بشير نافع
15/07/2009
خلال الأسابيع القليلة التي تلت الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية، شهدت العاصمة الإيرانية طهران عدداً من التظاهرات الاحتجاجية. في ظاهرها، عبرت التظاهرات عن اعتقاد قطاع من الإيرانيين بأن نتائج الانتخابات خضعت للتلاعب، وأن المرشح المعارض مير حسين موسوي، لا الرئيس محمود أحمدي نجاد، كان الفائز. خلال الأيام القليلة الأولى من اندلاع الحركة الاحتجاجية، كانت التظاهرات الإيرانية كبيرة الحجم نسبياً. قليلاً قليلاً، تضاءل عدد المتظاهرين، سواء بفعل التعامل الأمني الحاسم، أو انصياعاً لأوامر المرشد الأعلى، ليقتصر على قطاع صغير من الشبان وأبناء الشرائح العليا من الطبقة الوسطى. ولكن التظاهرات لم تتراجع قبل أن يسقط في غمارها قتلى: 12 من المتظاهرين، و8 من قوات الأمن.
ليس ثمة شك في أن الأزمة التي فجرتها الانتخابات الرئاسية الإيرانية هي واحدة من أكبر وأعقد الأزمات التي تواجهها الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها. ما يؤكد هذا التعقيد أن الأزمة لم تنته بعد، بالرغم من أن طابعها الحاد والأمني قد انتهى. أحد الأسباب الرئيسية خلف هذا الـتأزم في الوضع الإيراني أنه جاء حصيلة انقسام في الطبقة الحاكمة نفسها، قبل أن يكون انقساماً في الشارع. وربما لا يمكن توجيه اتهام محدد لأي من الشخصيات الرئيسية في معسكر موسوي الانتخابي بعلاقة مشبوهة مع قوى خارجية، أو بمسعى لإطاحة نظام الحكم وتقويضه؛ ولكن هذه هي الصورة التي أخذتها الحركة الاحتجاجية بالفعل. وثمة من يعتقد أن حملة التشكيك في شرعية النتائج قد خطط لها حتى قبل انعقاد الانتخابات؛ بمعنى أن معسكر موسوي بنى استراتيجيته على أساس الفوز بمقعد الرئاسة بأصوات الناخبين، أو الفوز بالمقعد عن طريق إثارة الرأي العام. الأدلة على وجود مثل هذا المخطط عديدة. سارع موسوي، مثلاً، إلى إعلان فوزه في الانتخابات قبل أن تنتهي سلطات وزارة الداخلية المختصة بفرز ولو عشرة بالمائة من الأصوات؛ وقد حرص موسوي على إعلان فوزه في مؤتمر صحافي، ساعياً إلى تحضير الأجواء لاتهام النظام بالتلاعب في النتائج في حال خسارته. بل أن مصادر إيرانية أفادت أن حملة موسوي الانتخابية كانت أجرت استطلاعات رأي خلال الأيام الأخيرة للحملة، جاءت بأرقام مخيبة للآمال.
ما أن أعلن فوز نجاد، حتى بدأت اتهامات التشكيك في التصاعد، مصحوبة بدعوة الشارع إلى الاحتجاج. وقد صاحب حركة الاحتجاج ما بدا أنه تشكيك في شرعية كل مؤسسات الحكم الرئيسية. الادعاء بوجود تزييف انتخابي كان يتضمن بوضوح اتهاماً لدوائر وزارة الداخلية، مركزياً وعلى مستوى الدوائر الانتخابية. الأخطر، كان رفض الانصياع لدعوة المرشد بالتوقف عن التظاهر ولجوء المعترضين للوسائل القانونية؛ وهو الموقف الذي صاحبته اتهامات إلى مجلس حراسة الدستور بالانحياز، واتهامات لقيادة الحرس بدعم الرئيس نجاد، والإحجام عن اللجوء إلى القضاء. في الوقت نفسه، بل وحتى بعد أسابيع طويلة على إعلان النتائج، لم تتقدم حملة موسوي الانتخابية، ولا أوساط المرشح الإصلاحي الآخر المتحالف معه، مهدي كروبي، بأية أدلة ملموسة على وجود تلاعب في العملية الانتخابية أو فرز الأصوات. كل الاتهامات بالتلاعب أو التزييف تناولت ما يعرف بالأدلة الظرفية، مثل صدور تصريحات منحازة من هذه الشخصية أو تلك، ومثل ظواهر غير معتادة في توجهات المقترعين في دوائر معينة. المثير للاهتمام أن عدد الدوائر الانتخابية الثابته تجاوز 47 ألفاً، يضاف إليها أكثر من 13 الف مركز انتخابي متنقل بين القرى والقصبات؛ وهو ما يعني وجود عشرات الآلاف من المسؤولين الانتخابيين. ولكن أحداً من هؤلاء لم يتقدم، لا تصريحاً ولا تسريباً لوسائل الإعلام الإيرانية غير الرسمية أو الأجنبية، بشهادة تفيد بوجود تلاعب ما، بالرغم من أن نفوذ المعسكر الإصلاحي في أوساط الحكم والدولة هو نفوذ ملموس. ومن المعروف أن استطلاعاً لراي الإيرانيين، أجراه مركز أبحاث امريكي أثناء العملية الانتخابية، انتهى إلى التوقع بفوز الرئيس نجاد على منافسه الأبرز موسوي بنسبة اثنين إلى واحد، وهي النسبة ذاتها التي تضمنتها النتائج الرسمية بعد ذلك.
