فوات العبادة في هذه الظروف الاستثنائية التي تهدد الحياة!
وفي نفس السياق يؤكد د.عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه بجامعة الأزهر أن من شروط وجوب الحج أن يأمن الحاج على نفسه وصحته حتى وإن توفر المال اللازم، وبالتالي فإن خشية المرض الفتاك كإنفلونزا الخنازير تعد مبررا لتأجيل الحج والعمرة، بل عدم صلاة الجمع والجماعات في المساجد نتيجة التزاحم حتى ولو وصل الأمر إلى الصلاة في المنازل في نهاية المطاف حتى يزول الخطر، حسب تعبيره.
وفي تعليقه على القائلين بتوقف الحج بناء على مثل تلك الفتاوى قال: الحج لن يتوقف؛ لأنه في أسوأ الظروف فإن أهل الحجاز سيقومون به، ووقتها سيكون عدم التزاحم ميزة؛ لإقبال الأصحاء على الحج والطواف الذي لم يتوقف ولن يتوقف أبدا.
وحذر إدريس بعض المشتاقين للحج أو العمرة من جريمة تزوير بطاقة صحية، أو التحايل بأي شكل لأداء الفريضة، مشيرا إلى تنافي مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" مع الإسلام الذي يشترط لتحقيق الغاية الشريفة أن تكون الوسيلة مشروعة، ومن يفعل ذلك ويحج فهو آثم -حسب إدريس- لإيذائه المسلمين، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
وشدد الداعية الإسلامي يوسف البدري على وجوب التداوي أولا قبل الذهاب إلى الحج والعمرة، مشيرا إلى ما ذهب إليه بعض الفقهاء ممن يرون الحج واجبا على التراخي، وأكد أن الاستناد إلى رأي القائلين بأن الحج واجب على الفور كأبي حنيفة ومالك وأحمد وأبي يوسف لا يعني جواز أن يحج المصاب بمرض إنفلونزا الخنازير أو الطيور؛ لأنه في هذه الحالة يؤذي غيره من ضيوف الرحمن.
وأوضح أن الإصابة بالمرض عذر يمنع من أداء الواجب؛ حيث إن القاعدة الشرعية تقول: "لا ضرر ولا ضرار"، لافتا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عام ثمان من الهجرة ولم يحج إلا في العام العاشر، فدل ذلك على جواز التأخير لعذر شرعي.
وعن حكم الشرع فيمن نوى الحج إلا أنه تم منعه لإصابته بالمرض المعدي أو لأي سبب قهري آخر، يقول الشيخ جمال قطب الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر: الله تعالى عليم بنوايا عباده، ويحاسبهم عليها، وقد علم الله أن إنسانا ما نوى الحج ولكنه لم يستطع لأسباب خارجة عن إرادته، فإنه يندرج ضمن من قال الله فيهم: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}.
وأجاز الفقهاء للمريض الذي لا يرجى شفاؤه أن ينيب عنه غيره في الحج، دون أن يجب عليه مرة أخرى، حتى وإن حدثت معجزة إلهية وشفي، وهذا هو الراجح من آراء الفقهاء الذين قاسوه على الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الحج.
بينما قال آخرون: له أن يؤخر الأداء حتى يتم الشفاء، كما ذهب الشافعية والحنابلة، ولفت قطب إلى أن من مات وفي نيته الحج حج عنه وليه أو من ينيبه وليه، كما أن له أن ينيب عنه غيره في حال حياته إن خشي أن يفوته الحج مع الاستطاعة وهو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وغيره
وشكرا