نقد كتاب التكرار اللفظي في القرآن الكريم
نقد كتاب التكرار اللفظي في القرآن الكريم
الكتاب تأليف تركي بن الحسن الدهماني وهو يدور حول تكرار بعض ألفاظ القرآن وقد تحدث فى مقدمته عن سبب تأليف الكتاب فقال:
"أما بعد
فهذا البحث موضوعه تكرار اللفظ في القرآن الكريم والحقيقة ما اخترت هذا الموضوع مجرد اختيار عابر كلا وإنما حبا في التزود من العلم فأنا طالب علم وقد وجدت في نفسي حبا للبحث وخير البحث بحث ما في علوم القرآن وكنت آمل أن أجد الفائدة مما أخذه من هذا البحث وهذا الموضوع الذي اخترته أحد فروع علوم القرآن التي لأبد من البحث فيه ودراسته "
وتحدث الدهمانى عن اللفظ والحروف القرآنية فقال :
"المبحث الأول ألفاظ القرآن وحروفه:
مما أختص به القرآن أنه ذو ألفاظ في غاية الدقة والأحكام ولا غرابة في ذلك فهو كلام الله تعالى المنزل على نبينا محمد (ص) غير ذي عوج قد أكتمل فيه كل شيء بل إنه المعجزة الكبرى الباقية منذ الوحي وحتى وقتنا هذا وإلى ما شاء الله إلى يوم الدين فجمال الكلمة في القرآن " يتمثل في تضاعيف كلام كثير وهي غرة جميعه وواسطة عقده والمنادي على نفسه بتميزه وتخصصه برونقه وجماله واعتراضه في حسنه ومائه " ولما في هذا اللفظ حين يجتمع مع الألفاظ الأخرى ففيه " إشعاع نوراني يتضافر مع جملته ويساعد بعضه بعضا في المعاني العامة للأسلوب والعبارات الجامعة وأن العبارات مجتمعة يساعد بعضها بعضا " ويقول عبد القادر الجرجاني " ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها تكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا وتؤدي في الجملة منى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي مرسومة " ويضف " هل يقع في وهم وأن جهد أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعمله وتلك غريبة وحشية أو تكون حروف هذه أخف وامتزاجها أحسن ومما يكد اللسان أبعد ؟
وهل تجد أحدا يقول " هذه اللفظة فصيحة " إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها
وهل قالوا " لفظة متمكنة ومقبولة " وفي خلافة "قلقة ونابية ومستكرهة " إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما وبالقلقة والبناء عن سوء التلاؤم وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفظا للتالية في مؤادها
وهل تشك إذ فكرت في قوله تعالى { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين } فتجلى لك الأعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقر إلى آخرها " هذا وأن ألفاظ القرآن لما فيه من أعجاز ظهر في نظمه وسياق لفظه وصوره الوعظية والبينة وأعلام التذكير والترغيب والترهيب ومع كل حجة وبرهان وصفة وتبيان وكان قد أعجز من أراد أن يأتي بمثله ولو بآية من آيات النصوص القرآنية ففيه ما قد أبهر عقولا لنظامه والتئامه وإتقانه وأحكامه مما أعجز فصحاء العرب أجمع بتحد القرآن ومعارضته وبت الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه البتة
وكان من علل ذلك هو أنه " استرعاءهم ما فيه من حلاوة اللفظ وطلاوة المعنى والتركيب وعمق ما أشتمل حتى أنه مغدق في جذوره كلما تكشف القارئ عن عمقه رأى ما يصل إليه البشر وكلما أتجه إلى أعلاه وجد ثمرا شهيا " ففي كتاب الله تعالى ألفاظ اختيرت اختيارا يتجلى فيه وجه الأعجاز من هذا الاختيار فهذه الألفاظ نجد أنها تخدم المعاني وبل وأنها تتبعها وتلحق بها ونود أن نبين أمرا هاما للغاية وهي أن الألفاظ القرآنية والكلمات من سبب الأعجاز كلا وإنما يكون في تناسق الكلمات وما تسعه من معان واخلية بيانيه بأسلوب مكتمل البيان يلتقي بنغمه وفواصله وصوره البيانية مع الألفاظ المحكمة والمعاني السليمة وللخطابي المتوفي سنة 388هـ يقول في رسالته ضمن رسائل ثلاث في أعجاز القرآن " وأعلم أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف متضمنا أصح المعاني من توحيد له عزت قدرته وتنزيه له في صفاته ودعاء إلى طاعته وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق " فإنك واجد في ترتيب هذه الألفاظ بحكم أنها خدم للمعني بل وتابعة لها ولاحقة بها وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق "
وكل هذا الكلام عن الإعجاز اللغوى إنما هو خروج على القرآن ذاته فالكلمات ليست معجزة لوجودها فى أى كلام والخروج على القرآن فى هذا الموضوع هو كونه كتاب هدى وليس كتاب لغة فالمسلم لن يستفيد شىء من التراكيب ولا من الألفاظ وإنما يستفيد من معرفة أحكام الله
وتحدث عن ظاهرة التكرار اللفظى فى القرآن فقال :
"البحث الثاني ظاهرة التكرار اللفظي في القرآن
مما لا ريب فيه أن القرآن الكريم ملئ بظاهرة التكرار في الألفاظ والمواضيع على حد سواء فكتاب الله تعالى ليس هو مجرد كتاب يقرأ وكفى وإنما هو كتاب منهاج قويم للعالمين إذ أنه كتاب تربية لهذه الأمة ولمن أراد الدخول فيها والتي هي خير أمة أخرجت للناس فهل من غرابة في أن يكون القرآن به تكرار في الألفاظ الجواب لا فالقرآن هو كتاب تربية وتوجيه وهداية للبشرية وأننا كثير ما نحتاج إلى قراءته بل وحفظه أيضا فنحن كل يوم نكرر القراءة وأثناء ذلك نكرر بعض ذكر الألفاظ من قصص وغير ذلك مما هو مكرر فما وجدنا مللا بل نزداد إيمانا ويقينا ثم أن القرآن حين يتكرر فيه لفظ ما فإن هذا ما هو إلا للتذكير
وأقرأ قوله تعالى { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }
وقوله تعالى { فذكر أن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى } وقد تحدث بعض العلماء في الأسباب من وراء هذا التكرار يقول جلال الدين السيوطي في موضوع ما تكرر نزوله من الآيات ووضع أقوال جماعة من العلماء المتقدمين منهم والآخرين وكان لهؤلاء العلماء أقوال مختلفة لكننا لا نرى إلا ما ذكروه لما فيه من الصواب حيث يقول " صرح جماعة من المتقدمين والمتأخرين بأن من القرآن ما تكرر نزوله قال أبن الحصار " قد يتكرر نزول الآية تذكيرا أو موعظة " وذكر أبن كثير من آية الروح وذكر قوم منه الفاتحة وذكر بعضهم منه قوله تعالى { ما كان للنبي والذين أمنوا } الآية وقال الزركشي في البرهان " قد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه " ويقول محمد قطب في كتابه ( دراسات قرآنية ) " قليل جدا من الآيات أو من العبارات هي التي وردت بنصها أكثر من مرة في القرآن في سورة التوبة آية (73) وفي سورة التحريم آية (9) للتذكير وشحذ الهمة لمقاتلة الكفار والمنافقين يقول الله تعالى { يا أيها النبي جاهد الكفار والنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } وجاء حكاية قول الكفار { ويقولون متى هذا الوعد أن كنتم صادقين } في أكثر من موضع في سورة النمل آية (71) وفي سورة يس آية (48) وفي سورة الملك آية (25) كما جاءت في صيغة أخرى في سورة السجدة(28){ويقولون متى هذه الفتح أن كنتم صادقين} كما جاءت حكاية قولهم كذلك في طلب الآية في أكثر من موضع
{ ويقولون الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } أو { لولا نزل عليه آية من ربه } أو { وقال الذين كفروا } والمقصود من هذا التكرار الأشعار بأنهم يكثرون من ترديد هذه الأقوال ويلحون في التحدي وفي طلب الآية وفيما عدا هذا القليل النادر الذي يكرر لفظه لهدف مقصود نجد أن الظاهرة الحقيقية ليست هي التكرار وإنما هي التنويع " فنحن مع هذا التكرار والتنويع نعيش مع القرآن كل يوم وليلة بمذاق متجدد إذ أننا في كل صلاة من الصلوات المفروضة أو النافلة نقرأ سورة الفاتحة نشعر في كل وقت من أن في قرأتها من مذاق وهذا ولا ريب من الأعجاز القرآني وهكذا هي الحياة مع القرآن يقول محمد قطب " أنها تعطي مذاقات متجددة على الدوام وأن بدت للأول وهلة مكررة وذلك في حدود ظاهرة التكرار ولسنا نتحدث هنا عن المذاقات المتجددة التي يجدها الإنسان مع المعنى الواحد كلما فتح الله عليه بإحساس جديد أو تصوير جديد أو قبس من النور العلوي جديد فذلك أمر آخر لا ينتهي و لا ينفذ ما دامت الحياة " وأقرأ قوله تعالى { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وأن من شيء إلا يسبح بحمد ولكن لا تفقهون تسبيحهم } وقوله تعالى { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وقوله تعالى { ولله يسجد ما في السماوات والأرض } ولو نظرنا في هذه الآيات للحظنا في وضوح التكرار اللفظي الذي طرأ عليه كذلك نرى أن هذه الآيات وأن كانت شبيهة ببعضها البعض ومكرر في الألفاظ إلا أننا نرى أن لكل من هذه الآيات لها خاصيتها المتميزة عن الأخرى بل ونلاحظ أيضا أن هناك كلمة ما متقدمة وأخرى متأخرة إلا أنها مكررة ولكن لها ملامحها الخاصة"
وتكرار بعض الجمل شىء لابد من وقوعه لأن رسالات الرسل واحدة ولذا تكرر الكلام الذى قالته الرسل(ص) لأقوامها كما فى سورة الشعراء
وأما تكرار بعض الجمل الأخرى فيكون حسب سياق الكلام
وأما أسباب التكرار فمتنوعة فالغالب هو أن التكرار فى كثير من الآيات هو تفسير بعض الآيات ببعض وذكر المؤلف بعض الآيات المتكررة بنفس اللفظ وسببها هو أن سياق الكلام اقتضاها كتدليل على شىء وأما الآيات التى اختلفت فى لفظ أو اكثر فهى تفسير لبعضها وفى هذا قال:
وأقرأ هذه الآيات التالية وتأملها مليا
{ وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } وقوله تعالى { وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرأ عظيما } وأقرأ هاتين الآيتين
{ وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }
{ وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } إذ تحول اللفظ الأول في آية إلى مكان آخر في آية أخرى مما يزيد من الحسن ومثل هذا كثير في القرآن
كما أن التكرار يجئ بتنوع وأقرأ هذه الآيات
|