قراءة فى مقال المثقف الديني والنزعات العلمانية
قراءة فى مقال المثقف الديني والنزعات العلمانية
صاحب البحث يحيى محمد وهو يدور حول دور مثقفى الشعوب وتقسيماتهم وأدوارهم وقد استهل مقاله بتقسيم المثقفين العلمانيين فقال:
"إذا ما نظرنا إلى المثقف العلماني نجد أن له توجهات عديدة مختلفة يصل بعضها إلى التضاد والتنافي وهي على العموم توجهات لا تتعدى في نظرنا الأشكال الخمسة التالية:
العلموي كما يتمثل لدى شبلي الشميل وفرح انطوان ويعقوب صروف واسماعيل مظهر وسلامة موسى وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، والذرائعي (البراجماتي) مثلما هو الحال لدى المفكرين القوميين كبطرس البستاني وابراهيم اليازجي وجرجي زيدان وانطون سعادة وزكي الأرسوزي وساطع الحصري وقسطنطين زريق، والعقلاني (التنويري) الذي غالباً ما يلجأ إليه المفكرون القوميون حيث يماهون بين النزعتين العقلانية والنفعية، والميتافيزيائي كما يتمثل لدى المفكرين الماركسيين من أمثال ميشال كامل وياسين الحافظ وحسين مروة وهادي العلوي وصادق العظم ومطاع صفدي وطيب تيزيني وعبد الله العروي، واللاعقلي كما هو الحال لدى عبد الرحمن بدوي وعلي حرب، وعادة ما يعمل الشكل الأخير على نقض العقل وتقويض مقولاته المعرفية وفضح إلتزاماته "
وتحدث عن تاريخ المثقفين العلمانيين وكونهم من أى نوع فى البدايات فقال :
"ولعل أول شكل برز في تاريخ الفكر العربي الحديث هو الشكل العلموي الممتزج بالذرائعية فالجيل الأول من المثقفين العلمانيين حمل خليطاً من العلمانية العلموية والنفعية البراجماتية، إذ كان مهتماً بالكيفية التي يمكن أن تتحقق بها نهضة العرب بعد السبات الذي قضوه قروناً طويلة، ومن ثم بلوغهم حد السيادة بمثل ما كانوا عليه من قبل، انطلاقاً من التأثر بالنتاج الحضاري والعلمي للغرب وعليه كثر الإهتمام لدى هذا الجيل بدوائر المعارف والموسوعات العلمية والأدبية والمعاجم اللغوية، وكذلك زاد الإهتمام بإنشاء الصحف والتركيز على التعليم ومنه تعليم المرأة، مثلما يظهر ذلك لدى بطرس البستاني "
وشرح الأنواع الخمسة للمثقفين العلمانيين من وجهة نظره فقال :
"إذاً فالمثقف العلماني على خمسة أشكال قد تتداخل وتتمازج بنسب واعتبارات، وهي مازالت سائدة حتى يومنا هذا، ويمكن تسليط بعض الضوء عليها كما يلي:
ـ النموذج العلموي
وهو ذلك الذي يجد في العلم ضالته الوحيدة في البحث عن الحقيقة وتأسيس المجتمع السليم وبالتالي فإنه لا يقدم اطاراً قبلياً يعتمد عليه غير وثوقه بالنتاج العلمي، ولا يحمل منظومة محددة غير تلك التي تصاغ صياغة بعدية قابلة للتغيير باستمرار تبعاً لما يقدمه العلم من حقائق نسبية مما يعني أن نهضة المجتمع لا تتحقق بالدين أو غيره من العناصر الحيوية الفاعلة بل غالباً ما ينظر إلى الدين نظرة العائق من التقدم، ويراه طوراً قد انتهت مهمته تاريخياً، طبقاً لقانون الاطوار الثلاثة من تطور الفكر الإنساني الذي وضعه اوجست كونت، إذ يكون فيه الطور الديني أول المراحل التاريخية للتفكير البشري بما يتصف من سذاجة واسطورة، وبعده جاء الطور الفلسفي الميتافيزيائي منذ الحضارة الاغريقية وحتى العصر الحديث، ثم انتهى الأمر أخيراً عند الطور العلمي كما نجني ثماره اليوم"
ومن يراجع كتب هؤلاء الصنف لن يجد شىء يدل على العلموية التامة لأن بعض من تلك الأسماء تاب عما كان يدعو إليه كإسماعيل أدهم الذى كان ملحدا ثم عاد للدين وأما زكى نجيب محمود ففى أخريات مؤلفاته عاد هو الأخر إلى تبنى أراء لها دخل بالدين وأما معظم البقية فكلهم على أديان أخرى ومن ثم ظلوا على تبنيهم لمنهج معين ضد الإسلام
وتحدث عن النموذج الغيبى ضاربا المثل بالنموذج الماركسى فقال :
"النموذج الميتافيزيائي وهو ذلك الذي يفترض وجود نسق قبلي ثابت كحقيقة مطلقة تتجاوز حدود التاريخ والزمان والمكان ومنه يتم التعامل مع القضايا الموضوعية، سواء بفهمها بحسب ما عليه النسق، أو العمل على تطبيق مضامينه ومفرداته ولو أفضى الأمر أحياناً إلى تغيير الواقع تغييراً جذرياً، مثلما هو الحال مع الإطروحة الماركسية التي تفترض وجود نسق قبلي جاهز خُيل للماركسيين العرب أن من الممكن تطبيقها على أرض الواقع ومنه الواقع العربي"
ثم تحدث عن المثقفين النفعيين الذين همهم نفع المجتمع بأى شىء فقال :
" النموذج الذرائعي
وهو الذي لا يهمه إن كان مصدر الحقيقة قبلياً أو بعدياً، إنما يهمه توظيف الحقائق لقضايا نفعية تخدم المجتمع وبعبارة أخرى، إن ما يستقطب تفكير المثقف الذرائعي هو المصلحة التي يسديها إلى المجتمع الذي ينتمي إليه عبر إتخاذه معياراً ما من المعايير المعرفية، وليس هو نفس هذا المعيار، فهو من هذه الناحية قابل لإتخاذ اياً كان من الأطر والأنساق المعرفية، سواء كانت قبلية أو بعدية، طالما تتحقق فيها المنفعة التامة للمجتمع لذلك فالأصل في هذا النموذج هو خلوه من أي إطار أو نسق معرفي؛ قبلياً كان أو بعدياً، وأن تعذّر عليه التجرد من هذا الغطاء، وبالتالي كان عليه الإمتزاج والأخذ بالصيغ الثقافية من الاشكال الأخرى، سيما الشكلين التنويري والديني، مثلما يلاحظ جلياً لدى المثقف القومي العربي المنشغل بحلم إعادة مجد العرب"
وتحدث عن المثقفين العقلانيين الذين يرفضون التدخل الخارجى فقال :
"النموذج العقلاني وهو الذي يؤمن بالعقل إيماناً مطلقاً من حيث قدرته على الكشف عن الحقائق وتحقيق ما تصبو إليه النفوس من نهضة انسانية، لا من منطلق ذرائعي ولا ميتافيزيائي ولا علموي، بل يكفي للعقل حمل قدراته الذاتية في الكشف والمحاكمة والنقد فهو كما عبّر عنه المفكر القومي قسطنطين زريق بأنه العقل الممتحن المنضبط المولّد في قبال الذاكرة الساردة المرددة المقلدة فهذه هي عقلانية المثقف التنويري التي يستبعد فيها أي وصاية خارجية تعمل على الإخلال بالممارسة العقلية، كما ويستبعد أيضاً دخالة كل ما هو غيبي خارج عن الحدود الطبيعية، بل يميل إلى الموقف القائل بأن المعقول هو الطبيعي، ولا وجود لشيء خارق للطبيعة، وأقصى ما يعترف به هو المجهول الذي قد يصبح يوماً ما معلوماً ويسلم بأنه لا طريق للإنعتاق العقلي سوى الحرية ويوصي عادة بضرورة العمل بالديمقراطية في الممارسات السياسية وهو يعتبر فلاسفة التنوير قدوة له بما حققوه من مكاسب، وعلى رأسها مكاسب الحرية والمساواة والاخاء كما بشّرت بها الثورة الفرنسية فيما بعد"
وتحدث عن النموذج الجنونى كالأخذين نموذج نيتشه وغيره فقال :
"النموذج اللاعقلي وهو على خلاف سابقه لا يمنح المنطق العقلي دوراً فاعلاً ومميزاً في كشف الحقائق وحل المشاكل العامة وغالباً ما ينظر إلى العقل والواقع نظرة وجودية لا تبعث على التفاؤل لتحقيق ما ينشده الإنسان من مبادئ والتزامات فالعقل لا إعتبار له فيما يقدمه من مقولات منطقية أو إلتزامات عملية وعلى ما يراه البعض فإن خلف العقل جانباً مظلماً يتمثل بالباطن الحيواني أو اللامعقول والذي يدفع بالعقل إتجاه مآربه ورغباته وبالتالي كان لا بد من فضح العقل ومقولاته ونقض منطقه والكشف عن عوراته برده إلى منطقته المقفلة المظلمة من العناصر الباطنية اللامعقولة، بغية السيطرة عليها وكبح جماحها أو إدارتها بالشكل المناسب وهذا النوع من المثقف والمتأثر بجملة من الفلاسفة الغربيين، كنيتشه والوجودية وفوكو وغيرهم، يعد نادر الحضور بين مثقفينا قياساً ببقية الأنواع الأخرى وأبرز من يمثله عبد الرحمن بدوي وعلي حرب"
وتحدث عن أن تلك الأصناف متداخلة ولا يمكن اعتبارها منفصلة عن بعضها فقال :
"مهما يكن فالملاحظ من حيث الواقع هو أن النماذج الخمسة التي عرضناها لا تعد في غالب الأحيان مستقلة عن بعضها البعض، كما أنها ليست منفصلة كلية عن المثقف الديني"
وتحدث عن علاقة المثقف الدينى مع العلمانى فقال :
"المثقف الديني والنماذج العلمانية :
في البدء نتساءل عن نصيب المثقف الديني من تلك النماذج أو الإتجاهات الخمسة، فهل يمكن عده نفعياً أو علموياً أو ميتافيزيائياً أو عقلانياً أو أنه مثقف لا عقلي؟
حقيقة الأمر أن جميع هذه النزعات تتجسد فيه وإن بنسب وهيئات مختلفة وقد يصح القول أن الشكل الميتافيزيائي هو المرتكز المعرفي الأساس الذي يحدد هويته الخاصة، حيث يتمثل بظاهرة الوحي والنص لكنه ليس خلواً من النزعات المعرفية الأخرى التي تكشف عن طبيعة ثقافته، ففي الغالب أنه قائم على مزيج من العلموية التي تستند إلى حقائق العلم واعتباراته، والعقلانية التي تتمثل بالإنشداد إلى منطق العقل في محاكمة القضايا العامة أما النزعة اللاعقلية بالطريقة النقضية التي عرضناها فهو خال منها، لا بمعنى أنه لا يعتقد بوجود جانب مظلم حيواني ولا معقول في النفس البشرية، بل أنه لا يجعل من العقل مطية هذا اللامعقول إلى الحد الذي تتقوض فيه مقولاته المنطقية والتزاماته الوجدانية ومع هذا فهناك صنف من المثقفين الدينيين ممن لا يعتمد على منطق التفكير العقلي بقدر ما يعتمد على دواعي الحدس والوجدان، مثل عثمان أمين في جوانيته وعباس محمود العقاد في وجدانيته ويظل الجانب الذرائعي - لدى المثقف الديني - مكملاً لتلك الأشكال المعرفية ومستنداً إلى ما تفرضه من إعتبارات"
ومما سبق نجد ان الرجل يقول بتقسيم المثقفين الدينيين بنفس التقسيم فقال :
"على أن بين المثقف الديني والمثقف العلموي تنازعاً وإختلافاً فيما يخص علاقة الدين بالحياة والواقع إذ يعتقد المثقف العلموي بأن هناك تضاداً بين الدين والعلم، وفي أحسن الأحوال لا يرى أن بالإمكان قراءة الواقع، ومنه الواقع العلمي، بعين دينية فهو بالتالي لا يرى بديلاً عن العلم يمكنه تفسير الواقع والكشف عن أسراره وخفاياه
|