المقدمة
بعض ما في هذا الكتاب وريقات ووثائق سطرتها وأنا وسط الأحداث العاصفة التي هبت على الكويت أثناء التأزم في المراحـــل الأخيرة من أيام (مجلس الأمة التشريعي) في عام 1939.
فلما حل مجلس الأمة التشريعي الثاني أو قبل ذلك أدركت أن الواقعة ستقع وأن السلطة ستطاردني للقبض علي وربما فتشت بيتي فتعثر على هذه الوريقات وتصادرها. تقبض علي ليس بصفتي فقط سكرتيرا لمجلس الأمة التشريعي الأول فالثاني بل ولانها تعلم اني انا الوحيد الذي رتب وأنشأ ودون كل أثر من آثار المجلسيين، لهذا عنيت بدفن هذه الأوراق في التراب عند عتبة غرفة نومي في بيت الوالد الكائن في شارع (فهد) الصالحية سابقا، وبعد أن وضعتها في علبة من التنك. وصدق ظني فلقد داهمت السلطة البيت للقبض علي فلما لم تجدني فتشت كل من فيه لكنها لم تعثر على الضالة. وبعد سنوات عدت الى الكويت من العراق مع الأخوان الحاج محمد الثنيان الغانم والسيد محمد أحمد الغانم والسيد عبدالوهاب عيسى القطامي عام 1363هـ 1944م بطلب من المرحوم أمير البلاد آنذاك الشيخ أحمد الجابر المبارك الصباح الذي أرسل لنا وفدا من شخصيات الكويت بعد ان اطلق سراح المعتقلين السياسيين الخمسة ليعبر لنا عن كامل رضاه وتناسي احداث الماضي وآثاره. وحينما وصلت الكويت بعثت تلك الأوراق المدفونة من مرقدها ثم جعلت تنتقل معي وتطاردني سنوات من بلد الى آخر في أمل ترتيبها أو تهيئتها في كتاب متى سنحت لي الفرصة.
غير ان ما فيها من مواقف صعبة لبعض الشخصيات وغالبهم اصبح عزيز على الآن جعلني اتردد في نشرها، فضلا عن ان اعادة ترتيبها أو تهذيب بعض ما فيها ثانية قد يفسد من طبيعتها الواقعية ويسئ الى امانة التاريخ التي هي في نظري اقدس من سواها.
فأكتفيت وانا في لبنان بإصدار رسالة صغيرة سميتها (نصف عام للحكم النيابي في الكويت) ضمنتها فقط الوقائع والوثائق والانجازات التي حدثت ابان مجلس الأمة التشريعي الأول، ومع ان تلك الرسالة الصغيرة اقتصرت فقط على ذكر الوقائع المجردة متحاشية الاثارة ومتجنبة التعريض باحد الا ان مديرية الامن العام حينذاك صادرتها وطاردت من وزعوها وغضب علي من جديد فتحاشيت العودة للكويت بضع سنوات اخرى حتى خفت حدة الغضب وهدأت النفوس الثائرة، واذا بالرئيس المسؤول عن ادارة الامن العام الشيخ عبدالله المبارك الصباح الذي أمر بمصادرة الرسالة يعود فيرجوني بنفسه للرجوع للكويت وهكذا عدت ثانية للكويت الوطن العزيز عام 1950هـ.
لكن العبرة لم تغب عن بالي، فرسالة صغيرة مقتصرة على سرد الوقائع المجردة ومحررة بأسلوب مهذب بعيد عن الاثارة والتحريض احدثت كل ذلك الغضب فما بالك اذا اردت ان اصدر كتابا كاملا اتولى فيه سرد الاحداث والوقائع التاريخية بالتفصيل والتحليل ؟!!.
ولست هذه المرة متهيبا من السلطة فان السلطة أو الحكومة أية حكومة قائمة أو التي ستقوم في الكويت حين صدور هذا الكتاب لها من التجارب وسعة الافق ما يهون عليها الأمر في احتمال القليل من اجل كتابة التاريخ بصورة صحيحة ليس فيها وهم ولا تحريف.
وإنما الذي اتهيب منه واتقيه هو وقع نشر مثل هذه المواقف التاريخية على بعض الشخصيات الكبيرة والعزيزة مما وردت اسماؤها ضمن ذلك وفيهم كثير من العزيزين الغالين علي وفيهم من عدل مواقفه الضعيفة من القضايا الوطنية فوفى الدين وأداه.
هل أخسر صداقة هؤلاء الأعزاء جميعا؟ هل سيسامحني بعضهم؟ هل أهذب من هذه الأوراق الصفراء التي تطاردني منذ سنين؟ فأقضي على ما فيها بالحذف والتغيير والتهذيب؟ لست ادري.. ولكني اقول اني عملت كل جهدي وان امانة التاريخ المقدسة تلزم علي ان احتفظ ولو بالرؤى والاطياف من الصحائف الماضية انشرها كما حررتها بتواريخها قبل اكثر من عشرين عاما لتكون مدخلا لمن يهمه دراسة مراحل الحركات الوطنية في الكويت. كيف بدأت وكيف تدرجت حتى انتهت الى ما نحن عليه. فعذرا خالصا اولا للأصدقاء الكبار الذين أعزهم وثانيا للذين قد يرون في ايراد مثل هذه الصفحات أو بعضها سردا تفصيليا لإمور صغيرة كأنتخابات مجلس للبلدية أو مجلس للمعارف، لكني أقول وسيقرني الكثيرون أن عنيت من هذا السرد شرح الأحوال والأفكار التي كنا نعيشها في الكويت حينذاك، فهي أثر صحيح لبدأ الحركات الوطنية كيف نشأت وكيف تطورت وتلك هي الغاية الأولى من نشر هذا الكتاب والله الموفق.
خالد سليمان العدساني
سكرتير مجلس الأمة التشريعي الأول فالثاني
الحركات الفكرية في الكويت
لم تنشأ أو لم تعرف في الكويت أية حركة فكرية أو اصلاحية أبان الحكم الأول ولا حتى في اوائل عهد المرحوم الشيخ مبارك الصباح (مبارك بن صباح الثاني الحاكم السابع للكويت).
إذ لم يكن في الكويت من البواعث والمهيئات للحركات الاصلاحية والفكرية شئ مما كان في اغلب البلاد الاخرى. فقد كان الكويتيون يقنعون بداية استيطانهم للكويت بالتافه واليسير من العيش، وكان الحكم في بداية استقرارهم يكاد يكون شوريا مجردا من إمارات السيطرة والتحكم. كذلك لم يلج الاجانب إذ ذاك بلادهم لينافسوهم في اسباب الرزق فيتولد بالاحتكاك معهم روح من النشاط والمعرفة والتنافس. كما ان الحركات الفكرية والوطنية في العالم العربي جميعه كانت خاملة متقطعة. لهذا تفشت الأمية، وانتشرت الخرافات التي ادت في الجزيرة العربية أبان الحكم العثماني الطويل الثقيل. حتى اذا تفجرت مع بداية القرن العشرين النهضة المصرية التي حرك اوارها مصلحا الشرق العظيمان جمال الدين الافغاني والشيخ محمد عبده، تفتحت في انحاء الشرق العربي عيون الجامدين وبدأوا يتلمسون اسرار الحياة وفهم حقائقها عن طريق الصحافة المصرية المجيدة التي كانت تجوب انحاء الكون العربي ناشرة معها بذور النهضة وشعاع اليقظة الأولى. ثم كان للعلماء والمصلحين الذين زاروا الكويت في مستهل القرن العشرين امثال المرحوم الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار وتلميذ الشيخ محمد عبده فالمرحوم الشيخ محمد الشنقيطي الذي انتقل الى الزبير فيما بعد وأسس مدرسة "النجاة" فيها والشيخ حافظ وهبه المصري الذي قدم الى الكويت في بداية الحرب العالمية الثانية واستقر فيها ثم انتقل منها الى جلالة الملك المرحوم عبدالعزيز السعود فعين اخيرا لمدة طويلة سفيرا للمملكة العربية السعودية في لندن - كان لهؤلاء العلماء والمصلحين أثر محسوس في تحريك الشعور وتهيئة الاذهان، الأمر الذي هيأ للعاملين من الكويتيين ومن اولهم المرحوم الشيخ ناصر مبارك الصباح، والشيخ يوسف بن عيسي القناعي والسيد ياسين طباطبائي، الاستفادة من هذا الروح الطيب لاستنهاض همم الرجال لفتح اول معهد تدريسي في الكويت (المدرسة المباركية عام1330هـ)، لتدريس التلامذة اصول القراءة والكتابة ومبادئ علوم الحساب والهندسة والتاريخ والجغرافيا، على نمط غير معروف في الكتاتيب الكويتية الموجودة في ذلك الحين. وقد تولى إدارة المدرسة في ذلك الحين الشيخ يوسف بن عيسى القناعي مصلح الكويت الأول، حتى غضب عليه المرحوم الشيخ مبارك الصباح فتنحى عن إدارتها.
وتلى افتتاح المدرسة المباركية قيام الجمعية الخيرية عام 1331هـ بمسعى الشاب المرحوم فرحان الفهد الخالد للغايات الاصلاحية والخيرية التي تتطلبها حاجة الكويت، فكان من اساتذتها الشيخ محمد الشنقيطي والطيب التركي أسعد أفندي. وقد عملت هذه المؤسسة على تنوير الطلاب الكويتيين ورفع الغشاوة عن اعين الجاهلين والخاملين. الا ان المرحوم الشيخ مبارك توحش من عواقبها فسارع الى ابعاد الطيب التركي. ثم غادر المرحوم الشنقيطي الكويت الى الزبير متخفيا وخائفا من سطوة حاكم الكويت. فأقفلت الجمعية الخيرية أبوابها وخرس صوتها الى الأبد.
وبعد وفاة المرحوم الشيخ مبارك الصباح انتقل الحكم في الكويت الى ولديه جابر فسالم. ثم جاء الحاكم العاشر المرحوم أحمد بن جابر الصباح (عام 1339هـ) الذي كان للكويت في ولاية حكمه المديد (قرابة 29 عاما) آثارا بعيدة في التدرج والتقدم والازدهار. وقد عرف المرحوم أحمد الجابر برحابة الصدر وسعة الحلم والنفس الطويل العريض والصبر على المكاره والشدائد التي كانت تتلاشى بفعل الزمن وإنتهاج سياسة الحكمة والتعقل والروي. ولا أذكر ان الكويت أبان حكمه من كان يخشى الظلم أو يتهيب السطوة، الا انه رحمه الله كان مستسلما لما تقوله حاشيته لا سيما وزيره الأول الملا صالح الملا وغيرهم ممن لهم باع طويل في الاستغلال. وقد ازدهرت الحركات الفكرية وانطلق عقال الاصلاح والوطنية في عهده، فتم في عام 1340هـ افتتاح المدرسة الأحمدية ذات المناهج الحديثة والاساليب المستجدة في المحاورات الادبية والاحتفالات الكبيرة ذات المناظرات الشعرية وغيرها مما حبب الى الكويتيين ارسال بنيهم اليها ليتزودوا ويغترفوا من اساليبها وابتكاراتها. وكان اول من اشار بافتتاحها الشيخ يوسف بن عيسى ايضا ليعالج ما اصاب المدرسة المباركية من عقم وتخلف بسبب الادارة وتخلف القائمين على ادارتها عن مسايرة النهضات واساليب التدريس الحديثة. وكان من اكبر اساتذتها الشيخ المرحوم عبدالعزيز الرشيد مؤلف تاريخ الكويت والمرحوم عبدالملك الصالح والشيخ حافظ وهبه والشيخ محمد الخراشي وكلهم له باعه الطويل في الاصلاح والتحرر من الرجعية والجمود.
كذلك تم في عام 1341هـ افتتاح المكتبة الاهلية في جانب بيت العامر القديم حاوية أنفس الكتب والمجلدات والصحف العربية يؤمها الكويتيون من طالبي المعرفة من كل جنس، وكان يشرف على هذه المكتبة مجلس ادارة مؤلف من الشيخ يوسف بن عيسى والشيخ حافظ وهبه وسليمان العدساني ومشعان الخضير وعبدالحميد الصانع وعبدالرحمن البحر والسيد علي السيد سليمان والسيد رجب السيد عبدالله الرفاعي الذي كان يتولى الاشراف على ادارتها.
وفي عام 1342 تمخضت هذه الموجات الفكرية والمعاهد التدريسية على حركات أدبية ناشطة منها افتتاح النادي الادبي الذي كان لي شرف الفكرة الأولىفي المساعدة على قيامه. وكان هذا النادي يضم في عداد اعضائه ما لا يقل عن مائة شاب ناشئ وغير ناشئ من الكويتيين الذين تفتحت عقولهم وقلوبهم على الحياة الحرة السليمة، والقيت فيه محاضرات ادبية وتاريخية شتى مما كان دويها البعيد لا في ارجاء الكويت وحدها بل وفيما جاورها من امارات الساحل العربي. وقد تميز هذا النادي بتسهيل إلتقاء الشباب الناشئ بمن هم اقدم منا سنا وتجربة من رجالات الكويت المعروفين فتلاقت الافكار وانصهرت الآراء الوطنية. واسندت رئاسة الشرف فيه الى احد شباب العائلة الحاكمة الشيخ عبدالله الجابر الصباح لما عُرف عنه من ميل الى الادب والمتأدبين.
يتبع