(86) وإذا كانت محاولة الاكتفاء بالمرموز إليه عن الرمز تمثل مثل هذه الخطورة على العملية الرمزية ، فإن العملية المقابلة وهي الوقوف عند الدلالات المادية للرموز ليست أقل خطورة على الرمز ، فترجمة الرمز إلى دلالات مادية محسوسة عملية خاوية من المعنى ، لأن الصور الرمزية وإن كانت تشتمل بالتأكيد على كل الإشارات إلى المحسوس ، فإن عطاءها لا يمكن أن يستنفد في مثل هذه الإحالات إلى المحسوس ، وإلا لما كانت رموزًا ، لأن معنى كونها رموزًا أدبية أنها لا تشير إلى أشياء محددة محسوسة في الخارج وإنما تشير إلى حالات نفسية غامضة تند عن التحديد . ومن هنا فإن الرمز الشعري يختلف عن الرمز اللغوي المتمثل في الألفاظ اللغوية باعتبارها رموزًا ،لمعان محددة والرمز الرياضي وسواهما من الرموز الإشارة ذات المدلول المحدد ، فالرمز الشعري -خلافًا لهذه الرموز - لا يشير إلى شيء محدد معين يتفق الجميع عليه ، وإنما يوحي بحالة معنوية تجريدية غامضة لا يمكن تحديدها ، ومن ثم فإن الناس يختلفون اختلافًا بينًا في فهم الرموز الشعرية-والأدبية عمومًا- على حين يتفقون أو يكادون على فهم الرموز اللعغوية- من حيث هي ألفاظ تشير إلى مدلولات محددة-والرموز الإشارية من ناحية أخرى وهو أن دلالة الرموز الإشارية دلالة اتفاقية غير حتمية ، تكتسبها هذه الرموز نتيجة لاتفاق بين مستعملي هذه الرموز ، بينما دلالة الرمز الشعري دلالة داخلية حتمية ، ونتيجة لهذا -وهذا فرق ثالث بين الرمز الشعري والرموز الإشارية-فإن مدلول الرمز الشعري لاينفك عن الرمز ، بل يفني فيه ويتلاشى ، ويذوب كلاً الطرفين في الآخر ، أما في الرموز الأخرى فإن الصلة بين الرمز والمرموز إليه تكون قابلة للانفكاك ، ومن الممكن أن يعبر عن نفس المدلول برموز أخرى ، ونحن نجد بالفعل أن رموز المدلول الواحد في اللغات المختلفة تختلف من لغة إلى أخرى ، بل نجد في اللغة الواحدةبعض المدلولات يرمز إليها أكثر من رمز ، بينما في العملية الرمزية الشعرية لا يمكن أن نعبرعن المرموز إليه بغير هذا الرمز المعين ، بل إننا لا نستطع من الأساس أن نفصل بين ما هو رمز وما هو مرموز إليه . |
(87) الرمز الشعري إذن يبدأ من الواقع المادي المحسوس ليحول هذا الواقع إلى واقع نفسي وشعوري تجريدي يند عن التحديد الصرام فحين تريد شاعرة كناز الملائكة أن تعبر عن ذلك الإحساس الغريب والوديع بالحزن الذي اعتراها بعد وفاة أمها -التي كانت بها بمثابة صديقة- فإنها تلتقط رمزًا من الواقع الملموس المادي -وهو رمز الطفل- وتمضي تجرد هذ االمرز شيئًا فشيئًا على امتدا القصيدة لتحوله في النهايةإلى معنى تجردي خالص لا نستطيع أن نقول إنه أي شيء آخر غير ما قالته الشاعرة في القصيدة ، وإن كان هذا ل ايمنعنا من محاولة فهم الرمز دون ترجمته ، وفهم الرمز يتم عن طريق التقاط إيحاءاته واستيعابها ، على حين تعني ترجتمه تقديم مقابل دقيق له . تقول الشاعرة في هذ ه القصيدة(85): أفسحوا الدرب له ، للقاد م الصاف يالشعور للغلام المرهف السابح في بحر أريج ذي الجبين الأبيض السارق أسرار الثلوج إنه جاء إلينا عابرًا خصب المرور إنه أهدأ من ماء الغدير فاحذروا أن تجرحوه بالضجيج إنه ذاك الغلام الدائم الحزن الخجول ساكن الأمسية الغرقى بأحزان خفية والزوايا الغيهبيات السكون الشفقية أبدًا يجرحه النوح ، ويضينه العيول فليكن من صمتنا ظل ظليل يتلقاه ، وأحضان خفية *** وهو يحيا في الدموع الخرس في بعض العيون وله كوخ خفي ، شيد في عمق سحيق ضائع يعرفه الباكون في صمت عميق وسدى يبحث عنه الألم الخشن الرنين إنه يقتات أسرار السكون وأسى مختبئًا خلف العروق *** نحن هيأنا له حبًا ، وتقديسًا ونجوى وتهيأنا للقياه .. عيونًا ، وشفاها وسنهديه انفجار الأدمع العذبة سلوى وسنحبوه أسى أقوى . وأقوى وسنعطيه عيونًا ، وجباها *** إنه أجمل من أفراحنا ، من كل حب إنه زنبقة ، ألقى بها الموت علينا لم تزل دافئة ترعش في شوق يدينا وسنعطيها مكانًا عطرًا في كل قلب وشذى حزن عميق القعر خصب إنه منا ، وقد عاد إلينا ___________ (85) انظر Mircea Eliade :Images et symboles.p.16 |
(88) قد يشعر القارئ للوهلة الأولى أن الشاعرة تتحدث عن طفل حقيقي ، يتسم بالرهافة والوداعة ، ونصاعة الجبين والسريرة ، فأبيا ت المقاطع الأولى كلها لا تناقض هذا التصور ، ولكن القارئ لا يلبث أن يدرك –ابتداء من المقطع الثاني – أن هذ االطفل لم يعد هو الطفل الواقعي المادي ، وإنما ابتدأ يتخلى عن دلالته المادية ليتحول إلى معنى تجريدي،إلى نوع من الإحساس الغامض العميق والوديع بالحزن ، فالشاعرة لا تتحدث هنا عن مطلق الحزن ، وإنما عن حالة خاص ةمن الحزن ،أو عن تلك الحالة الغريبة التي يمتزج فيها الحزن بالطفل ليأخذ كل منهما من الآخر ويعطيه ،وليتفاعل كل منهما مع الآخر ، ومن خلال هذا التفاعل ينمو المعنى الرمزي في ا لقصيدة ،و على القارئ أن يتابع في إخلاص كيف يمتزج طرفا الرمز وكيف يتفاعلان . إن الحزن الذي تعبر عنه الشاعرة حزن وديع قرير ، ولكنه في الوقت نفسه حزن عميق وراسخ ، فهو حزن طفل مرهف ناصع ، ولكن هذا الحزن الطفل لا يسكن تلك الطبقة الخارجية من الإحساس ، وإنما هو يستقر في أعمق الأعماق في ذلك الصقع الغائر الغامض من أصقاع النفس الذي تختزن في كل ظلال الأسى والشجن ، والذي تتفنن الشاعرة في تصويره بكل عمقه ، وتنائيه وكل غرابته ، في أكثر من مقطع من مقاطع القصيدة ، فهو تارة" كوخ خفي شيد في عمق سحيق " لا تهتدي إليه إلا الأحاسيس الساكنة العميقة ، ولا يعرفه إلا الباكون في صمت عمق ، وهو تارة أخرى "امسية غرقى بأحزان خفية " وزوايا غيهبيات السكون شفقية"، ليس ثمة ما هو أخفى وأعمق من هذه الأمسية الغرقى بالأحزان الخفية اتي يسكنهاهذا الطفل ، حيث تزول الحدود بين الأشياء ، ويختلط الزمان بالمكان –الأمسية –مكانًا يسكنه هذا الحزن الطفل ، بكل ما تلقيه "الأمسية"من ظلال الحزن الشفيف الخفي ، وتقترن هذه الأمسية ، هذا المكان الغامض، بالزوايا الغيهبيات السكون لتزداد إيحاءات هذ االشجن الخفي الغامض الغريب رحابة وتعمقًا وتنوعًا. |
(89) وعلى هذا النحو تمضي الشاعرة في تطوير رمزها حريصة على إبراز بعدين من أبعاده ، وهما الوداعة والعمق ، ومحاولة أ، تعقد معه أواصر صداقة ومودة وألفى ، حيث تحنو عليه في حدب حفي ، وتدلله وتهش لمدقمه ، وعتتدعو الآخرين إلى مشاركتها حفاوتها بهذا القادم بتهيئة الجو الملائم له ، وعدم تنغيص هدوئه بالضجيج والعويل ، وستقبله بكل ما يستقبل به الأعزاء من حب واحتشاد ، بل إنها لتؤثره على كل عزيز-أليس هو طفلها المدلل الوديع؟!- فهو أجمل من الأفراح ومن كل حب ، وهو زنبقة نضيرة أهداها إليها الموت ، ومن ثم فستحتفظ بها دافئة في أعمق أعماقها . هكذا ينمو الالرمز ويتطور من خلال هذا التفاعل الخلاق بين طرفيه- الشحزن والطفل - ومن خلال هذه العلاقة المعقدة بينهما ، حيث نراهما يندمجان في بعض الأحيان ، ونرى أحدهما يبرز ليتوارى خلفه الآخر في أحيان أخرى بالتبادل ، وبحيث لا يتسغني بأي من الطرفين عن الآخر في فهم الرمز واستيعاب دلالاته وإيحاءاته ، وإدراك تلك الحالة النفسية الغامضة التي لا يمكن أ، يعبر عنها بغير ما عبرت الشاعرة به عنها ، وهذا معنى أن دلالة المرز الشعري دلالة داخلية غير قابلة للانفكاك ، ولكن ليس معنى أن الدلالة الإيحائية للرمز غير قابلة للانفكاك أن رمز عًا معينًا يرتبط بمدلول معين ارتباطًا مطلقًا ، وإلا لما أصبح رمزًا شعريًا ، فالرمز والمرموز إليه غير قابلين للانفكاك في إطار القصية الواحدة ، أما خارج هذه القصيدة فليس ثمة ارتباط بين الرمز والمرموز إليه ، بل إنه خارج القصيدة لا يكون ثمة رمز من الأساس . فالرمز مثلاً الذي رأينا كيف حولته ناز إلى مرز لتلك الحالة الخاصة من الحزن الشفيف الغامض ليس له أي معنى شعري خارج القصيدة لأن الشاعرة هي التي أكسبته دلالته الشعرية كرمز ، ومن ثم فهو خارج هذه القصيدة ليس أكثر من مجرد إمكانية لغوية غفل ، من الممكن أن يأتي شاعر آخر فيوظفه توظيفًا رمزيًا آخر ، ويكسبه دلالة رمزية أخرى ، وقد وجدنا بالفعل شعراء غير نازك يستخدمون رمز الطفل في التعبير عن جدالات نفسية ورؤى شعرية مختلفة ، فصلاح عبد الصبور مثلاث يستخدمه في قصيدتين رمزًا للحب ، بل رمزًا لحالتين مختلفتين من الحب ، الأولى حالة حب المحتضرالغارب وذلك في قصيدة "طفل " التي يقول في أولها: |
(90)
قولي ..أمات ؟! ___________________ جسيه ، جسي وجنتيه هذ االبريق ما زال ومض منه يفرش مقلتيه ومض الشعاع بعينه الهدباء ومضته الأخيرة ثم احترق هذا الصبي ابن السنين الداميا ت العاريات من الفرح هو فرحتي ن لا تلمسيه أسكنته صدري فنام وسدته قلبي الكسير وجعلت حائطه الدموع وأنرت من هدبي الشموع(86) (86) صلاح عبد الصبور : الناس في بلادي . ص100. |
(91) وعلى هذ االنحو يمضي الشاعر يزاوج بني الطفل وبين هذ الحب المحتضر الغارب بكل ما كان الشاعر يعلقه عليه من آمال ، وبكل ما كانت يحتله في نفسه من مكانة ، ومن ثم فإنه يدفته في صدره في صمت حزين ، بعدمحاولة مخفقة لإيهام نفسه بأنه لا يزال حيًا ، وتتجسد هذه المحاولة في تساؤله الذاهل :"قولي ..أمات؟!"،ثمفي ذلك الوهم الكاذب الذي يعلل به نفسه من أن "هذا البريق ما زال اومض منه يفرش مقلتيه" ولكن الحقيقة ألأليمة كانت أنوضح من أن يستطيع تجاهلها ، ومن ثم فإنه يخضع للواقع ، ويدفن هذا الطفل الحب . أما القصيدة الثانية فإن الشاعر يرمز بالطفل فيها مرة أخرى إلى هذا الحب ، وقد عادج بعد أن غاب عن البيت سنينا ، وقد سمى هذه القصيدة "العائد " (87): طفلنا الأول قد عاد إلينا ___________________بعد أن غاب عن البيت سنينا عاد خجلان ، حييًا ، وحزينا فتلمسنا بكف نبضت فيها عروق الرعشة الأولى الجبينا وتمزقنا عليه وبكى لما بكينا في يديه (87) ديوان صلاح عبد الصبور . دار العودة . بيروت 1972.ص133 |
(92) وهكذا يحمل الرمز في هذه القصيد مدلولاً رمزيًا جديدًا ، ويوحي بتلك الفرحة الغامرة التي أحسها الحبيبان الأبوان بعودة طفلهما الغائب الحب ، وذلك الحدب اللاهف الذي استقبلاه به . الرمز إذًا يكتسب في كل قصيدة مدلولاص جديدًا ، ولا يتجمد عند مدلول واحد محدد ، والارتباط الحتمي بين الرموز ومرموزاتها لا يكون إلا في إطار العمل المعين ، وأخطر ما يهدد كيان الرمز الشعري هو تجميده في مدلول معين يدور في فلكه ، لأن الرمز يتحول حينئذ إلى رمز لغوي عادي ، ويفقد إيحاءاته البكر اللامحدودة ويفقد من ثم ثيمته الفنية كرمز ، التي تكمن في أنه لا يعبر عن شيء معين محدد وإنما يعبر عما لا يمكن التعبير عنه بوسائل اللغة العادي . وللأسف فإن هذه الظاهرة شاعت بشكل واضح في الشعري العربي الحديث ، فما إن يستخدم شاعر من الشعراء رمزًا معينًا بمدلول خاص ويقيض لهذ االرمز قدر من التوفيق والنجاح حتى يتهافت الشعراء على هذا الرمز يستخدمونه بنفس المدلول حتى يبتذلوه ، ويستندوا طاقته الإيحائية ويحولوه إلى رمز لغوي عادي . على أن هاك بالمقابل خطرًا آخر يهدد كيان الرمز الشعري بنفس القدر وه والمغالاة في إبهام الرمز حتى يستغلق مدلوله ، وحتى لا يكاد يوحي بشيء عل الإطلاق ، أو يوحي بسراب مبهم لا يقود إلى شيء ،وهذه الظاهرة بدورها لست أقل شيوعًا في شعرنا الحديث من ظاهرة تجميد الرمز عند مدلول واحد . |
(93) 2-الدلالة المزدوجة للرمز : الرمز الشعري يحمل إلى جانب دلالته الرمزية التي يوحي بها إيحاء دلالته الواقعية المادية التي لا يتخلى عنها كلية ،بل التي لا يتخلى عنها إطلاقًا في بعض الأحيان ، والمعنى الرمزي في أي رمز يتوالد من خلال التفاعل بين هاتين الدلالتين وقد لا يتولد المعنى الرمزي إلا من خلال تجرد الرمز عن جانب كبير من مدلوله الواقعي المادي ففي قصيدة "أغنية الحزن" مثلاً لا يبدأ المعنى الرمزي إلا في اللاحظة التي يكف فيها الطفل عن أن يكون مجرد طفل واقعي ، ويبدأ يتخلى عن كثير من ملامحه الواقعية ويتحول إلى معنى تجريدي غير محدد يسكن (الأمسية ) الغرقى بأحزان خفية ، والزوايا الغيبهبيات السكون" إلى غير ذلك من المعالم التي أخذ الطفل من خلالها يتجرد من جانب كبير من دلالته المادية التي ظلت مع ذلك تفاعل مع إيحاءاته التجريدية ، ومن خلال هذا التفاعل ينمو معنى الرمز ويتطور على امتداد القصيدة. وفي بعض الأحيان لا يتجرد الرمز عن دلالته الواقعية المادية على الإطلاق ، وإنما يشف عن دلالته الإيحائية من خلال هذه الدلالة الواقعية ذاتها ، وبهذا يصبح للرمز مستويان من الدلالة : مستوى الدلالة الواقعية المادية ومستوى الدلالة الرمزية التي يشف عنها الرمز من خلال دلالته الواقعية المادية ؛فحين نقرأ قصيدة مثل قصيدة "سلة ليمون "(88) للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ندرك أن"سلة الليمون " هذه ليست سوى رمز يشف عن مدلوله الرمزي من خلال دلالته الواقعية المادية ،يقول الشاعر في هذه القصيدة : سلة ليمون تحت شعاع الشمس المسنون والولد ينادي بالصوت المحزن "عشرون بقرش بالقرش الواحد عشرون " *** ______________ (88) ديوان : مدينة بلا قلب .ص116 |
(94) نحي في القراءة الأولى أن الشاعر يتحدث بالفعل عن ذلك الليمون الذي كان يعيش على أشجاره نضيرًا عزيزًا في ظلال القرية الحانية ، حتى امتدت إليه يد قاسية فقطفته من أشجاره ونقلته عنوة ، وفي رحلة قاسية إلى :مدينة بلا قلب "حيث قاسى الضياع والهوان ، تحت أشعة شمسها المسنونة التي لا تحرم ، والتي تجفف نداه ونضارته فيذوي دون أن يشمه أحد في شوارع المدينة المزدحمات المختنقات .سلة ليمون غادرت القرية في الفجر كانت حتى هذا الوقت خضراء منداة بالطل سابحة في أمواج الظل كانت في غفوتها الخضراء عروش الطير أواه .. من روعها ؟! أي يد جاءت قطفتها هذا الفجر حملتها في غبش الإصباح لشوارع مختنقات مزدحمات أقدام لا تتوقف ، سيارات تمشي بحري الرنزين ؟! مسكن ! لا أحد يشمك يا ليمون والشمس تجفف طلك يا ليمون |
(95) ولكننا بقراءة أخرى أكثر إمعانًا وإخلاصًا لا نلبث أن ندرك أن وراء هذه الدلالة المادية الواقعية دلالة أخرى رمزية تشف عنها القصيدة من خلال هذه الدلالة الواقعية ذاتها ، التي لا تتجرد عنها القصيدة إطلاقًا ، وتبدو لنا هذه الدلالة الرمزية بجلاء حين نقرأ القصيدة في إطار تجربة الشاعر في الديوان كله ، وهي تجربة الشاعر الريفي مع المدينة ، تجربة الإنسان الريفي المرهف الذي جاء إلى المدينة حاملاً في أعماقه كل براءة الفطرية الريفية وكل نقائها وصفائها ، فتصدمه المدينة بماديتها وجفافها وقسوتها ، ويفتقد فيها كل ما اعتاده في الريف من دفء العواطف وصدقها وعفويتها ، ومن عمق التعاطف وقوة الوشائح بين الناس ،فهذه المدينة "مدينة بلا قلب "- وهذا هو العنوان الذي اختاره الشاعر للديوان-تطحن الغرباء في زحام صخبها وضجيجها ،وتحرقهم بهجيرها اللافح . حين نقرأ قصيدة سلة ليمون في ضوء تلك التجربة العامة في الديوان ، واضعين في الاعتبار تلك القرائن الخفية التي بثها الشاعر في القصيدة لتقودنا إلى تلك الدلالة الرمزية الخفية – من نحو ذلك التعاطف الغريب- الشاعر في القصيدة لتقودنا إلى تلك الدلالة الرمزية الخفية -من نحو ذلك التعاطف الغريب الذي يبديه الشاعر نحو الليمون ، وغير ذلك من القرائن التي سنشير إليها عند تحليلنا للمعنى الرمزي في القصيدة –نضع أيدينا على المدلول الرمزي للقصيدة ، فالليمون الذي فقد تحت أشعة شمس الميدنة المسنونة ما كان ينعم به في ظل القرية الوارف من نضارة واخضرار هو الشاعر ذاته ، الذي اصطلى بحر الميدنة وهجيرها وتجهمها وقسوتها ، بعد ما كان ينعم به من صفاء وظل حان وريف من التعاطف والود في القرية ، ولنذكر –في مواجهة شعاع الشمس المسنون الذي يجفف نضارة الليمون ونداوته-صرخة الشاعر الملتاعة ضد هجير المدينة في قصيدة أخرى: |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.