معنى الخصيـان ليس ما يتبادر إلى ذهـن العامة عندنا في الخليـج _ مع أنَّ لذلك الشـيء ! علاقـة وطيـدة بتخريب السلطة في بلادنا العربية لرسالة الأمـّة الحضاريـّة إلى حـدّ كبير أيضا ، لكنَّه ليس موضوعنا في هذا المقال _ بل المعنـى أولئك الذين كانت السلطة فيمـا مضـى تمـلأ بهـم قصر زعيمهـا من (المخصييّـن ) ، لتكتمل لـه شهوة السلطة ، وتتـمّ له أبهة الإستبداد ، ويشعـر بفيضان مظاهـر الدكتاتورية (المعصوميـّة ) في نفسه المريضـة !!
وكانوا متوافـريـن في كلّ مكان ، وزمـان ، عند الزعيـم ، إلى أريكته ، وفي إيوانـه الخاص ، وفي قسم الحريم ، وحتـى داخل غرفة النوم ، فقد كانوا يخدمـون ثـَمَّ أيضا ، ولهذا هـم مخصيُّون ، لايشعرون بشـيء ، ولايتحـرَّك بهم ساكنٌ بالنسبة للنسـاء ، ولايغـارون ، ولايغـار منهم !!
وهذا هو القاسم المشترك بين مخصيّي قصور هذا الزمان ، وذلك الزمان ، أعني أنّ جين الغيرة غيـر موجود ،
ولهـذا فإذا أردت أن تعرف من هم حول أنظمـة هذا الزمان ، فإنتفـاء الغيـرة هـو أوضح ما تعرفهم به ، فهم الذين لاغيـرة لهم على هويـّة الأمـة ، ولا كرامتهـا ، ولا حقوقها _ ولو امتلأت السجون بمعتقلـي الرأي ، والمظلومين ، فلا تتحرك منهم شعرة _ ، ولا يهمّهم سوى البقاء حول الزعيـم ، ينتفعون بما يلقى إليهم منـه من كسبه الحرام الذي يسرقه من ثروة الأمـة !
وهم أقسام : منهم مـن يتعـرّض لخصـاء ديني ! ليطوّع الدين للسلطة ، وهؤلاء قـد كُثـر عليهم الطلب هذه الأيـام ، بسبب حضـور (التديـُّن الفحل ) في الأمـّة بقـوّة ، أعني فكـر ( التغييـّر لإعادة نهضة الأمة ) .
ومنهم مـن يتعـرّض لخصـاء هويّـة وفكـر ، ومنهم من يتعرض لخصـاء فحسـب ، فهـو لايدري كيف ، ولماذا تـمّ خصاؤه ! لكنه يدري المطلوب منه تماما : أن يجعل من يأتمرون بأمره أيا كانوا ( عشيرة ، قبيلة ، أتباع .. إلخ ) يخضعون للسلطة خضوعا تامـا ، كخضوع الغنـم للـ( مريـاع ) !!
ولهـذا .. فـلا يظـنّ الظـانّ أن ( خصيان السلطان ) ، قـد اختفـوا في هذا العصر ، بل تكاثـروا جداً ، تكاثـرَ الأرانـب _ لاكثَّرهـم الله _ حتى غـدوْا يحيطون بالسلطة في بلادنـا العربية ، من الخليج إلى المحيـط _ وإن بدأوا يتحاتـُّون كما تتحاتّ أوراق الشجـر مع هـذه الثورات المباركـة نسـأل الله أن يمدُّهـا مـداً ، ويمطّهـا مطّـا ، ويشـدّ أزرَها شـدّا _ وهـم فـي الحقيقة من الأسباب الرئيسة لتدهور حالة الأمّـة ، فـي قضايـا ثـلاث هي من أهـم مظاهـر تخلّفهـا :
قضية (معتقلي الرأي) ، و( شرعية السلطة ) ، وثلاثيـة : ( العدالة ، والكرامة ، والحقوق) _ والحرية من أهم الحقـوق _ مـع أنّ هذه الثلاثة أيضـا مرتبطة ببعضـها ، فمعقتلو الرأي في البلاد العربية من ضحايا إنتهاك الكرامة ، والحقوق ،
إذ كان أعظم إنتهاك لكرامة الإنسان مصادرة حقّه في أن يفكـّر ، ويعبـّر عن فكره ، ولو كان ذلك في إنتقـاد السلطة ، من رأسها إلى (كرياسها) و( خصيانهـا ) .
وكـذا فقدان السلطة شرعيّتها هـو من تداعيات مصادرة حقـوق الشعب ، وكرامتـه ، فلامهانة أشنع من أن يتحكَّم بهـم من تسَلـَّط ، والأصح سُـلّط عليهم ، من غير حولٍ منهم ، ولا قـوَّة !
وكـلّ ذلك بسبب غياب العدالة بمعناها العام الواسع الذي هو ( لا حـقّ إلاّ لمستحقّه ، ولا أحـدٌ في غيـر محلّـه ) ، وعبـّر عنـه الحديث الشريف : ( إذا وُسِد الأمرُ لغيـر أهله ).
أما كيف جاءت العلاقـة بين خصيان السلطان ، وهذا كلـُّه ؟؟!
فإليكم البيان :
كانت الأمـّة _ إلاّ من رحـم ربّك _ مسلوبة الإرادة ، مستعبـدة ، فقيرة ، جاهـلة ، متخلّفـة ، إلى درجـة أنها لاتعرف حتـى مقدار ثروتها في أرضـها ، فهي مملوكة بالكامـل للأجنبي المغتصـب ، ولم تكـن تملك من أمرها شيئا ، وذلك إبـّان الإستعمار الغربـي ،
حتى جاءت مرحلـة جديدة في العالم العربي ، فتشكّلت الدول العربية ، وصار إليها آلـة الدولة ، بما تحمـل هذه الكلمـة من إمكانات هائلـة ، ومن أهمها الثروات ، وصار لها جيوش ، وترسانة من الوسائل التي تمكّنها من التحكُّم بالمجتـمع .
غير أنّ الحقيقـة التي لاتخفـى أن يـدّ المستعمر الذي رحـل ، قـد بقيت تتصرَّف إلى حـدّ كبيـر في الدول العربية ، بحيث يضمن المستعمـر إضعاف الأمـّة ، وبقاء تفوُّقـه عليها ، وتدفـُّق أطماعه _ لاسيما الثروة _ إلى ما أسماه مركز العالم أي عواصـم الغـرب ، وضمان أمن وجود ، وإستمرار ، وإستعـلاء الكيان الصهيوني ، الحليف الإستراتيجي الذي يشاركه العداوة التاريخية مع أمّتنا .
ولم يكن ليتم له ذلك إلاّ بزعمـاء يتحكـّم هـو بهم ، ويُنيط بهـم باقي المهمّة ، أعني تحقيـق سائـر أهدافه ،
إذ لو تركت الأمة وإختيارها ، لاختارت عـزَّها ، وأبت إلاّ استعلاءها بحضارتها ، ولذهبت كلُّ أطماع المستعمر أدراج الريـاح .
وهنا جاء دور الخصيــان !!
فلم يجـد الزعـماء بـدَّا من إستعارة فكرة (خصيان السلطان ) لتحقيـق رغبـة الغرب والأمريكـان !
وهكذا نـفقت تجارة ( خصيان السلطان ) ، وازدهـر سوقُهم ، ووضعت عليهم الشارات ، وألبسوا الأوسمـة ، و( البشـوت ) ، ووُسموا بأفخـم العبـارات !
.
هذه هي قصـة خصيان السلطـان.
.
أمّـا عن علاقتهـم بقضية المعتقلـين الـتي طفحت بها السجـون.
فلـن نجـد بـداً من القول : إنّ الحقيقة التي يجـب أن يعيها حملة مشروع الإصلاح والتغييـر في بلادنا العربية ، حـقّ الوعـي ، فهـي أنـه لن يكون لقضية المعتـقلين حـلّ ، إلاّ بحـلّ معضلة ( شرعية السلطة ).
وهي أيضا المشكلة الأمّ ، التي إذا حلُّـت في بلادنا ، ستحلّ جميع مشكلاتنا ، وتطيح كلّ أزماتـنا ، وتولـّي كلّ مصائبنـا .
ذلك أنّ السلطة التي تستمـدّ شرعيّتها مـن ( مجرد وجودها في السلطة ) ! وهي مع ذلك تحت تصرفها كـلّ وسائل الإستبداد ، والإستعباد ، فستفعل كلّ ما يحلو لهـا طغيانـا ، وستضع لـه كلَّ ما يلـزم من مسوّغات ، ولن يردعها شيء عن الظلـم ، لاسيما في هذا الزمـان ، الذي ضعف فيه الإيمان ، وقوي فيه داعي الشيطـان .
وفي حالة معتقلي الرأي ، فستعتقـل من تشاء ، وتلصـق بـه ما شاءت من التهم ، وتقيم المحاكمـات الوهميـّة ، وتصدر الأحكام التي تحـلو لهـا ، ثـم تمضي فيما شاءت في غيـّها ، عن طريـق ( خصيان السلطان ) الذين وصفنا دورهم الخطيـر أوّل المقـال ،
ثـمّ لن تنفع جميع وسائل الضغـط ، ولن تؤدي إلى نتيجـة ، مادامت السلطة يمكنها أن تبقى ، وتستمـر في البقـاء إلى أجـل غير مسمـّى ، من غير حاجة إلى استمداد شرعيتها من أمـَّةٍ لها الحق أن تثور إن حادت السلطة عن تلك الشرعية ، تثور ليعادَ الحـقُّ إلى مستحقّـه .
وكما ذكرنا في مقالات كثيرة منذ سنوات طويلة ، إنّ هذه العقدة الأمّ هي ينبوع كلّ كوارثـنا .
إنَّ تغييـّب دور الأمـّة ، ومصادرة حـقّ الشعـوب ، وإسـتلاب إرادتهـا ، جعلها هـي مستباحـة تماما أمام الطغـاة ووليّ نعمتـهم الأجنبـيّ ، وجعل مقدراتها نهـباً لكلّ طامـع ، وجعل رسالتها الحضاريـة كالموميـاء في المتحـف ، يُنظـر إليها على أنها تاريـخ فحسـب !!
وهل يعقـل أن تعيش أمـة مليارية ! في حـالة يكون زعيـم السلطة _ في أحسن أحوالـه _ طريقةُ حكمه مغلفـةٌ بالغموض ، والمواطنون بعزلـة تامـّة ، وجهالة مظلمة ، عن كـلّ ما يدار بالخفـاء ، حتى تنزل عليهم الأوامـر كأنها نزلـت من السمـاء ! فيهـرع حينئـذ ( خصيان السلطان ) لإلباسها لباس الدين ، أو الحكنة ، أو السياسة الحكيمة ، كـلّ بحسب موقعه !