مهما كان الأمر، وبغض النظر عن وجود تلاعب محدود هنا أو هناك، فمن المؤكد أن الحركة الاحتجاجية الإيرانية أخذت صورة تقويض النظام، أو على الأقل دفع البلاد إلى حالة بالغة من عدم الاستقرار. وبالنظر إلى الخطر الذي حملته الأزمة على وضع البلاد ومستقبلها، فإن الإجراءات الأمنية التي تبناها النظام لم تكن على درجة استثنائية من العنف، ربما لأن النظام وضع في الاعتبار أن الأزمة تتعلق في أحد أبرز تجلياتها بالانقسام في صفوف النخبة الحاكمة. ولكن رد الفعل العالمي، سيما رد الفعل الغربي والإسرائيلي على الأزمة الإيرانية كان هائلاً. قادة أوروبيون كبار، من غوردن براون ونيكولا ساركوزي، إلى أنغيلا ميركيل، أطلقوا تصريحات تنديدية صارخة ضد نظام الحكم الإيراني، وأعربوا عن دعم صريح للمتظاهرين. وبالرغم من أن الرئيس الأمريكي أوباما التزم الحذر في الأيام الاولى للأزمة، فسرعان ما التحق بمعسكر التنديد الغربي، سواء بدافع تأجيج الأزمة أو لخضوعه لضغوط الدوائر التي اتهمته بتجاهل الحراك (الديمقراطي) الإيراني. محطات تلفزة وإذاعة غربية وضعت الحدث الإيراني في صدر نشراتها، وصحف غربية رئيسية كرست صفحات كاملة لتغطية مجريات الحدث، بتفاصيل لم تكن دقيقة وموضوعية دائماً. وحتى بعد شهر من الانتخابات، لم تزل إيران تغطي باهتمام بالغ من وسائل الإعلام الغربية. هذا، إضافة إلى الدور الذي لعبته وسائل ومواقع الاتصال الحديثة على الإنترنت (سيما الأمريكية منها) في تصعيد حركة الاحتجاج.
بعد أقل من شهر على اندلاع الأزمة الإيرانية، انفجرت في الصين أحداث الصدام الإثني في مدينة أورومتشي بمقاطعة سينكيانغ ذات الأغلبية الإسلامية التركية. السبب المباشر خلف الأحداث كان قيام عمال من قومية الهان الصينية الكبرى بالاعتداء على عمال أيغوريين مسلمين في منطقة كوانغدينغ من مقاطعة يونان الشرقية الوسطى. وجود العمال الأيغوريين في مدينة شرقية بعيدة عن مناطق سكناهم الأصلية هو جزء من سياسة الدولة الصينية بتشجيع الأيغوريين على الهجرة إلى مناطق النشاط الاقتصادي الكبير من البلاد؛ ولكن هذه السياسة ولدت توترات إثنية في صفوف العمال، سيما بعد تصاعد الضغوط التي أطلقتها الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد أثارت شائعة (أكدت السلطات عدم مصداقيتها) بأن العمال الأيغوريين اغتصبوا فتاة من الهان في إطلاق شغب أدى إلى مقتل عدد غير محدد من الأيغوريين، وهو الحادث الذي ولد بدوره مظاهرات أيغورية في سينكيانغ، تطالب بإجراءات عادلة لمعاقبة قتلة إخوانهم العاملين في كوانغدينغ. ولكن الأوضاع في سينكيانغ كانت متوترة أصلاً، وقد جاءت أحداث كوانغدينغ لتطلق غضباً متراكماً، سبق أن انفجر من قبل في عدة مناسبات منذ مطلع التسعينات. المشكلة في سينكيانغ لا تنبع من نزعات إسلامية انشقاقية، كما تقول أوساط الحكومة المركزية في بكين، ولكن من سياسة استيطان منهجية تتبعها الدولة الصينية طوال العقدين الماضيين لتحويل سينكيانغ من مقاطعة أكثرية إسلامية تركية إلى أكثرية من الصينيين الهان. وبالرغم من أن بكين أعطت سينكيانغ الحق في الحكم الذاتي منذ 1955، فقد ظل هذا الحق حبراً على ورق.
حظرت السلطات الصينية تغطية أحداث أورومتشي داخلياً، أو سمحت بالتغطية في شكل محدود، ولكنها وعلى غير العادة لم تحظر الصحافيين الأجانب من التغطية. بعض الصور التي نشرتها وسائل الإعلام الغربية أظهرت العديد من الجثث في شوارع المدينة؛ ولكن الرواية الرسمية قدرت عدد الضحايا بأقل من مائتين من القتلى وعدة مئات من الجرحى، أغلبهم من قومية الهان. المصادر التي تشكك في الرواية الحكومية تقول بأن الهان باتوا يشكلون أكثرية السكان في أورمتشي، وأن التقارير التالية ليوم انفجار الأحداث، تظهر جموعاً من الهان المسلحين في شوارع المدينة، مما يوحي بأعداد أكبر من الضحايا الأيغوريين. هذه، على الأقل، هي رواية النشطين الأيغوريين في الخارج. مهما كان الأمر، فإن ما شهدته أورومتشي كان أكثر مدعاة للاهتمام مما شهدته إيران، سيما أن ثمة ميراثاً طويلاً وعريضاً من الاضطهاد الصيني للمسلمين الأيغور، وأن مطالب هؤلاء لا تتعلق لا بإطاحة الدولة والصينية ولا تهديد استقرارها. ما يحركهم هو مطالبة بسيطة وأولية بالمعاملة العادلة، بتطبيق فعلي للحكم الذاتي، وبوضع نهاية لسياسة الاستيطان المخططة، التي تستهدف تحويلهم إلى أقلية في وطنهم التاريخي. ولكن الحدث الصيني بالرغم من ذلك لم يستدع ولا جزءاً من الاهتمام الذي أولته الأوساط السياسية والإعلامية الغربية للحدث الإيراني. تفسير هذا التباين الصارخ في الموقف الغربي لا يحتاج، بالطبع، إلى ذكاء كبير؛ فالصين دولة كبرى، تملك وسائل اقتصادية ومالية هائلة للانتقام من خصومها، دولاً كانوا أو مؤسسات. كما أن المسلمين الأيغور لا يحتلون موقعاً هاماً على جدول الأولويات الغربية، على الأقل ليس حتى الآن.
بيد أن هناك مسألة لا تقل أهمية، وهي تلك المتعلقة بتاريخ طويل من السياسات الغربية تجاه الأنظمة والدول التي لا ينظر إليها بعين الرضا والاطمئنان. في القرن التاسع عشر والنصف الأول من العشرين، كانت سياسة السفن المسلحة هي المعتمدة لإطاحة هذه الدول واحتلالها. وقد استمرت هذه السياسة بعد ذلك كلما سنحت الفرصة، كما شهد العالم مؤخراً في أفغانستان والعراق. عندما لم تسنح الفرصة، استخدمت وسائل وأدوات أخرى: الدعاية، الإعلام، تجنيد العملاء، التخريب، تأسيس الشبكات السياسية، تشجيع المعارضة وتمويلها، وهكذا. وربما كانت هذه الوسائل الأخيرة هي المقصودة عندما رصدت واشنطن 400 مليار دولار قبل عامين لتشجيع 'الديمقراطية' في إيران. مثل هذه السياسات لا بد أن تكشف، أن تواجه، وأن تنتهي. دولة مهما أوتيت من قوة وإمكانيات لا يجب أن تقرر مصير دولة وشعب آخر، سيما إن كان سجل الأولى لا يوحي دائماً بثقة العالم. الأمم والشعوب لا بد أن تترك حرة لتقرر مصيرها بيدها.
' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث