(66) الغموض نتيجة لاستخدام الوسائل السباقة في تشكل الصورة ، بكل ما تقوم علهي من تحطيم للعلاقات المنطقية المألوفة بين الأشياء ، وابتداع علاقات جديدة غريبة بينها ، فإن الصورة الشعرية في القصيدة الحديثة تتوشح بنوع من الغموض الشفيف المشع . وهذا الغموض ليس مجرد نتيجة للعبث بالعلاقات المنطقية بين عناصر الوجود فحسب ، وإنما هو أيضًا وسيلة يستخدمها الشاعر عن وعي لتقوية الجانب الإيحائي في الصورة ، وبخاصة إذا كانت هذه الصورة توحي بتلك الأبعاد الخفية المستترة من تجربة الشاعر ، التي لا يستطيع الشاعر –حتى إذا أراد- أن يعبر عنها بشكل واضح محدد ، دون أن يغير طبيعتها ، ومثل هذه الصور لا تقدم شيئًا محددًا واضحًا ، وإنما هي تشف عن مجموعة من الدلالات والمعاني من خلال هذه الغلالة الشفيفة من الغموض وعدم التحدد ، وبواسطة هذه الظلال الموحية غير المحددة تستطيع الصورة أن تعبر عما لا يستطيع التعبير عنه الألوان المحددة الواضحة ، ويعبر عن هذا المعنى الشاعر الرمزي الفرنسي فرلين في قصيدة له بعنوان :فن الشعر Art poetique التي تحدد بعض ملامح المذهب الرمزي حيث يرى أنه لا شيء أثمن من الأغنية الرمادية التي يلتقي فيها الواضح بالمبهم ، ويشبهها بعيون جميلة من وراء نقاب ، ويبرر إيثاره لمثل هذه الأغنية الرمادية بأ،هم ينشدون الظلال لا الألوان ، الظلال و لا شيء غيرها . |
(67) وتوظيف الغموض المشع للإيحاء فنيًا بالجوانب الغامضة المستترة في رؤية الشاعر يرتبط من بعض الجوانب بفكرة مشاركة القارئ للشاعر في عملية الاكتشاف والإبداع ، لأن الصورة إذا ما حددت للقارئ كل شيء فإنه لن يبقى له شيء يكتشفه ويشعر بمتعة اكتشافه ، كما أن في الوضوح خطر الملل ، لأن القرائ يؤثر أن يكتشف هو أسرار الصورة بنفسه على أن تتكشف له هذه الأسرار من تلقاء نفسها ،فتضع عليه لذة الاكتشاف والمشاركة في الإبداع .(64) وهذا الغموض الموحي سمة من سمات معظم الصور الشعرية في القصيدة العربية الحديثة ، حيث لا تنم هذه الصور في الغالب عن مضمون واضح محدد ، وإنما تشع بإيحاءات خفية غير محددة يحسها القارئ دون أن يفهمها فهمًا دقيقًا ، فحين نقرأ قول الشاعر محمد أبي سنة في قصيدته التي عرضنا لها منذ قليل : تبلغني في منفاي رسالة لا نستطيع أن نقول إننا فهمنا هذه الصورة ، أو أنها قدمت لنا شيئًا محددًا ملموسًا يمكن الإمساك به و القول بأن هو "معنى الصورة"إن الصورة لا تقدم لنا أكثر من إيحاء غامض بوعد بالدفء يتلقاه الشاعر في برودة وحدته التي ينتظر فيها ذلك القادم الذي يبدو أنه لن يقدم أبدًا ، ولكن حتى هذا الوعد غير المحدد بالدفء تشوبه ملامح البرودة ، ويلفه ذلك الجو الجليدي القاتم الذي يلف رؤية الشاعر كلها ، فإذا بهذه الرسالة "يتساقط منها ثلج أسود" . وهذه الإيحاءات غير المحددة تشع من وراء ذلك النقاب الشفيف من الغموض الذي يغلف الصورة . يبعثها الصيف القادم على أننا ينبغي أن نفرق بين هذا النوع من الغموض الشفيف الموحي ، الذي تشع من خلفه إيحاءات الصور ودلالاتها الغامضة كما تشف العيون الفاتنة من وراء نقاب –كما يقول فرلين – والذي يعتبر وسلة من وسائل الإيحاء وبين نوع آخر من الغموض الكثيف ،الذي لا يكاد يشف عن شيء ، الذي يقوم حاجزًا سميكًا بين القارئ ودلالة الصورة الشعرية ، بل بين القارئ والقصيدة الحديثة بوجه عام(65) .فهذا النو ع الأخير من الغموض لا يستطيع القارئ أن يخترقه إلى عالم الشاعر مهما بذل من الجهد الصادق قأن ينفذ منه إلى إيحاءات الصور ودلالاتها ، ومن ثم إلى الرؤية الشعرية التي يجسدها الشاعر في قصيدته. ولا شك أن هذا الغموض الكثيف يعد واحدًا من أهم عوامل الأزمة القائمة بين القصيدة العربية الحديثة وقرائها ، حيث صار سمة من أبرز سمات النتاج الشعري الحديث وشاع شيوعًا كبيرًا في نتاج بعض شعرائنا إلى الحد الذي كاد نتاجهم يتحول معه إلى عوالم منغلقة عليهم ، ويصعب على أي قائ أن ينفذ إليهم فيها. _______________________________ (64):النص منقول عن :النقد الأدبي الحديث ص429 و"الرمزية في الشعر المعاصر "ص194 Verlaine :Jadis et Naguere .Ed.LE liver de Poche.Paris 1968-p. 25 (65) وانظر أيضًا : د.أنطون غطاس كرم .الرمزية والأدب العربي الحديث .دار الكشاف.بيروت 1949 ص103،104 ود.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث ص426،427 |
(68) ومن الشعراء الذين شاع في شعرهم هذا الغموض الكثيف الشاعر السوري الأصل أدونيس(عليى أحمد سعيد)والشاعر المصري محمد عفيفي مطر ، وإلى حد ما الشاعر الكبير الراحل محمود حسن إسماعيل فضلاً عن معظم الشعراء الشباب في شتى أقطار الوطن العربي . ولنتعرف على طبيعة هذا الغموض الكثيف نقرأ بعض نماذجه ، وليكن مثلاً مقطع "مرآة الحلم"من قصيدة أدوينس الطويلة "مرايا وأحلام حول الزمان المكسور ".يقول أدونيس في هذا المقطع(66) : خذيه ، هذا حلمي ، خيطيه والبسيه نجد الصور في مجموعها تستح في جو من الضباب الكثيف الذي يتعذر على القارئ اختراقه ، النفاذ منه إلى دلالات هذه الصور وإيحاءاتها ، ولا يكاد القارئ يحس بأ،ه قد أمسك بخيط من الخيوط التي تهديه كإلى مسار الخطب الشعوري في الأبيات الذي ينتظم كل هذه الصور حتى يتفلت مه هذا الخط من جديد ، ويضيع في خضم الغموض الكثيف الذي تسبح في الصور كلها ، ويخرج القارئ في النهاية خالي الوفاض إلى من نتف من إحساسات ومشاعر مبعثرة لا يربطها رابط ولا يجمعها نظام. غلاله : أنت جعلت الأمس ينام في يدي يطوف بي ، يدور كالهدير في عربات الشمس في نورس يطير كأنه يطير من عيني ــــــــــــــــــــــــــــــــــ (66):أدونيس :الآثار الكاملة.المجلد الثاني .دار العودة.بيروت 1971.ص353. |
(69) الصورة بين الحقيقة والمجاز : ليس معنى كون الغموض الشفيف وسيلة من وسائل الإيحاء في الصورة الشعرية أن الصورة ينبغي أن تكون دائمًا غامضة ، أو أن هذا الغموض شرط من شروط جوتها أو مقياس من مقاييس حسنها ، بل ليس معنى كون "التشخيص" أو "تراسل الحواس" أو "مزج المتناقضات" او غير ذلك من الأساليب المجازية هي الأدوات الأساسية لتشكيل الصورة الشعرية الحديثة أن هذه الصورة ينبغي أن تعتمد على المجاز في كل الأحوال ، فمن الممكن أن تكون الصورة على أكبر قدر من الوضوح ، ومن الممكن ألا يكون في الصورة أي مجاز لغوي ، ومع ذلك تكون صورة شعرية بكل المقاييس ، وإيحائية كأغنى ما تكون ا لصورة الشعرية بالإيحاء . وتراثنا الشعري القديم والحديث حافل بكثير من الصور التي لا تقوم على أي مجا زلغوي ، ومع ذلك ففيها من الطاقات الإيحائية ما ليس في كثير من الصور التي تقوم على المجاز المتكلف المفتعل . ومقياس جودة الصورة في النهاية هو قدرتها على الإشعاع ، وما تزخر به من طاقات إيحائية ، فبمقدار ثراء الصورة الشعرية بالطاقات الإيحائية ترتفع قيمتها الشعرية ، فنحن حين نقرأ من ترثانا القديم قول ذي الرمة فلي التعبير عن ذلك الإحساس بالذهول والاسي الذي اعتراه حين عاد إلى منزل أحبابه فوجده خاليًا موحشًا : عشية ما لي حيلة غير أنني نحس بمدى الذهول والحزن الذي ران على الشاعر من خلال الإيحاءات الفنية التي تشعها هذه الصورة البسيطة البارعة ،الخالية تقريبًا من أي استخدام مجازي للكلمات. بلقط الحصى والخط في الترب مولع أخط وأمحو الخط ثم أعيده بكفي والغربان في الدار وقّعُ(67) ___________________________ (67):النص منقول من كتاب (النقد المنهجي عن العرب ) للدكتور محمد مندور ، دار نهضة مصر.القاهرة (بدون تاريخ) ص 33 |
(70) ولكن الشاعر استطاع عن طريق التقاطه المرهف لعناصر الصورة أن يشحنها بإيحاءات الذهول الأسى الذي أصابه حين صدمه منظر الدار الموحشة ، فجلس في ساحتها حزينًا شاردًا يلقط الحصى في ذهول وينكت بيده خطوطًا في التراب ، ثم يعود فيمحو ما خطه ليعود فيخطه من جديد ، ووالغربان تسقط حوله في الساحة الموحشة تضاعف من الإحساس بالأسى اللوعة والذهول ، فهذه صورة شعرية رائعة بكل المقاييس، رغم أن العلاقات بين عناصرها ومكوناتها علاقات طبيعية مألوفة ، وليس فيها أي تخطيم للعلاقات العادية والمنطقية بين الأشياء ، أو بتعبير آخر ليس فيها أي استخدام مجازي للغة ، ولكن الشاعر استطاع من خالل اختياره البارع لعناصر صورته ، وللعلاقات بينها أن يوحي بكل معاني الذهول والشرود والحزن التي أراد أن يعبر عنها . ومثل هذه الصور ليست قليلة في تراثنا الشعري القديم . أما شعرنا العربي المعصار فهو بدوره حافل بمثل هذه الصور التي لا تقوم على المجاز ، أو على تحطيم العلاقا ت المألوفة بين عناصرها ، ومع ذلك تزخر بالقيم الإيحائية والطاقات التعبيرية ، فحين نقرأ مثلاً الفقرة الثالثة من قصدة "فقرات من كتاب الموت " (68)للشاعر أمل دنقل التي يقول فيه : أعود مخمورًا إلى بيتي في الليل الأخير _______________________ يوقفني الشرطي في الشارع للشبهة يوقفني برهة وبعد أن رشوته أواصل المسير *** توقفني المرأة في استنادها المثير على عمود الضوء(كانت ملصقات الفتح والجبهة تملأ خلف ظهرها العمودا) تسألني لفافة (لم تيرك الشرطي واحدة من تبغها الليلي) تسألني إن كنت أمضي ليلتي وحيدا وعندما أرفع وجهي نحوها ..سعيدا أبصر خلف ظهرها شهيدا معلقًا على الجدار ناصع الجبهة تغوض عيناه.. كنصلين رصاصيين أصرخ من رهافة الحدين أمضي بلا وجهة (68):أمل دنقل ، ديوان تعليق على ما حدث .دار العودة. بيروت .1971.ص11. |
(71) نجد هذه الصورة المركبة المتعددة العناصر خالة من لاستخدم المجازي للكمات والعبارات –باسثناء تثوير عيني الشهيد في صورة نصلين رصاصيين يغوصان في أعماق الشاعر –وومع ذلك نجح الشاعر في شحنها بمجموعة من الإيحاءات والدلالات الشعرية البالغة الغني ، وذلك عن طريق اختباره للعناصر ووضع بعضها بإزاء بعض ، فمن خلال تأليفه البارع لعنصار الصورة استطاع أن ييبرز المفارقة الفادحة بين واقعين كانت تعيشهما الأمة العربية عندما كتب الشاعر القصيدة ، أولهما فاسد متحلل مهترئ ، يتمثل في ذلك الشرطي –حارس الأمن والقيم- المرتشي الفاسد ، الذي يرشوه الشاعر أولا ليسمح له بمواصلة المسير بعد أن استوقفة متلبسًا بالسكر ، والذي يسلب فتاة الليل –التي هي مظهر آخر من مظاهر ذلك الواقع المتفسخ المهترئ- سجائرها فلا يترك لها واحدة ، ويكاد الشاعر ذاته يصبح وجهًا ثالثًا من وجوه ذلك الواقع المتحلل وهو يعود مخمورًا إلى بيته في آخر الليل ، وهو يرشو الشرطي ليسمح له بالمسير ، وأخيرًا وهو يحاول مساومة فتاة الليل .. ولكنه لا يلبث أن يتحول إلى ضحية من ضحايا هذا التناقض الأليم بين الواقعين اللذين كان يتمزق بينهما كل مثقف وكل شاب . |
(72) أما الواقع الثاني فهو مشرق وضيء ينبثق من خلال انهيار الواقع الأول وسقوطه ، ويتمثل هذا الاقع الثاني في العمل الفدائي الذي يعبر عنه الشاعر بملصقات المنظمات الفدائية التي تملأ عمود النور خلف ظهر فتاة الليل ، وهنا تظهر فداحة المفارقة بين الواقعين حين يجمع الشاعر بين أبرز وجوه الواقعين : فتاة الليل التي تمثل الواقع المننحل الموبوء ، والملصقات الفدائية التي تمثل الواقع المضيء الصامد ، وبينهما عمود النور حائرًا في الانتماء إلى أي من الواقعين . وعلى الرغم من أن الواقع الوضيء لا يتمثل في المشهد إلا في مظهر واحد شاحب –وهو الملصقات –بينما يتمثل الواقع الآخر في مجموعة من المظاهر الحية المتحركة : الشرطي ، وفتاة الليل ،والشاب المخمور العائد إلى بيته مع الليل الأخير ، على الرغم من هذا فإن الواقع الوضيء هو الذي ينتصر في النهاية على الواقع الفاسد بكل مظاهره ، فعينا الشهيد اللتان تنفذان إلى أعماق الشاعر من خلال أإحى المصقات المعلقة على الجدار خلف ظهر فتاة الليل هما اللتان تحبطان هذه الصفقة المحرمة التي كانت على وشك الإتمام بين الشاعر وفتاة الليل ، وصحيح أنه انتصار شاحب ، وأنه لم يتم إلى بثمن فادح هو الاستشهاد –فالعينان اللتان أحبطتا الصفقة عينا شهيد – ولكنه في النهاية انتصار وومضة أمل صامد تشع من خلال كل مظاهر الانهيار والتفسخ . لقد استطاع الشارع أن يحمل الصورة كل هذه الإيحاءا تالفنية دون أن يلجأ إلى استخدام مجازي ، ودون أن يحطم العلاقات الطبيعية بين العناصر التي كون منها صورته ، ولكنه استطاع من خلال هذه العلاقات أن يوحي بكل ما أراد الإأيحاء به .(69) _______________________ (69) استخدم الشاعر في المقطع وسائل وتكنيكات شعرية أخرى ساعدت على إبراز إيحاءات الصورة وتقويتها ومن هذه الوسائل "المفارقة التصويرية" التي سنعرض لها بالدرسة في موضعها من هذا الكتاب . |
(73) وقد يقرأ القارئ هذه الصورة فلا يدرك منها سوى مدلولها الحرفي المباشر ،دون أن يستشف ما وراء هذا المدلول المباشر من إيحاءات ، فل ايفهم من هذه الصورة مثلاً أكثر من أن الشاعر عاد مخمورًا في آخر الليل ، ثم استوقفه الشرطي ، فرشاه ، وسار في طريقه ، وبعد أن استوقفته المرأة الساقطة في استنادها المثير إلى عمود النور ..إلخ ويتقلص عطاء الصورة بالنسبة له إلى مجرد حوار بين ساقطة وشاب مخمور . لكن القارئ الأكثر تدقيقًا يستطيع أنيلتقط من وراء المدلول الحرفي المباشر لعناصر الصورة كل دلالاتها وإيحاءاتها الأكثر عمقًا وخفاء ، ودون أن تكف هذه العناصر عن دلالتها الواقعية المباشرة ، فمثل هذه الصور أيضًا –شأنها شأن الصور المجازية – لها أكثر من مستوى دلالي ، وما يقال عن هذه الصورة يقال أيضًا عن صورة ذي الرمة السابقة. حتى تؤدي الصورة وظيفتها : تعرفنا عرضًا أثناء درسة مفهوم الصورة وأساليب تشكيلها على بعض المزالق والعيوب التي تهبط بقيمة الصورةر ، وتحيد بها عن أداء وظيفتها الفنية باعتبارها أداة أساسية من أدوات الشاعر في تشكيل رؤيته الشعرية تشكيلاً فنيًا ،والإيحاء بالأبعاء المختللفة لهذه الرؤية ، ونحن في هذا المبحث نحدد أهم هذه المزالق والعيوب التي تعتري بناء الصورة فتعوقها عن أداء ءمهمتها الإأيحائية ، وتبتهط بالتالي بقيمتها الفنية من وجهة نظر نقدية حديثة . وأهم هذه العيوب: الوقوف عند التشابه الحسي : الوظيفة الأساسية للصورة هي تصوير ا لعالم الداخلي للشاعر -إذا صح هذ االتعبير –بكل ما يموج به من مشاعر وخواطر وهواجس وأفكار ، وإذا كان الشاعر يستغل في الإيحاء بأبعاد هذا العالم الداخلي الشعور معطيات العالم الخارجي المحسوس فإنه لا ينبغي أن يقف عند هذه المعطيات الحسية مكتفيًا بتسجيل التشابهات المحسوسة بينها ، وإنما لابد أن يحول هذه المعطيا ت إلى أدوات للإيحاء بواقعه النفسي الخاص ، ومن ثم فإن الوقوف عند تسجيل اتشابه الحسي الملموس بين عناصر الصورة يعد عيبًا من العيوب الخطيرة في تشكيل الصورة وتوظيفها. |
(74) وقد رأينا كيف نبه ؤرواد التحديد في شعرنا ونقدنا المعاصرين إلى هذ االعيب منذ وقت مبكر ، ومن ثم فإن الصور الحسية التي عرضنا لها من شعر ابن المعتز وسواه في مثل هذه الصور عند حدود رصد التشابه المادي الملموس بين عناصر الصورة وأطرافها . وعلى هذا الأساس فإن تشبيه نزار قباني لشعر المرأة الأصفر بسنابل القمح في قوله من قصيدة :"تعود شعري عليك "(70): تعود شعري الطويل عليك تعودت أرخيه كل مساء سنابل قمح على راحتيك صورة معيبة فنية لوقوفها عند تسجيل التشابه الحسي المتمثل في اللون والشكل بين الشعر الأصفر من ناحية ، وسنابل القممح من ناحية أخرى ، ولم يستطع الشاعر النفاذ من هذا التشابه الحسي إلى الإيحاء ببعد نفسي أو شعوري . ومن هذا القبيل أيضًا قول نزار في تشبيه عيون الإسبانيات الواسعة السوداء باللؤلؤ الأسود في مقطع "اللؤلؤ الأسود" من قصيدة" أوراق أسبانية ":(71) شوارع غرناطة في الظهيرة فالشاعر هنا أيضًا يقف عند تسجيل التشابه الحسي في اللون بين أعين الإسبانيات الوساعة السوداء التي تمتلئ بها الشوارع وبين حقول اللؤلؤ الأسود ، وواضح أنه لا صلبة بين الطرفين سوى اللون وهو صلة حسية لم يستطع الشاعر أن يصور من خلالها إحساسه الخاص بهذه العيون ، بل إن هذا التشابه الحسي يحجب لونًا من التباعد في الواقع النفسي بين الطرفين لم يفطن إليه الشاعر في غمرهم فرحه باكتشاف هذا التشابه الحسي ، فأين الواقع الذي تتركه لؤلؤة سوداء في نفس القارئ من ذلك الوقع العميق الذي تتركه العيون السوداء ، ولا سيماء أن الشاعر بمعرض تصوير جمال هذه العيون وقوة تأثيرها في نفسه . حقول من اللؤلؤ الأسود فمن مقعدي أرى وطني في العيو ن الكبيره ________________________ (70) :نزار قباني :ديوان الرسم بالكلمات .الطبعة الثانية .منشورات نزار قباني .بيروت 1967ز ص 188. (71)السابق ص 170 |
(75) على أن رصد التشابه الحصي بين عناصر الصورة ليس معيبًا في ذاته ، ولكن المعسيب هو الوقوف عند رصد هذا التشابه وتسجيله وعدم توظيفه إيحائيًا وإلا فأن كثيرًا من الصور الشعرية البارعة تقوم على مثل هذ االتشابه الحسي ، ولكن الشاعر يتجاوز هذا التشااهب وينفذذ من خالله إلى البوح بمكنون نفسه الدفين ، فحين يقول الاشعر أحمد عبد المعطي حجازي مثلاً في تصوير إحساسه بهجير المدينة وقسوتها وجهامتها في ديوانه الذي أطلق عليه اسم "مدينة بلا قلب ":(72) شوارع المدينة الكبيره قيعان نار تجتر في الظهيره ماشربته في الضحى من اللهيب يا ويله من لم يصادف غير شمسها غير البناء والسياج والبناء والسياج غير المربعات والمثلثات الزجاج _________ (72)أحمد عبد المعطي حجازي:قصيدة "إلى اللقاء " من يوان" مدينة بلا قلب" .الطبعة الثانية.دار الكتاب العربي .القاهرة .1968ص119 |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.