قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(ولهذا كان الجهاد؛ موجبا للهداية، التي هي محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، فجعل لمن جاهد فيه؛ هداية جميع سبله تعالى، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: "إذا إختلف الناس فى شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم، لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}) [مجموع الفتاوى: ج28/ص442].
وأخبرنا صلى الله عليه وسلم؛ أن الطائفة المنصورة المهتدية، هي طائفة مقاتلة مجاهدة.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم [4]، حتى تأتي الساعة وهم على ذلك) [رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال من أمتي؛ أمة، يقاتلون في سبيل الله، لا يضرهم من خالفهم، يزيغ الله قلوب قوم يرزقهم منهم، يقاتلون حتى تقوم الساعة) [رواه النسائي].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة... فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: "تعال صلِ لنا"، فيقول: "لا، إن بعضكم على بعض أمراء"، تَكْرِمَةَ الله هذه الأمة) [رواه مسلم].
وهذه الطائفة باقية من غير انقطاع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يخلو منها زمان.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله - في فوائد هذه الأحاديث وما في معناها -: (البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة) [كتاب التوحيد: ص24].
إذن؛ فالطائفة المنصورة التي زكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثنا على تكثير سوادها، هي طائفة مقاتلة بحد السيف [5]، ومن خالفها أو خذلها فهو ليس منها قطعا.
بل قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يحدث نفسه بالالتحاق بركبها بالنفاق، فقال: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو؛ مات على شعبة من النفاق) [رواه مسلم].
قال النووي رحمه الله: (والمراد؛ أن من فعل هذا فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف، فإن ترك الجهاد أحد شعب النفاق) [شرح صحيح مسلم: ج5/ص309].
وإذا كان هذا حكم من لم يحدث نفسه بالالتحاق بركب هذه الطائفة المباركة، فكيف بمن نصب نفسه نداً وخصماً لها، يفتري عليها ويُخذل الناس عن اللحاق بها؟!
* * *
وبالجمع بين ما تقدم...
كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، حيث زكى النبي صلى الله عليه وسلم عقيدة السلف وأمر بالتزامها.
وكقوله: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله)، حيث زكى صلى الله عليه وسلم؛ المنهج الجهادي وحث على سلوك سبيله.
يتضح جليا؛ أن السلفية الجهادية هم الطائفة المنصورة التي وعدها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالنصر والقهر لعدو الإسلام وعدوها، واتضح أيضاً أن كل من خالف سبيلها، فلم يعتقد بعقيدة السلف الصالح، أو لم يسلك سبيل الجهاد؛ فهو من الضالين المخذولين.
فكن أخي - بقلبك وقالبك - سلفيا جهاديا؛ تفلح، والتحق بركب المجاهدين؛ تنجح، واتبع سبيل الذين هم؛ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، واحذر سبيل المنافقين الذين؛ {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
فطوبى لمن تنكب عن طريق "القاعدين"، وسار في طريق "القاعدة".
* * *
موعظة...
قال ابن القيم رحمه الله: (لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية والهمم العالية، واسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، واسمع الله من كان حيا، فهزه السماع إلى منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار، فقال صلى الله عليه وسلم: "انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي؛ أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل" [رواه البخاري] [زاد المعاد: ج3/ص64].
والله أعلم
وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه وسلم
صادق الكرخي
27/ذو القعدة/1423 هـ
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه الترمذي، وقال: (هذا حديث غريب من هذا الوجه)، وقال الحاكم في "المستدرك": (وقد روي عنه - أي المعتمر بن سليمان؛ أحد الرواة - هذا الحديث بأسانيد يصح بمثلها الحديث، فلا بد من أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد).
[2] يشير إلى ما رواه الشيخان، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: (كنا جلوسا عند عمر رضي الله عنه، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا كما قاله، قال: إنك عليه - أو عليها - لجريء، قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي، قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: أيكسر أم يفتح؟ قال: يكسر، قال: إذا لا يغلق أبدا)، قلنا: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: (نعم، كما أن دون الغد الليلة، إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط)، فهبنا أن نسأل حذيفة، فأمرنا مسروقا فسأله، فقال: (الباب عمر).
[3] قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (رواه الطبراني في "الصغير"، وفيه عبد الله بن سفيان، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه هذا، وقد ذكره ابن حبان في الثقات).
[4] وليس معنى هذا أن الطائفة المنصورة لا يصيبها أذى من عدوها، وإنما المعنى؛ أن كيد عدوها وأذاه لا يؤثر في صمودها وثباتها على درب التوحيد والجهاد، بل لا تزال تقاتل وتقدم التضحيات، وتنال من عدوها وينال منها، حنى يأذن الله فتظفر بعدوها وتفوز بالنصر عليه، فقد جاء في رواية الإمام أحمد: (لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك).
قال الطبري في "تهذيب الآثار": (عنى النبي صلى الله عليه وسلم باللأواء؛ الشدة، إما في المعيشة من جدب وقحط أو حصار، وإما في الأبدان من الأمراض والعلل أو الجراح).
[5] ورد عن عدد من أئمة السلف؛ أن هذه الطائفة هم "أهل الحديث".
قال الشيخ أبو قتادة الفلسطيني: (ظن بعض الأغمار وبعض الصبية؛ أن المقصود بهذا الحديث هم الذين يشتغلون بفن علم الحديث - دراسة وتحقيقاً وتخريجاً - وعلى هذا؛ فإنّهم قصروه على أولئك الكتبة وبعض تجار الورق الذين اشتغلوا بهذا الفن وهذا العمل! وهذا الذي قالوه بيِّن الخطأ والانحراف، وخطأ هذا التّفسير ظاهر من عدة جوانب، ويكفينا أن نشير إلى الواقع العملي لهؤلاء، ليتبين لنا بوضح خطأ ما قالوه، فنقول: لو أن كل واحد اشتغل بعلم الحديث - جمعا ودراسة وتحقيقا وتخريجاً - هو من أهل الحديث - أي داخلاً في مسمى هذا المصطلح الذي أطلقه أولئك الأئمة - لكانت طامة وباقعة، فمن أشهر القوم الذين اشتغلوا بهذا الفن ممن عرفهم القاصي والداني، رُئِيَ منهم شركا وكفرا، وقرأ لهم بعض الكتابات التي تحسّن عبادة غير الله تعالى، كعبادة القبور والجن، وقد رأى كبار من اشتغل بهذا الفن من هو من أئمة التصوف، الذين صرحوا بأعظم البدع والمنكرات)، ثم ذكر أمثلة على ذلك، كـ "يوسف النّبهاني" صاحب "الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير"، ثم قال: (وهذا الرجل له من الكتب العديدة التي تحسّن عبادة غير الله تعالى كالقبور والاستغاثة بالأموات، وله كتاب جمع فيه - ما زعم - كرامات للأولياء سماه "جامع كرامات الأولياء"، فيه من الطامات العظيمة، والمصائب التي يستحي المرء من ذكرها، وكان الرجل عاملاً في المحاكم المدنية التي تحكم بالياسق العصري!... في لبنان، وجهوده في ذم الموحدين والبراءة منهم والطعن فيهم؛ أشهر من نارٍ على علم، فهل يقول قائل له مسكة من عقل: أن يوسف النّبهانيّ من أهل الحديث فهو من الطائفة المنصورة؟!)، وكـ "محمد زاهد الكوثري"، قال الشيخ أبو قتادة: (وهذا الرجل كان له إلمام بهذا الفن يفوق التصور، وله معرفة بالمخطوطات تدل على براعة وذكاء وإحاطة فائقة، حتى قيل؛ إنّه كان عنده القدرة أن يعرف المخطوط ومن كاتبه وفي أي سنة كتب، ولو لم يوجد على طرته ذلك! ومع هذه الإحاطة وهذا العمل، إلا أنه لا يدخل أبداً في مسمى أهل الحديث، لأنه كان عدواً للسنة ودعاتها، فكرس قلمه في طعن الموحدين، حتى وصل به الأمر - أي حقده على السنة والتوحيد - أن طعن في كبار الأئمة الثقات، أمثال الشافعي وأحمد وابنه عبد الله والبخاري وكثير غيرهم، بل إن بعض الصحابة لم يسلم من طعنه ولمزه، أمثال أنس بن مالك رضي الله عنه، وكل هذا بسبب تعصبه لمذهبه وحقده على أهل السنة والتوحيد)، ثم قال الشيخ أبو قتادة: (هذه الأمثلة وكثير غيرها - وهي أمثلة واقعة - تبين لطالب الحق؛ أن الاشتغال بالحديث وفنونه لا يُدخل الرجل في مسمى "أهل الحديث"، وبالتالي ليس المقصود بعبارة الأئمة الهداة؛ "أن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث"، هو المشتغل بعلم الحديث) [انظر مقالات "بين منهجين": 28، وما بعدها].
فـ "أهل الحديث" هم كل من كان موافقاً - في عقيدته وعمله - لما جاء به الكتاب والسنة، ولو كان لا يعلم حرفاً من علوم "مصطلح الحديث".[/