العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: The world centre (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: التراب فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الغرق في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرواسى فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الرغب في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: اسم فرعون بين القرآن والعهدين القديم والجديد (آخر رد :رضا البطاوى)       :: القضاء في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الطمع في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الاستنباط في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: المواقيت فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 10-07-2010, 06:53 AM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الخديوي إسماعيل.. بين الطموحات والديون

(في ذكرى عزله عن حكم مصر: 29 من رجب 1297هـ)



الخديوي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا، من الشخصيات التاريخية الهامة والبارزة في تاريخ مصر في القرن التاسع عشر؛ فقد كان صاحب مشروع مُكمِّل لمشروع جدِّه الكبير محمد علي باشا في بناء دولة مستقلة قوية تقتبس من الغرب علومه ومعارفه لبناء نهضتها وحضارتها؛ لذا داعبت أحلامه أن تكون مصر "قطعة من أوربا"، وشهد عمره إنجازات كبيرة، في مجالات عدة، منها: زيادة الرقعة الزراعية، وشقّ الترع الضخمة، وبناء القاهرة الحديثة، والاهتمام بالآثار والتعليم، ومنها أيضا تأسيس أول مجلس للشورى النواب في تاريخ مصر.

بالإضافة إلى محاولاته بناء إمبراطورية مصرية في أفريقيا، على غرار الدول الكبرى، وهو ما رفضته أوروبا الاستعمارية؛ خوفا على مصالحها، ولذلك سعتْ في تحطيم مشروعه النهضوي، وعزله عن حكم مصر، ثم تشويه صورته وإنجازاته في إطار حملة شعواء، حاولت أن تُفقد هذا الرجل اعتباره ومكانته، وتصويره على أنه مسرف منحلٌّ مستبدٌّ طاغية، استولى على السلطة والثروة وأنفقها بلا حساب.

النشأة

وُلد إسماعيل في (1245هـ = 1830م) بالقاهرة وتلَّقى تعليمه بمدرسة خاصة أنشأها جده محمد علي بالقصر العالي بالقاهرة؛ حيث تخرج فيها على يد نخبة من الأساتذة، فتعلم مبادئ العلوم واللغة العربية واللغتين الفارسية والتركية، ولما أتمَّ السادسة عشرة من عمره أوفده جده في بعثة علمية إلى باريس؛ حيث التحق بكلية "سان سير" العسكرية الشهيرة التي تخرج فيها كثير من الأمراء والقادة العسكريين المصريين، ووصفه أحد أساتذته في الكلية بأنه طراز فريد نادر لمن وُلد ليحكم، وربما ليصنع التاريخ.

وبعد عودته إلى مصر سطع نجمه، وذاعت شهرته، وخاصة بعدما آلت إليه ولاية العهد، وعُرفت عنه كفاءته السياسية والإدارية، ومثَّلَ مصر في العديد من المهام الخارجية، ثم آل إليه حكم مصر سنة (1279هـ = 1863م) فكانت مرحلة جديدة في تاريخه وتاريخ مصر.

إسماعيل بين الحكم والحلم

كان إسماعيل يطمح في توسيع سلطانه وإقامة دولة قوية في مصر بعدما حطمت الدول الأوروبية آمال جده محمد علي باشا في إقامة دولة مصرية كبرى قبل عشرين عامًا، واستوعب الحفيد إسماعيل دروس أسلافه، وسعى إلى أن يتفادى الأخطاء والأخطار التي وقعوا فيها باتّباعه طرقا ووسائل سياسية مختلفة؛ فقرر ألا يصطدم بالدولة العثمانية، وأدرك أن المال أمضى من السيف في قضاء المصالح في الأستانة.

ونجح إسماعيل في بداية ولايته أن يقنع السلطان العثماني بزيارة مصر، وكانت أول زيارة لسلطان عثماني لمصر بعد فتحها العثماني على يد سليم الأول، وحصل إسماعيل على لقب "خديوي" (وهي كلمة فارسية تعني السيد أو المليك)، ثم صدر فرمان آخر يقضي بتغيير نظام وراثة ولاية مصر من أكبر أبناء أسرة محمد علي إلى أكبر أبناء إسماعيل، وبذلك اًصبح يتمتع بقدر كبير من الاستقلال، خاصة في النواحي الإدارية والتشريعية والمالية، ثم استصدر فرمانا آخر من السلطان يعترف بأن السودان وما يفتحه الخديوي فيه من أملاك الخديوية المصرية، ثم توالت الفرمانات التي توسّع استقلال مصر الذاتي فيما يتعلق بسنّ القوانين والنظم، وإبرام الاتفاقيات الجمركية والمعاهدات التجارية، وعقد القروض وزيادة عدد الجيش وبناء السفن الحربية.

أما العلاقات مع الدول الأوروبية فقرر إسماعيل ألا يصطدم بأوربا، وأن يستفيد من المتناقضات بينها لتحقيق مصالحه، وأن يبني دولته الحديثة بالتعاون مع أوربا وليس بالتحدي لها؛ لذا انفتح عليها جميعا بلا تميز ولا تحيز، بل وسَّع علاقاته، وأقام لأول مرة علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتفاديًّا للصدام مع أوروبا قرر أن يكون توسعه نحو الجنوب في القارة الأفريقية المجهولة. وقد ساعد القدَر إسماعيل على تحقيق حلمه؛ إذ ارتفعت أسعار القطن ارتفاعًا كبيرًا بعد نشوب الحرب الأهلية الأمريكية، واتجهت مصانع الغزل والنسيج الإنجليزية إلى القطن المصري الذي أصبح "سيد الأقطان"، وجنت مصر من وراء ذلك أرباحًا كثيرة.

إصلاحاته

بدأ إسماعيل عهده بإلغاء نظام السخرة الذي أرهق المصريين، وتحرير التجارة، والاهتمام بالتعليم؛ باعتباره أساس الرقي والتقدم؛ فشهد عصره إتمام حفر قناة السويس، واحتفل بافتتاحها سنة (1286 هـ = 1869م) احتفالاً باهرًا؛ حيث دعا إلى الحفل ملوك أوروبا، وأنفق عليه ببذخ شديد، وبمناسبة هذا الحفل أنشأ دار الأوبرا، وحديقة الأزبكية، واختط شارع الهرم، وأنشأ سككًا حديدية بطول 1085 ميلاً، وشيد مدينة الإسماعيلية.

واهتم بالجيش؛ فأعاد تنظيمه وتدريبه، وأنشأ مختلف المدارس الحربية، واهتم بتثقيف العسكريين من خلال صحيفتين متخصصتين، واستعان بالضباط الأمريكيين في تدريب الجيش المصري، ووصل تعداد الجيش حوالي 120 ألف جندي. واستنادا إلى عناصر القوة العسكرية والاقتصادية تلك تطلع إلى توسيع الممتلكات المصرية في الجنوب والجنوب الشرقي؛ حيث توغلت القوات المصرية حتى وصلت أوغندا؛ بهدف إدخال منابع النيل داخل الممتلكات المصرية من المنبع إلى المصب.

وفي مجال التعليم والثقافة أعاد ديوان المدارس، وأنشئت في عهده حوالي 4817 مدرسة، بالإضافة إلى 5 مدارس في السودان، وافتتح مدرسة للخرس والعميان، وأنشأ أول مدرسة للبنات في مصر، وأمر أن تكون اللغة العربية لغة الدواوين بدلا من اللغة التركية، وأنشأ "دار الكتب المصرية"، وأعاد صحيفة الوقائع المصرية، وازدهرت الصحافة في عهده.

وزادت الرقعة الزراعية في عهده بمقدار مليون فدان تقريبًا، ونمت ثروة مصر الزراعية، وشُقت العديد من الترع، وبلغ عدد ما حُفر وأصلح 112 ترعة، أهمها الإبراهيمية بطول 267كم، والإسماعيلية بطول 129كم، وأعيد تخطيط المدن وتجميلها في عصره، وبنيت القصور الفخمة الفارهة (حوالي 30 قصرا) كقصر عابدين الذي اتخذه مقرًّا للحكم بدلا من القلعة، وحوَّل مجرى النيل في وسط القاهرة، وأنشأ أول كوبري على النيل (كوبري قصر النيل)، وأنشأ عددًا من الميادين، وشوارع هامة في القاهرة.

ويعتبر الخديوي إسماعيل أول من وضع نواة للحياة السياسية والدستورية الحديثة في مصر؛ حيث أسس أول مجلس لشورى النواب في تاريخ مصر سنة (1283هـ = 1866م)، وأنشأ عددًا من الهيئات النيابية المحلية في المراكز والمديريات، وطوّر النظام القضائي، وأنشئت المحاكم المختلفة التي أدت إلى إضعاف فعالية الامتيازات الأجنبية.

الديون والتدخل الأجنبي

تكلّفت خزانة مصر الكثير من الأموال بسبب إصلاحات إسماعيل وتوسعاته، وتراكمت الديون عليها، خاصة بعد انخفاض أسعار القطن انخفاضًا كبيرًا بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، وكانت الدول الغربية الكبرى تدرك أن الديون أسهل وسيلة للتدخل في شؤون الدولة المَدينة، وفرض الوصاية المالية عليها، ثم السيطرة عليها في مرحلة لاحقة. وقد تجددت مخاوف هذه الدول من قيام إمبراطورية مصرية أفريقية تؤثر على مصالح الدول الاستعمارية الغربية.

وقد حاول إسماعيل أن يسد العجز في الميزانية عن طريق الضرائب المختلفة، إلا أنه لم يفلح في ذلك، فلجأ إلى الاستدانة من الخارج، وتدافعت البنوك والمؤسسات المالية على إقراضه، ولكن سماسرة الديون وقناصل الدول أخذوا ما يقرب من 40 مليون جنيه إسترليني من قروض مصر البالغة 90 مليونًا، وكان هذا غبنًا فاحشًا؛ فتعثرت مصر عن السداد، واضطرت إلى بيع أسهمها في قناة السويس بمبلغ هزيل للإنجليز، وهو ما جعلها على حافة الإفلاس والخراب المالي، وكان ذلك ذريعة لمزيد من التدخل الأجنبي، فأنشأت الدول الدائنة "صندوق الدين"، وعينوا مراقبَين ماليين: أحدهما إنجليزيي، والآخر فرنسي؛ لمراقبة إيرادات ومصروفات البلاد، بل إن الوزارة دخلها وزيران أوربيان لأول مرة في تاريخ مصر.

وانتهى الأمر إلى طلب الدائنين فرض الوصاية المالية الكاملة على مصر، وأن يكون لسداد الديون الأولوية المطلقة. وأدى هذا التعنت الأوروبي إلى انتفاضة وطنية تلقائية في (ربيع آخر 1296 هـ = إبريل 1879م) جمعت قادة وطوائف الشعب المصري المختلفة، دعوا خلالها إلى اكتتاب عام لسداد قسط الدين الذي تعثرت الدولة في سداده، ويبلغ 1.5 مليون جنيه إسترليني، وتم تحصيله على الفور وسداده.

ودعوا أيضا إلى إقامة حياة نيابية كاملة، والعمل على سداد الديون والوقوف أمام التدخل الأجنبي، والتقوا الخديوي إسماعيل الذي أقر مطالبهم، وهو ما أثار مخاوف الدول الغربية، وقدم قنصلا بريطانيا وفرنسا إنذارا إلى إسماعيل بأن يرجع عن تأييد المشروع الوطني، وإلا فإنهما سيتخذان الأساليب المختلفة لعزله.

رفض إسماعيل إنذار القنصلين، وأصدر مرسومًا بتسوية الديون، وإزاحة الوزيرين البريطاني والفرنسي من الوزارة، وشكل شريف باشا وزارة وطنية؛ فتعالت الاحتجاجات الغربية من أصحاب الديون، وبدا المشهد أن أوروبا قد أعلنت الحرب على إسماعيل، وسعت لعزله وكسر شوكته، وكان أحد أشكال حربها هو أن تلجأ إلى الباب العالي لتحصل منه على فرمان بعزل الخديوي الذي تفاقمت ديونه بسبب إسرافه؛ فناصر إسماعيل الحركة الوطنية، وقبل بمبدأ مسؤولية الوزارة أمام مجلس النواب، وسعى لمقاومة التدخل الأوروبي.

ويبدو أن الدول الأوروبية أدركت أن سعيها لدى السلطان العثماني لعزل إسماعيل يعطي السلطان حقًّا قد فقده منذ زمن طويل، فحاولت الضغط على إسماعيل للتنازل عن عرشه، ولكنه تعامل معهم تعامل النمر الجريح، فرفض طلبهم، ورفض التنازل، وقرر أن يخوض المعركة حتى النهاية، غير أن الأوضاع لم تكن في صالحه؛ فكان يسبح ضد التيار، ولم يستطع إخراج نفسه من المأزق الذي وضع نفسه بداخله.

ولم تجد الدول الأوروبية بُدًّا من اللجوء إلى السلطان العثماني لعزل إسماعيل، ووجدت هذه الدول الطريق معبَّدًا أمامها في الأستانة؛ لأن الدولة العثمانية لم تُكنّ عطفًا له لنزعته الاستقلالية، كما أنها في حاجة إلى تأكيد هيبتها وسلطتها؛ إذ لا توجد سلطة أقوى من إسقاط صاحب العرش عن عرشه، وإقصاء الملك عن ملكه!!

وفي الأستانة التقت المصالح، وتقارب الفرقاء، وتحالف الأعداء على ضرورة عزل الخديوي إسماعيل عن حكم مصر، وأصدر السلطان العثماني فرمانه في (29 رجب 1297هـ = 8 يوليو 1879م) بعزل إسماعيل عن حكم مصر، وتنصيب ابنه الأكبر محمد توفيق باشا على مصر بعدما حكم مصر 17 عامًا بمطلق إرادته، ثم انتهى الأمر بأن فقد عرشه وملكه وماله؛ فكانت خاتمته إحدى عِبر الزمان.


المنفى والموت

ضاقت الدنيا بإسماعيل بعد عزله، ولم يعرف أين يذهب بعدما رفض السلطان العثماني أن يعيش في الأستانة أو أي مكان في الدولة العثمانية. أما الدول الأوروبية، فأعلنت الكراهية له، وانتهى به الأمر إلى أن يعيش في نابولي بإيطاليا، فأقام فيها هو وزوجاته وحاشيته، ولم تفارقه آماله بالعودة إلى مصر وعرشها، ولكن آماله ومساعيه أخفقت، ثم انتهى به الأمر إلى أن استقر في الأستانة في قصر يملكه على البوسفور. وبعدما قضى حوالي 16 عامًا في منفاه لم يعد لمصر إلا ميتًا، حيث دفن في مسجد الرفاعي.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 12-07-2010, 06:37 AM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الشافعي.. ملامح وآثار

(في ذكرى وفاته: 30 من رجب 204هـ)



شهد القرن الثاني الهجري ظهور مدرستين أساسيتين في الفقه الإسلامي، هما: مدرسة الرأي، ومدرسة الحديث، نشأت المدرسة الأولى في العراق، وهي امتداد لفقه عبد الله بن مسعود الذي أقام هناك، وحمل أصحابه علمه وقاموا بنشره، وكان ابن مسعود متأثرًا بمنهج عمر بن الخطاب في الأخذ بالرأي، والبحث في علل الأحكام حين لا يوجد نص من كتاب الله أو سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، ومن أشهر تلامذة ابن مسعود الذين أخذوا عنه: علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ومسروق بن الأجدع الهمذاني، وشريح القاضي، وهؤلاء كانوا من أبرز فقهاء القرن الأول الهجري.

ثم تزعم مدرسة الرأي بعدهم إبراهيم بن يزيد النخعي فقيه العراق بلا منازع، وعلى يديه تتلمذ حماد بن سليمان، وخلفه في درسه، وكان إمامًا مجتهدًا، كانت له بالكوفة حلقة عظيمة يؤمها طلاب العلم، وكان من بينهم أبو حنيفة النعمان الذي فاق أقرانه، وانتهت إليه رئاسة الفقه، وتقلد زعامة مدرسة الرأي من بعد شيخه، والتف حوله الراغبون في تعلم الفقه، وبرز منهم تلاميذ بررة، على رأسهم أبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن زياد وغيرهم، وعلى يد هؤلاء تبلورت طريقة مدرسة الرأي واستقر أمرها ووضح منهجها.

وأما مدرسة الحديث، فقد نشأت بالحجاز، وهي امتداد لمدرسة عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعائشة وغيرهم من فقهاء الصحابة الذين أقاموا بمكة والمدينة، وكان يمثلها عدد كبير من كبار الأئمة، منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وابن شهاب الزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس. وتمتاز تلك المدرسة بالوقوف عند نصوص الكتاب والسنة، فإن لم تجد التمست آثار الصحابة، ولم تلجئهم مستجدات الحوادث التي كانت قليلة في الحجاز إلى التوسع في الاستنباط بخلاف ما كان عليه الحال في العراق.

وجاء الشافعي والجدل مشتعل بين المدرسين فأخذ موقفًا وسطا، وحسم الجدل الفقهي القائم بينهما بما تيسر له من الجمع بين المدرستين، بعد أن تلقى العلم وتتلمذ على كبار أعلامهما مثل مالك بن أنس من مدرسة الحديث، ومحمد بن الحسن الشيباني من مدرسة الرأي.

المولد والنشأة

في مدينة غزة كان مولد أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع في سنة (150 هـ=767م)، وتشاء الأقدار أن تكون هي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان. ويلتقي الشافعي في النسب مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في عبد مناف.

نشأ الشافعي يتيما، وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين حتى ينشأ على ما ينشأ عليه أقرانه من قبيلته قريش، وكانت مكة تموج بالفقهاء والمحدثين، وبعد أن حفظ القرآن -ولم يكن قد تجاوز سبع سنين- بدأ في التردد على حلقات العلم، ورزقه الله شغفًا بالعلم وحبًا في طلبه، فكان يلزم حلقات العلم ويحفظ الحديث، ويتردد على البادية حتى يفصح لسانه ويستقيم نطقه، ولزم في سبيل ذلك قبيلة "هذيل" وكانت أفصح العرب، ولقد كان لهذه الملازمة أثر في فصاحته وبلاغة ما يكتب، وقد لفتت هذه البراعة أنظار معاصريه من العلماء بعد أن شب وكبر، حتى إن الأصمعي وهو من أئمة اللغة المعدودين يقول: "صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس". وبلغ من اجتهاده في طلب العلم أن أجازه شيخه مسلم بن خالد الزنجي بالفتيا وهو لا يزال صغير الإهاب.

الرحلة في طلب العلم

كان الإمام مالك قد طبقت شهرته الآفاق، وتناقل الناس كتابه الموطأ، وسمت همة الفتى الصغير إلى الذهاب إليه في المدينة حيث يقيم، لكنه لم يرد أن يذهب دون أن يحفظ كتاب الموطأ، فلما جلس الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه الموطأ أعجب الإمام مالك بقراءته وفصاحته، وكان عمر الشافعي ثلاث عشرة سنة تقريبًا، ومنذ ذلك الوقت لازم الإمام الشافعي الإمام مالكا حتى توفي سنة (179هـ=795م)، أي أنه لازمه ست عشرة سنة، وفي الوقت نفسه أخذ عن إبراهيم بن سعد الأنصاري، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك وغيرهم.

ولما توفي مالك عمل الشافعي واليا على "نجران"، وسار فيهم بالعدل، غير أن ذلك لم يجد هوى عند بعض الناس، فوشوا به إلى الخليفة هارون الرشيد، فأرسل في استدعائه سنة (184هـ= 800م)، لكنه لما حضر بين يدي الخليفة أحسن الدفاع عن نفسه بلسان عربي مبين، وبحجة ناصعة قوية؛ فأعجب به الخليفة، وأطلق سراحه، ووصله بعطية قدرها خمسون ألفًا، أنفقها الشافعي وفرّقها على حجّاب أمير المؤمنين وخدّامه قبل أن يخرج من باب القصر.

وظل الشافعي في بغداد عاصمة دار الخلافة، واتصل بمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة ولازمه ملازمة لصيقة، وقرأ كتبه وتلقاها عليه، وبذلك اجتمع له فقه الحجاز وفقه العراق، وعلم أهل الحديث وعلم أهل الرأي، ثم عاد إلى مكة ليعقد فيها أول مجالسه العلمية في الحرم المكي، والتقى به كبار العلماء في موسم الحج، واستمعوا إليه، وفي أثناء هذه الفترة التقى به الإمام أحمد بن حنبل وتتلمذ عليه، وبدأت تظهر شخصية الشافعي ومنهجه الجديد في الفقه الذي هو مزيج من فقه أهل العراق وأهل المدينة، أنضجه عقل متوهج، عالم بالقرآن والسنة، بصير بالعربية وآدابها، خبير بأحوال الناس وقضاياهم، قوي الرأي والقياس.

الرحلة إلى بغداد

بعد أن أقام الشافعي في مكة نحوا من تسع سنوات استقام خلالها منهجه، واستوت طريقته، ورسخت قدمه، وزادت نفسه ثقة فيما ذهب إليه -رحل إلى بغداد سنة (195هـ= 810م) ومكث الشافعي هناك سنتين، نشر بها مذهبه القديم، وألف كتابه "الرسالة" الذي وضع به الأساس لعلم أصول الفقه، والتف حوله العلماء ينهلون من علمه، ويتأثرون بطريقته الجديدة التي استنها، ولازمه أربعة من كبار أصحابه، هم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والزعفراني، والكرابيسي.

ثم رجع الإمام الشافعي إلى مكة وأقام بها فترة قصيرة، غادرها بعدها إلى بغداد للمرة الثالثة والأخيرة سنة (198هـ=813م)، لكنه لم يقم بها طويلا بعد أن صار له أتباع ومريدون ينشرون طريقته، فغادر بغداد إلى مصر، وكانت منقسمة قسمين: فرقة مالت إلى مالك وناضلت عنه، وفرقة أخرى مالت إلى قول أبي حنيفة وانتصرت له، بالإضافة إلى تلاميذ الإمام المجتهد الليث بن سعد الذي وصفه الشافعي بأنه أفقه من مالك، لكنه لم يلتق به ويتتلمذ على يديه، لضيق حاله إبّان الطلب، فعجز عن إعداد ما يلزمه في الرحلة إليه في مصر، وكان كثيرًا ما يبدي أسفه على فوات فرصة لقاء الليث.

الإقامة بمصر


قدم الشافعي مصر سنة (119هـ=814م) تسبقه شهرته وتقدير العلماء له وإجلالهم لمنزلته، وكان في صحبته من تلاميذه الربيع بن سليمان المرادي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، ثم بدأ في إلقاء دروسه بجامع عمرو بن العاص، فمال إليه الناس، وجذبت فصاحته وعلمه كثيرًا من أتباع الإمامين أبي حنيفة ومالك.

وفي مصر وضع الشافعي مذهبه الجديد، وهو الأحكام والفتاوى التي استنبطها بمصر وخالف في بعضها فقهه الذي وضعه ببلاد العراق، وصنف كتبه الخالدة التي رواها عنه تلاميذه.

أصول مذهبه

دوّن الشافعي الأصول التي اعتمد عليها في فقهه، والقواعد التي التزمها في اجتهاده في رسالته الأصولية الشهيرة "الرسالة"، وطبق هذه الأصول في فقهه، فكانت أصولا عملية لا نظرية، ويظهر هذا واضحًا في كتابه "الأم" الذي يذكر فيه الشافعي الحكم مع دليله، ثم يبين وجه الاستدلال بالدليل وقواعد الاجتهاد وأصول الاستنباط التي اتبعت في استنباطه؛ فهو يرجع أولاً إلى القرآن وما ظهر له منه، إلا إذا قام دليل على وجوب صرفه عن ظاهره، ثم إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى خبر الواحد، الذي ينفرد راو واحد بروايته، وهو ثقة في دينه، معروف بالصدق، مشهور بالضبط.

وهو يعد السنة مع القرآن في منزلة واحدة، فلا يمكن النظر في القرآن دون النظر في السنة التي تشرحه وتبينه، فالقرآن يأتي بالأحكام العامة والقواعد الكلية، والسنة هي التي تفسر ذلك؛ فهي التي تخصص عموم القرآن أو تقيد مطلقه، أو تبين مجمله.

ولم يشترط الشافعي في الاحتجاج بالسنة غير اتصال سند الحديث وصحته، فإذا كان كذلك وصح عنده؛ كان حجة عنده، ولم يشترط في قبول الحديث عدم مخالفته لعمل أهل المدينة مثلما اشترط الإمام المالك، أو أن يكون الحديث مشهورًا ولم يعمل راويه بخلافه. ووقف الشافعي حياته على الدفاع عن السنة، وإقامة الدليل على صحة الاحتجاج بخبر الواحد، وكان هذا الدفاع سببًا في علو قدر الشافعي عند أهل الحديث حتى سموه "ناصر السنة".

ولعل الذي جعل الشافعي يأخذ بالحديث أكثر من أبي حنيفة حتى إنه يقبل خبر الواحد متى توافرت فيه الشروط، أنه كان حافظًا للحديث بصيرًا بعلله، لا يقبل منه إلا ما ثبت عنده، وربما صح عنده من الأحاديث ما لم يصح عند أبي حنيفة وأصحابه.

وبعد الرجوع إلى القرآن والسنة يأتي الإجماع إن لم يعلم له مخالف، ثم القياس شريطة أن يكون له أصل من الكتاب والسنة، ولم يتوسع فيه مثلما توسع الإمام أبو حنيفة.

تدوين المذهب

أتيح للشافعي ما لم يتح لغيره من الأئمة الكبار، من تدوين مذهبه ونشره في كتب كتبها بنفسه، وأهم هذه الكتب:

الرسالة في أصول الفقه، وقد طبع مع الجزء الأول من كتاب الأم في المطبعة الأميرية بالقاهرة سنة (1321هـ=1903م)، ثم نشره محققا العلامة المحدث أحمد محمد شاكر سنة (1358هـ=1939م).

كتاب الأم، وهو يشمل أبواب الفقه كلها، ويمتاز بجمال الأسلوب ودقة التعبير، وبعرض آراء العلماء المخالفين ومناظرتها، وقد نُشر الكتاب كاملا بعد أن سعى الفقيه المصري أحمد الحسيني إلى جمع مخطوطاته وطبعه على نفقته، ثم قام بشرح قسم العبادات منه في (24) مجلدًا، لا تزال مخطوطة حتى الآن، وتحتفظ بها دار الكتب المصرية، وقد سماها: "مرشد الأنام لبرء أم الإمام" وصدرها بمقدمة كبيرة في تراجم الشافعية، وقد توفي أحمد الحسيني سنة (1332هـ=1914م).

وقد أُلحق بكتاب الأم كثير من كتب الشافعي التي كتبها بنفسه، وهي لا تعدو أن تكو رسائل لطيفة، مثل كتاب "جماع العلم"، وقد نشره مستقلا أحمد شاكر سنة (1359هـ=1940م) ، وكتاب "إبطال الاستحسان" الذي رد به على فقهاء الأحناف، وكتاب "اختلاف مالك والشافعي".

قام تلاميذ الشافعي بنشر مذهبه في البلاد التي ارتحلوا إليها أو التي اتخذوها وطنًا، وهناك ثلاثة من التلاميذ المصريين كان لهم أثر بالغ في نشر المذهب، فقد جالسوا الإمام وأخذوا عنه مذهبه بعد أن نضج وبلغ كماله، ورووا كتبه، وهؤلاء الثلاثة هم:

* يوسف بن يحيي البويطي المتوفى سنة (231هـ=854م).

* إسماعيل بن يحيي المزني المتوفى سنة (264هـ= 877م) وكان زاهدا عالمًا مجتهدًا مناظرًا، وصفه الشافعي بقوله: "المزني ناصر مذهبي"، وقد أخذ عنه عدد كبير من علماء خراسان والعراق والشام.

* الربيع بين سليمان المرادي، كان مؤذنًا بجامع عمرو بن العاص، واتصل بالشافعي حتى صار راوية كتبه والثقة الثبت فيما يرويه عنه، وعن طريقه وصلت إلينا كتب الشافعي، وتوفي سنة (270هـ=883م).

عن طريق هؤلاء وتلاميذهم ومن تلاهم من طبقات الشافعية شُيّد المذهب الشافعي، حتى صار ذلك التراث الضخم الذي بين أيدينا الآن.

وفاة الشافعي

اتفق العلماء من أهل الفقه والأصول والحديث واللغة على أمانة الشافعي وعدالته وزهده وورعه وتقواه وعلو قدره، وكان مع جلالته في العلم مناظرًا حسن المناظرة، أمينًا فيها، طالبًا للحق لا يبغي صيتًا وشهرة، حتى أثرت عنه هذه الكلمة: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان.. وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال يبين الله الحق على لساني أو لسانه".

وبلغ من إكبار أحمد بن حنبل -وهو إمام كبير جليل- لشيخه الشافعي أنه قال حين سأله ابنه عبد الله: أي رجل كان الشافعي، فإني رأيتك تكثر الدعاء له؟-: "كان الشافعي كالشمس للنهار وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض؟!!".

وظل الإمام الشافعي في مصر لم يغادرها، يلقي دروسه في حلقته المباركة، ويلتف تلاميذه حوله، حتى لقي ربه في (30 رجب 204= 20 من يناير 820م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 14-07-2010, 09:06 AM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

عبد الله بن الزبير.. وضياع حلم الخلافة

(في ذكرى مولده: 2 من شعبان 2هـ)



بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان سنة (60هـ=679م) رفض عبد الله بن الزبير مبايعة يزيد بن معاوية الذي خلف أباه في منصب الخلافة، واتجه إلى مكة وركن إلى البيت الحرام، وسمى نفسه العائذ بالبيت، ولم يعلن عن رغبته في الخلافة، وفي الوقت نفسه ظل رافضًا مبايعة يزيد بن معاوية، الذي حاول إجباره على مبايعته، لكنه لم يفلح في ذلك، وتوفي دون أن يبايعه ابن الزبير.

وبعد وفاته سنة (64هـ=683م) تعرضت الدولة الأموية للفوضى والاضطراب، وزادها اضطرابا امتناع معاوية بن يزيد عن تولي الخلافة، ولم تجد الأمة خيرا من عبد الله بن الزبير لتولي هذا المنصب لعلمه وفضله وقدرته وكفاءته؛ فبايعته بالخلافة، ولم تتخلف بلدة عن مبايعته سوى الأردن في الشام، التي انطلق منها بنو أمية لمواجهة ابن الزبير، وتحقق لهم ما أرادوا، وأعادوا الحكم إلى بيتهم، ونجحوا في القضاء على دولة ابن الزبير، موضع حديث اليوم.

المولد والنشأة

في بيت من أكرم بيوت العرب وأنبلها نسبًا وشرفًا ولد عبد الله بن الزبير في الثاني من شعبان من العام الثاني للهجرة، فأبوه الزبير بن العوام من كبار الصحابة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهو يعد أول مولود للمسلمين في المدينة بعد الهجرة، وكان فرح المسلمين بولادته كبيرا، وسعادتهم به طاغية، لأن اليهود كانوا يقولون: سحرناهم فلا يولد لهم ولد.

ونشأ عبد الله بن الزبير نشأة طيبة، وتنسم منذ صغره عبق النبوة، وكانت خالته السيدة عائشة –رضي الله عنها- تعنى به وتتعهده، حتى كنيت باسمه، فكان يقال لها "أم عبد الله"، لأنها لم تنجب ولدًا، وكان في عبد الله منذ صغره ميل للزعامة ورغبة في القيادة، وتنبأ له عمر بن الخطاب بمستقبل باهر لما رأى من رباطة جأشه وثبات قلبه، واعتداده بنفسه، فقد مر عمر بعبد الله وهو يلعب مع رفاقه من الصبيان، فأسرعوا يلوذون بالفرار هيبة لعمر وإجلالاً له، في حين ثبت عبد الله بن الزبير، ولزم مكانه، فقال له عمر: مالك لم تفر معهم؟ فقال عبد الله لم أجرم فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقا فأوسع لك.

جهاده

لم يكن غريبًا على من نشأ هذه النشأة الصالحة أن يشب محبًا للجهاد، فشهد وهو في الرابعة عشرة من عمره معركة اليرموك الشهيرة سنة (15هـ=636م) واشترك مع أبيه في فتح مصر، وأبلى بلاءً حسنًا وخاض عمليات فتح شمال إفريقيا تحت قيادة عبد الله بن سعد في عهد عثمان بن عفان، وأبدى من المهارة والقدرة العسكرية ما كفل للجيش النصر، كما اشترك في الجيوش الإسلامية التي فتحت إصطخر.

ولما حوصر الخليفة عثمان بن عفان في بيته سنة (35هـ=655م) كان عبد الله بن الزبير في مقدمة المدافعين عنه، وشهد موقعة الجمل مع أبيه الزبير وطلحة بن عبيد الله والسيدة عائشة –رضي الله عنها- ولما بويع معاوية بن أبي سفيان بالخلافة سنة (41هـ=661م) أحسن إلى عبد الله بن الزبير، واستماله إليه، وأكرمه، وكان هذا صنيعه مع كبار الصحابة وأبنائهم، وترتب على ذلك أن هدأت الأحوال واستقرت الأوضاع بعد الفتنة العارمة والرياح الهوجاء التي كادت تعصف بالدولة وتهدد أمنها ووحدتها، وقابل ابن الزبير هذا الإحسان والإكرام بن معاوية بحسن الطاعة والثناء عليه، واشترك في الغزوات والفتوحات التي قامت في عهده، فغزا إفريقية تحت قيادة معاوية بن حديج سنة (45هـ=665م)، وشارك في فتح القسطنطينية سنة (49هـ=669م) مع الجيش الذي قاده يزيد بن معاوية.

معارضة البيعة ليزيد بن معاوية

وظلت العلاقة بين معاوية وابن الزبير -رضي الله عنهما- على أحسن ما تكون العلاقة، حتى بدأ معاوية في أخذ البيعة بالخلافة لابنه يزيد من بعده، فقاد ابن الزبير حركة المعارضة لهذه الخطوة التي تحول الخلافة من الشورى والانتخاب إلى الملك والتوريث، ولم ينجح معاوية في إقناع هؤلاء المعارضين من أبناء الصحابة في مبايعة يزيد، فلجأ إلى الشدة والعنف في سبيل تحقيق ذلك.

ولما تولى يزيد بن معاوية الخلافة سنة (60هـ=679م) حرص على أخذ البيعة من الأمصار الإسلامية، فلبت نداءه وبايعته دون تردد، في حين استعصت عليه بلاد الحجاز حيث يعيش أبناء الصحابة الذين امتنعوا عن مبايعة يزيد، وكان في مقدمة الممتنعين الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، غير أن يزيد بن معاوية ألح في ضرورة أخذ البيعة منهما، ولو جاء الأمر قسرًا وقهرًا لا اختيارًا وطواعية، ولم يجد ابن الزبير مفرًا من مغادرة المدينة والتوجه إلى مكة، والاحتماء ببيتها العتيق، وسمى نفسه "العائذ بالبيت" وفشلت محاولات يزيد في إجباره على البيعة.

وبعد استشهاد الحسين بن علي في معركة كربلاء في العاشر من المحرم سنة (61هـ=10 من أكتوبر 680م) التف الناس حول ابن الزبير وزاد أنصاره سخطًا على يزيد بن معاوية، وحاول يزيد أن يضع حدًا لامتناع ابن الزبير عن مبايعته، فأرسل إليه جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة، غير أنه توفي وهو في الطريق إلى مكة، فتولى قيادة الجيش "الحصين بن نمير"، وبلغ مكة في (26 من المحرم 64هـ)، وحاصر ابن الزبير أربعة وستين يومًا، دارت خلالها مناوشات لم تحسم الأمر، وفي أثناء هذا الصراع جاءت الأنباء بوفاة يزيد بن معاوية في (14 من ربيع الأول سنة 64هـ=13 إبريل 685م)، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوف جيش يزيد.

ابن الزبير خليفة للمسلمين

توقف القتال بين الفريقين، وعرض "الحصين بن نمير" على ابن الزبير أن يبايعه قائلاً له: إن يك هذا الرجل قد هلك –يزيد-، فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشام، فإن الجند الذين معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان" لكن ابن الزبير رفض هذا العرض، الذي لو قبله لربما تم له الأمر دون معارضة، لأن بني أمية اضطرب أمرهم بعد موت يزيد من معاوية ورفض ابنه معاوية بن يزيد تولي الأمر، ثم لم يلبث أن توفي هو الآخر بعد أبيه مباشرة.

أعلن ابن الزبير نفسه خليفة للمسلمين عقب وفاة يزيد بن معاوية، وبويع بالخلافة في (7 من رجب 64هـ=1 من مارس 648م)، ودخلت في طاعته ومبايعته الكوفة والبصرة ومصر، وخراسان، والشام معقل الأمويين، ولم يبق سوى الأردن على ولائه لبني أمية بزعامة حسان بن بحدل الكلبي، ولم يلق ابن الزبير تحديًا في بادئ الأمر، فهو صحابي جليل، تربى في بيت النبوة، واشتهر بالتقوى والصلاح والزهد والورع، والفصاحة والبيان والعلم والفضل، وحين تلفت المسلمون حولهم لم يجدوا خيرًا منه لتولي هذا المنصب الجليل.

غير أن هذه الملكات لم تكن وحدها كفيلة بحسم الأمر له على الرغم من مبايعة معظم العالم الإسلامي له، فقد كانت تنقصه أشياء لا تعيبه ولا تعيب خلقه، لكنها كانت من ضرورات عصره كاستمالة الناس وحشد الأتباع والأعوان، ببذل الأموال والإغداق عليهم جذبًا لهم، وإشاعة للفرقة وشق الصفوف بين الخصوم وهذا ما نجح فيه خصومه وعجز هو عن مجاراتهم فيه.

ابن الزبير ومروان بن الحكم

بدأ ابن الزبير خلافته في مكة وهي على قداستها وعظمتها لم تكن تصلح عاصمة لدولة مترامية الأطراف، وترك دمشق التي كانت تتوسط العالم الإسلامي وتمتلئ بالرجال والمال، ثم أقدم على خطوة كان فيها حتفه، حين أخرج معظم رجال بني أمية من المدينة، وكان فيهم: "مروان بن الحكم" وابنه عبد الملك، وهو ما أعطاهم الفرصة من التوجه إلى الشام، وجمع شمل الأنصار والأعوان الذين حضروا من كل مكان، وعقدوا مؤتمرًا في الجابية، وبايعوا مروان بن الحكم بالخلافة، ولو أن ابن الزبير أبقى بني أمية في المدينة تحت نظره ومراقبته، وكان في مقدوره أن يفعل ذلك، لما تحققت هذه الخطوة الأولى التي كان لها شأن في انطلاق بني أمية لإعادة الخلافة لهم والقضاء على ابن الزبير.

استهل مروان بن الحكم أمره باستعادة الشام التي كان معظم أقاليمها قد بايع ابن الزبير بعد أن نجح في هزيمة أنصار ابن الزبير، وقتل قائدهم الضحاك بن قيس في معركة مرج راهط في نهاية سنة (64هـ=683م)، ثم أعقب ذلك بالاستيلاء على مصر سنة (65هـ=684م) وولى عليها ابنه عبد العزيز، وزوده بالنصائح الهامة، وقفل راجعًا إلى الشام، ليواصل جهوده في الزحف نحو العراق.

وقبل أن نستطرد في تفاصيل الصراع بين ابن الزبير وخصومه يجدر بنا أن نذهب إلى ما ذهب إليه كبار الفقهاء من أن بيعة ابن الزبير كانت عن رضا وإجماع من المسلمين، وترتب على ذلك أن أرسل ابن الزبير ولاته على الأمصار الإسلامية، وأبدى المسلمون رضاهم عن هؤلاء الولاة، في حين لم يبايع مروان سوى نفر قليل من أهل الشام، فضلاً عن أن بيعة ابن الزبير كانت أسبق زمنًا من بيعة مروان التي جاءت متأخرة عنها، غير أن الرجلين تمسكا بالخلافة، وإن كانت الشرعية في جانب ابن الزبير، لكنها لم تكن لتحسم الأمر وحدها، بل كان للسياسية والدهاء واصطناع الرجال دور لا ينكر في حسم الصراع وهذا ما كان.

ابن الزبير وعبد الملك بن مروان

توفي مروان بن الحكم وخلفه ابنه عبد الملك بن مروان سنة (65هـ=684م)، وكانت الشام ومصر تحت سلطانه، على حين بقيت الحجاز والعراق تحت سيطرة ابن الزبير، وفي أثناء ذلك ظهرت دعوة المختار ابن أبي عبيد الثقفي، التي اجتذبت الشيعة، وانضموا تحت لوائه، وازداد نفوذه بالعراق بعد أن هزم جيشًا أرسله عبد الملك بن مروان بقيادة عبيد الله بن زياد في معركة الخازر سنة (67هـ=686م) وبعد تلك الهزيمة توقف عبد الملك بن مروان مؤقتًا عن فكرة استعادة العراق، لعلمه أن عبد الله بن الزبير لن يترك المختار الثقفي يستبد بالعراق، وأن الصدام بينهما آتٍ لا مفر منه، فآثر الانتظار حتى يفرغ أحد الطرفين من الآخر، فيقابله وهو منهوك القوى فيضمن لنفسه الظفر والفوز، وهذا ما كان، فاصطدم مصعب بن الزبير بالمختار الثقفي وقضى على حركته سنة (67هـ=686م)، واستعاد نفوذ أخيه في العراق.

السيطرة على العراق

عزم عبد الملك بن مروان على استعادة العراق التابعة لدولة ابن الزبير، فخرج إليها بنفسه سنة (71هـ=690م) بعد أن اطمأن إلى تثبيت أركان دولته وتوطيد حكمه، وأعد جيشًا عظيمًا لهذا اللقاء الفاصل، وحين علم مصعب بن الزبير والي العراق بهذه التحركات استعد لمواجهة عبد الملك بن مروان، وقبل اللقاء الفاصل أخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق ويعدهم ويمنيهم بالمال، فاستجابوا له وانضموا إليه وتخلوا عن مصعب في أدق المواقف وأصعبها، فانهزم في المعركة التي دارت بين الفريقين عند دير الجاثليق في (جمادى الآخرة 72هـ=نوفمبر 691م)، وقتل في هذا اللقاء بعد أن بذل ما يمكنه من الشجاعة والبسالة، وبعد انتهاء المعركة دخل عبد الملك الكوفة وبايعه أهلها، ودخلت العراق تحت سيطرته وعين أخاه بشرًا واليًا عليها.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 14-07-2010, 09:07 AM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

سقوط دولة عبد الله بن الزبير

كان ضياع العراق من يد عبد الله بن الزبير أكبر كارثة حلت به، في الوقت الذي قوي فيه خصمه بانضمام العراق تحت ملكه وسلطانه الذي أصبح يضم معظم أقطار العالم الإسلامي، وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز.

لم يضيع عبد الملك بن مروان الوقت في الانتظار بعد انتصاره على مصعب بن الزبير، فأعد حملة عسكرية في عشرين ألف جندي، بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، ووجهها إلى الحجاز للقضاء على ابن الزبير المعتصم بمكة الذي لم يكن بمقدوره الصمود بعد أن فقد معظم دولته، ولم يبق له سوى الحجاز، ولم تكن بطبيعة الحال غنية بالمال والرجال، لكنه لم يسلم الراية، ولم يستسلم مهما كلفه الأمر، فطبيعته وخلقه يأبيان ذلك.

توجه الحجاج إلى الحجاز، ونزل الطائف، وأخذ يرسل بعض جنوده لقتال ابن الزبير، فدارت بينهما عدة اشتباكات كانت نتيجتها في صالح الحجاج، ثم تقدم إلى محاصرة عبد الله بن الزبير ونصب المنجنيق على جبل أبي قيس، فلما أهل ذو الحجة لم يستطع ابن الزبير أن يحج، وحج بالناس عبد الله بن عمر، وطلب من الحجاج أن يكف عن ضرب الكعبة بالمنجنيق؛ لأن الناس قد امتنعوا عن الطواف فامتثل الحجاج، وبعد الفراغ من طواف الفريضة عاود الحجاج الضرب، وتشدد في حصار ابن الزبير حتى تحرج موقفه، وانصرف عنه رجاله ومنهم ابناه حمزة وخبيب اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما.

فلما رأى عبد الله بن الزبير ذلك دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر حزينًا يشكو إليها ما هو فيه من هم وحزن، فشدت من أزره، وأوصته بالصبر والثبات وعدم التراجع ما دام على الحق، فخرج من عندها وذهب إلى القتال، فاستشهد في المعركة في (17 من جمادى الأولى 73هـ=4 من أكتوبر 692م)، وبوفاته انتهت دولته التي استمرت نحو تسع سنين.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 16-07-2010, 09:51 AM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

محمود غازان.. مسْلمٌ بعادات المغول

(في ذكرى إسلامه: 4 من شعبان 694هـ)

غازان نقطة تحول فاصلة في تاريخ الدولة الإيلخانية التي أسسها هولاكو في إيران والعراق؛ حيث انتهت بإسلامه فترة حكم السلاطين الوثنيين للدولة، وانقطعت الروابط التي كانت تربط دولتهم ببلاط الخاقان الأعظم في الصين، وغدا الإسلام الدين الرسمي للدولة حتى انهيار أسرة الإيلخانات سنة (756هـ=1355م).

وقد سبق غازان في الدخول إلى الإسلام السلطان أحمد تكودار، ثاني سلاطين الدولة الإيلخانية، وأول إيلخان يعتنق الإسلام، لكن إسلامه لم يُحدث أثرًا كبيرًا في دولته؛ لأنه وجد معارضة شديدة من أمراء البيت الحاكم، ولم يمكث في الحكم سوى عامين وبضعة أشهر، ولم يتمكن من نشر الإسلام بين أهله وعشيرته.

ما قبل الولاية

بعد أن تولى بايدوخان حكم الدولة الإيلخانية في (جمادى الأولى 694هـ = 1295م) نازعه الأمير غازان بن أرغون السلطة، وكان يرى أنه أجدر بالسلطة منه، وأكثر كفاءة، وأعظم قدرة. وتطور النزاع إلى صراع عسكري، والتقى الطرفان في معركة حاسمة في (5 من رجب 694هـ = 21 من مايو 1295م)، وأسفرت المعركة عن رجحان كفة غازان، وأيقن بايدوخان بحلول هزيمته؛ فلجأ إلى طلب الصلح والمسالمة، لا عن اقتناع وإيمان، بل خداعا وحيلة حتى يتمكن من التخلص من غازان، لكن مؤامراته انكشفت، ولم تفلح حيلته.

وفي أثناء هذا انتهز الأمير "نوروز" الفرصة؛ فحسَّن لغازان الإسلام، وبصَّره بتشريعاته السمحة، ومبادئه السامية، وبقوانينه العادلة، وشجَّعه على اعتناقه، فشرح الله صدره للإسلام في (4 من شعبان 694هـ = 19 يوليو 1294م)، وتسمى باسم "محمود"، وكان إسلامه سببًا في التفاف الرعية حوله، واعتناق ما يقرب من مائة ألف شخص من قومه الإسلام، وقد عجّل هذا بالقضاء على خصمه الذي انفضَّ الناس من حوله، وعجز عن المقاومة، فاضطر إلى الفرار، ثم سرعان ما قُبض عليه، وقُتل في (23 من ذي القعدة 694هـ = 4 من أكتوبر 1295م) بعد حكم دام ستة أشهر.

ولاية السلطان محمود غازان

تولى السلطان محمود غازان عرش المغول عقب مقتل بايدوخان في (ذي الحجة 694هـ= 1295م)، وكان آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره، وهو سابع حكام المغول في إيران، وكان أول عمل يقوم به إصداره مرسومًا ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، والالتزام بأحكامه وآدابه، وأمر المغول بأن يغيروا ملابسهم المعروفة، ويلبسوا العمامة دليلا على خضوعهم للإسلام.

وبلغت حماسته للدين الإسلامي أن أمر بهدم الكنائس والمعابد اليهودية والمزدكية والهياكل البوذية، وتحويلها إلى مساجد، وبارتداء اليهود والنصارى ثيابًا خاصة بهم تميزهم عن غيرهم.. وما فعله غازان ليس من الشرع في شيء، وإنما غلبته العاطفة والحماسة للدين الجديد، وحاول أن يعيد إلى أهله ما لاقوه من ضروب المهانة والمذلة على أيدي أجداده وآبائه.

وكان اعتناق غازان الإسلام عن صدق وإيمان وعاطفة وحب دافعًا له إلى القيام بألوان من الإصلاحات، وضروب من النظم في الإدارة والمال والاقتصاد والعمران، وهو ما سنفصله ونبرزه.

حملات غازان على الشام

لم تكن علاقات غازان ودية مع دولة المماليك، فسلك مسلك أسلافه في معاداة المماليك، على الرغم من إسلامه!! وقام بثلاث حملات على الشام، شاء لها القدر أن تكون كلها في عهد السلطان الناصر محمد قلاوون.

في الحملة الأولى الْتقت قوات غازان بجيش الناصر عند "مرج المروج" شرق حمص في (27 من ربيع الأول 699هـ= 22 من ديسمبر 1299م) وأسفرت عن نصر هائل لغازان وقواته؛ نظرًا لتفوق الجيش المغولي في العدد والعتاد، وترتب على هذا النصر أن استولى غازان على دمشق، وخربت قواته البلاد التي فتحتها؛ جريًا على عاداتهم القديمة، وكأن الإسلام لم يهذب شيئًا من طباعهم وأخلاقهم.

وأما الحملة الثانية فكانت في سنة (700هـ= 1300م) وحين علم أهالي الشام بقدوم المغول عمَّهم الفزع والهلع، وترك سكان حلب مدينتهم، غير أن الأقدار تدخلت في منع الحرب ولقاء المغول مع المماليك، فهطلت الأمطار بغزارة وكثُر الوحل، وهلك كثير من المغول؛ فاضطر غازان إلى العودة إلى إيران.

أما الحملة الثالثة فقد اتجه بها غازان إلى الشام، واستولى على "عانة" التي تقع على شاطئ الفرات، وكان يرافقه في هذه الحملة وزيره المؤرخ "رشيد الدين الهمذاني"، لكنه رجع إلى عاصمته تبريز، تاركًا إنجاز تلك المهمة إلى قائده "قتلغ شاه"، الذي التقى بقوات المماليك بقيادة الناصر محمد في موقعة "مرج الصفر" بالقرب من دمشق في (2 من رمضان 702هـ= 20 من إبريل 1303م)، ولقيت القوات المغولية هزيمة منكرة بعد أن أبلى المماليك بلاءً حسنًا.

إصلاحات غازان

على الرغم من أن الحياة لم تطُل بغازان، ولم يمكث في الحكم سوى تسع سنوات، فإنه قام بإصلاحات عظيمة في مختلف ميادين الحياة، خلَّدت اسمه، ورفعت منزلته بين كبار القادة والمصلحين، وكان وجود وزيره النابه "رشيد الدين" إلى جانبه من أعظم الأسباب التي جعلت غازان يتبوأ مكانه اللائق في التاريخ، وكان رشيد الدين مثلا أعلى للتفاني والإخلاص، أدار الدولة بمقدرة وكفاية، وبمهارة وحذق، وشارك السلطان غازان في تحقيق رفاهية الرعية، وإصلاح الأمور المالية، وإنشاء الأبنية الخيرية. وفوق ذلك خلد أعمال سلطانه، وسجلها في كتابه "التواريخ" الذي سجل فيه تاريخ المغول منذ أقدم الأزمنة حتى عصر المؤلف.

قام غازان بإصلاحات كثيرة كان من أبرزها إقامة محلة تقع شمال غرب تبريز عرفت باسم "شام غازان"، تفصلها عن مدينة تبريز حدائق ومتنزهات، وفي هذه المدينة أقيم بناء عالٍ تعلوه قبة كبيرة؛ ليكون مدفنًا له، وقد استمرت عمارة القبة وما حولها من مبانٍ نحو خمس سنوات، اشتملت على مسجد وخانقاه للفقراء، ومدرستين؛ إحداهما للشافعية، والأخرى للحنفية، ومستشفى، ومكتبة كبيرة، ومدرسة لتعليم المواد الطبية، وبيت لحفظ كتب القوانين التي أصدرها الإيلخان، عُرف باسم "بيت القانون".

وعلى الرغم مما اتسمت به حروب المغول من وحشية وعدم مراعاة لأي مظهر من مظاهر النبل والفروسية، فإن غازان كان رهيف الحس، نبيل النفس، يحمل بين جنبيه أرقَّ معاني الإنسانية التي اتسعت للحيوان والطير؛ حيث أنشأ الأجران الواسعة المملوءة بالحبوب، والمزودة بأحواض المياه؛ لكي تتزود منها الطيور المهاجرة من الشمال إلى الجنوب في الشهور الباردة من السنة خلال رحلتها عبر الهضبة الإيرانية التي تغطيها الثلوج.. وهو ما يبدو في رأي البعض تناقضا واضحا مع أخلاقهم في حروبهم.

القوانين الغازانية

وضع غازان قواعد وقوانين لتحقيق رفاهية الرعية، وجبى الضرائب على أساس من العدل والرحمة، ورفع الظلم عن الناس، ومنع التعدي عليهم؛ فأصلح النظم المالية لدولته، ونظّم الضرائب؛ فلا تُطالَب الرعية بدفع الضرائب أكثر من مرة في العام، وأصدر أمرًا نهى فيه عن التعامل بالربا وفوائد المال، وعقاب من يعصي الأمر.

وأمر بتوحيد سكّ العملات، حيث كانت كل ولاية تسكّ عملة يختلف عيارها من ولاية إلى أخرى؛ وهو ما سبب ضررًا للتجار، وأصدر قرارًا بجمع كل العملات المغشوشة في كل البلاد الإيلخانية؛ فلم يرُجْ وينتشر سوى العملات التي أمر بضربها، وكما وحد العملات قام بتوحيد الأوزان والمكاييل في سائر الولايات، وكان التناقض في معايير الأوزان سببًا في انتكاس التجارة وعدم رغبة الناس في أن يحملوا تجارتهم إلى سائر الولايات.

وأصدر غازان أحكامًا لتعمير ما خرب من الأراضي البوار بأن يجدد الناس العمائر والمباني، ويزرعوا المزارع البائرة لقاء محصلة خاصة، وأمر بتأمين الطرق والحفاظ على أمنها وسلامتها، والقبض على قطّاع الطرق وأن ينالوا جزاءهم وما يستحقون من التأنيب، وأصلح النظام القضائي؛ فعُني بتنظيم أمر المرافعات، واختيار القضاة والشهود.

وفاة غازان

عندما وصلت إلى غازان أنباء الهزيمة التي لاقاها جيشه في حملته الثالثة على الشام بقيادة "قتلغ شاه"، حزن حزنًا شديدًا واغتمت نفسه، واعتلت صحته، ثم لم يلبث أن توفي وهو في ريعان الشباب، لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره في (11 شوال سنة 703هـ= 17 من مايو 1303م)، ونُقل جثمانه إلى تبريز؛ حيث دُفن تحت القبة التي شيدها.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 17-07-2010, 10:23 AM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أبو الطب العربي.. احتفوا به وكفرناه

(في ذكرى وفاته: 5 من شعبان 311هـ)

كان "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" عالما موسوعيا من طراز فريد، وقد برز في جميع فروع العلوم؛ فكتب في الطب والفلسفة والكيمياء والرياضيات وعلم الأخلاق والميتافيزيقا والموسيقى وغيرها.

فهو في الحقيقة علامة عصره؛ حيث كانت مؤلفاته العديدة مرجعًا للعلماء والدارسين خاصة في الطب، وظلت تلك المؤلفات تدرَّس في جامعات أوروبا على مدى قرون طويلة.

الرازي والقراءة

ولد أبو بكر الرازي بالري نحو سنة 250هـ = 864م، وعُرِفَ منذ نعومة أظفاره بحب العلم؛ فاتجه منذ وقت مبكر إلى تعلم الموسيقى والرياضيات والفلسفة، ولما بلغ الثلاثين من عمره اتجه إلى دراسة الطب والكيمياء، فبلغ فيهما شأوًا عظيما، ولم يكن يفارق القراءة والبحث والنسخ، وإن جل وقته موزع بين القراءة والبحث في إجراء التجارب أو الكتابة والتصنيف.

وكان حريصًا على القراءة مواظبًا عليها خاصة في المساء، فكان يضع سراجه في مشكاة على حائط يواجهه، وينام في فراشه على ظهره ممسكًا بالكتاب حتى إذا ما غلبه النعاس وهو يقرأ سقط الكتاب على وجهه فأيقظه ليواصل القراءة من جديد.

الرازي العالم الإنسان

وعرف الرازي بذكائه الشديد وذاكرته العجيبة، فكان يحفظ كل ما يقرأ أو يسمع حتى اشتهر بذلك بين أقرانه وتلاميذه.

ولم يكن الرازي منصرفًا إلى العلم كلية زاهدًا في الدنيا، كما لم تجعله شهرته متهافتًا عليها مقبلا على لذاتها، وإنما كان يتسم بقدر كبير من الاعتدال، ويروي أنه قد اشتغل بالصيرفة زمنا قصيرا.

وقد اشتهر الرازي بالكرم والسخاء، وكان بارا بأصدقائه ومعارفه عطوفا على الفقراء والمحتاجين، وبخاصة المرضى، فكان ينفق عليهم من ماله، ويجري لهم الرواتب والجرايات حيث كان غنيا واسع الثراء، وقد امتلك بعض الجواري وأمهر الطاهيات.

وقد كانت شهرة الرازي نقمة عليه؛ فقد أثارت عليه غيرة حساده، وسخط أعدائه، فاتهمه في دينه كل من خالفهم، ورموه بالكفر ووصفوه بالزندقة، ونسبوا إليه آراء خبيثة وأقوالا سخيفة، وهي دعاوى باطلة، وافتراءات ظالمة، وللرازي نفسه من المصنفات ما يفند تلك الدعاوى، ويبطل تلك الأباطيل، ومن كتبه في ذلك كتاب في أن للعالم خالقا حكيما، وكتاب أن للإنسان خالقا متقنا حكيما، وغيرهما من المؤلفات.

وقد بلغت مؤلفات الرازي 146 مصنفا: منها 116 كتابا، و30 رسالة، وظل طوال حياته بين القراءة والتصنيف، حتى قيل إنه إنما فقد بصره من كثرة القراءة، ومن إجراء التجارب الكيميائية في المعمل.

الرازي طبيب العرب الأول

يعد أبو بكر الرازي أعظم علماء المسلمين في الطب من ناحية الأصالة في البحث، والخصوبة في التأليف، فقد ألف كتبًا قيمة في الطب، وقد أحدث بعضها أثرًا كبيرا في تقدمه، وفي طرق المداواة والعلاج وتشخيص الأمراض.

وقد امتازت مؤلفات الرازي بالموسوعية والشمول، بما تجمعه من علوم اليونان والهنود بالإضافة إلى أبحاثه المبتكرة وآرائه وملاحظاته التي تدل على النضج والنبوغ، كما تمتاز بالأمانة العلمية الشديدة؛ إذ إنه ينسب كل شيء نقله إلى قائله، ويرجعه إلى مصدره.

ويأتي الرازي في المرتبة الثانية بعد ابن سيناء في الطب، وقد صرف جل وقته على دراسة الطب، وممارسته بعد أن ضعف بصره نتيجة عكوفه على إجراء التجارب الكيميائية العديدة في معمله.

وكان الرازي ذكيا فطنا رءوفا بالمرضى مجتهدا في علاجهم وفي برئهم بكل وجه يقدر عليه، مواظبا على النظر في غوامض صناعة الطب، والكشف عن حقائقها وأسرارها، حتى أطلق عليه "أبو الطب العربي".

ويعد الرازي من الرواد الأوائل للطب ليس بين العلماء المسلمين فحسب، وإنما في التراث العالمي والإنساني بصفة عامة، ومن أبرز جوانب ريادة الرازي وأستاذيته وتفرده في الكثير من الجوانب:

أنه يعد مبتكر خيوط الجراحة المعروفة بالقصاب

أول من صنع مراهم الزئبق

قدم شرحا مفصلا لأمراض الأطفال والنساء والولادة والأمراض التناسلية وجراحة العيون وأمراضها.

كان من رواد البحث التجريبي في العلوم الطبية، وقد قام بنفسه ببعض التجارب على الحيوانات كالقرود، فكان يعطيها الدواء، ويلاحظ تأثيره فيها، فإذا نجح طبقه على الإنسان.

عني بتاريخ المريض وتسجيل تطورات المرض؛ حتى يتمكن من ملاحظة الحالة، وتقديم العلاج الصحيح له.

كان من دعاة العلاج بالدواء المفرد (طب الأعشاب والغذاء)، وعدم اللجوء إلى الدواء المركب إلا في الضرورة، وفي ذلك يقول: "مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد، فلا تعالج بدواء مركب".

كان يستفيد من دلالات تحليل الدم والبول والنبض لتشخيص المرض.

استخدم طرقًا مختلفة في علاج أنواع الأمراض.

اهتم بالنواحي النفسية للمريض، ورفع معنوياته ومحاولة إزالة مخاوفه من خلال استخدام الأساليب النفسية المعروفة حتى يشفى، فيقول في ذلك: "ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبدا بالصحة ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس".

كما اشتهر الرازي في مجال الطب الإكلينيكي، وكان واسع الأفق في هذا المجال، فقد فرق بشكل واضح بين الجدري والحصبة، وكان أول من وصف هذين المرضين وصفا دقيقا مميزا بالعلاجات الصحيحة.

وقد ذاعت شهرته في عصره حتى وصف بأنه جالينوس العرب، وقيل عنه: "كان الطب متفرقا فجمعه الرازي؟".

ولقيت بعض كتبه الطبية رواجا كبيرا وشهرة عظيمة، وانتقلت نظرياته العلمية إلى أوروبا، وقد ترجم العديد من كتبه إلى اللغات الأوروبية، واعتمدت عليها جامعات أوروبا، وظلت مرجعها الأول في الطب حتى القرن السابع عشر مثل كتابه الحاوي في علم التداوي والذي ترجم إلى اللاتينية وطبع لأول مرة في بريشيا في شمال إيطاليا عام 891هـ = 1486م، وهو أضخم كتاب طبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، ثم أعيد طبعه مرارًا في البندقية في القرن 10هـ = 16م، وقسم كتاب الحاوي في الطبعة اللاتينية إلى خمسة وعشرين مجلدا.

وتتضح في هذا المؤلف الضخم مهارة الرازي في الطب، وتتجلى دقة ملاحظاته وغزارة علمه وقوة استنتاجه.

وكتابه "الجدري والحصبة" أعيدت طباعته أربع مرات بين عامي 903هـ = 1498م، و1283هـ = 1866م.

أما كتابه "المنصوري" فقد طبع لأول مرة في "ميلانو" عام (886هـ = 1481م)، وأعيد طبعه مرات عديدة، وترجمت أجزاء منه إلى الفرنسية والألمانية.

وظلت تلك المؤلفات من المراجع الأساسية لدراسة الطب في أوربا حتى القرن (11هـ = 17م)، ولا تزال جامعة "برنستون" الأمريكية تحتفظ بكتب الرازي في قاعة من أفخم قاعاتها، أطلق عليها اسمه اعترافًا بفضله ومآثره على علم الطب في العالم أجمع.

مؤلفاته الطبية

للرازي العديد من المؤلفات الطبية التي كان لها أكبر الأثر في الارتقاء بهذا العلم وتطويره، وكانت له إنجازات عديدة فيه، ومن أبرز تلك المصنفات:

الحاوي في علم التداوي.

الجدري والحصبة.

المنصوري في التشريح.

الكافي في الطب.

من لا يحضره الطبيب.

الحصى في الكلى والمثانة.

علل المفاصل والنقرس وعرق النسا.

منافع الأغذية.

دفع مضار الأغذية.

سر الطب.

المدخل إلى الطب.

القولنج (الشلل).

جهوده في الطبيعيات

كان الرازي عالمًا طبيعيًا مجدًا، يعتمد على البحث والاستقراء والتجربة والمشاهدة العلمية، بالإضافة إلى الرؤية العقلية والبصيرة الواعية وسعة الأفق.

فقد كتب الرازي عدة مؤلفات في "الهيولي" – المادة – وتوصل منذ وقت مبكر إلى أن المادة تتركب من أجزاء صغيرة، تنقسم بدورها إلى أجزاء دقيقة، تنتهي إلى أجزاء غاية في الدقة لا تقبل التجزئة، وهو ما يطلق عليه اليوم "الذرات".

ويقول الرازي: "إن تركيب الأجسام من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ، وسينتهي تفريق تركيب أجسام العالم – في آخر العالم – إلى تلك الأجزاء بعينها، وهذه هي الهَيُولَى المطلقة".

ويفرق الرازي بين الزمان المطلق والزمان المحدود، فالأول هو الأبد السرمدي، الذي لا أول له ولا نهاية، وهو ما عبر عنه بالدهر، أما الزمان بمعناه المحدود فهو الذي يقدر بحركة الأفلاك ودوران الشمس والكواكب، وما ينتج عنه من تعاقب الليل والنهار والفصول والأعوام.

ويقول الرازي: "إن الدهر هو عدد الأشياء الدائمة، والزمان هو عدد الأشياء الأمانية، وهذان العددان يعدان الأشياء فقط، أعني الحياة والحركة. فإن كل عادّ إما أن يعد جزءًا بعد جزء، وإما أن يعد الكل معًا".

فالعدد – عنده – اثنان فقط:

أحدهما: يعد الأشياء الدائمة الروحانية، وهو الدهر.

والآخر: يعد الأشياء الجزئية الواقعة تحت الزمان، وهو عدد حركات الفلك.

كذلك يميز "الرازي" بين نوعين من المكان:

- مكان مطلق: كالوعاء الذي يجمع أجسامًا.

- مكان مضاف: وهو مضاف إلى المتمكن (الجسم الذي يشغل مكانًا)، فإن لم يكن المتمكن لم يكن مكان.

وكان "الرازي" من أوائل الذين نادوا بكروية الأرض، وقال: إنها تفوق حجم القمر، وتقل كثيرًا عن حجم الشمس.

كما توصل إلى طريقة جديدة للتمييز بين المعادن عن طريق تعيين الثقل النوعي، وذلك من خلال تعيين ثقل حجم معين من المادة منسوبًا إلى نفس الحجم من الماء.

واستطاع بذلك التمييز بين معدني الذهب والفضلة بهذه الخاصية الطبيعية.

ولعل أهم إنجازات "الرازي" في مجال الطبيعيات، هو نقضه لنظرية الإبصار التي ظلت سائدة طوال القرون التي سبقته، والتي انتقلت إلى المسلمين عن الإغريق، وهي نظرية "إقليدس" القائلة بأن الإبصار يحدث نتيجة خروج شعاع من العين إلى الجسم المرئي، وقرر أن الإبصار يتم بخروج شعاع ضوئي من الجسم المرئي إلى العين، وهو ما أكده العلم الحديث بعد ذلك، وهو في ذلك أسبق من "ابن الهيثم" بعدة قرون.

* مصنفات "الرازي" في الطبيعيات:

وقد ترك "الرازي" العديد من المؤلفات الرائدة في الطبيعيات، من أبرزها:

كيفيات الإبصار.

شروط النظر.

علة جذب حجر المغناطيس للحديد.

الهيولى الكبير (المادة)

الهيولى المطلقة والجزئية.

الخلاء والملاء (الزمان والمكان).

هيئة العالم.

سبب وقوف الأرض وسط الفلك.

سبب تحرك الفلك على استدارة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 17-07-2010, 10:24 AM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الرازي عالم الكيمياء

يعد "الرازي" من رواد علم الكيمياء، وقد أمضى شطرًا طويلاً من حياته في دراسة العلم، من خلال الممارسة العملية والتجريبية، وله فيه مؤلفات قيمة، حتى عده كثير من العلماء مؤسس الكيمياء الحديثة.

وقد اهتم "الرازي" بعلم الكيمياء؛ لأنه العلم الوحيد الذي يمكن الحصول على حقائق من خلال التجارب التي يجريها، وتقوده إلى استنتاج القوانين، ولكنه ما لبث أن ترك هذا المجال، بعد أن ضعف بصره، وتحول إلى دراسة الطب وممارسته وهو في نحو الأربعين من عمره.

وكان "الرازي" متبحرًا في ذلك العلم، واسع الاطلاع فيه، فلم يقف عند حد الاطلاع على إنتاج علماء اليونان والفرس والهنود فحسب، وإنما أضاف إلى ذلك ما وصل إليه بخبرته وممارسته وتجاربه ومشاهداته.

وقد حضَّر زيت الزاج أو الزاج الأخضر (حامض الكبريتيك) والكحول بتقطير المواد النشوية والسكرية المتخمرة.

كما عني "الرازي" بوصف المواد التي يجري عليها التجارب، والأدوات والآلات التي يستعملها، ثم طريقة العمل، كما وصف كثيرًا من الأجهزة العلمية التي كانت معروفة في عصره.

ومن الطريف أنه ربط الطب بالكيمياء، فكان ينسب الشفاء بفعل الأدوية التي يصفها الطبيب، إلى التفاعلات الكيميائية التي تتم في الجسم.

ويعد "الرازي" من تلاميذ "جابر بن حيان" العالم الكيميائي المعروف، وقد استطاع "الرازي" أن يطور كيمياء "جابر" وينظمها ويزيد عليها بما ابتكره من نظريات كثيرة ومشاهدات عديدة.

مؤلفات "الرازي" في الكيمياء

تعد مصنفات "الرازي" في الكيمياء علامة بارزة على طريق هذا العلم العريق؛ إذ تحوي الكثير من مشاهداته وملاحظاته وتجاربه واستنتاجاته، ومن تلك المؤلفات:

سر الأسرار.

التدبير.

الإكسير.

شرق الصناعة.

نكت الرموز.

الترتيب.

رسالة الخاصة.

الحجر الأصفر.

الرد على الكندي في رده على الصناعة.

الرازي الفيلسوف المغبون

كما كان "الرازي" فيلسوفًا معروفًا، وله اهتمام بالعلوم العقلية، وكان يدعو العلماء وخاصة الأطباء إلى الأخذ من العلوم الطبيعية ودراسة العلوم الفلسفية والقوانين المنطقية، ويرى أن إغفال تلك العلوم يزري بالعلماء.

واختلف "الرازي" مع المشائين المسلمين في إمكان التوفيق بين الفلسفة والدين، وتأثر بآراء "سقراط"، واتبع "أرسطو" في الكثير من أفكاره وآرائه.

كما رد في كتاباته على بعض متكلمي المعتزلة مثل "الجاحظ" و"أبي قاسم البلخي"، وكثير ممن حاولوا إدخال البراهين العلمية في الدين.

وبالرغم من الاتجاه العلمي للرازي والنزعة القلية له والتي تحكم أسلوب تفكيره ونظره إلى حقائق الأمور ومشاهدات العلوم، فإنه رفض إقحام تلك النزعة على أمور الدين؛ لأن العقل البشري يقصر عن أمور كثيرة في الكون، ومن الخطأ تحكيمه مطلقًا في أمور الدين، وقد أثار ذلك حفيظة الكثير من العلماء ضده حتى رموه بالكفر واتهموه في دينه، حسدًا منهم وغيرة بعدما بلغ مكانة لدى العامة والخاصة.

ومن أبرز مؤلفاته في المجال:

المدخل إلى المنطق.

المدخل التعليمي.

المدخل البرهاني.

الانتقام والتحرير على المعتزلة.

وتوفي "الرازي" عن عمر بلغ نحو ستين عامًا في (5 من شعبان 311هـ= 19 من نوفمبر 923م).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .