العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: الرد على مقال محمد اسم لرسالة وليس اسمًا لشخص بيولوجي (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الذرية فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الطرف في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الثالوث فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الطبع في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الصفق فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الولدان المخلدون (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الخمار فى الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الحجاب في الإسلام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: رقص و قذارة سفيرة (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 21-10-2006, 02:50 AM   #1
maher
عضو شرف
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2004
الإقامة: tunisia
المشاركات: 8,145
إفتراضي


ثم أشار إلى السمينة فقامت وأشارت بيدها إلى الهزيلة وقالت: الحمد لله الذي خلقني فأحسن صورتي وسمنني وشبهني بالأغصان وزاد من حسني وبهجتي فله الحمد على ما أولاني وشرفني في كتابه العزيز فقال تعالى: وجاء بعجل سمين وجعلني كالبستان المشتمل على خوخ ورمان واهل المدن يشتهون الطير السمين فيأكلون منه ولا يحبون طيراً هزيلاً وبنو آدم يشتهون اللحم السمين ويأكلونه وكم للسمن من مفاخر وما أحسن قول الشاعر:
ودع حبيبك إن الركب مرتحل *** وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
كأن مشيتها في بيت جارتهـا *** مشي السمينة عيب ولا ملل


وما رأيت أحداً يقف على الجزار إلا ويطلب منه اللحم السمين وأما أنت يا رفيعة فسيقانك كسيقان العصفور ومحراك التنور وأنت خشبة المسلوب ولحم المعيوب وليس فيك شيء يسر الخاطر. فقال لها سيدها اجلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست.

ثم أشار إلى الهزيلة فقامت كأنها غصن بان أو قضيب خيزران أو عود ريحان وقالت: الحمد لله الذي خلقني فأحسنني وجعل وصلي غاية المطلوب وشبهني بالغصن الذي تميل إليه القلوب فإن قمت خفيفة وإن جلست جلست ظريفة فأنا خفيفة الروح عند المزاح طيبة النفس من الإرتياح وما رأيت أحداً يصف حبيبه فقال حبيب قدر الفيل ولا مثل الجبل العريض الطويل وإنما حبيبي له قد أهيف وقوام مهفهف فاليسير من الطعام يكفيني والقليل من الماء يرويني نفسي خفيف ومزاجي ظريف فأنا أنشط من العصفور وأخف حركة من الزرزور ووصلي منية الراغب ونزهة الطالب وأنا ملية القوام حسنة الإبتسام كأني غصن بان أو قضيب خيزران أو عود ريحان وليس لي في الجمال مماثل كما قال في الشاعر:
شبهت قدك بالـقـضـيب *** وجعلت شكلك من نصيبي
وغدوت خلفـك هـائمـاً *** خوفاً عليك من الرقـيب


وفي مثلي تهيم العشاق ويتوله المشتاق وإن جذبني حبيبي انجذبت إليه وإن استمالني ملت له لا عليه وها أنت يا سمينة البدن فإن أكلك أكل للفيل ولا يشبعك كثير ولا قليل أي شيء في غلظك من الملاحة أو في فظاظتك من اللطف والسماحة ولا يليق باللحم السمين غير الذبح وليس فيه شيء من موجبات المدح إن مازحك أحد غضبت وإن لاعبك حزنت فإن غنجت شخرت وإن مشيت لهثت وإن أكلت ما شبعت وأنت أثقل من الجبال وأقبح من الخيال والوبال مالك حركة ولا فيك بركة وليس لك شغل إلا الأكل والنوم كأنك زق منفوخ أو فيل ممسوخ وبالجملة ليس فيك شيء من المفاخر’ فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست.

ثم أشار إلى الصفراء فقامت على قدميها وحمدت الله تعالى واتت عليه بالصلاة والسلام على خيار خلقه لديه ثم أشارت بيدها إلى السمراء وقالت لها: أنا المنعوت في القرآن ووصف لوني الرحمن وفضله على سائر الألوان بقوله تعالى في كتابه المبين صفراء فاقع لونها يسر الناظرين فلوني آية وجمالي غاية وحسني نهاية لأن لوني لون الدينار ولون النجوم والأقمار ولون التفاح وشكلي شكل الملاح ولون الزعفران يزهو على سائر الألوان فشكلي غريب ولوني عجيب وأنا ناعمة البدن غالية الثمن وقد حويت من كل معنى حسن ولوني في الوجود مثل الذهب الإبريز وكم من مآثر وفي مثلي قال الشاعر:
لها اصفرار كلون الشمس مبتهج *** وكالدنانير في حسن من النظـر
ما الزعفران تحاكي بعض بهجتها *** كلا ومنظرها يعلو من القـمـر


وسوف أبتدي بذمك يا سمراء اللون فإنك في لون الجاموس تشمئز عند رؤيتك النفوس إن كان لون في شيء فهو مذموم وإن كان في طعام فهو مسموم فلونك لون الذباب وفيه بشاعة الكلاب وهو محير بين الألوان ومن علامات الأحزان وما سمعت قط بذهب أسمر ولا در ولا جوهر فلا أنت سوداء فتعرفي ولا أنت بيضاء فتوصفي وليس لك شيء من المآثر كما قال فيك الشاعر:
لون الهباب لون غـبـرتـهـا *** كالتراب تدهس في أقدام قصاد
فلما نظرت لها بالعين أرمقتها *** إلا تزايد من همي وأنـكـادي


فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست،

ثم أشار إلى السمراء وكانت ذات حسن وجمال وقد واعتدال وبهاء وكمال. لها جسم ناعم وشعر فاحم معتدلة القد موردة الخد ذات طرف كحيل وخد أسيل ووجه مليح ولسان فصيح وخصر نحيل وردف ثقيل فقالت: الحمد لله الذي خلقني لا سمينة مذمومة ولا هزيلة مهضومة ولا بيضاء كالبرق ولا صفراء كالمغص ولا سوداء بلون الهباب بل جعل لوني معشوقاً لأولي الألباب وسائر الشعراء يمدحون السمر بكل لسان ويفضلون ألوانهم على سائر الألوان، فأسمر اللون حميد الخصال، ولله در من قال:
وفي السمر معنى لو علمت بيانه *** لما نظرت عيناك بيضاً ولا حمرا
لياقة ألفـاظ وغـنـج لـواحـظ ** يعلمن هاروت الكهانة والسحرا


فشكلي مليح وقدي رجيح ولوني ترغب فيه الملوك ويعشقه كل غني وصعلوك، مليحة ظريفة ناعمة البدن غالية الثمن وقد كملت في الملاحة والأدب والفصاحة مظاهري ولساني فصيح ومزاجي خفيف ولعبي ظريف وأما أنت فمثل ملوخية باب اللوق صفراء وكلها عروق فتعساً لك يا قذرة الرواس ويا صدأ النحاس وطلعة البوم وطعام الزقوم، ففضجيجك يضيق النفوس مقبور في الأرماس وليس لك في الحسن مآثر وفي مثلك قال الشاعر:
عليها اصفرار زاد من غير عـلة *** يضيق له صدري وتوجعني رأسي
إذا لم تتب نفسي فإنـنـي أذلـهـا *** بلثم محياها فتقلـع أضـراسـي


فلما فرغت من شعرها قال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية، ثم بعد ذلك أكرمهن.

بتصرف صغير

__________________





maher غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 22-11-2006, 01:57 PM   #2
maher
عضو شرف
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2004
الإقامة: tunisia
المشاركات: 8,145
إفتراضي

علي الطنطاوي -أعرابي في حمام
........................................

صحبنا في رحلتنا إلى الحجاز، دليل شيخ من أعراب نجد يقال له صلَبى ما رأيت أعرابياً مثله قوةَ جَنَان، وفصاحة لسان، وشدة بيان ولولا مكان النبرة البدوية لحسبته قد انصرف الساعة من سوق عكاظ، لبيان لهجته، وقوة عارضته، وكثرة ما يدور على لسانه من فصيح الكلام. وكان أبيّ النفس، أشمّ المعطس، كريم الطباع، لكن فيه لوثة وجفاء من جفاء الأعراب، رافقنا أيام طويلة، فما شئنا خلة من خلال الخير إلا وجدناها فيه، فكان يواسينا إذا أصبنا، ويؤثرنا إذا أَضَقنا، ويدفع عنا إذا هوجمنا، ويفديّنا إذا تألمنا، على شجاعة نادرة، ونكتة حاضرة، وخفة روح، وسرعة جواب، قلنا له مرة: - إن (صْلَبة) في عرب اليوم، كباهلة في عرب الأمس، قبيلة لئيمة يأنف الكرام من الانتساب إليها، وأنت فيما علمنا سيّد كريم من سادة كرام، وليس لك في هذه القبيلة نسب؟ فما لك تدعى صلبى. فضحك وقال: - صدقتم والله، ما أنا من صلبة، ولا صلبة مني، وإني لكريم العم والخال ولكنّ هذا الاسم نكتة أنا مخبركم بها. قلنا: هات. قال: - كان أبواي لا يعيش لهما ولد، فلما ولدت خشيا عليّ فسمياني صْلَبى. قلنا: ائن سمياك صْلَبى عشت؟ قال: إن عزرائيل أكرم من أن يقبض روح صْلَبى.
وسألناه مرة: هل أنت متزوج يا صْلَبى؟ قال: - لقد كنت متزوجاً بشرّ امرأة تزوجها رجل، فما زلت أحسن إليها وتسيء إليّ، حتى ضقت باحتمالها ذرعاً فطلقتها ثلاثاً وثلاثين. قلنا: إنها تبين منك بثلاث، فعلام الثلاثون؟ فقال على الفور: صدقة مني على الأزواج المساكين!

وطال بنا الطريق إلى تبوك، وملّ القوم، فجعلوا يسألونه عن تبوك، ويكثرون عليه، يتذمرون من بعدها، حتى إذا كثروا قال لهم: ما لكم تلومونني على بعدها؟ والله لم أكن أنا الذي وضعها هناك. ولم يكن صْلَبي يعرف المدن، ولم يفارق الصحراء قط إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك لا تزيد عن خمسين بيتاً...) فلما بلغنا مشارف الشام أغريناه بالإبلاد ودخول المدينة، وجعلنا نصف إليه الشام، ونشوّقه فيأبى، وكنت صفّيه من القوم وخليله ونجيّه فجعلت أحاولره وأداوره، وبذلت في ذلك الجهد فلم أصنع معه شيئاً لما استقر في نفسه من كراهية المدن وإساءة الظن بأهلها، وكان عربياً حراً، ومسلماً موحداً، لا يطيق أن يعيش يوماً تحت حكم
(الروم) أو يرى مرة مظاهر الشرك...
فودعناه وتركناه...
* * *
وعدت إلى دمشق، فانغمست في الحياة، وغصت في حمايتها أكدّ للعيش، وأسعى للكسب، فنسيت
صلَبى وصُحبته، وكدت أنسى الصحراء وأيامها، ومرّت على ذلك شهور... وكان أمس فإذا بي
ألمح في باب الجابية وسط الزحمة الهائلة، وجهاً أعرفه فلحقت به أتبيّنه فإذا هو وجه صْلَبى، فصحت به: - صْلَبى! قال: - لا صْلَبى ولا مْلَبى.
قلت: ولم ويحك؟ قال: أنا في طلبك منذ ثلاث ثم لا تأتي إليّ ولا تلقاني؟
فقلت له ضاحكاً: - وأي ثلاث وأي أربع؟ أتحسبها تبوك فيها أربعمائة نسمة؟ إنها دمشق يا صْلَبي، فيها أربعمائة ألف إنسان، فأين تلقاني بين أربعمائة ألف؟
قال: - صدقت والله.
قلت: هلم معي. فاستخرجته من هذه الزحمة الهائلة، وملت به إلى قهوة خالية، فجلسنا
بها ودعوت له بالقهوة المرة والشاهي، فسرّ، وانطلق يحدثني قال: - لمّا فارقتكم ورجعت وحيداً، أسير بجملي في هذه البادية الواسعة، جعلت نفسي تحدثني أن لو أجبت القوم ورأيت المدينة... فلما كان رمضان مرّ بنا بعض الحضريين فدعوني إلى صحبتهم لأرشدهم الطريق، ثم أغروني كما أغريتموني، وحاوروني كما حاورتموني حتى غلبوني على أمري ودخلوا بي دمشق، فما راعني والله يا ابن أخي إلا سيارة كبيرة كسيارتكم هذه، لكنها أهول وأضخم، لها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فأدخلوني إليها، فخشيت والله وأبيت، فأقسموا لي وطمأنوني، فدخلت ويدي على خنجري إن رأيت من أحد شيئا أكره وجأته به، وعيني على النافذة إن رابني من السيارة أمر قفزت إلى الطريق، وجلست، فما راعنا إلا رجل بثياب عجيبة قد انشق إزاره شقاً منكراً، ثم التف على فخذيه فبدا كأنما هو بسراويل من غير إزار، وعمد إلى ردائه فصف في صدره مرايا صغيره من النحاس، ما رأيت أعجب منها، فعلمت أنه مجنون وخفت أن يؤذينا، فوضعت كفي على قبضة الخنجر، فابتسم صاحبي وقال: هو الجابي. قلت: جابي ماذا، جبّ الله (...)! قال: اسكت، إنه جابي (الترام) أعني هذه السيارة.
ثم مدّ يده بقرشين اثنين، أعطاه بها فتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسر منها، وعجبت من بلاهة هذا الرجل إذ يشتري بقرشين ورقتين لا تنفعان وجلست لا أنبس، فلم تكن إلا هنَيّة حتى جاء رجل كالأول له هيئة قِزْدية ألا أنه أجمل ثياباً، وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها، فثارت ثائرتي، قلت: هذا والله الذل، فقّبح الله من يقيم على الذل والخسيفة، وقمت إليه فلبّبته وقلت له: - يا اين الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا، ودفعنا به قروشنا فتمزقه،
لأمزّقن عمرك. وحسبت صاحبي سيدركه من الغصب لكرامته، والدفاع عن حقه مثل ما أدركني فإذا هو يضحك، ويضحك الناس ويعجبون من فعلي، لأن عمل هذا الرجل -فيما زعموا- تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم...
ولما نزلنا من هذه الآفة، قال لي صاحبي: هلّم إلى الحمام. فقلت: وما الحمام يا ابن أخي؟
قال: تغتسل وتلقي عنك وعثاء السفر. قلت: إن كان هذا هو الحمام، فما لي فيه من مأرب، حسبي هذا النهر أغطس فيه فأغتسل وأتنظف.
قال: هيهات... إن الحمام لا يعدله شيء، أو ما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟ قلت: لا والله ما سمعت. قال: إذن فاسمع ورَهْ.
وأخذني فأدخلني داراً قوراء في وسطها بركة عليها نوافير يتدفق منها الماء، فيذهب صعداً كأنه عمود من البلور ثم يتثنى ويتكسر ويهبط كأنه الألماس، له بريق يخطف الأبصار، صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان، وعلى أطراف الدار دكك كثيرة، مفروشة بالأسرة والمتكآت والزرابيّ كأنها خباء الأمير، فلم نكد نتوسطها حتى وثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد، يصيحون علينا صياحاً غريباً، فأدركت أنها مكيدة مدبرة، وأنهم يريدون اغتيالي، فانتضيت خنجري وقلت: والله لا يدنو مني أحد إلا قطعت رقبته، فأحجموا وعجبوا ورعبوا، وغضب صاحبي وظنني أمزح، ومال عليّ يعاتبني عتاباً شديداً. فقلت له: ويحك أو ما تراهم قد أحاطوا بنا؟ قال: إنهم يرحبون بنا ويسلمون علينا. فسكت ودخلت. وعادوا إلى حركتهم يضحكون من هذا المزاح، ويدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون، وأنا لا أدري ما هم صانعون حتى قادونا إلى دكة من هذه الدكك، وجاءوا ينزعون ثيابنا فتحققت أنها المكيدة، وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم قتلي، فقد عجزوا أن يقاتلوني وبيدي
الخنجر، فأبيت وهممت بالخروج ولكن صاحبي ألحّ عليّ وأقسم لي، فأجبت واستسلمت وإن
روحي لتزهق حزناً على إني ذللت هذا الذل حتى أسلمتهم سَلَبي يسلبونني وأنا حي. ولو كنت في البادية لأريتهم كيف يكون القتال... حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبق عليّ شيء، قلت: أما من مسلم؟ أما من عربي؟ أتكشف العورات في هذا البلد فلا يغار أحد، ولا يغضب إنسان؟
فهدّأ صاحبي من ثورتي وقال: أفتغتسل وأنت متزر؟ قلت: فكيف أتكشف بعد هذه الشيبة وتذهب عني في العرب فتكون فضيحتي إلى الأبد؟ قال: من أنبأك أنك ستتكشف؟ هلا انتظرت!
فانتظرت وسكت فإذا غلام من أغلمة الحمام، يأخذ بيده إزاراً فيحجبني به حتى أنزع أزراري وأتزرّ به، فحمدت الله على النجاة، وكان صاحبي قد تعرى فأخذ بيدي وأدخلني إلى باطن الحمام، فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج ملتفّة متلوية، يضّل فيها الخرّيت وهي مظلمة كأنها قبر قد انعقدت فوقها قباب وعقود، فيها قوارير من زجاج تضيء كأنها النجوم اللوامع، في السماء الداجية، وفي باطن الحمام أناس عري جالسون إلى قدور من الصخر فيها ماء، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وقلت هذه والله دار الشياطين وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أذكر منها شيئاً، فأيقنت أنها ستركبني الشياطين لما نسيت من آية الكرسي، وجعلت أبكي على شيبتي أن يختم لها هذه الخاتمة السيئة، وإني لكذلك، وإذا بالخبيث يعود إليّ يريد أن ينزع هذا الإزار الذي كسانيه، فصحت به: يا رجل، اتق الله، سلبتني ثيابي وسلاحي، وعدت تجردني وتعريني، الرحمة يا مسلمون، الشفقة أيها الناس! فوثب إليّ الناس، وأحدقوا بي، وجعلوا يضحكون، فقال صاحبي: - ما هذا يا صْلَبى، لا تضحك الناس علينا، أعطه الإزار. قلت: وأبقى عرياناً؟ قال: لا، ستأخذ غيره، هذا كساء يفسد إذا مسه الماء، وإن للماء كساء آخر.
ونظرت فإذا عليه هيئة الناصح، وإذا هو يدفع إليّ إزاراً آخر، فاستبدلته به مكرهاً وتبعت صاحبي إلى مقصورة من هذه المقاصير، فجلسنا علا قدر من هذه القدور... وأنا أستجير بالله لا أدري ماذا يجري عليّ، فبينما أنا كذلك وإذا برجل عار، كأنه قفص عظام، له لحية كثة، وشكل مخيف وقد تأبط ليفاً غليظاً يا شرّ ما تأبط، وحمل ماعوناً كبيراً، يفور فوراناً، فاسترجعت وعلمت أنه السمّ وأنه سيتناثر منه لحمي، فقصد إليّ، فجعلت أفرّ منه وأتوثب من جانب إلى جانب وهو يلحقني ويعجب من فعلي، ويظن أني أداعبه، وصاحبي يضحك ويقسم لي أنه الصابون، وأنه لا ينظف شيء مثله. قلت: ألا شيء من سدر! ألا قليل من أشنان؟ قال: والله ما أغشك، فجرب هذا إنه خير منه.
فاستجبت واستكنت، وأقبل الرجل يدلكني دلكاً شديداً وأنا أنظر هل تساقط لحمي، هل تناثر جلدي، فلا أجد إلا خيراً فأزمعت شكره لولا أني وجدته يتغفلني فيمد يده تحت الإزار إلى فخذي، فيدلكه ويقرصه، فقلت هذا ماجن خبيث، ولو ترك من شره أحد لتركني، ولصرفته عني شيبتي، وهممت بهشم أنفه وهتم أسنانه، ولحظ ذلك صاحبي فهمس في أذني أنه ينظفك وكذلك يصنع مع الناس كلهم، فلما انتهى وصب عليّ الماء، شعرت والله كأنما نشطت من عقال، وأحسست الزهو والخفة، فصحت فأنكرت صوتي فقلت: ما هذا، أينطق لساني مغنٍ من الجن؟ وأعدت الصيحة فازددت لصوتي إنكاراً. واستخفني الطرب، فجعلت أغني وأحدو، فقال صاحبي: لعلك استطبت صوتك؟ قلت: أي والله. قال: أفأدلك على باب القاضي؟ قلت: وما أصنع في باب القاضي؟ قال: ألا تعرف قصة جحا؟ قلت: لا والله، ما أعرف جحا ولا قصته.
قال: كان جحا عالماً نحريراً، وأستاذاً كبيراً، لكن كان فيه فضائل نادرة، وكان خفيف الروح، فدخل الحمام مرة فغنى فأعجبه صوته -وكان أقبح رجل صوتاً- وراقه حسنه، فخرج من فوره إلى القاضي، فسأله أن ينصبه مؤذناً وزعم أن له صوتاً لا يدخل أذناً إلاّ حمل صاحبها حملاً فوضعه في المسجد... فقال القاضي: اصعد المنارة فأذن نسمع. فلما صعد فأذّن، لم يبق في المسجد رجل إلا فر هارباً. فقال له القاضي: أي صوت هذا، هذا الصوت الذي ذكره ربنا في الكتاب: قال: أصلح الله القاضي، ما يمنعك أن تبني لي فوق المئذنة حماماً؟!..


ولمح الأعرابي صديقاً له من أعراب نجد، قد مرّ من أمام القهوة، فقطع عليّ الحديث
وخرج مهرولاً يلحق به.

__________________





maher غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 23-11-2006, 12:23 PM   #3
العنود النبطيه
سجينة في معتقل الذكريات
 
الصورة الرمزية لـ العنود النبطيه
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
الإقامة: الاردن
المشاركات: 6,492
إفتراضي



اضحك الله سنك اخي ماهــــــــر



وفقك الله ورعاك
__________________


كيف استر الدمع في عيونٍ عرايـــــا
وسحاب الألم لا يترك في العمر ورقة إلا ويرويها بالشقاء
أنّى للدموع الاختباء والفؤاد جريح
والنزيف سنين من عمرٍ صار خراب
فيا دمعاتي الحوارق هونا على الخدود حرّقها لهيبك
وهونا على العمر صار يجر الخراب وهو في بواكير الصبا



http://nabateah.blogspot.com
العنود النبطيه غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .