هنا، ثمةُ وشائج بين الحلمِ والحقيقة، وكلاهما يتداخلُ وأحدهُما يصبُ في الآخرِ.. وما تراهُ ليسَ حُلماً.
***
ولأنكَّ في رم اخلع نعليكَ، وأملأ رِئتيكَ بالهواءِ وتجهّز للمسير واستمع؛ فقد حدثني غرباء قبل اليوم، أن رم سميَّ بوادي القمر لتشابه التضاريس، وأَنا قلت لهم بأن الله لما خلقَ الأرضَ، وجعلتَ تميدُ، وتضطربُ، خلقَ الجبالَ الرواسيَ أوتاداً ليثبتها، فاستقرت وهنا في رم بدء التكوين، وهناك لا حياة.
***
خلفي مخيم (هدوء الصحراء) وعاشقٌ اسمه ابو كامل يعرفُ أسرارهَا وأساطيرها وإذا استطعتَ صبراً، فاتبعه، فهو من يدلفُ بكَ في الليل - حين يكونُ القمرُ بدراً - الى اقصى الفيافي، الى تخوم لم يطأها أَحدْ، إلى العزلةِ، حيثُ يتنزلُ وحيكَ وحيث الصمتُ كنزكَ .
***
يصطحبك ابو كامل الى الجسر الحجري، والخزعلي، وسيق البرة،
ووادي ام عشرين ويتتبع أعمدة الحكمة السبعة، وأثار لورنس العرب، ثم يعرج بك الى ام النفوس، لتقرأ الفاتحة لبدوي، تسلق قمة الجبل الشامخ ليرتوي.. وجاء بعده من يدلٌ عليه، ويفضَّ سر الموت بكومة حجارة..
فالوشائج تتداخلُ بين الحلمِ والحقيقة.
***
أبو كامل تعرفه رم ويعرفها، ويحفظ مشاق الرحلة، وسوف يقول لك: الصبرُ نوعان: الصبرُ كراهةً، والصبرُ طوعاً، فإذا استطعت الثانية، فاتبعه في رحلة رم ليلاً .
يأخذكَ الى عالم الساحرات، يلتقطُ حصى فيسمعكَ صوتها، وسوف ترى بأم عينيك، كيف يصبُ الحلم في الحقيقة حين تشقُ الجنية الظلام، وتمتطي صهوة السكوت، لتسألك عن حبيبها..!.
***
تباطأ ولا تنأى، وافتح ذراعيكَ، فإذا قالت: طالَ زماني في رم وما ماتَ عشقي، فقل: نعم، وانحني قليلاً فقد كورّت لك يديها لترويك بـ الندى . ففي رم تأتيك أحلامُكَ قبل أن يرتَدَّ إليك طرفك.
وطني هو قطعة الارض المقدسة بالنسبة لي والمحدودة من فراغ هذه الأرض الواسعة، التي نبني في داخلها كل أمانينا وأحلامنا وأمنياتنا،
نتسابق بين محيط جدرانها وأشجارها وجبالها وهوائها، لكي نسجل بذلك التحدي، الثوابت الراسخة التي لا تمحيها ذاكرتنا بسهولة بالرغم من كل هذا التغير والتبدل والتجدد والتطور.
في الوطن نضع الماضي والحاضر في صندوق زمنه المغلق، ونحكي في داخله عن أحلام وطموحات أبائنا وأجدادنا ونقارنها بأحلامنا
وطموحاتنا التي تغيرت بتأثير الغرب، نزين ذكرياتنا بحنين الرجوع الى عهد الأجداد والأباء، والذهول والخمول من حاضرنا المؤلم والمخزي .
وطننا هو تلك البيئة التي نجعل منه جزءاً لا يتجزاء من تكويننا الداخلي والخارجي، لكي نرسم ملامح وجوهنا في لوحته الجميلة بقلمنا
المصنوع من أشجاره وحبره من مائه العذب الذي يروينا ويغذي ويقوي في نفوسنا الأنتماء له وعشق كل ذرة من ترابه.
وطني هو الذي عندما أتمشى في ربوعه الممزوجة برغباتي وعشقي له، أشعر وكأن رحلتي توقفت في مراسيه، وعقارب ساعتي توقفت في هذه
الحظات السعيدة وكأن عقارب الساعة تتشائم من الأنتقال لعد دقائق حاضرنا المؤلم .
وأشعر عندما أتمشى في ربوع وطني بأن أشواق قلبي
تتناثر وتعانق كل ذرة من ترابه الطاهر، التي ولدت ونشأت وترعرت عليها.
وطني هو المحفور حبه داخل كل واحد منا دون أي تردد أو تحمس أو تجمل أو تعلم أو تثقف، ولكنه مبدأ واحد وتضحية واحدة ومصير واحد من منطلق الشرف والكرامة والأنسانية.
وطني هو الذي صنع ومازال يصنع في داخلنا ذاك المارد المتجبر، والمسير المتعالي نحو الأفضل ونحوالأسمى ونحو الأعلى،
وتاريخ أمجاده هي التي صنعت منا أناساً تشدو بنا الى حنين ظلاله وأشجاره التي تغطينا وتحمينا من برودة الأيام وقسوتها.
حتى جعلتنا نشمخ بشموخ وطننا ونحلق بسماء أمجادة
كالصقور التي يصعب على الناظرين صيدها .
وطني الأردن هو عشقي الأبدي وتراثي وتاريخي وحاضري وأوصال أحلامي وأوجاعي وملامح الوجود الذي يدفعني ألى التكوين والبناء والتغيير الى الأفضل .
وطني هو البداية التي تذكرني بأمجادة والنهاية التي يبدأ من اجلها عد الأيام التنازلي هذا العد الذي يقربني الى اللحظة التي بها يحتضن ترابه
الطاهر جسدي، الذي يمتص جميع أحلامي واشواقي وأمنياتي وأنتمائي له لكي تهب نسمات صادقة تملأ سماء وطني ليتنفس منها ويستنشقها الأحفاد القادمة حتى يستمروا العيش بشموخ أردننا الحبيب
عمان.. يا خيمة الفصحى، ورايتها
من لا يراك بعين القلب، فهو عم..
الشمس في أفقك العالي منازلها
ويغرق «الكل» في بحر من الظلم
ما صيغ قلبك من ماس ولا ذهب
لكنه صيغ من جود ومن كرم..
لو أنصف «القوم» طافوا حول «قلعتها»
على الرموش، وباسوها بكل فم!
(2)
من سوى هذه «الجميلة» تزهو
بالهدى، وهي للهدى عنوان..
وله في جبينها كرم زيتون
وفي صدرها له بستان
يا صباح التسبيح ينساب منها
كانسياب الندى، ويعلو الأذان..
فهي بنت الندى، وهمزة وصل «البيت»،
«بالبيت».. والمدى قرآن
وهي بين «المباركين» مكان
باركته السماء، وهي زمان
إنها الدوحة الشريفة، والأغصان
معقودة بها الأغصان
وهي لم تعرف السجود لغير الله
يوما، ولا اعتراها هوان
ولكم هانت الجباه، وظلت
وحدها الجبهة التي لا تهان
وانحنى عند صبرها كل صبر
وانثنى طوع أمرها الطوفان
فهي أنقى من النقاء، ومنها
يطلع الكبرياء، والإيمان..
أيهذا الجميل فينا وفي الأمة
أنت النبيل، والإنسان..
(3)
يا أجمل «ليلى» في الكون،
أنا المجنون المسكون بحبك،
والمفتون..
بالعين، وبالميم، وبالألف، وبالنون..
حين أراك أراني..
ويعود إلى قلبي قلبي،
ويفتح فيه الزعتر، والدفلى، والدحنون
يا أيتها البدوية، والحضرية،
والختيارة، والطفلة،
والوردة، والشوكة..
يا وارثة حضارات الدنيا..
يا «فيلادلفيا»..
لا أملك إلا هذا القلب،
وأحلف أنك وحدك فيه..
فهل يكفيك، لترضي، يا ربة عمون؟!