(15) والحقيقة أن قصيدة شوقي لم تكن بمثل هذا التفكك الذي حاول العقاد أن يتهمها بثب ، والحقيقة أيضًا أن وحدة القصيدة ليست بمثل هذه الصرامة التي ترفض إمكان تقديم بيت من أبيات القصيدة أو تأخيره ، كما سنوضح بعد قليل،ولكننا إذا ما نحينا جانبًا هذه النزعة المتحاملة في كلام العقاد عن ظاهرة التفكك في شعر شوقي –وفي موقفه من شوقي عمومًا- فإنه يبقى لنا منه ذلك الإدراك الموضوعي الواعي لضرورة ترابط أجزاء القصيدة وعناصرها ، ونعيه على القصيدة المكونة من مجموعة من الأبيات المفككة المستقلة ، وعلى الذين "يحسبون البيت في القصيدة جزئًا قائمًا بنفسه ، ولا عضوًا متصلاً بسائر أعضائها ، فيقولون أفخر بيت وأغزل بيت وأشجع بيت ، وهذا بيت القصيد ، وواسطة العقد ،كأن الأبيات في القصيدة حبات عتقد تشترى كل منها بقيمتها ، فلا يفقدها انفصالها عن سائر الحبات شيئًا من جوهرها ، وهذا أول دليل على فقدان الخاطر المؤلف بين أبيات القصيدة ، وتقطع النفس فيها ، وقصر الفكرة ، وجفاف السليقة؛فكأنما القريحةالتي تنظم هذا النظم وبصات نور متقطعة لا كوكب صامد متصل الآشعة يريك كل جانب وينير لك كل زاوية وشعبة ، أو كأنما هي ميدان قتال فيه ألف عين وألف ذراع وألف جمجمة ، ولكن ليس فيه بنية واحدة حية ، ولقد كان خييرًا من ذلك جمجمة واحدة على أعضاء جسم فرد تسري فيه حياة.(11)ويعد هذا الكلام الذي كتب في بداية العقد الثالث من القرن العشرين من أنضج ما كتب عن وحجدة القصيدة في نقدنا العربي الحديث ، وقد تأثر بدعوة العقاد وأقرانه الكثير من الشعراء والنقاد والمثقفين عمومًا حتى أصبحت سمة من أبرز سمات الحداثة في القصيدة العربية الحديثة. ولكنه ينبغي تقرير أن الوحدة العضوية في القصيدة ليست في وضوح وصرامة الوحدة في المسرحية والرواية اللتين تتسلسل أحداثهما ومواقفهما في ترابط وتماسك يضفي على البناء العام لكل منهما لونًا من الوحمدة الصارمة الوثيقة ، بحيث لو قدم منظر من مناظر المسرحية أو حدث من أحدجاث الرواية أو أخر عن موضعه لأصاب ذلك بناءها العام بالخلل والاضطراب ، أما وحدة القصيدة في على قدر كمن المرونة لا يرفض إماكن تقديم بيت من أبيات القصيدة أو مقطع من مقاطعها على سواه ، ودون أن يكون في ذلك إخلال بالوحدة ، ما دام ثمة نوع من الوحدة الشعورية والفنية يضم هذه الأبيات والمقاطع بعضها إلى بعض .(12) __________________________ (11) السابق 131،132 .والوبصات : الومضات (12)انظر : النقد الأدبي الحديث .ص411 . بل إن الوحدة العضوية في المسرحية والرواية ذاتهما لم تعد بمثل ما كانت عليه من الصرامة والرسوخ ،خصوصًا في الاتجاهات الروائية والمسرحية الحديثة التي لم تعد تعطي الحدث الخارجي وتسلسله ما كان له من أهمية من قبل ؛ حيث أصبح من الممكن في ظل هذه الاتجاهات أن تكتب مسرحية أو رواية دون أن تعتمد على أحداث خارجية ذات بال ، بل أصبح كسر التسلسل الطبيعي للأحداث والترابط المنطقي بينها تكتيكًا فنيًا من تكنيكات هذه المسرحيات والروايات التي لم تعد خاضعة لتلك الوحدة الظاهرية المحسوسة الصارمة ، وإنما أصبحت خاضعة لنوع من الوحدة أكثر خفاء ودقة. |
(16) وإذا كان حماس رواد التجديد الأوائل في شعرنا ونقدنا الحديث لوحدة القصيدة قد دفعهم إلى نوع من التشدد في تطبيقها ،فإن حماسهم لم يلبث أن أن ارتد إلى نوع من الاعتدال والموضوعية ، بل إنهم في الوقت الذي كانوا يتشددون فيه على المستوى الإجرائي في تطبيقهم لمقياس الوحدة لى شعر معاصريهم كان كلامهم النظري عنها أكثر اعتدالاً وموضوعية ففي الوقت الذي نجد فيه العقاد يتشدد-على المستوى الإجرائي –في تطبيق مقياس الوحدة على شعر شوقي إلى حد التعسف ، نراه على المستو النظري يقول مثل هذا الكلام الموضوعي المعتدل "إننا لا نريد تعقيبًا كتعقيب الأقيسة المنطقية ولا تقسيمًا كتقسيم الأقيسة الرياضية ، وإنما نريد أن يشع الخاطر في القصيدة ، ولا ينفرد كل بيت بخاطر فتكون كما أسلفنا بالأشلاء المعلقة أشبه منها بالأعضاء المنسقة .(13)أمخا في الشكل الأكثر حدابثة في القصيدة العربية فقد أصبحت بالوحمدة أكثر خفاءً ودقة ، نتجية لخفاء ودقة العلاقات التي تربط بين عناصر القصيدة ومكوناتها ، بحيبث أصبح من المشروع في إطار هذه الوحدة إمكان تقديم بيت على بيت أو مقطع على مقطع ، بل لقد تجاوز الأمر ذلك إلى جواز وجود نوع من التباعد الظاهري بين بعض أجزاء القصيدة وبعضها الآخر ، إذا كان مثل هذا التنافر موظفًا توظيفًا إيحائيًا ،وإذا كان ثمة نوع من الوحدة العميقة الخفية يضم كل هذه العناصر المتنافرة في الظاهر ، ويصهرها في كيان نفسي وفني واحد . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (13) الديوان .ص141 |
(17) ولقد كان شعراء الرمزية هم رواد هذا الاتجاه ، حيث كاهوا ينتقلون في قصائدهم من فكرة إلى فكرة أو من خاطر إلى خاطر دون أن يكون بينهما ترابط منطقي ، وذلك بهدف إثارة عنصر المفاجأة ،رغبة في تقوية الجانب الإيحائي في قصائدهم دون أن تفقد هذه القصائد وحدتها الخفية العميقة.(14) وفي إطار هذه الوحدة عندهم لا بأس من أن يجتمع الشيء مع أشد الأشياء تباعدًا عنه وتنافردًا معه ، مد داما يتآزران على إحداث أثر نفسي واحد ، وبث إيحاء واحد ، وهذا ما عبر عنه الشاعر الرمزي الفرنسي الكبير شارل بودلير في قصيدته" تراسلات correspondances " (15) التي يقول فيها الطبيعة معبد ، الدعائم الحية فيه يصدر عنها في بعض الأحيان همهمات مبهمة يسير المرء فيها عبر غابات من رموز ترمقه بنظرات رفيقة وكأصداء طويلة تختلط من بعيد في وحدة معتمة عميقة رحيبة كالليل وكالضوء تتجاوب العطور والألوان والأصوات ولقد تأثرت القصيدة العربية الحديثة بمثل هذه النزعة ، بحيث لم يعد نادرًا أن نجد القصيدة تجمع بين أشياء بينها من التباعد والتنافر الظاهريين أكثر مما بينها من الترابط، ومبالغة في هذا الاتجاه فإننا كثيرًا ما منجد الشاعر يسقط أدوات الربط اللغوي بين أجزاء القصيدة ، حتى لتبدو القصيدة في بعض الأحيان أشبه ما تكون بمجموعة من العبارات والجمل المفككة المستقلة ،الواقعة بذاتها في الفراغ ، ولكن يكن هناك رابط وثيق خفي يضم شتات هذه الأجزاء المتنافرة في كيان واحد شديد التماسك (16) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ (14) انظر النقد الأدبي الحديث.ص407 (15) Charles Baudelaire:Les Fleurs du Mal.Ed. Club.de Libraires de France,1959.p.38. وانظر النقد الأدبي الحديث .ص 426 (16) سنعرض لهذه القضية بشيء من التفصيل عند الحديث عن لغة القصيدة الحديثة . |
(18) وفي بعض الأحيان تتركب الرؤية الشعرية في القصيدة من مجموعة من الأبعاد التي يتميز بعضها عن بعض إلى حد ما دون ان تفقد ترابطها وتلاحمها الكلي ، فتجئ مثل هذه القصيدة مؤلفة من مجموعة من المقاطع التي تتمتع بلون من الاستقلال كثيرًا ما يؤكده الشاعر بإعطاء كل مقطع منها عنوانًا خاصًا في إطار الوحدة العميقة الوثيقة التي تتعانق في إطارها كل الأبعاد وتمتزج كل المقاطع . وهذا واضح في القصائد الطويلة التي اصبحت تمثل القدر الأكبر من نتاج الشعر الحديث ، وقد سبق أن اقتبسنا نصوصًا من قصيدتين من هذا القبيل ، وهما قصيدتا "الناي والريح في صومعة كيمبردج" لخليل حاوي ،" ورحلة في الليل" لصلاح عبد الصبور. فالقصيدة الأولى منهما تتألف من ستة مقاطع تحمل أربعة عناوين خاصة هي على التوالي : 1- في الصومعة 2- الناي 3- الريح 4- الناسك.بينما اكتفى في تمييز المقطعين الثاني والسادس بإعطائهما أرقامًا خاصة. أما القصيدة الثانية "رحلة في الليل" فهي تتألف أيضًا من ستة مقاطع يحمل كل منها عنوانًا خاصًا ، والعناوين الستة على التوالي هي : 1-بحر الحداد 2- أغنية صغيرة 3- نزهة الجبل 4- السندباد 5-الميلاد الثاني 6- إلى الأبد ولم يحل هذا التمييز الظاهري بين مقاطع كلتا القصيدتين دون وجود نوع من الوحدة الخفية العميقة التي تضم هذه المقاطع كلها وتربط بينها بأوثق الروابط. |
(19) وإذا ما أخذنا قصيدة الدكتور خليل حاوي (17) نموذجًا ، فإننا نجد مقاطعها كلها تدور حول محور واحد هو الصراع والتفاعل في ذات الشاعر بين بعدين متعارضين يتجسدان في مجموعة من الرموز المتشابكة المتآزرة. ويتمثل أول البعدين في كل ما هو ثابت وراسخ وجامد في حياة الشاعر ، بينما يتمثل ثانيهما في رياح التغيير الهادرة التي تعصف حوله في عرامة. وقد تمثل البعد الأول في مجموعة من الرموز الفنية ، منها "الصومعة"،حيث يعكف الشاعر على أبحاثه العلمية –ولقد يكون من المفيد أن نعرف أن الشاعر كتب هذه القصيدة وهو يعد للحصول على الدكتوراه من جامعة "كيمبردج"-منكبًا على أقلامه وأوراقه العتيقة ، وحيث الثبات والرسوخ يحينل من في الصومعة إلى مجموعة من "النساك" و"اللحم المقدد"، ومن القصائد التي تجسد فيها البعد الأول "الناي"بكل ما ارتبط به من إيحاءات الأسى الراسخ ، ثم الأسرة ممثلة في الأب الذي ينتظره في صبر – مع أمه- ليحمل عنه هم البيت الثقيل ،وصاحبته التي تنتظره معهما هناك ، والتي لا تفكر إلا فيه ولا تحلم إلا به حتى يبت على اسمه ، ومص دماءها شبحه ، وقد تموت انتظارًا قبل أن يعود إليها .ثم ذلك الناسك المخذول في رأسه- الذي تكون من طول عكوفه في الصومعة من ناحية ، ومن تراثه العريق في الحكمة من ناحية أخرى – وهذا الناسك لا يفتأ يلاحقه بنصائحه وتحذيراته من الاندفاع في رياح التغيير بكل ما فيها من مخاطر وعدم تبصر.وأخيرًا ذلك الواقع الحضاري والسياسي المتخلف الذي يعيشه وطنه العربي ، بكل ما فيه من تجزؤ وتفتت ، وما يعيش على ثراه من نماذج بشرية مشوهة التكوين تكرس هذا الواقع المتخلف المتفسح لأنها لا تستطيع العيش إلا في ظلاله. ________________________ (17)تراجع القصيدة في "جيوان خليل الحاوي"ص167-189 |
(20) ولقد امتزجت هذه الرموز وتفاعلت لتعكس من خلال نموها وترابطها وتفاعلها هذا البعد من بعدي الرؤية الشعرية في هذه القصيدة ، وعلى الرغم من أنها تمثل في مجموعها بعدًا واحدًا ، أو طرفًا واحدًا من طرفي الصراع ، فإنها لمك تبرأ من وجود نوع من الصراع فيما بينها ، لأن الثابت إذا كان يعني في جانب من جوانبه التخلف والجمود ، فإنه يعني في جانب آخر العراقة والأصالة والرسوخ ، ومن ثم فإننا نجد نوعًا من الصراع بين رموز هذا البعد الواحد، ومن خلال هذا الصراع والتفاعل تنمو الرموز وتتشابك ، وتنمو معها ومحدة القصيدة وتقوى . أما البعد الثاني في القصيدة "التغيير " فإن الشارع يرمز إليه برمزين أساسيين هما :"الريح " و"البدوية السمراء" التي يرمز بها إلى العبارة الشعرية الخلاقة البكر ، التي تملم كالقدرة على الاتغيير والعصف بكل ما هو متخلف ومتفسخ في وجود الشاعر ، وهذان الرمزان بدورها يمتزجان امتزاجًا شديدًا ويتكاملان ،فالريح تنبع من بين يدي العبارة الشعرية البكر ذات الطاقات الخارقة. وعلى الرغم من قلة الرموز التي جسد بها الشعر هذا البعد الثاني ،بالقياس إلى تلك التي جسد بها البعد الأول ، فإنه قد أسبغ عليها من الفاعلية والإيجابية ما جعلها تقوم ندًا لرموز البعد الأول على كثرتها ، بل تكاد تنتصر عليها في ذلك المقطع الرائع الذي يحمل عنوان "الريح" وهو أطول مقاطع القصيدة الستة ، بل إنه وحده يكاد يتجاوز في الطول المقاطع الجمسة الأخرى مجتمعة ؛ففي بداية ذلك المقطع نجد الشاعر مهمومًا بالاستجابة لنداء التغيير ، متلهفًا إلى العزيمة التي يستطيع بها أن ينشق عن كل الرموز التي تربطه بواقعه الثابت ،بكل ما في هذا الانشقاق من آلام "أطأ القلوب وبينها قلبي ، وأشرب من مرارات الدروب بلا مرارة"، وهنا تخطر في رؤياه العبارة الشعرية البكر ، البدوية السمراء بكل ما يحيط بدروب الوصول إليها من مخاطر ومعاناة ، وفي نفس الوقت بكل ما تملكه من طاقة خارقة على الغيير ؛فمنها تنبع الريح التي تملك جوع مبارد الفولاذ لتمحو هذه الحدود المتحجرة التي تمزق التراب العربي إلى مجموعة من الأجزاء المتناثرة ، وتعود الأرض بكرًا خصيبة كما كانت في بدء الخليقة ، أما النماذج الإنسانية المتفسخة فإنه يوكل ريح الرمل بها لتعجنها ، وينتهي المقطع الرائع ورموز التغيير المتجدد تكاد تنتصر على التخلف والجمود. ولكن القصية ليست بهذه البساطة ، ولاصراع لم يكن ليحسم بهذه السهولة ،فإذا كانت رموز التغيير تمتلك مثل هذه الفاعلية ، فإن الثبات ليس دائمًا جمودًا وركودًا ، وإنما هو في الوقت ذاته في بعض جوانبه عراقة وأصالة ولبعض رموز هذا الثبات من القوة والرسوخ ما يحول دون حسم الصراع بهذه السهولة لصالح البعد الآخر ، ومن ثم فإن القصيدة تنتهي ورموز الثبات تكاد تحقق نوعًا من الانتصار في الصراع ،فإذا كانت القصيدة بدأت وبين الشاعر والباب الذي يقود إلى عالم الانطلاق والتغيير : ..أقلام ومحبرة ، صدى متأفف ، كوم من الورق العتيق هم العبور ، وخطوة أو خطوتان أإلى يقين الباب ، ثم إلى الطريق فإذا هي تنتهي وقد تضخمت هذه الحوائل وازدادت ،فإذا هي : ..صحراء من الورق العتيق ،وخلفها واد من الورق العتيق ، وخلفها عمر من الورق العتيق ومن خلال الصراع والتفاعل المعقدين بين رموز البعد الأول بعضها وبعض من ناحية ،ثم بينها وبين رموز البعد الثاني من ناحية أخرى ينمو بناء القصيدة وتتشابك أجزاؤها وعناصرها وتترابط ، وتتأكد من خلال ذلك وحدتها وتقوى رغم ما توحي به العناوين المستقلة للمقاطع من تمايز هذه المقطاع واستقلال بعضها عن بعض . وهكذا نجد أن وحدة القصيدة الحديثة لا تقف عند حدود وحدة المشاعر والأفكار التي تألف منها الرؤية الشعرية،وإنما تتجاوز ذلك إلى وحدة الأدوات والتكنيكات الشعرية المستخدمة في تجسيد هذه الرؤية ذات الأبعاد المتعددة الترابطة .كما نجد أن هذه الوحدة موجودة بأعماق صورها وأوثقها حتى في تلك القصائد التي تبدو في الظاهر متفككة الأجزاء مستقلة المقاطع . |
(21) بل إن هناك من المحاولات الحديثة ما يهدف إلى تحقيق نوع من الوحدة بين ديوان كامل وليس ببين عناصر قصيدة واحدة ، وقد يتألفل مثل هذا الديوان من ممجموعة من القصائد المتكاملة أو من مجموعة من المقطاع التي يمكن أن تيشكل في مجموها قصيدة واحدة طويلة تمتد على طور الديوان ، ومن نماذج هذه المحاولات دواوين "يوميات امرأة لا مبالية " لنزار قباني ، و"حوار عبر الأبعاد الثلاثة "لبلند الحيدري ، و"الذي يأتي ولا يأتي " لعبد الوهاب البياتي و "بيادر الجوع"لخليل حاوي ، و"مأساة الحياة وا أغنية لإنسان" لنازك الملائكة وغيرها . إلا أنه لا ينبغي أن نتوقع أن تكون الو حدة في مثل هذه الأعمال في مثل قوة الوحدة ووضوحها في القصيدة الواحدة . الإيحاء وعدم المباشرة: من السمات البارزة فلي القصيدة الحديثة أنها لا تعبر تعبيرًا مباشرًا عن مضمون حدد واضح ،وإنما تقدم مضمونها الشعري بطرية إيحاية توحي بالمشاعر والأحاسيس والأفكار ولا تحددها أو تسميها ،ونتيجة لهذا فإن القصيدة الحديثة لا تحمل معنى واحدًا متفقًا عليه ، "ومن المخطأ المضاد لطبيعة الشعر ،بل القاتل له ،أن نتطلب من كل قصيدة أن يكون لها معنى واقعي وحيد ، هو صورة طبق الأصل من فكرة ما لدى الشاعر "(18) لأن الشاعر لو كانت لديه فكرة محددة واضحة المعالم يريد إيصالها إلى القارئ لما لجأ إلى الشعر أسلوبًا لنقلها ،ولآثر عليه النثر الذي هو أكثر قدرة على تحجديد المعاني والأفكار وتوضيحها ، أما الشعر فإنه يوحي بمجموعة من المعاني والأفكار والمشاعر التي تنمو وتعمق بمقدار ما يبذل القائر من جهد وإخلاص في قراءتها ،هذا معنى أن القارئ يسهم في إبداع القصيدة ، وأن عطاء القصيدة الحديثة ينمو ويتنوع بمقدار إخلاص القارئ وجديته ،فقد يقرأ القصيدة الواحدة أكثر من قارئ ويخرج كل منهم بحصيلة مختلفة عن التي خرج بها الآخرون ، ولكن تعدد عطاء القصيدة الحديثة ليس تعدد التناقض والتعارض ،وإنما هو تعدد التكامل ،فقد لا يخرج قارئ من القراء من قراءته للقصيدة بأكثر من معناها السطحي المباشر –الذي هو أهون جوانب القصيدة قيمة،بل هو الجانب غير الشعري فيها –بينما يستطيع قارئ ثان أن يلتقط بعض إيحاءاتها الأكثر عمقًا وخفاء دون أن يربط بين هذه الإيحاءات بإيحاءات ودلالات أخرى جديدة لا تكف عن النمو والتنوع والعمق ، وهذه هي سمة الفن العظيم في كل عصر من العصور "فهو ينقل إلى كثيرين معنى سطحيًا واضحًا ولو نسبيًا، بينما يحتفظ للقليلين بمجموعة من الأعماق ، وهذه الثنائية كانت وستظل سمة كل فن عظيم"(19). فحين نقرأ مثلاً قصيدة كقصيدة "جيكور والمدينة" (20) للشاعر العراقي بدر شاكر السياب الي يقول في أولها : وتلتف حولي دروب المدينة حبالاً من الطين يمضغن قلبي ، ويعطين عن جمرة فيه طينة حبالات من النار يجلدن عري الحقول المدينة ويحرقن جيكور في قاع روحي ، ويزرعن فيها رماد الضغينة ____________________ (18) paul valery ,p.44 Note marginale N.3. (19)د.مصطفى ناصف :مشكلة المعننى في النقد الحديث.مكتبة الشباب .القاهرة 1969.ص29. (20)بدر شارك السياب :أنشودة المطر .دار مجلة الشعر .بيروت 1960 ص103 |
(22) قد لا يخرج قارئ منها بأكثر من الدلالات الحرفية للألفاظ بينما يستطيع قارئ آخر أن يدرك المعنى العام المباشر –غير الشعري- للقصيدة ، وهو أن القصيدة نوع من المقابلة بين المدينة والقرية –ممثلة في "جيكور"قرية الشاعر في جنوب العراق –ولا نستطيع أن نسمى أياً من هاتين القارءتين قراءة شعرية للقصيدة،ولكن القراء الشعرية تبدأ بعد ذلك ،حيث يوجه القارئ اهتمامه إلى التقاط الإيحاءات التي تشعها الأبيات، وهذه القراءة الشعرية ذاتها تتعدد مستوياتها باختلاف القدرة على تلقي هذه الإيحاءات ، فقد يقف قارئ عند حدود الإحساس بأن الشاعر يصور هنا ضيقه وتبرمه بمادية المدينة وزيفها وافتعالها ، ويحن إلى بساط ةلاقرية وبراءتها الناصعة ، وقد يذهب خطوة أبعد من ذلك فيرى أن الأبيات تعبير عن الحنين الأبدي إلى براءة الفطرة الأولي ونقائها –كما يتمثلان في القرية- والضيق بمادية الحياة الحديثة وجفافها وجهامتها-كما يتمثل ذلك كله في المدينة. وقد لا يقنع قارئ آخر أكثر إخلاصًا ودأبًا بمثل هذه الإيحاءات العامة ، فيمضي يقتش عن الإيحاءات الأكثر خفاء وعمقًالكل عنصر من عناصر البناءا لشعري منفردًا ومتفاعلاً مع بقية العناصر ،بكل ما يشعه هذا التفاعل من إيحاءات جديدة غير متناهية ، فثمة (دروب) في مطلع القصيدة "تلتف " "حول" الشاعر ،هذه الدروب هي "دروب المدينة" ، وإذن فإن في الأمر "التفافًا" لعله الحصار الذي تضربه المدينة حول الشاعر ،بل لعله ضرب من الشنق ، فإن هذه الدروب تتحول إلى "حبال" ومن التفاعل بين "الالتفاف" و"الحبال" تشع إيحاءات الخنق ، إذن فإن العمل الذي تمارسه المدينة نحو الشاعر ليس مجرد الحصار وإنما هو القتل ، ولكن أي قتل ؟ إن الدروب –الحبال التي تلتف حول الشاعر –هي حبال "من طين" تمضغ قلب الشاعر "ويعطين عن جمرة فيه طينة" وإذن هو قتل روحي لأنه خنق ما هو متوهج ونبيل في أعماق الشاعر . |
(23) وهكذا تطالعنا المدينة منذ بداية القصيدة بهذا الوجه الآثم الجاني ، وإلى هنا ووجه القرية-جيكور-لم يلح في أفق رؤيا الشاعر ،ومع بداية البيت الثالث يبدأ وجه "جيكور"يطل في أفق رؤيا الشاعر مهزومًا حزينًا محترقًا ،فهذه الحبال التي كانت في البيت السابق حبالاً من الطين تطفئ الجمرة المتوهجة في قلب الشاعر قت استحالت هنا إىل حبال من النار.. ولكنها ليست النار الموهنجة المعطاءة ، وإنما هي النار الحارقة المدمرة،فحبالها –التي هي دروب المدينة- "يجلدن عرى الحقول الحزينة" ومن هنا يبدأ وجه القرية الكاسف الحزين العاري متمزقًا تحت سياط حبال النار التي تحولت إليها دروب المدينة ،ولا تكتفي هذه الحبال بجلد الحقول العارية الحزينة ،وإنما هي تحرق "جيكور"في قاع روح الشاعر..إنها المقابل الروحي لكل حفاف المدينة وماديتها وقسوتها ،إنها الرحمة والأ/ن والسلام التي يفهو الشاعر إلى أن تنتصر على كل فساد المدينة وكل شرورها لتحول كل جفافها إلى نضرة ،وكل طغيانها إلى سلام رحيم: فمن يشعل الحب في كل درب ، وفي كل مقهى ، وفي كل دار ؟! ومن يرجع المخلب الآدمي يدًا يمسح الطفل فيها جبينه ؟! وتخصل من لمسها ، من سماوة القلب فيها ،عروق الحجار ؟! غير أن الشاعر يعرف أن كل ذلك أمل ضائع ، ومن صم فإن قاصرى ما يطمح إليه أن تظل جيكور ملاذًا روحيًا له يلجأ إليه بروحه من جفاف المدينة وهجيرها وفسادها ،ولكن حتى هذا الأمل المتواضع أصبح عسير التحقق ،فإن المدينة تحاصره وتسد كل دروبه إلى جيكور "فمن حيث دار اشرأبت إليه دروب المدينة ".. |
(24) وهكذا يظل على امتداد القصيدة هذ1ا الصراع غير المتكافئ بين "جيكور " والمدينة ،بين نصاعة الفطرة وبراءتها الأولى وجفاف المدينة وماديتها وقسوتها ،المدينة بكل جبروتها وطغياتها وجيكور بكل وداعتها ونقائها ،وتنتهي القصيدة هذه النهاية الأليمة "وجكور من دونها قام سور ، وبوابة ،واحتوتها سكينة" هذه النهاية التي تردنا إلى بداية القصيدة ، وتوحد بين الشاعر وجيكور فكلاهما سجين محاصر ؛الشاعر في البداية "تلتف حولنه دروب المدينة " وجيكور في النهاية "من حولها قم سور وبوابة واحتوتها سكينة". إن أحدًا لا يستطع أن يدي أن مثل هذه القصيدة تعبر بطريق مباشر عن معنى محدد يمكن تعيينه والاتفاق حوله ،إن ما تقدمه هو مجمموعة من الإحيحاءات المتشابكة المتنامية غير المحدودة وهذا هو الشأن في كل قصيدة حديثة ، وفي كل عمل فني عظيم ، وإذا كانت هذه السمة تسبب انزعاجًا لبعض الذين ينشدون من قراءتهم اللشعر معنى واحدًا دقيقًا يتفق جوله الجميع أو يكادون ،ويرفضون من الشعر كل ملا يقدم لهم هذا المعنى ، فإن النظرة العادلة تقتضينا "أن نربط بين مجال الإبلاغ أو التوصيل ،وقدرة اللغة على الإهابة بأعماقها ،ومن الخطأ أن نسوي بين مفهوم الدقة واتفاق عدد من الناس " (21) بل كثيرًا ما تكون هذه الإيحاءات الخفية أكثر دقة ، وأكثر قربًا إلى الحقيقة من ذلك المعنى المشترك بين القراء،والذي يحكى بقدر أكبر من اتفاق الجميع ،وهو المعنى المباشر. ولكي يحقق الشاعر المعاصر لقصيدته سمة الإيحاء تلك –وسواها من السمات السابقة –فإنه يلجأ إلى استخدام مجموعتة من الأدوات والتكنيكات الفنية ،بعضها مستمد من التقاليد الموروثة منذ أقدم عصوره ،كاللغة الشعرية،والصورة الشعرية ،والموسيقى الشعرية المتمثلة في الوزن والقافية ،وبعضها الآخر من التقاليد الشعرية الحديثة كالرمز ،والمفارقة التصويريةـ وغير ذلك من الأدوات الفنية التي ابتكرها الشاعر الحديث ،وبعضها الثالث استعاره الشاعر من الفنون الأدبية العربية التراثية بعض قوالبها الفنية ، كقالب المقامة والتوقيع مثلاً ،كما استمد من الرواية الحديثة أسلوب الارتداد(فلاش باك) والمونولج الداخلي ، وغير ذلك من تكنيكات الرواية الحديثة ، كما استعار من المسرحية أخص تكنيكاتها بها مثل تعدد الأصسوات والحوار ،والصراع بل إن بعض القصائد الحديثة استعارت القالب المسرحي بكل مكوناته وعناصره. ولم يقف الشاعر المعاصر عند حدود الاستعارة من الفنون الأدبية المختلفة -قديمها وحديثها - وإنما مضى يستعير من الفنون الجميلة الأخرى من تصوير وموسيقى ،وسينما ،..إلخ وقد طوع الشاعر بالطبع ما استعاره من تكنيكات هذه الفنون لطبيعة البناء الفني للقصيدة ، بحيث أصبحت تكنيكات شعرية تنتمي إلى القصيدة بنفس القدر الذي تنتمي به إليها التقاليد الشعرية الموروثة ، وأيضًا بنفس القدر الذي تنتمي به هذه التكنيكات إلى فنونها الأصلية. ودراسة هذه الأدوات والتكنيكات في القصيدة الحديثة في موضوع المباحث التالية من الكتاب. ________________________ (21)د.مصطفى ناصف:مشكلة المعننى في النقد الحديث .ص29. |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.