العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: التراب فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الغرق في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرواسى فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرغب في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: اسم فرعون بين القرآن والعهدين القديم والجديد (آخر رد :رضا البطاوى)       :: القضاء في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الطمع في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الاستنباط في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: المواقيت فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: العفاف فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 04-10-2010, 06:37 AM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

مسألة سياسة

وأثار وضع جمهورية الريف مسألة سياسية هامة أثرت في حياة مراكش، وهو موقف الخطابي من العرش والسلطان المغربي، فنسب البعض إليه أنه اعترف بمبدأ السيادة السلطانية، واستدلوا على ذلك بأنه لم يعلن نفسه سلطانا، غير أن السلاطين من الأسرة العلوية لم يقتنعوا بذلك، واعتقدوا أن دولته تمثل انشقاقا على العرش، واستمر سوء التفاهم هذا بينهم وبين الخطابي حتى عهد السلطان محمد الخامس، ونفى الخطابي أن يكون تطلع إلى عرش مراكش بدليل أنه منع أنصاره من الخطبة باسمه في صلاة الجمعة، وأنه كان مستعدا لقبول الأسرة الملكية الحاكمة، وأن يبايع الوطنيون السلطان الذي يحقق أهدافهم بعد تحرير البلاد.

الأوضاع الداخلية في أسبانيا

أصبحت مشكلة الريف والخطابي هي المشكلة الأولى التي تقلق أسبانيا داخليا وخارجيا، فارتفعت القوات الأسبانية في شمال المغرب بعد شهور من هزيمة أنوال إلى 150 ألف مقاتل، وعرضت مدريد على الخطابي الاعتراف باستقلال الريف بشرط أن يكون استقلالا ذاتيا خاضعا للاتفاقات الدولية التي أخضعت المغرب للنظام الاستعماري، فرفض الأمير الاستقلال تحت السيادة الأسبانية.

وداخليا وقع انقلاب عسكري في أسبانيا في (1 صفر 1342هـ = 12 سبتمبر 1923م) وتسلم الحكم فيه الجنرال بريمودي ريفيرا، فأعلن عن سياسة جديدة لبلاده في مراكش، وهي الانسحاب من المناطق الداخلية والتمركز في مواقع حصينة على الساحل، وأدرك ريفيرا أن تعدد المواقع الأسبانية المنعزلة أمر بالغ الخطورة؛ لأنها محاطة بالقبائل المغربية. أما الخطابي فلم يكن هناك ما يدفعه إلى مهادنة الأسبان، خاصة بعد وثوقه بقدرته على طردهم، وبعد رفضهم الانسحاب إلى سبتة ومليلة؛ لذلك بدأ في عمليات قتالية باسلة ضد القوات المنسحبة اعتمدت على أساليب حرب العصابات، واعترفت الحكومة الأسبانية في تعدادها الرسمي أن خسائرها في الستة أشهر الأولى من عام (1343هـ = 1924م) بلغت 21250 قتيلا وجريحًا وأسيرًا رغم إشراف الجنرال ريفيرا بنفسه على عمليات الانسحاب.

واستطاع الخطابي أن يبسط نفوذه على الريف، رغم استمالة مدريد لزعيم منطقة الجبالا الريسوني، فزحف على الجبالا، ودخل عاصمتهم سنة (1344هـ = 1925م) وصادر أملاك المتعاونين مع الأسبان، وألقى القبض على الريسوني، واقتاده سجينا إلى أغادين حيث توفي في سجنه، فأصبح زعيم الريف بلا منازع، وسيطر على مساحة تبلغ 28 ألف كيلومتر مربع، ويسكنها مليون مغربي.

فرنسا.. والريف

وأدرك الأسبان عجزهم الكامل عن مقاومة دولة الريف الناشئة، وقوبلت هذه النتيجة بدهشة كبيرة من الدوائر الاستعمارية التي لم تكن مطمئنة لحركة الخطابي وعلى رأسها فرنسا التي كانت تتوقع أن يتمكن الأسبان يوما ما من القضاء على هذه الحركة، أما الخطابي فكان يحرض على تجنب الاصطدام بالفرنسيين حتى لا يفتح على نفسه جبهتين للقتال في وقت واحد، إلا أن الأوضاع بين الاثنين كانت تنذر بوقوع اشتباكات قريبة.

والمعروف أن فرنسا كانت تخشى من حركة الخطابي أن تكون عاملا مشجعا للثورات في شمال أفريقية، ويرى البعض أن مصالح الرأسمالية التي استثمرت أموالها في بناء ميناء الدار البيضاء الضخم وفي مشروعات أخرى في منطقة ساحل الأطلسي استحسنت بقاء منطقة الريف مضطربة حتى يصعب استخدام الطريق الموصل بين فاس وطنجة، الذي يحول تجارة مراكش إلى ذلك الميناء، واستقرار الأوضاع في الريف سيؤثر سلبا على مصالحها، يضاف إلى ذلك أن الخطابي حرص على دعوة الشركات الأجنبية لاستغلال موارد الريف الطبيعية خاصة البريطانية؛ وهو ما يعني أن تقترب المصالح الرأسمالية البريطانية من المصالح الفرنسية، وتصبح دولة الريف في حالة من الأمان الدولي في ظل التنافس بين هذه المصالح؛ لذلك يقال: إن بعض الأسلحة البريطانية المتطورة في ذلك الوقت بدأت تتدفق على دولة الريف عبر ميناء الحسيمات.

كما أن قيام جمهورية قوية في الريف يدفع المغاربة دفعا إلى الثورة على الفرنسيين، ورفض الحماية الفرنسية؛ لذلك كرهت فرنسا قيام دولة المغاربة مستقلة، وأرسلت تعزيزات عسكرية على الجبهة الشمالية لها في مراكش، وتحينت الفرصة للاصطدام بها والقتال معها، وفشلت محاولات الخطابي للتفاهم مع الفرنسيين للتوصل إلى اتفاق ينظم العلاقة بينهما، فبعث أخاه إلى باريس، وبعث موفدا له إلى السلطات الفرنسية في فاس، لكنهما لم يتوصلا إلى شيء.

الصدام

كان مجموع القوات الفرنسية في مراكش 65 ألف جندي، وكانت فرنسا ترى أن هذه القوات غير كافية لدخول حرب في الريف؛ لذلك أرسلت قوات إضافية أخرى حتى بلغ مجموع هذه القوات 158 ألف مقاتل منهم 133 ألف مغربي، وفي (رمضان 1343هـ = أبريل 1925م) وقعت شرارة الصدام بين الفرنسيين والخطابي، عندما أمدّ الفرنسيون زعماء الطرق الصوفية بالمال والسلاح ليشجعوهم على إثارة الاضطرابات في دولة الريف، فأدى ذلك إلى مهاجمة الريفيين لبعض الزوايا قرب الحدود، ووجد الفرنسيون في ذلك حجة للتدخل لحماية أنصارهم، وعندما بدأ القتال فوجئ الفرنسيون بقوة الريفيين وحسن تنظيمهم وقدراتهم القتالية، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع مدة أربعة أشهر، واستطاعت بعض قوات الريف التسلل إلى مسافة 20 ميلا بالقرب من فاس، وخسر الفرنسيون خسائر فادحة، ووقعت كثير من أسلحتهم في أيدي الريفيين، فقلقت فرنسا من هذه الانتصارات، وأرسلت قائدها العسكري البارع "بيتان" للاستعانة بخبرته وكفاءته.

أسبانيا وفرنسا ضد الريف

كان صمود جمهورية الريف الناشئة أمام فرنسا وأسبانيا والمناوئين لها من المغاربة أمرًا باهرًا رائعا وحالة نادرة في تاريخ الحروب الاستعمارية، يرجع جوهره إلى كفاءة الزعماء الريفيين في ميدان القتال والحرب؛ فقد استخدم هؤلاء المقاتلون خطوط الخنادق المحصنة على النمط الذي أقامته فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، ويكفي الريفيين فخرًا أنهم قادوا الحرب ضد ثلاثة ماريشالات وأربعين جنرالا وحوالي ربع مليون مقاتل فرنسي وأسباني ومغاربي مدعمين بالطائرات والمدرعات وتحت إشراف رؤساء حكوماتهم.

وقد اتخذت فرنسا بعض الإجراءات لتدعيم موقفها في القتال، فأغرت السلطان المغربي بأن يعلن الخطابي أحدَ العصاة الخارجين على سلطته الشرعية، ففعل السلطان ما أُمر به، وقام برحلة إلى فاس لتأليب القبائل على المجاهدين، كذلك نسقت خططها الحربية مع حكومة مدريد، وعقد مؤتمر لهذا الغرض اتفق فيه على مكافحة تجارة السلاح بين الريف وأوروبا، وسمع بتتبع الثائرين في مناطق كل دولة، وتعهدت باريس ومدريد بعدم توقيع صلح منفرد مع الخطابي.

الاستسلام

واتفق الأسبان والفرنسيون على الزحف على جمهورية الريف بهدف تحقيق اتصال عسكري بين الدولتين وخرق الريف، وتقسيم قواته إلى جزأين؛ وهو ما يعرضهم لموقف عسكري بالغ الحرج، إلا أن قدوم الشتاء ببرودته أجَّل هذا الزحف وبعض العمليات العسكرية، وخسر الخطابي في تلك المعارك حوالي 20 ألف شهيد، وبقي بجانبه حوالي 60 ألف مقاتل. اتسعت الحرب في (1344هـ = 1926م) وتجدد الزحف والتعاون العسكري التام بين باريس ومدريد مع تطويق السواحل بأساطيلهما، وقلة المؤن في الريف؛ لأن معظم المقاتلين في صفوف الخطابي من المزارعين، وهؤلاء لم يعملوا في أراضيهم منذ أكثر من عام، وهم يقاتلون في جبهة تمتد إلى أكثر من 300 كم.

ولجأ الفرنسيون إلى دفع المغاربة المتعاونين معهم إلى توجيه دعوة للقبائل لعقد صلح منفرد مع فرنسا أو أسبانيا في مقابل الحصول على حاجاتهم من الطعام، فوجد الخطابي أن الحكمة تقتضي وقف القتال رحمة بسكان الريف وقبائله قبل أن تلتهمهم الحرب، وقبلها الجشع الفرنسي والأسباني والخائنون من المغاربة.

وقد فكر الرجل أن يخوض بنفسه معارك فدائية؛ دفاعا عن أرضه ودينه، إلا أن رفاقه منعوه ونصحوه بالتفاوض، فقرر أن يحصل لبلاده ونفسه على أفضل الشروط، وألا يكون استسلامه ركوعا أو ذلا، ورأى تسليم نفسه للفرنسيين على أنه أسير حرب، واقتحم بجواده الخطوط الفرنسية في مشهد رائع قلّ نظيره في (12 ذي القعدة 1344هـ = 25 مايو 1926م) واستمر القتال بعد فترة. أما هو فنفته فرنسا إلى جزيرة ريونيون النائية في المحيط الهادي على بعد 13 ألف كيلو متر من موطنه الذي شهد مولده وجهاده.

وطال ليل الأسر والنفي بالخطابي وأسرته وبعض أتباعه نيفا وعشرين سنة، قضاها في الصلاة وقراءة القرآن الكريم في تلك الجزيرة الصخرية، عانى فيها قلة المال، فآثر أن يعمل بيديه لتأمين معيشته هو وأسرته، فاشترى مزرعة، وجاهد فيها كسبا للعيش، ولم تفلح محاولاته بأن يرحل إلى أية دولة عربية أو إسلامية؛ لأن فرنسا كانت تعلم أن الرجل يحمل شعلة الحرية في قلبه وهي لم تنطفئ، كما أن كلماته عن تقرير المصير هي عبارات محشوة بالديناميت تفجر الثورات وقبلها نفوس الأحرار.

وفي عام (1367هـ = 1947م) قررت فرنسا نقل الخطابي وأسرته إليها لتضغط به على الملك محمد الخامس لمطالبته الدائمة بالاستقلال، غير أنها استجارت من الرمضاء بالنار، فعندما وصلت الباخرة التي تقله إلى ميناء بورسعيد، التجأ إلى السلطات المصرية، فرحبت القاهرة ببقاء هذا الزعيم الكبير في أراضيها، واستمر بها حتى وفاته في (1382هـ = 1963م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 05-10-2010, 10:55 AM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

العقاد.. رحلة قلم

(في ذكرى وفاته: 26 من شوال 1383هـ)



شباب وإباء

تبوأ العقاد مكانة عالية في النهضة الأدبية الحديثة ندر من نافسه فيها، فهو يقف بين أعلامها، وكلهم هامات سامقة، علمًا شامخًا وقمة باذخة، يبدو لمن يقترب منه كالبحر العظيم من أي الجهات أتيته راعك اتساعه، وعمقه، أو كقمة الهرم الراسخ لا ترقى إليه إلا من قاعدته الواسعة، واجتمع له ما لم يجتمع لغيره من المواهب والملَكَات، فهو كاتب كبير، وشاعر لامع، وناقد بصير، ومؤرخ حصيف، ولغوي بصير، وسياسي حاذق، وصحفي نابه، ولم ينل منزلته الرفيعة بجاه أو سلطان، أو بدرجات، وشهادات، بل نالها بمواهبه المتعددة، وهمته العالية، ودأبه المتصل، عاش من قلمه وكتبه، وترفع عن الوظائف والمناصب لا كرها فيها، بل صونًا لحريته واعتزازًا بها، وخوفًا من أن تنازعه الوظائف عشقه للمعرفة.

وحياة العقاد سلسلة طويلة من الكفاح المتصل والعمل الدءوب، صارع الحياة والأحداث وتسامى على الصعاب، وعرف حياة السجن وشظف العيش، واضطهاد الحكام، لكن ذلك كله لم يُوهِنْ عزمه أو يصرفه عما نذر نفسه له، خلص للأدب والفكر مخلصًا له، وترهب في محراب العلم؛ فأعطاه ما يستحق من مكانة وتقدير.

المولد والنشأة

في مدينة أسوان بصعيد مصر، وُلِدَ عباس محمود العقاد في يوم الجمعة الموافق (29 من شوال 1306هـ= 28 من يونيو 1889)، ونشأ في أسرة كريمة، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة أسوان الأميرية، وحصل منها على الشهادة الابتدائية سنة (1321هـ= 1903م) وهو في الرابعة عشرة من عمره.

وفي أثناء دراسته كان يتردد مع أبيه على مجلس الشيخ أحمد الجداوي، وهو من علماء الأزهر الذين لزموا جمال الدين الأفغاني، وكان مجلسه مجلس أدب وعلم، فأحب الفتى الصغير القراءة والاطلاع، فكان مما قرأه في هذه الفترة "المُسْتَطْرَف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، و"قصص ألف ليلة وليلة"، وديوان البهاء زهير وغيرها، وصادف هذا هوى في نفسه، ما زاد إقباله على مطالعة الكتب العربية والإفرنجية، وبدأ في نظم الشعر.

ولم يكمل العقاد تعليمه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، بل عمل موظفًا في الحكومة بمدينة قنا سنة (1323هـ= 1905م) ثم نُقِلَ إلى الزقازيق سنة (1325هـ= 1907م) وعمل في القسم المالي بمديرية الشرقية، وفي هذه السنة توفي أبوه، فانتقل إلى القاهرة واستقر بها.

الاشتغال بالصحافة


ضاق العقاد بحياة الوظيفة وقيودها، ولم يكن له أمل في الحياة غير صناعة القلم، وهذه الصناعة ميدانها الصحافة، فاتجه إليها، وكان أول اتصاله بها في سنة (1325هـ= 1907م) حين عمل مع العلامة محمد فريد وجدي في جريدة الدستور اليومية التي كان يصدرها، وتحمل معه أعباء التحرير والترجمة والتصحيح من العدد الأول حتى العدد الأخير، فلم يكن معهما أحد يساعدهما في التحرير.

وبعد توقف الجريدة عاد العقاد سنة (1331هـ= 1912م) إلى الوظيفة بديوان الأوقاف، لكنه ضاق بها، فتركها، واشترك في تحرير جريدة المؤيد التي كان يصدرها الشيخ علي يوسف، وسرعان ما اصطدم بسياسة الجريدة، التي كانت تؤيد الخديوي عباس حلمي، فتركها وعمل بالتدريس فترة مع الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني، ثم عاد إلى الاشتغال بالصحافة في جريدة الأهالي سنة (1336هـ= 1917م) وكانت تَصْدُر بالإسكندرية، ثم تركها وعمل بجريدة الأهرام سنة (1338هـ= 1919م) واشتغل بالحركة الوطنية التي اشتغلت بعد ثورة 1919م، وصار من كُتَّابها الكبار مدافعًا عن حقوق الوطن في الحرية والاستقلال، وأصبح الكاتب الأول لحزب الوفد، المدافع عنه أمام خصومه من الأحزاب الأخرى، ودخل في معارك حامية مع منتقدي سعد زغلول زعيم الأمة حول سياسة المفاوضات مع الإنجليز بعد الثورة.

وبعد فترة انتقل للعمل مع عبد القادر حمزة سنة (1342هـ= 1923م) في جريدة البلاغ، وارتبط اسمه بتلك الجريدة، وملحقها الأدبي الأسبوعي لسنوات طويلة، ولمع اسمه، وذاع صيته واُنْتخب عضوا بمجلس النواب، ولن يَنسى له التاريخ وقفته الشجاعة حين أراد الملك فؤاد إسقاط عبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان، فارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان على رؤوس الأشهاد من أعضائه قائلا: "إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه"، وقد كلفته هذه الكلمة الشجاعة تسعة أشهر من السجن سنة (1349هـ= 1930م) بتهمة العيب في الذات الملكية.

وظل العقاد منتميًا لحزب الوفد حتى اصطدم بسياسته تحت زعامة مصطفى النحاس باشا في سنة ( 1354هـ= 1935م) فانسحب من العمل السياسي، وبدأ نشاطُه الصحفي يقل بالتدريج وينتقل إلى مجال التأليف، وإن كانت مساهماته بالمقالات لم تنقطع إلى الصحف، فشارك في تحرير صحف روزاليوسف، والهلال، وأخبار اليوم، ومجلة الأزهر.

مؤلفات العقاد


عُرف العقاد منذ صغره بنهمه الشديد في القراءة، وإنفاقه الساعات الطوال في البحث والدرس، وقدرته الفائقة على الفهم والاستيعاب، وشملت قراءاته الأدب العربي والآداب العالمية فلم ينقطع يومًا عن الاتصال بهما، لا يحوله مانع عن قراءة عيونهما ومتابعة الجديد الذي يصدر منهما، وبلغ من شغفه بالقراءة أنه يطالع كتبًا كثيرة لا ينوي الكتابة في موضوعاتها حتى إن أديبًا زاره يومًا، فوجد على مكتبه بعض المجلدات في غرائز الحشرات وسلوكها، فسأله عنها، فأجابه بأنه يقرأ ذلك توسيعًا لنهمه وإدراكه، حتى ينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى، ويقيس عليها دنيا الناس والسياسة.

وكتب العقاد عشرات الكتب في موضوعات مختلفة، فكتب في الأدب والتاريخ والاجتماع مثل: مطالعات في الكتب والحياة، ومراجعات في الأدب والفنون، وأشتات مجتمعة في اللغة والأدب، وساعات بين الكتب، وعقائد المفكرين في القرن العشرين، وجحا الضاحك المضحك، وبين الكتب والناس، والفصول، واليد القوية في مصر.

ووضع في الدراسات النقدية واللغوية مؤلفات كثيرة، أشهرها كتاب "الديوان في النقد والأدب" بالاشتراك مع المازني، وأصبح اسم الكتاب عنوانًا على مدرسة شعرية عُرفت بمدرسة الديوان، وكتاب "ابن الرومي حياته من شعره"، وشعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ورجعة أبي العلاء، وأبو نواس الحسن بن هانئ، واللغة الشاعرية، والتعريف بشكسبير.

وله في السياسة عدة كتب يأتي في مقدمتها: "الحكم المطلق في القرن العشرين"، و"هتلر في الميزان"، وأفيون الشعوب"، و"فلاسفة الحكم في العصر الحديث"، و"الشيوعية والإسلام"، و"النازية والأديان"، و"لا شيوعية ولا استعمار".

وهو في هذه الكتب يحارب الشيوعية والنظم الاستبدادية، ويمجد الديمقراطية التي تكفل حرية الفرد، الذي يشعر بأنه صاحب رأي في حكومة بلاده، وبغير ذلك لا تتحقق له مزية، وهو يُعِدُّ الشيوعية مذهبًا هدَّامًا يقضي على جهود الإنسانية في تاريخها القديم والحديث، ولا سيما الجهود التي بذلها الإنسان للارتفاع بنفسه من الإباحية الحيوانية إلى مرتبة المخلوق الذي يعرف حرية الفكر وحرية الضمير.

وله تراجم عميقة لأعلام من الشرق والغرب، مثل "سعد زغلول، وغاندي وبنيامين فرانكلين، ومحمد علي جناح، وعبد الرحمن الكواكبي، وابن رشد، والفارابي، ومحمد عبده، وبرناردشو، والشيخ الرئيس ابن سينا".

وأسهم في الترجمة عن الإنجليزية بكتابين هما "عرائس وشياطين، وألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي".

إسلاميات العقاد


تجاوزت مؤلفات العقاد الإسلامية أربعين كتابًا، شملت جوانب مختلفة من الثقافة الإسلامية، فتناول أعلام الإسلام في كتب ذائعة، عرف كثير منها باسم العبقريات، استهلها بعبقرية محمد، ثم توالت باقي السلسلة التي ضمت عبقرية الصديق، وعبقرية عمر، وعبقرية علي، وعبقرية خالد، وداعي السماء بلال، وذو النورين عثمان، والصديقة بنت الصديق، وأبو الشهداء وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وفاطمة الزهراء والفاطميون.

وهو في هذه الكتب لا يهتم بسرد الحوادث، وترتيب الوقائع، وإنما يعني برسم صورة للشخصية تُعرِّفنا به، وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله، مثلما تجلو الصورة ملامح من تراه بالعين.

وقد ذاعت عبقرياته واُشتهرت بين الناس، وكان بعضها موضوع دراسة الطلاب في المدارس الثانوية في مصر، وحظيت من التقدير والاحتفاء بما لم تحظ به كتب العقاد الأخرى.

وألَّف العقاد في مجال الدفاع عن الإسلام عدة كتب، يأتي في مقدمتها: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، والفلسفة القرآنية، والتفكير فريضة إسلامية، ومطلع النور، والديمقراطية في الإسلام، والإنسان في القرآن الكريم، والإسلام في القرن العشرين وما يقال عن الإسلام.

وهو في هذه الكتب يدافع عن الإسلام أمام الشبهات التي يرميه بها خصومه وأعداؤه، مستخدمًا علمه الواسع وقدرته على المحاجاة والجدل، وإفحام الخصوم بالمنطق السديد، فوازن بين الإسلام وغيره وانتهى من الموازنة إلى شمول حقائق الإسلام وخلوص عبادته وشعائره من شوائب الملل الغابرة حين حُرِّفت عن مسارها الصحيح، وعرض للنبوة في القديم والحديث، وخلص إلى أن النبوة في الإسلام كانت كمال النبوات، وختام الرسالات وهو يهاجم الذين يدعون أن الإسلام يدعو إلى الانقياد والتسليم دون تفكير وتأمل، ويقدم ما يؤكد على أن التفكير فريضة إسلامية، وأن مزية القرآن الأولى هي التنويه بالعقل وإعماله، ويكثر من النصوص القرآنية التي تؤيد ذلك، ليصل إلى أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأشياء.

وقد رد العقاد في بعض هذه الكتب ما يثيره أعداء الإسلام من شبهات ظالمة يحاولون ترويجها بشتى الوسائل، مثل انتشار الإسلام بالسيف، وتحبيذ الإسلام للرق، وقد فنَّد الكاتب هذه التهم بالحجج المقنعة والأدلة القاطعة في كتابه "ما يقال عن الإسلام".

شاعرية العقاد

لم يكن العقاد كاتبًا فذا وباحثًا دؤوبًا ومفكرًا عميقًا، ومؤرخًا دقيقًا فحسب، بل كان شاعرًا مجددًا، له عشرة دواوين، هي: يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، وأعاصير مغرب، وبعد الأعاصير، وأشجان الليل، ووحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل، وديوان من دواوين، وهذه الدواوين العشرة هي ثمرة ما يزيد على خمسين عامًا من التجربة الشعرية.

ومن أطرف دواوين العقاد ديوانه "عابر سبيل" أراد به أن يبتدع طريقة في الشعر العربي، ولا يجعل الشعر مقصورًا على غرض دون غرض، فأمور الحياة كلها تصلح موضوعًا للشعر؛ ولذا جعل هذا الديوان بموضوعات مستمدة من الحياة، ومن الموضوعات التي ضمها الديوان قصيدة عن "عسكري المرور" جاء فيها:

متحكم في الراكبـــين

وما لــــه أبدًا ركوبة

لهم المثوبة من بنــانك

حين تأمر والعقـــوبة

مُر ما بدا لك في الطـريق

ورض على مهل شعوبه

أنا ثائر أبدًا وما فـــي

ثورتي أبدًا صعـــوبة

أنا راكب رجلي فـــلا

أمْرٌ عليَّ ولا ضريبة
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 05-10-2010, 10:56 AM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

تقدير العقاد

لقي العقاد تقديرا وحفاوة في حياته من مصر والعالم العربي، فاخْتير عضوًا في مجمع اللغة العربية بمصر سنة (1359هـ= 1940م) فهو من الرعيل الأول من أبناء المجمع، واخْتير عضوًا مراسلا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ونظيره في العراق، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة (1379هـ= 1959م).

وتُرجمت بعض كتبه إلى اللغات الأخرى، فتُرجم كتابه المعروف "الله" إلى الفارسية، ونُقلت عبقرية محمد وعبقرية الإمام علي، وأبو الشهداء إلى الفارسية، والأردية، والملاوية، كما تُرجمت بعض كتبه إلى الألمانية والفرنسية والروسية.

وكان أدب العقاد وفكره ميدانًا لأطروحات جامعية تناولته شاعرًا وناقدًا ومؤرخًا وكاتبًا، وأطلقت كلية اللغة العربية بالأزهر اسمه على إحدى قاعات محاضراتها، وبايعه طه حسين بإمارة الشعر بعد موت شوقي، وحافظ إبراهيم، قائلا: "ضعوا لواء الشعر في يد العقاد، وقولوا للأدباء والشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبه".

وقد أصدرت دار الكتب نشرة بيلوجرافية وافية عن مؤلفات العقاد، وأصدر الدكتور حمدي السكوت أستاذ الأدب العربي بالجامعة الأمريكية كتابًا شاملا عن العقاد، اشتمل على بيلوجرافية لكل إنتاج العقاد الأدبي والفكري، ولا تخلو دراسة عن الأدب العربي الحديث عن تناول كتاباته الشعرية والنثرية.

واشْتُهر العقاد بصالونه الأدبي الذي كان يعقد في صباح كل جمعة، يؤمه تلامذته ومحبوه، يلتقون حول أساتذتهم، ويعرضون لمسائل من العلم والأدب والتاريخ دون الإعداد لها أو ترتيب، وإنما كانت تُطْرح بينهم ويُدلي كل منهم بدلوه، وعن هذه الجلسات الشهيرة أخرج الأستاذ أنيس منصور كتابه البديع " في صالون العقاد".

وفاة العقاد

ظل العقاد عظيم الإنتاج، لا يمر عام دون أن يسهم فيه بكتاب أو عدة كتب، حتى تجاوزت كتُبُه مائةَ كتاب، بالإضافة إلى مقالاته العديدة التي تبلغ الآلاف في بطون الصحف والدوريات، ووقف حياته كلها على خدمة الفكر الأدبي حتى لقي الله في (26 من شوال 1383هـ= 12 من مارس 1964م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 07-10-2010, 10:06 AM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

محمد عزة دروزة.. الكاتب المناضل

(في ذكرى وفاته: 28 من شوال 1404هـ)



ينظر الناس بإعجاب إلى تراث الأجداد، ويتعجبون من قدرة بعضهم على التأليف بغزارة وعمق في جوانب مختلفة من العلم، ويرددون أسماء لامعة في تاريخ فكرنا اتسمت بالتوسع والتنوع في التأليف مثل ابن سينا والذهبي وابن حجر العسقلاني وابن تيمية والسيوطي، ويتحسرون على انقطاع هذه السلسلة من الأعلام الأفذاذ، وعلى ضياع الهمة وضعف الإرادة وانشغال أهل العلم بما لا يفيد، ولو أنهم أمعنوا النظر لتبين لهم أنهم لن ينصفوا وأن هواهم للقديم وميلهم له حجب عنهم رؤية نجوم لامعة ملأت حياتنا المعاصرة فكرا وأدبا وعلما، وكتبت آلاف الصفحات في موضوعات مختلفة اتسمت بالموضوعية وسعة العلم وعمق التناول مع جمال في البيان والأسلوب، وليس ثمة شك في أن محمد عزة (وتنطق عِزّت) دروزة كان واحدا من هؤلاء الأفذاذ، ارتاد مجالات كثيرة؛ فكان أديبا وصحفيا ومترجما ومؤرخا ومفسرا للقرآن.

المولد والنشأة

في مدينة نابلس بفلسطين كان مولد محمد عزة دروزة في (11 من شوال 1305هـ = 21 من يونيو 1887م) ونشأ في أسرة كريمة من قبيلة "الفريحات" التي كانت تسكن الأردن وانحدرت إلى فلسطين واستوطنت نابلس، وكان والده يعمل في تجارة الأقمشة في نابلس، وتلقى دروزة تعليمه في المدارس الابتدائية، وحصل على الشهادة الابتدائية في سنة 1318هـ = 1900م ثم التحق بالمدرسة الرشيدية في نابلس، وهي مدرسة ثانوية متوسطة، وتخرج فيها بعد ثلاث سنوات، حاصلا على شهادتها.

في ميدان العمل
ولم تمكنه ظروف أسرته المادية من استكمال دراسته، فاكتفى بهذا القدر من الدراسة النظامية، والتحق بالعمل الحكومي موظفًا في دائرة البرق والبريد بنابلس (1324هـ = 1906م)، ثم انتقل إلى بيروت للعمل في مديرية البرق والبريد سنة (1333هـ = 1914م) ثم أصبح مديرًا لها، ثم رُقِّي مفتشًا لمراكز البرق والبريد المدنية في صحراء سيناء وبئر سبع، وظل يترقى في وظائفه حتى أصبح في سنة (1341هـ = 1921م) سكرتيرا لديوان رئيس الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن، لكنه تركه بعد شهر، واتجه إلى ميدان التعليم.

وقد حفزه عدم إتمام الدراسة على إكمال ثقافته، وتغطية جوانب النقص بها بالقراءة والاطلاع الدؤوب، قرأ ما وقع تحت يديه من كتب مختلفة في مجالات الأدب والتاريخ والاجتماع والحقوق سواء ما كان فيها باللغة العربية أو بالتركية التي كان يجيدها، ويسرت له وظيفته في مصلحة البريد أن يطلع على الدوريات المصرية المتداولة في ذلك الوقت كالأهرام والهلال والمؤيد والمقطم والمقتطف، وكان البريد يقوم بتوزيع هذه الصحف على المشتركين بها، وهذه الدوريات كانت تحمل زادا ثقافيا متنوعا، ففتحت آفاق الفكر أمام عقل الشاب النابه، ووسعت مداركه، وصقلت مواهبه، وأوقفته على ما يجري في أنحاء الدولة العثمانية من أحداث.

وفي أثناء هذه الفترة التي عملها بدائرة البرق والبريد اتصل بالصحافة، وبدأت محاولاته الأولى في الكتابة، فشارك في تحرير جريدة "الإخاء العثماني" التي كان يصدرها في بيروت أحمد شاكر الطيبي، وكان يترجم لها فصولا مما ينشر في الصحف التركية عن أخبار الدولة العثمانية وأحوال الحركة العربية، وكان يخص جريدة "الحقيقة" البيروتية، التي كان يصدرها كمال بن الشيخ عباس بمقال أسبوعي يتناول موضوعا اجتماعيا أو وطنيا، وشارك أيضا بالكتابة في جريدة فلسطين التي كان يصدرها عيسى العيسى في يافا، وجريدة الكرمل التي كان يصدرها نجيب نصار في حيفا.

في ميدان التربية والتعليم

انتقل دروزة مع فرض الانتداب البريطاني في فلسطين سنة 1342هـ = 1922م إلى ميدان التربية والتعليم، فتولى إدارة مدرسة النجاح الوطنية في نابلس، وتحولت المدرسة على يديه إلى مركز من مراكز الوطنية إلى جانب رسالتها التعليمية والتربوية، فكانت تلقن طلابها حب العرب والعروبة، وتشعل في قلوبهم جذوة الوطنية، وتضع البرامج التي تغذي فيها الاعتزاز بالأمجاد العربية والإسلامية.

وكانت لدروزة خلال إدارته المدرسة محاضرة أسبوعية في الأخلاق، والاجتماع يلقيها على طلاب الصفوف الثانوية، وظل ملتزما بهذا العمل خمس سنوات متصلة، ولم تشغله أعباء المدرسة عن كتابة المقالات الاجتماعية والتربوية، التي كان يمد بها مجلات "الكشاف" في بيروت، و"المرأة الجديدة" في القاهرة، ونشر مقالات سياسية في جريدتي "الجامعة العربية" و"القدس" في فلسطين.

وأدت جهوده في السنوات الخمس التي تولى فيها إدارة المدرسة إلى تحسين نظمها وارتقاء مناهجها حتى أصبحت ذات مكانة كبيرة وتجلى أثره في توجيهها الوطني حيث تخرج في عهد رئاسته، وتتلمذ على يديه كثير من شباب فلسطين الذين كان لهم دور بارز في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية.

الحفاظ على الأوقاف الفلسطينية

انتقل دروزة في سنة 1347هـ = 1928م إلى العمل في إدارة الأوقاف الإسلامية؛ حيث عُين مأمورا للأوقاف في نابلس، ثم رُقِّي في سنة 1351هـ = 1932م مديرا عاما للأوقاف الإسلامية في فلسطين، وظل يشغل هذا المنصب حتى اندلاع الرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية التي كانت قد شبت في سنة 1355هـ = 1936م، ولما كان دروزة من القائمين عليها أصدرت إدارة الانتداب البريطاني قرارًا بعزله عن منصبه في سنة 1356هـ = 1937م وقرارا آخر بمنعه من العودة إلى فلسطين حيث كان خارجها عند استئناف الثورة، ومنذ ذلك التاريخ ابتعد دروزة عن تولي الوظائف الحكومية والأهلية.

مشاركته في الحركة القومية


بدأ نشاط محمد عزة دروزة في ميدان الحركة الوطنية مبكرًا في سنة 1327هـ= 1909م، وشارك في إنشاء الجمعيات الوطنية والأحزاب السياسية، وشارك بتأليف الروايات القومية والمسرحيات التي تمجد العروبة، وتعبّر عن المطامح القومية والرغبة في النهوض، وتبوأ المكانة اللائقة، مثل رواية "وفود النعمان على كسرى أنوشروان" سنة 1333هـ = 1911م، و"السمسار وصاحب الأرض" سنة 1333هـ = 1913م.

وأتاح له عمله المتجول الاتصال بكثير من الشخصيات الوطنية والقومية البارزة وتشكيل الجمعيات الوطنية، التي أصبحت قاعدة الحركة الوطنية في فلسطين مثل "الجمعية الإسلامية المسيحية" وتولى سكرتيريتها، حتى يشعر العالم بأن المعارضة للمطامع الصهيونية من المسلمين والمسيحيين على السواء، وأن دروزة من الداعين إلى توحيد الجمعيات الوطنية التي تعمل في أنحاء فلسطين والتنسيق بين جهودها؛ فعقد المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس في ربيع الأول 1337 = يناير 1919م برئاسة عارف الدحاني، وكان أهم ما صدر عن المؤتمر التأكيد على المطالب القومية في الاستقلال والوحدة واعتبار فلسطين جزءا من سوريا، وفض المطامع الفرنسية وتجديد العلاقات مع بريطانيا على أساس التعاون فقط وعدم قبول أي وعد أو معاهدة جرت بحق البلاد ومستقبلها، وتولى دروزة مع زميل له إعداد مذكرة بخصوص هذا الشأن وتقديمها إلى الحاكم العسكري للبلاد لإرسالها إلى الحكومة في بريطانيا، وإلى مؤتمر السلم المنعقد في باريس، وانغمس دروزة في النشاط الوطني الفلسطيني منذ أن استقر في نابلس، فشارك بجهود مشكورة في انعقاد المؤتمرات السياسية التي كانت تخطط للحركة الوطنية وتتابع نشاطها، وكان على رأس المقاومين للسياسة البريطانية ومشروعاتها المختلفة، فقام مع رفاقه بحركة مقاطعة الدستور وانتخاب مجلس تشريعي مغلول اليد؛ الأمر الذي ترتب عليه وأد الفكرة وقتلها في مهدها، وقاد مظاهرات مختلفة ضد السياسة البريطانية، وأدى هذا إلى اعتقاله، وتقديمه للمحاكمة، والحكم عليه بالسجن، مثلما حدث له في سنة 1353هـ = 1934م، وكان دروزة أحد قادة ثورة فلسطين في سنة 1355هـ= 1936م حيث دعت إلى الإضراب العام، وتحول الإضراب إلى ثورة شعبية كاسحة.

ومال دروزة إلى اتخاذ إجراءات متصاعدة ضد السلطة البريطانية ما لم تستجب لمطالب البلاد، ولم تجد بريطانيا لمواجهة هذه الثورة بُدًّا من اعتقاله هو وزملائه، ولما تجددت الثورة سنة 1356هـ= 1937م كان المسئول عن التخطيط السياسي للثورة الفلسطينية، وكانت تتلقى أوامرها من دمشق حيث كان يقيم دروزة، وغيره من القيادات الفلسطينية اللاجئين بها، وظل هناك قائما على أمر الثورة الفلسطينية حتى اعتقله الفرنسيون بتحريض من الإنجليز في 1358 هـ = 1939م، وحوكم أمام محكمة عسكرية فأصدرت عليه حكما بالسجن، ثم أُفرج عنه سنة 1360هـ= 1941م فذهب إلى تركيا لاجئا، وقضى هناك أربع سنوات عاد بعدها إلى فلسطين، واستمر دروزة يقوم بدوره السياسي في خدمة القضية الفلسطينية حتى اشتد عليه المرض في سنة 1367هـ=1948م، فاستقال من عضوية الهيئة العربية العليا لفلسطين وتفرغ للكتابة والتأليف، وقد سجل مذكراته في ستة مجلدات ضخمة، حوت مسيرة الحركة العربية والقضية الفلسطينية خلال قرن من الزمان.

إنتاجه الفكري

لم يحل انشغال دروزة بالحركة الوطنية الفلسطينية والمشاركة في قيادتها عن الكتابة والتأليف، فبدأ يؤلف خدمة للحركة الوطنية والنهوض بطلاب العلم في المدارس، فكتب رواياته الوطنية التي تشعل الحماس في النفوس الناشئة، وألف مختصرا في تاريخ العرب، بعنوان "دروس التاريخ العربي من أقدم الأزمنة حتى الآن"، وهو كتاب مدرسي للصفوف الابتدائية، وظل معتمدا في جميع المدارس العربية والوطنية الخاصة في فلسطين، ثم اتجه إلى التأليف العام، وهو يدور في ثلاث دوائر يكمل بعضها بعضا ويكمل كل منها رسالة الآخر.

أما الدائرة الأولى فهي الدائرة الفلسطينية، وقد أسهم فيها بعدد من المؤلفات يأتي على قمتها مذكراته الضخمة التي تُعد أضخم عمل في هذا الباب من كتابه "المذكرات الشخصية"، كشفت جوانب غامضة، وأعانت على تفسير بعض القضايا المبهمة في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني، وإلى جانب هذا العمل الكبير ألَّف كتبا كثيرة تخدم القضية الفلسطينية، مثل: "القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها" و"مأساة فلسطين"، "فلسطين" و"جهاد الفلسطينيين عبرة من تاريخ فلسطين"، "قضية الغزو الصهيوني"، "في سبيل فلسطين"، "فلسطين والوحدة العربية" و"من وحي النكبة صفحات مغلوطة" و"مهملة من تاريخ القضية الفلسطينية".

أما الدائرة الثانية فهي الدائرة العربية، وأسهم فيه مؤلفات متعددة منها:

ـ تاريخ الجنس العربي في مختلف الأطوار والأدوار والأقطار من أقدم الأزمنة، وصدر في ثمانية أجزاء نحو ثلاثة آلاف صفحة.

ـ العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي، وصدر في تسعة أجزاء.

ـ الوحدة العربية، في مجلد كبير، وقد نال عنه جائزة من المجلس الأعلى والفنون والآداب بمصر في سنة 1951م.

ـ حول الحركة العربية الحديثة، في ستة أجزاء.

ـ نشأة الحركة العربية الحديثة، في مجلد واحد، تناول فيه أحوال العرب وتاريخ الدولة العثمانية، والجمعيات العربية التي كانت تطالب بالانفصال عن الدولة العثمانية.

أما الدائرة الثالثة: فهي الدائرة الإسلامية، وشارك فيها بمؤلفات متعددة، يتصدرها عمله الكبير "الدستور القرآني والسنة النبوية في شئون الحياة"، وطُبع في مجلدين كبيرين، أوضح فيه ما احتواه القرآن والسنة النبوية من نظم لمختلف شئون الحياة، ويمثل هذا المؤلف تحولا كبيرا في حياة مؤلفه بعد أن استوفى دراسات التاريخ القومي وقضايا المجتمع العربي، حيث اتسعت نظرته أنه لا نجاح للأمة العربية في تحقيق أهدافها دون التماس منهج القرآن والالتزام به.

وله أيضا "التفسير الحديث"، التزم فيه تفسير القرآن الكريم حسب ترتيب نزول السور، وبدأ في تأليفه عندما كان لاجئا في تركيا، وصدر في 12 جزءا، وشارك في كتابة السيرة النبوية بكتابه المعروف "سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صورة مقتبسة من القرآن"، وصدر في مجلدين.

وإلى جانب هذه الكتب الثلاثة الكبيرة له مؤلفات إسلامية متنوعة تواجه الاستشراق والتبشير مثل: "القرآن والمرأة"، "القرآن والضمان الاجتماعي"، "القرآن والمبشرون اليهود في القرآن الكريم".

وفاته

وبعد هذه الحياة العريضة التي حياها "محمد عزة دروزة" مناضلا وكاتبا، وافته المنية في دمشق بحي الروضة في يوم الخميس الموافق (28 من شوال 1404هـ = 26 من يوليو 1984م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 09-10-2010, 10:38 AM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

30 من شوال لسنة 341 هـ 952 م
تولي المعز لدين الله الخلافة الفاطمية في مصر



تطلع الفاطميون منذ أن قامت دولتهم في المغرب إلى فتح مصر فتكررت محاولتهم لتحقيق هذا الحلم غير أنها لم تكلل بالنجاح، وقد بدأت هذه المحاولات منذ عام 301هـ= 913م أي بعد قيام الدولة بأربع سنوات، الأمر الذي يؤكد عزم الخلفاء الفاطميين على بسط نفوذهم على مصر، وكان فشل كل محاولة يقومون بها تزيدهم إصرارا على تكرارها ومعاودتها مرة بعد مرة، ونبهت هذه المحاولات الخلافة العباسية إلى ضرورة درء هذا الخطر، فدعمت وجودها العسكري في مصر، وأسندت ولايتها إلى محمد بن طغج الإخشيد، فأوقفت تلك المحاولات إلى حين.

ولاية المعز لدين الله

ولى المعز لدين الله الخلافة الفاطمية في سنة 341هـ= 952م خلفا لأبيه المنصور أبي طاهر إسماعيل، الخليفة الثالث في قائمة الخلفاء الفاطميين، وكان المعز رجلا مثقفا يجيد عدة لغات مولعا بالعلوم والآداب متمرسا بإدارة شئون الدولة وتصريف أمورها كيسا فطنا يحظى باحترام رجال الدولة وتقديرهم.

وانتهج المعز سياسة رشيدة، فأصلح ما أفسدته ثورات الخارجين على الدولة، ونجح في بناء جيش قوي، واصطناع القادة والفاتحين وتوحيد بلاد المغرب تحت رايته وسلطانه ومد نفوذه إلى جنوب إيطاليا.

ولم تغفل عينا المعز لدين الله عن مصر، فكان يتابع أخبارها، وينتظر الفرصة السانحة لكي يبسط نفوذه عليها، متذرعا بالصبر وحسن الإعداد، حتى يتهيأ له النجاح والظفر.

حالة مصر الداخلية قبل الفتح

كانت مصر خلال هذه الفترة تمر بمرحلة عصيبة، فالأزمة الاقتصادية تعصف بها والخلافة العباسية التي تتبعها مصر عاجزة عن فرض حمايتها لها بعد أن أصبحت أسيرة لنفوذ البويهيين الشيعة، ودعاة الفاطميين يبثون دعوتهم في مصر يبشرون أتباعهم بقدوم سادتهم، وجاءت وفاة كافور الأخشيد سنة (357هـ=968م) لتزيل آخر عقبة في طريق الفاطميين إلى غايتهم، وكان كافور بيده مقاليد أمور مصر، ويقف حجر عثرة أمام طموح الفاطميين للاستيلاء عليها.

وحين تولى زمام الأمور أبو الفضل جعفر بن الفرات ولم تسلس له قيادة مصر، وعجز عن مكافحة الغلاء الذي سببه نقص ماء النيل، واضطربت الأحوال، وضاق الناس بالحكم، كتب بعضهم إلى المعز يزينون له فتح مصر ولم يكن هو في حاجة إلى من يزين له الأمر؛ إذ كان يراقب الأوضاع عن كثب، ويمني نفسه باللحظة التي يدخل فيها مصر فاتحا، فيحقق لنفسه ما عجز أجداده عن تحقيقه.

مقدمات الفتح

كان أمل الفاطميين التوسع شرقا ومجابهة الخلافة العباسية للقضاء عليها، وإذا كانت دعوتهم قد أقاموها في أطراف العالم الإسلامي حتى تكون بعيدة عن العباسيين، فإن ذلك لم يعد مقبولا عندهم بعد أن قويت شوكتهم واتسع نفوذهم، وأصبحت الفرصة مواتية لتحقيق الحلم المنشود، والتواجد في قلب العالم الإسلامي.

وقد بدأ الفاطميون منذ سنة (355هـ= 996) استعدادهم للانتقال إلى مصر، واتخاذ الإجراءات التي تعينهم على ذلك، فأمر المعز بحفر الآبار في طريق مصر، وبناء الاستراحات على طوال الطريق، وعهد إلى ابنه "تميم" بالإشراف على هذه الأعمال.

فتح مصر

حشد المعز لدين الله لفتح مصر جيشا هائلا بلغ 100 ألف جندي أغلبهم من القبائل البربرية وجعل قيادته لواحد من أكفأ القادة هو جوهر الصقلي الذي نجح من قبل في بسط نفوذ الفاطميين في الشمال الأفريقي كله وخرج المعز في وداعهم في 14 من ربيع الأول 358هـ = 4 من فبراير 969م ولم يجد الجيش مشقة في مهمته ودخل عاصمة البلاد في 17 من شعبان 358هـ= 6 يوليو 969م دون مقاومة تذكر، وبعد أن أعطى الأمان للمصريين.

ولاية جوهر

كان أول عمل قام به جوهر الصقلي هو بناء عاصمة جديدة للدولة الفتية، فوضع أساسا لها في يوم وصوله إلى الفسطاط، بناء على توجيهات من الخليفة المعز، وهي مدينة القاهرة في الشمال الشرقي للفسطاط، وجعل لكل قبيلة أو فرقة من فرق الجيش مكانا خاصا بها، وشرع في تأسيس الجامع الأزهر وأحاط العاصمة بسور من الطوب اللبن وجعل له أبوابا في جهاته المختلفة من أشهرها باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح.

وقد حكم جوهر الصقلي مصر أربع سنوات نيابة عن الخليفة المعز، وتعد هذه السنوات من أهم فترات التاريخ الفاطمي في مصر، حيث نجح جوهر بسياسته الهادئة وحسن إدارته من إحداث التغيرات المذهبية والإدارية التي تعبر عن انتقال مظاهر السيادة إلى الفاطميين فزاد في الأذان عبارة: "حي على خير العمل" وجهر بالبسملة في قراءة القرآن في الصلاة وزيادة القنوت في الركعة الثانية من صلاة الجمعة، وأن يقال في خطبة الجمعة: "اللهم صل الله عليه وسلم على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى وفاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سبطي رسول الرسول الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا"، وكان هذا إيذانا بترك المذهب السني في مصر.

وبدا جوهر في إجراء عدة إصلاحات لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها البلاد وتطلع إلى تأمين حدود مصر الشمالية فنجح في ضم الشام، وكانت السيطرة عليه تمثل هدفا إستراتيجيا لكل نظام يتولى الحكم في مصر.

الخليفة الفاطمي في القاهرة

رأى جوهر الصقلي أن الوقت قد حان لحضور الخليفة المعز بنفسه إلى مصر، وأن الظروف مهيأة لاستقباله في القاهرة عاصمته الجديدة فكتب إليه يدعوه إلى الحضور وتسلم زمام الحكم فخرج المعز من المنصورية عاصمته في المغرب وكانت تتصل بالقيروان في 21 من شوال 361 هـ= 5 من أغسطس 972م وحمل معه كل ذخائره وأمواله حتى توابيت آبائه حملها معه وهو في طريقه إليها واستخلف على المغرب أسرة بربرية محلية هي أسرة بني زيري، وكان هذا يعني أن الفاطميين قد عزموا على الاستقرار في القاهرة، وأن فتحهم لها لم يكن لكسب أراضٍ جديدة لدولتهم، وغنما لتكون مستقرا لهم ومركزا يهددون به الخلافة العباسية.

وصل المعز إلى القاهرة في 7 من رمضان 362هـ= 11 من يونيو 972م، وأقام في القصر الذي بناه جوهر، وفي اليوم الثاني خرج لاستقبال مهنئيه وأصبحت القاهرة منذ ذلك الحين مقرا للخلافة الفاطمية، وانقطعت تبعيتها للخلافة العباسية السنية.

قضى المعز لدين الله القسم الأكبر من خلافته في المغرب، ولم يبق في مصر إلا نحو 3 سنوات، ولكنها كانت ذات تأثير في حياة دولته، فقد نجح في نقل مركز دولته إلى القاهرة، وأقام حكومة قوية أحدثت انقلابا في المظاهر الدينية والثقافية والاجتماعية في مصر، ولا تزال بعض آثاره تطل علينا حتى الآن، وجعل من مصر قلبا للعالم الإسلامي ومركزا لنشر دعوته الإسماعيلية والتطلع إلى التوسع وبسط النفوذ.

وقد قامت القاهرة بعد ذلك بدورها القيادي حتى بعد سقوط الدولة الفاطمية في الوقوف أمام المد الصليبي وهجمات المغول، وهو ما يثبت أن العالم الإسلامي كان بحاجة إلى مركز متوسط للقيام بمثل هذه الأدوار، وهذا ما تنبه إليه الفاطميون وأثبتته أحداث التاريخ من قديم الزمان؛ حيث كانت الإسكندرية تشغله في العصر الروماني البيزنطي.

ولم تطل الحياة بالمعز في القاهرة ليشهد ثمار ما أنجزته يداه، لكن حسبه أنه نجح في الانتقال بدولته من المغرب التي كانت تنهكها ثورات البربر المتتالية، ولم تدع له فرصة لالتقاط أنفاسها حتى تكون مستقرا جديدا للتوسع والاستمرار، وأنه أول خليفة فاطمي يحكم دولته من القاهرة، عاصمته الجديدة.

وتوفي الخليفة المعز لدين الله في القاهرة في 16 من ربيع الآخر 365 هـ= 23 من ديسمبر 975م.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 10-10-2010, 12:53 PM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

يوليو 1952.. مسيرة ثورة

(في ذكرى قيامها: 2 من ذي القعدة 1371هـ)



شهدت الحياة السياسية في مصر عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية العديد من الأزمات السياسة في مختلف وجوه النشاط السياسي والاجتماعي، وتمثلت في: قضية الاستقلال الوطني، والنهوض الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، وأزمة فلسطين، وأزمة الديمقراطية، ولم يكن هناك من سبيل للخروج من هذه الأزمات المترابطة إلا بعملية تغيير سياسي تحرك المياه الراكدة.

وكانت قضية الاستقلال أولى القضايا التي شغلت الحياة السياسية في مصر في تلك الفترة، وكان الوفد هو رائد الحركة الوطنية والمطالب بالاستقلال بأسلوبه التقليدي وهو المفاوضة، ففي الفترة بين الحربين العالميتين جرت ست مفاوضات ومباحثات مع الإنجليز للحصول على الاستقلال فشلت جميعا عدا معاهدة (1355هـ= 1936م) التي وقّع عليها الوفد، وقبل فيها ببقاء القاعدة العسكرية البريطانية في مصر، فانحسر جزء من التأييد الشعبي له.

وخلال الحرب العالمية الثانية زاد تسلط الإنجليز على البلاد سياسيا واقتصاديا طبقا لما أملته المعاهدة السابقة من ضرورات الحرب، فلما انتهت الحرب تصاعدت مطالب الجلاء وإعادة النظر في المعاهدة، وفشلت حكومة السعديين وحكومة إسماعيل صدقي في تغييرها؛ فلجأت مصر إلى مجلس الأمن الدولي ليتخذ قرارا بجلاء القوات البريطانية عنها وعن السودان فلم يؤيدها إلا ثلاثة أعضاء؛ فلجأت حكومة الوفد إلى إلغائها في (المحرم 1371هـ= أكتوبر 1951م)، وبذلك وصلت حكومة الوفد إلى أقصى ما تستطيع في المطالبة بالجلاء.

أما الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فشهدت فترة ما قبل ثورة يوليو أزمات اقتصادية أدت إلى اضطرابات اجتماعية وعمالية، فزاد حجم الإضرابات الاقتصادية والنقابية. وفي الريف كان المشهد غريبا؛ إذ يملك 0.5% من الملاك أكثر من ثلث الأراضي الزراعية، وفي مواجهتهم أحد عشر مليونا من الفلاحين المعدمين.

وأدت الأزمات الاقتصادية إلى حدوث هزات اجتماعية فأضرب عمال الحكومة عن العمل، وأضرب المدرسون، وأضرب رجال الشرطة، وظهرت بعض القلاقل في الريف. وكانت الأزمات تحيط بالحكومات المتعاقبة ولا تجد لها مخرجا، وهو ما يدل على عدم قدرة أطر النظام السياسي على استيعاب ما يواجهه من أزمات.

وجاءت قضية فلسطين لتزيد حالة الاحتقان التي يعاني منها المجتمع والحركة السياسية في مصر؛ حيث انتهت حرب فلسطين بهزيمة عانى منها الجيش والسياسة المصرية عامة، وترتب على ذلك لجوء بعض الفصائل في الحركة السياسية في مصر إلى استخدام العنف ضد خصومها، والعمل العسكري ضد المحتل الإنجليزي، وترتب على تلك الهزيمة أيضا بروز الجيش المصري كمؤسسة مرشحة للقيام بدور هام في الحياة السياسة المصرية، فظهرت قضية الجيش وتسليحه كقضية سياسية وليست كقضية عسكرية، وزاد تدهور الأوضاع في مصر مع حريق القاهرة في (جمادى الأولى 1371هـ= يناير 1952م)، وعجز النظام السياسي القائم عن ضبط الأمور وممارسة الحكم. وعرفت الشهور الستة التالية للحريق أربع وزارات لم تكمل آخرها اليومين حتى جاء انقلاب الجيش.

الضباط الأحرار

غابت المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية في مصر فترة جاوزت الخمسين عاما منذ الاحتلال البريطاني لمصر، حيث تم تصفية الجيش من الضباط العرابيين، ثم غُيّب الجيش في السودان، غير أن حركة الضباط بدأت تنشأ في أواخر الثلاثينيات من مجموعات من الضباط بأهداف عامة شائعة تمثل استجابة لروح العداء للاستعمار البريطاني فبدأت بلقاءات شباب الضباط في معسكرهم في "منقباد" بصعيد مصر عام (1357هـ= 1938م)، ومنهم جمال عبد الناصر وعبد اللطيف البغدادي وغيرهما.



ثم ما لبث هؤلاء الضباط أن شكلوا حركتهم التنظيمية السياسية وآثروا الابتعاد عن الارتباط بالحركات الحزبية في المجتمع، وإن انتمى بعض ضباط حركة الضباط الأحرار إلى تيارات سياسية وفكرية معينة، وتشكلت اللجنة لهم عام (1369هـ= 1949م)، وعقدت أول اجتماعاتها واتفقت على تكوين خلايا سرية في الجيش إعدادا للانقلاب العسكري بعد ست سنوات.

إلا أن الضباط عجلوا القيام بانقلابهم بسبب معرفة الملك وأعوانه بحركتهم بعدما دخلوا في مواجهة علنية مع الملك فاروق في انتخابات نادي الضباط أسفرت عن فوز مرشحهم اللواء محمد نجيب على مرشح الملك في رئاسة النادي؛ فتقرر تعجيل موعد قيام الجيش بحركته، خاصة بعد تمكن الجهات الأمنية من كشف أسماء بعض الضباط الأحرار وغالبيتهم في اللجنة التأسيسية.

واختيرت ليلة 22 يوليو لها حتى تفاجأ الحكومة الجديدة التي يرأسها أحمد نجيب الهلالي، قبل أن يتمكن وزير الحربية الجديد من إصدار التعليمات والأوامر بالتصدي لها، ثم أجّل جمال عبد الناصر الموعد ليلة واحدة ليتمكن من استطلاع رأي قيادة الإخوان المسلمين في الموافقة على قيام حركة الجيش.

كان عدد الضباط الأحرار الذين أسهموا فعلا في القيام بحركة 23 يوليو حوالي تسعين ضابطا، كان ثلثهم من الضباط صغيري الرتب من رتبتي النقيب والملازم، أما الثلث الباقي من الضباط فأعلاهم رتبة هو المقدم (البكباشي). ولم يكن للتنظيم أحد في السلاح البحري قط، وكان لديه أعداد يطمئن إليها في سلاحي الفرسان والمدفعية والطيران.

وزارة الهلالي

كان نجاح اللواء محمد نجيب في انتخابات نادي الضباط على غير رغبة القصر ذا تأثير كبير في الحياة السياسية؛ إذ عمل القصر على حل مجلس إدارة نادي الضباط، فاستقال اللواء نجيب، وتدخل رئيس الوزراء حسين سري لإنقاذ الموقف بأن يعين نجيب وزيرا للحربية، فلم يتمكن من ذلك فقدم استقالته؛ فاختار الملك محمد نجيب الهلالي لتشكيل الوزارة الجديدة في (28 شوال 1371هـ= 22 يوليو 1952م)، واختير إسماعيل شريف الموالي للقصر وزيرا للحربية، غير أن هذه الوزارة لم تكمل يومين حتى قامت الثورة، وتحرك الجيش بقيادة اللواء محمد نجيب، وسيطروا على بعض الأماكن العسكرية وقيادة الجيش، وأعلن المقدم أنور السادات البيان الأول للثورة يوم (2 ذي القعدة= 23 يوليو).

واستطاع تنظيم الضباط الأحرار تقويض النظام القائم في ساعات معدودة، واعتلت حركة الجيش قيادة السلطة في البلاد، وقدم اللواء نجيب إلى رئيس الوزراء محمد نجيب الهلالي طلبات الجيش، وهي: تكليف السياسي المخضرم علي ماهر بتشكيل وزارة جديدة، وتعيين اللواء محمد نجيب قائدا عاما للجيش، وطرد ستة من حاشية الملك؛ فرفع رئيس الوزراء هذه الطلبات إلى الملك، فوافق عليها، ثم خُلع الملك فاروق بعد أربعة أيام من قيام الثورة، وغادر الملك وأسرته مصر واتجه إلى إيطاليا، وأُعلن أحمد فؤاد الثاني ملكا على مصر، تحت إشراف مجلس الوصاية.

ولعل نجاح حركة الضباط الأحرار في القيام بانقلابها الناجح، واستطاعتها السيطرة على الحكم وخلع الملك، رغم انكشاف بعض أفرادها قبل القيام بالحركة، وصغر عدد ورتب الضباط القائمين بها، واقتصارهم على بعض الأسلحة دون غيرها -يعود إلى استفادتها من بعض الإمكانات المؤسسية المتاحة لها كتنظيم عسكري؛ حيث قصرت الحركة أهدافها في تحقيق الانقلاب على احتلال أهداف عسكرية محددة هي مبنى قيادة الجيش ومعسكرات العباسية وألماظة، فضلاً عن هدف مدني واحد هو مبنى الإذاعة.

كما أن استقلال الضباط عن الحركة الحزبية مكنهم من التحرك باسم المؤسسة العسكرية، فاستقطبت بذلك ليلة الثورة قسما من الضباط غير المنضمين إليها، مثل: العقيد أحمد شوقي الذي انضم قبل قيام الثورة بست ساعات؛ ثقة منه في اسم محمد نجيب.

كذلك أفاد في فاعلية التحرك استغلال الضباط وضعهم الوظيفي بالجيش، فجرى التحرك في شكل تعليمات تنفيذية، دون إدراك المأمورين بالهدف وراء ذلك، فمثلا يوسف صديق أحد الضباط المشاركين في الثورة أظهر لجنوده أنهم يقومون بعمل خطير لصالح الوطن، ولم يدرك هؤلاء أنهم يقومون بانقلاب عسكري، يستهدف السلطة وخلع الملك، ولعل بعضهم ظن أنه يتحرك تنفيذا لأوامر الدولة وليس العكس. يضاف إلى ذلك أن مخططي حركة يوليو حرصوا أن يجذبوا بعض أصحاب الرتب المعتبرة نسبيا لملء الفراغ في القيادة، فجاء اختيار اللواء محمد نجيب ليرأس الحركة؛ لما يتمتع به من رتبة عالية وسمعة طيبة في الجيش، كما أنه شخصية معروفة للمدنيين.

__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 10-10-2010, 12:53 PM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

قوانين الثورة الجديدة

اتخذت الثورة عددا من الإجراءات المحققة لأهدافها السياسية والاجتماعية التي تبنتها، وفي دعم سلطتها الجديدة وتثبيت أركانها، فأصدرت بعد أيام من قيامها أمرا بإلغاء الألقاب، ثم أصدرت قانون تطهير الإدارة الحكومية.

وقد قام اللواء نجيب بتشكيل وزارة جديدة (18 من ذي الحجة= 7 من سبتمبر) أصدرت بعد يومين من تشكيلها قانون الإصلاح الزراعي الذي حدد الملكية الزراعية، وكان هذا القانون إجراء ثوريا ذا صلة مباشرة بجوهر المشكلة الاجتماعية القائمة وقتها، وأوجد شعبية كبيرة للثورة في الريف. أما القانون الآخر الذي أصدرته الوزارة فهو قانون حل الأحزاب.

كان دستور 1923 يشكل عائقا أمام عدد من القوانين التي تصدرها الثورة، حيث عُرضت هذه القوانين على المحاكم، ودُفع بعدم دستوريتها، كما أن القوانين كانت تصدر بأوامر ملكية من هيئة الوصاية دون عرضها على مجلس النواب لإقرارها؛ لأن المجلس حل قبل قيام الثورة، وهذا الأمر يشكل تهديدا على شرعية الثورة الوليدة؛ لذلك ألغت قيادة الثورة دستور 1923م ببيان أعلنه القائد العام للجيش في (23 من ربيع الأول 1372هـ= 10 من ديسمبر 1952م).

وكان أهم قرارات الثورة في (6 من شوال 1372هـ= 18 من يونيو 1953م) حيث أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بإلغاء النظام الملكي، وإعلان النظام الجمهوري، واستقالت وزارة محمد نجيب، وشُكلت وزارة جديدة ضمت عددا كبيرا من العسكريين، وأصبح نجيب رئيسا للجمهورية، ورئيسا لمجلس قيادة الثورة، ورئيسا للوزراء، وكان أول قرار وقعه الرئيس نجيب مرسوم ترقية الرائد عبد الحكيم عامر إلى رتبة اللواء، وتعيينه قائدا عاما للجيش.

حركة المدفعية والفرسان

عندما قامت ثورة يوليو لم يكن لتنظيم الضباط الأحرار خريطة تنظيمية ترسم الأبنية ومستويات العمل والعضوية وتحدد الاختصاصات وطريقة اختيار القيادات، فلم يظهر من الناحية التنظيمية إلا الهيئة التأسيسية قبل ثورة يوليو، التي ما لبثت أن اتخذت اسم مجلس قيادة الثورة، وتُتخذ فيها القرارات بالأغلبية؛ لذلك وجد كثير من أعضاء التنظيم أنفسهم أمام أحد خيارين: إما أن يرتبطوا بواحد من قيادات الحركة وبخاصة جمال عبد الناصر؛ فيكتسبوا بهذه الصفة ووجودهم السياسي النشط، بينما وجد آخرون أنفسهم في وضع لا يسمح لهم بذلك وبالتالي لم يكونوا إلا مجرد ضباط جيش، لا إسهام لهم في رسم السياسات؛ لذلك بدأ يظهر تيار معارض لقيادة الثورة في سلاح المدفعية وسلاح الفرسان، ففي المدفعية استمرت اجتماعات الضباط الأحرار في السلاح بعد الثورة تناقش مواقف القيادة، واشتد نقد تصرفات عدد منها، وطبعوا منشورات تطالب بتكوين قيادة جديدة عن طريق الانتخاب الحر، فانتهى الأمر باعتقال هؤلاء الضباط في (جمادى الأولى 1372هـ = يناير 1953م).

وفي سلاح الفرسان والمشاة تحدث الضباط عن جمعية عمومية تُعرض عليها القرارات الكبيرة التي تتعلق بالبلاد حتى لا ينفرد عشرة أو أكثر بإصدار مثل هذه القرارات، وطالبوا بإجراء انتخابات لمجلس قيادة الثورة، واقترح بعضهم أن يشمل المجلس أعضاء دائمين وآخرين منتخبين، كما طالب البعض بأن يكون مجلس إدارة نادي الضباط الذي حله الملك هو الممثل المنتخب لحركة ضباط الجيش.

وتقدم هؤلاء بطلب إلى محمد نجيب لتنظيم هيئة الضباط الأحرار، وتكوين رئاسة لها بالانتخاب من مندوبي الأسلحة، وذلك في (ذي الحجة 1371هـ= أغسطس 1952م) فلم تستجب قيادة الثورة لذلك، وما لبثت أن أصدرت قرارا بإلغاء تنظيم الضباط الأحرار بحجة أنه استنفد أغراضه، فتمسك الضباط بتنظيمهم وكونوا لجانا منهم عن طريق الانتخاب. فلما علمت القيادة بذلك نقلت بعض موجهي الحركة خارج أسلحتهم، واعتقلت البعض، فتجمع حوالي أربعمائة ضابط في ميس المدفعية مقررين الاعتصام حتى يُفرج عن زملائهم فاعتُقل البعض وحققت معهم قيادة الثورة، وكانت تلك الكلمة الفصل في وجود تنظيم الضباط الأحرار. وشهد (شهر جمادى الأولى 1372هـ = يناير 1953م)، أي بعد ستة أشهر من قيام الثورة، حملة اعتقالات بين الساسة المدنيين، وقرارا بحل الأحزاب، واعتقال ومحاكمة بعض ضباط المدفعية، وحل تنظيم الضباط الأحرار.

أزمة مارس

لم تقض حملة اعتقالات الضباط المعارضين وحل تنظيم الضباط الأحرار على حركة المعارضة في الجيش، حيث تصاعدت المعارضة بداخله في سلاح الفرسان في (رجب 1373هـ= مارس 1954م)، متواكبة مع حركة الصراع الحزبي ضد قيادة الثورة، وصفّيت الحركتان في أوقات متقاربة.

فقد تشكل مجلس قيادة الثورة من أحد عشر عضوا رأسه محمد نجيب، وكانت القيادة الحقيقية فيه لجمال عبد الناصر رئيس اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، وبدت في المجلس زعامتان، اكتسبت فيها زعامة محمد نجيب تأييد شعبيا كبيرا بسبب الإنجازات التي حققتها الثورة في بداية عهدها، أما زعامة عبد الناصر فقد استمرت علاقته الوثيقة بالضباط سواء في قيادة الثورة أو بين الضباط الأحرار.

وقد ازدادت السلطة الفردية لعبد الناصر مع تقدم انتصار مجلس قيادة الثورة على معارضيه من الأحزاب المختلفة، حيث وقف غالبية المجلس مع عبد الناصر في مواجهة الحركة الحزبية باستثناء يوسف صديق وخالد محيي الدين، وكان دور هذه الأغلبية يضعف بقدر ما كانوا يتغلبون على الحركة الحزبية.

وفي أزمة الصراع على السلطة بين نجيب وناصر، وجد نجيب نفسه رئيسا بلا صلاحيات بل ويتعرض إلى مضايقات تصل إلى حد الإهانة من بعض أعضاء المجلس، فقدم استقالته إلى مجلس قيادة الثورة في (19 من جمادى الآخرة 1373هـ= 22 من فبراير 1954م) فقبل المجلس استقالته، فقامت المظاهرات المؤيدة له التي قادها الإخوان المسلمون وكل القوى المناوئة للاستبداد والتسلط العسكري، وطالبوا بعودة الحكم المدني، كذلك تحرك سلاح الفرسان، وطالب بعودة نجيب.

وأمام هذا الإصرار الشعبي عاد نجيب إلى الحكم مرة ثانية، وأعلن إجراءات لوضع دستور وعودة الحياة المدنية، إلا أن عبد الناصر أدار معركة أخرى في الخفاء تخلص خلالها من مؤيدي نجيب في الجيش، ودبرت أعمال شغب وإضرابات في عدد من أحياء القاهرة، وقامت مظاهرات مدفوعة الأجر تندد بالحكم الديمقراطي وتدعو إلى سقوط نجيب، واقتحمت مجلس الدولة، واعتدت على رئيسه الفقيه الدستوري الكبير عبد الرزاق السنهوري بالضرب، وحلّت جماعة الإخوان المسلمين، وبذلك استطاع عبد الناصر أن يجرد محمد نجيب من مؤيديه قبل معركته معه التي انتهت في (11 من شعبان 1373هـ= 17 من أبريل 1954م) باستقالة نجيب، وتولي عبد الناصر مكانه.

السودان والجلاء

كان موضوع السودان هو نقطة الخلاف الدائمة بين المفاوضين المصريين والبريطانيين لمدة تزيد على الثلاثين عامًا، فمصر تعتبر السودان جزءا منها لا يمكن التنازل عنه، وبريطانيا تريد فصل الاثنين؛ لذلك رأى رجال الثورة حل مشكلة السودان حتى يتمكنوا من التفاوض مع الإنجليز للجلاء عن مصر، فوافق الزعماء السودانيون على هذا الأمر، ودمجت الأحزاب السودانية التي تنادي بالاتحاد مع مصر في الحزب الوطني الاتحادي.

وكان على السودانيين أن يقرروا مصيرهم، إما بالاتحاد مع مصر أو الاستقلال، إلا أن سياسة بعض رجال الثورة خاصة "صلاح سالم" المسئول عنه الملف السوداني أدت إلى سقوط وزارة إسماعيل الأزهري المؤيدة للاتحاد مع مصر، وتألفت وزارة جديدة كانت تطلب الاستقلال، وبذلك انفصل السودان عن مصر.

وقامت الثورة بالتفاوض مع الإنجليز للجلاء عن مصر حتى جلت نهائيا عن مصر في (10 من ذي الحجة 1375هـ= 18 من يوليو 1956م). وانتقد الكثيرون اتفاقية الجلاء؛ لأنها أبقت مصر مرتبطة بالإنجليز، وضمنت لهم العودة إلى قواعدهم العسكرية في حالة حدوث اعتداء على مصر أو تركيا، وكان أكثر المنتقدين لها الإخوان المسلمين، وهو ما أوجد فجوة عميقة بين الجانبين.

…إن ثورة يوليو وأحداثها غزيرة؛ لأنها ارتبطت بمرحلة من التطور في مصر والعالم العربي، تصاعدت فيها موجات التحرير من الاستعمار والرغبة في الاستقلال، وهو ما عملت الثورة على تدعيمه ومساندته؛ فأيدت حركات التحرر العربي وغيرها.

أما على صعيد الداخل فكان للثورة أنصارها وخصومها، ضحاياها والمنتفعون منها، وكل يتخذ موقفه من تجربته التاريخية وملاصقته للحدث، وما تعرض له بسبب مواقفه. وإن كانت الثورة نجحت في إقصاء الملك عن عرشه وإقامة الجمهورية وإجلاء الإنجليز، وتحقيق نوع ما من العدالة الاجتماعية استفادت منه بعض طبقات الشعب خاصة المعدمة والفقيرة، فإن الديمقراطية وحرية الإنسان وكرامته كانت أولى ضحاياها؛ حيث نحّت الثورة الحياة الليبرالية التي اتسمت بها الحياة السياسية قبل الثورة، والتي تعد من أزهى عصور الديمقراطية في مصر، وجاءت بالحكم الفردي العسكري؛ حيث ذابت المؤسسات والقوى السياسية في شخص الزعيم، فأصبح هو القائد والمؤسسة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .