ً الضريح ً عبد الغني أبو العزم
صور من الكفاح الوطني
ً الضريح ً
عبد الغني أبو العزم
اعتاد أهل الحي أن يجتمعوا أمام أبواب دورهم في كل مساء، بعد رجوعهم من العمل، يتحدثون طويلا إلى منتصف الليل، يتبادلون
أخبار الوطنيين، وعدد القتلى والمعارك، وما جد وما شاهدوه بأنفسهم. كنا ـ نحن الصبيان ـ نحاول أن نسرق السمع إلى أحاديثهم لنعيد صياغتها بيننا كمهتمين بما يشغل بال آبائنا.
ومن بين تلك الليالي المثيرة لكل سكان الحي، الليالي المقمرة أي عندما يبلغ البدر تمامه، وقد شاعت في الحي إشاعة مفادها أن صورة الملك محمد الخامس قد ظهرت بكل جلاء في القمر، ويمكن رؤيتها بالعين المجردة. كنا جميعا نصعد، نساء وأطفالا ورجالا، إلى سطح الدارونبدأ في المراقبة والتأمل، وينطق أحد الكبار: ـ إنه هناك، هل رأيته؟ إنه يلبس الطربوش الوطني.
وتردف للامينة :
ـ والله العظيم إنه هو. الله أحبه وأراده.
وبينما أنا أحملق بدوري وأمعن النظر في القمر، لم أكن أرى أثرا لأي صورة، ودققت النظر جيدا، فأصبت بالخيبة والإحباط، إذ لم أتمكن من رؤية الملك.
كان الجميع يشاهد القمر، ويؤكد رؤيته لصورة الملك بكل قامتها، وإذا بطلقات الرصاص المتوالية تلعلع في الفضاء، وساد ضجيج بيننا، وأسرعنا إلى درج السطح نسعى إلى النزول الواحد تلو الآخر، ولم تمر إلا دقائق معدودة، حتى اهتز باب الدار بدقات عنيفة متوالية، وبمجرد ما فتح الباب، هجم عدد من العساكر وهم مدججون بأسلحتهم، وطوق بعضهم الغرف، وبدأ تفتيش دقيق لكل محتوياتها، والتأكد من هوية الموجودين بها. بقيت مسمرا خلف أمي إلى أن طلبت مني أن ألتحق بسريري وأتوسد الوسادة في هدوء.
كان الرعب يسود كل من في الدار، و ً الضاوية ً تولول واقفة أمام منسجها خائفة من أن تترامى إليه يد أحد الجنود الواقفين أمام غرفتها، وكان ً السي عياد ً يحاول تهدئتها، أما ً للا هنية ً فقد وضعت أحد صغارها على ظهرها والآخر بين يديها، وهي حامل في شهرها الثامن، تردد:
ـ يا الله، ماذا فعلنا؟ إنه يتحرك يا عباد الله!
وهي تشير إلى بطنها. أما زوجها ً سي مبارك ً الدباغ، فقد أمسك بيد ولده الأكبر ويده الأخرى مرتفعة للدلالة على الاستسلام، بينما ً راوية ً هادئة تنتظر أمام غرفتها التي دخلها جندي يعبث بما في داخلها. وفي الوقت الذي كانت فيه عملية التفتيش جارية في السفلي، كان عدد من الجنود يفتشون الفوقي.
وساد صمت رهيب إلا ما كان من حوار العساكر في ما بينهم، وهم يطلبون فتح الصناديق التي لم تكن تحتوي إلا على ملابس قديمة وأدوات لا قيمة لها. وبعد أن قلبوا الأفرشة رأسا على عقب، ولم يجدوا شيئا، بدأوا بالانسحاب، ولا أعرف هل سرهم ذلك أم أغضبهم.
ومع خروجهم، عاد الجيران إلى وسط الدار يتداولون ويتساءلون عن سر هذا الهجوم، وعما كانوا يبحثون، وأجاب أبي، وكان أكثرهم شجاعة:
ـ كانوا يبحثون عن السلاح أو عن أي وطني هارب.
واستمر الحوار في ما بين الجميع، بينما انهمكت كل امرأة في ترتيب ما تم تشتيته وتوزيعه بين الأركان، وعاد أبي إلى الغرفة تحت إلحاح أمي التي خاطبته:
ـ إن الله أنزل اللطف، لو رأوا العلم الذي تحت المخدة أو صورة الملك تحت آلة الخياطة، لو رأوا ذلك لأخذوك معهم.
وبمجرد ما سمعت بوجود صورة الملك في الغرفة حتى أسرعت إلى رؤيتها، ورغم ممانعة أمي للحفاظ عليهافي مخبئها، فلم أهدأ إلا بعد أن أمعنت النظر فيها طويلا ولأول مرة. وبعد حوار ساخن بين أمي وأبي حول الصورة والعلم وضرورة إخفائهما، فهمت أن الراية والصورة من الأسلحة الفتاكة التي يهابها الفرنسيون ويعاقبون أيا من كان إذا وجدت في حوزته.
وأذكر مساء اليوم التالي، أني رأيت بين جموع الجيران، فوق السطح، صورة الملك واضحة في القمر، ولاشك أن انطباع الصورة في مخيلتي هيأ لي أني أراها حقيقة وأنا أنظر إلى القمر.
__________________
" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,
وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,
* * *
دعــهــم يتــقــاولــون
فـلــن يـخــرج الـبحــر
عــن صمته!!!
آخر تعديل بواسطة ياسمين ، 08-02-2009 الساعة 03:09 AM.
|