(146) ولقد تأثر بالفكرة الموسيقية في هذه القصيدة كثير من الشعراء ، ومن الذين تأثروا بها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في قصيدته "حوارية العار"(137) التي تتحاور فيها مجموعة من الأصوات ، هي صوت "السلطان" وصوت"السادن" وصوت "العبيد" وصوت "أوزيريس" وصوت "الشاعر " ، وتدور القصيدة حول ذلك الصراع الأبدي بين السلطان المستبد وعملائه من ناحية ، وبين قوى المقاومة والصمود من ناحية أخرى ؛السلطان بكل ما يملكه من إمكانيات الترغيب والترهيب ، وقوى المقاومة بكل ما تمتلكه من قدرة على البذل ، والتضحية والفداء ، وإذن فعلى الرغم من تعدد الأصوات في القصيدة فإن الصراع أساسًا يقوم بين طرفين أساسيين ، يتمثل الطرف الأول في السلطان وعملائه-ممثلين في "السادن"- ويتمثل الطرف الثاني في قوى المقاومة ممثلين في "أوزيريس" من ناحية ، "والشاعر " من ناحية أخرى -ولعل الشاعر يرمز بأوزوريس إلى عنصر الفداء والتضحية في قوى المقاومة ، فأوزوريس في الميثولوجيا المصرية هوي رمز الخير الذي صرعه رمز الشر "ست" وبعثر أشلاءه في أرجاء مصر ، ولعله يرمز في جانب من جوانبه إلى القيادات الفكرية والروحية للمقاومة ، أما "الشاعر " فهو رمز لعنصر الصمود والإصرار في قوى المقاومة ،ولعله أيضًا في بعض جوانبه يعبر عن صوت جماهير المقاومة ، أما "العبيد " فهم رمز الطبقة المسحوقة التي لا تفعل أكثر من ترديد صوت السلطان وعملائه . ولقد استخدم الشاعر الشكل الحر في التعبير عن كل الأصوات ما عدا صوت "الشاعر" حيث كتبه بالشكل الموروث بكل ما فيه من علو نبرة وفخامة إيقاع ، وكأنما يريد أن يجعل نبرة صوته أعلى من كل النبرات ، وبؤكد من خلال ارتفاعها إصرار المقاومة على الاستمرار رغم كل التضحيات وكل البذل ومن ثم فإنه يعبر عن صوت "أوزوربس"نفسه بالشكل الحر ، لأنه يريد أن يجعل صوت الصمود-الذي يرمز إليه الشاعر-أعلى من آلام التضحية -التي يرمز إليها أوزيريس-ولأن صوت القيادات الروحية والفكرية للمقاومة- التي يرمز إليها أوزيريس أيضًا في بعض جوانبه-يكون عادة أهدًا نبرة من صوت جماهير المقاومة، ممثلة في الشاعر . ________________________________ (134):سميح القاسم :ديوان :"دمي على كفي " دار العودة ، بيروت (بدون تاريخ)ص102 |
(147) وتبدأ القصيدة -بعد افتتاحية قصيرة تقدم بإيجاز شديد المسرح الذي يجري عليه الصراع بين الأصوات المختلفة -بصوت "السادن"العميل ، وهو يزين لسيده السلطان الاستبداد بالرعية والإغداق على أتباعه والعصف بخصومه: مولاي ..يمتثل الجموع الخزي والدمع والدموع والعبد ، عن كرم، يبيح السيد المعبود أرضه ويبيحه إن شاء عرضه هذي صكوك الذل وقعها القطيع وتهافت الخصيان ، فامنحهم فتات المائدة .. .. .. .. .. .. .. .. أمطر على الأتباع ياقوتًا ، ونيرانًا على زمرالفلول الجاحدة هذا الزمان كما تشاء ، ورهن شهوتك الفلك والخصب في كفيك يا تموزنا . .والمجد لك وهكذا يقسم "السادن" القوى إلى ثلاث فئات : فئة "الأتباع" الذين يطلب من السلطان أن يمطر عليهم ياقوتًا ، وفئة الخصوم من "زمر الفلول الجاحدة" وهؤلاء يغري بهم السلطان ويطلب منه أن يمطر عليه منيرانًا ، وأخيرًا فئة العبيد من الجماهير المسحوقة التي توقع صكوك الذل للسطان ، وهؤلاء ليس لهم لدى السلطان سوى "فتات المائدة" يطلب من السلطان أن يمنحه لهم . |
(148) وعقب صوت "العبيد" يأتي صوت "أوزيريس" هدائًا ولكن في صلابة ، معبرًا عن تطلعات الجماهير إلى الحرية وأملهم الباقي فيها ، مهما كانت التضحيات والآلام : عبر القرون الدامسات ، وعبر طوفان الدماء عبر المذلة ، والخيانة ، والشقاء عبر الكوارث والمخاطر .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. عدنا ،وملء قلوبنا وهج النبوءة والفداء عدنا ، وملء شفاهنا تسبحة الأفق المكبل للضياء وبعد صوت أوزيريس-الذي يعبر عن بعد التضحية والفداء في المقاومة-يأتي صوت "الشاعر " الذي يعبر عن بعد الصمود والإصرار -هادرًا ، وحاسمًا، وعالي النبرة ، يؤكد عدم الخضوع إلى لداعي الحرية وندائها ، ويصوغ الشاعر هذا الصوت في شكل موسيقي كلاسيكي بارز الإيقاع صارمه : غير اللواء الحر لا نترسم وبغير صك جراحنا لا نقسم ولغير قدس الشعب لسنا ننحني وبغير وحي الشعب لا نتكلم فلتشرب الرايات نخب جراحنا كأسًا يفيض على جوانبها الدم |
(149) ويفاجأ السلطان بهذا الصوت الغريب على فنائه ، فيعلن : باسمي ..أعدوا النطع للصوت الغريب على فنائي وليصلب المتمردون على مشيئتي الوحيدة ولتحشد الأسلاك ، والجوع المذل ، وعدة الموت المريدة |
(150) ويأتي صوت "السادن" العميل من جديد ، مرددًا أصداء صوت مولاه السلطان ، مشجعًا له على الاستمرار في طريق التنكيل بالخصوم حتى تعنو جباههم لسلطانه ، ويضع في النهاية نفسه في خدمة السلطان ، أداة من أدوات بطشه بمعارضيه : مولاي .. مولاي المطاع .. .. .. .. .. .. .. .. ..الآبقون التفاهون فم يصيح .. ولا ذراع ألب عليهم حسرة المنفى ، وأوباء السجون واجعل ضماد جراحهم ملحًا ، وكبريتًا وطين وإذا أمرت .. فإني سوط ، ومقصلة ، وسيف ويعقب هذا الصوت العميل صوت "العبيد " مرة أخرى ، مرددًا عبارته الخانعة المسكينة "ما شئت لك" ليأتي بعده صوت "أوزيريس" بدعوته النبيلة إلى الحرية ، وإلى مقاومة الاستبداد مهما كان الثمن ، ومهما كانت التضحيات ، وبأن هذه هي سبيل المناضلين التي لا سبيل لهم سواها ، وهذه هي قمتهم الشامخة التي يحلقون فوقها ناظرين في إشفاق إلى الذين يعيشون في مستنقعات صمتهم وخنوعهم أبأس حياة : مستنقعات الصمت للديدان .. فليقنع بصمته من باع للشيطان جذوته ، وخان عهود بيته مستنقعات الصمت للديدان .. والقمم العصية للشمس ، والبصر الجسور فتهيئي للقائنا يا واحة الله القصية عدنا ..رجال الأرض ، إن شحت وإن كانت سخية .. .. .. .. .. .. .. .. .. |
(151)
ويختتم القاسم قصيدته بصوت "الشاعر " بنغمته الهادرة بكل ما فيها من إصرار وصمود ،ليؤكد أن كلمته هي الكلمة الأخيرة في الحوار ، وأن صوته سوف يظل عاليًا وصامدًا رغم كل التضحيات الفادحة ، مرددًا أغنيته الحرة الخالدة: قسمًا بأطلال لنا تتكلم ُ وبصحوة تبني الزمان وتهدمُ قسمًا بمن أهووا ،وآخر شهقة منهم بميدان الفداء : تقدموا قسمًا بأعراس الجراح وفجرها غير اللواء الحر ..لا تترسمُ وهكذا استطاع الشاعر أن يستغل هذا التنوع الموسيقي استغلالاً إيحائيًا بارعًا ، فيعطي كل صوت من الأصوات نغمته الموسيقية الملائمة . وثمة نماذج أخرى كثيرة في شعرنا المعاصر استطاعت أن تستغل هذا المزج بين الشكلين في التعبير عن الأبعاد المختلفة للرؤية الشعرية في القصيدة الواحدة . 6- التدوير في القصيدة الحرة : "التدوير" مصطلح عروضي قديم أخذ في القصيدة الحرة مفهومًا حديثًا ، فالتدوير في ا لعروش الموروث يعني اتصال شطري البيت ، واشتراكاهما في كلمة واحدة ، أو بعبارة أخرى يعني انقسام كلمة واحدة بين الشطرين بحيث ينتهي الشطر الأول في صدرها ويبدأ الثاني بعجزها ، فحين نقرأ الأبيات التالية من سينية البحتري التي يصف فيها صورة معركة "أنطاكية" بين الفرس والروم المرسومة في إيوان كسرى : وإذا ما رأيت صورة أنطا كية ارتعت بين روم وفرسِ والمنايا موائل وأنو شرو ان يزجي الصفوف تحت الدرفس ِ .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. تصف العين أنهم جد أحيا ء لهم بينهم إشارة خرس ِ |
(152) يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقراهم يدي بلمس ِ(135) نجد الأبيات الثلاثة الأولى مدورة ، بمعنى أن نهاية الشطر الأول في كل منها لا تصادف نهاية كلمة ، وإنما تأتي في وسط الكلمة ليبدأ الشطر الثاني ببقيتها ، وهكذا يتصل الشطران ،فكلمة "أنطاكية" في البيت الأول ، و"أنوشروان" في البيت الثاني ، و"أحياء" في اليت الثالث مشتركة بين الشطرين ، ويتضح لنا هذا حين نحلل هذه الأبيات عروضيًا : وإذا ما \رأيت صو\رة أنطا كية ارت\ بين رو\ م وفرس فعلاتن \ متفعلن \فعلاتن فاعلاتن\متفعلن \ فاعلاتـــنالقصيدة من بحر "الخفيف" وقد انقسمت كلمة "أنطاكية" بين شطري البيت ، فختم صدرها "أنطا" الشطر الأول ، وبدأالشطر الثاني بعجزها "كية" وهكذا الشأن في البيتين الأخيرين ، وفي كل الأبيات المدورة . أما القصيدة الحرة فإن التدوير بهذا المفهوم لا يمكن أن يرد فيها ، وذلك لأن البيت الحر لا يتألف من شطرين حت يتصل ثانيهما بأولهما وتنقسم بينهما الكلمة ، ولكن مصطلح "التدوير" أصبح يطلق قي القصيدة الحرة على ظاهرة شاعت شيوعًا كبيرًا في المرحلة الأخيرة ، وهذه الظاهرة هي اتصال أبيات القصيدة بعضها ببعض ، حتى تصبح القصيدة بيتًا واحدًا ، أو مجموعة محدودة من الأبيات المفرطة الطول . وصحيح أن البيت الحر ليس له طول محدد ليمكن القول إن هذا البيت أو ذاك تجاوز هذا الطول المحدد ، ولكن البيت الذي يزيد طوله في العادة بصورة غير مألوفة عن أطول صيغ شكله الموروث يعتبر بيتًا مدورًا ، فالبيت المدور في وزن المتقارب مثلاً هو الذي يتجاوز طول ثماني تفعيلات بشكل واضح ، وإن كان التدوير عادة في القصيدة الحرة لا يطلق في العادة إلا على القصيدة التي تطول أبياتها بشكل غير مألوف ، حتى يصبح البيت وكأنه مجموعة من الأبيات المتصل ببعضها البعض . _____________________ (135) : ديوان البحتري.تحقيق حسن كامل الصيرفي .المجلد الثاني .دار المعارف بمصر 1963 ص 1156،1157. وأنطاكية : بلد بالشام دارت فيه معركةبين كسرى أنو شروان ملك الفرس ويوستينيانوس إمبراطور الروم .الدرفس . العلم الكبير |
(153) بل إن بعض القصائد الحرة في المرحلة الأخيرة قد أصبحت بيتًا واحدًا متصلاً لا ينتهي -عروضيًا -إلا مع نهاية القصيدة ، ولا يشتمل على أية وقفات عروضية يقف عندها القارئ ليلتقط أنفاسه ، حين نقرأ مثلاً أولى قصائد ديوان "زيادة السيدة السومرية"(136) للشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر وهي قصيدة "الإقامة على الأرض" لا نتوقف -عروضيًا- إلا مع آخر تفعيلة فيها ، يقول الشاعر في بداية هذه القصيدة :بمقبرة خلف برلين يرقد طفل من النخل قيل : استراح بن جودة ، هل يذكر السرو ، منحنيًا فوق قبر ابن جودة ، طفلين في النخل يحتطبان؟ اهدئي عند جرفيك أيتها الموجة ، الصبية الشاحبون المهازيل في الريح والبرق ينتظرون التي وجهها فضة، في مقاه مقاعدها حشب أو حصير قرأنا الجرائد والنسوة السافرات ، اهدئي عند جرفك أيتها الموجة ..إلخ وهكذا تستمر الموسيقى متدفقة بدون توقف إلى نهاية القصيدة وبدون أية وقفات عروضية يستريح القارئ عندها . والإفراط في استخدام التدوير في القصيدة الحرة -زيادة على كونه يرهق القارئ الذي يركن في العادة إلى وجود وقفات موسيقية في نهاية الأبيات يلتقط عندها أنفاسه -يضعف الإيقاع العام في القصيدة ، لأنه يقضي على بعض عناصر هذا الإيقاع المتمثلة في الوقفات الموسيقية عند نهاية كل بيت ، والقوافي المرتبطة بهذه الوقفات، فمعظم القصائد المدورة مفتقرة إلى عنصر القافية لأنها تتألف من بيت واحد ، والقافية تتطلب تعدد الأبيات . _____________________________________ (136) : حسب الشيخ جعفر . زيارة السيدة السومرية.منشورات وزارة الإعلام العراقية .بغداد1974 ص 7 |
(154) ولكن بعض الشعراء يحاولون تعويض هذه الجوانب عن طريق تكثيف الموسيقى الداخلية وإثرائها من ناحية ، ثم عن طريق بعض القوافي الداخلية أيضًا التي لا يمكن اعتبارها نهايات أبيات ، ولكنها تتيح للقارئ أن يقف عندها لالتقاط أنفاسه من ناحية أخرى . وللشاعر أمل دنقل محاولات جيدة في هذ االمجال ، تعرفنا على بعضها في قصيدة "صلاة" (137) حيث كثف الموسيقى الداخلية في البيت المدور عن طريق استخدام مجموعة من الأصوات والألفاظ المتشابهة التي تكثف الجو الموسيقي وتثري الإيقاع وتحقق لونًا من التقفية الداخلية في إطار البيت الواحد . ومن محاولاته البارعة في هذا المضمار قصيدته "خاتمة" (138) ، وهي قصيدة مدورة من بحر الرمل مؤلفة من ثلاثة أبيات فقط يتمد أولها فيتجاوز طوله الأربعين تفعيلة ، أي ما يساوي سبعة أبيات موصولة من أطول صيغ الشكل الموسيقي الموروث للرمل . ولكن الشاعر استطاع أن يكسر من حدة انثيال الموسيقى في البيت بوسيلة فنية بارعة حققت مجموعة من الأهداف الفنية ، وهذه الوسيلة عبارة عن نوع من التقفية الداخلية التي استطاعت أن تكسر حدة انثيال الموسيقى بوفقات موسيقية في إطار البيت الواحد ، واستطاعت أيضًاأن تثري الإيقاع وتثري الجو الموسيقي ، واستطاعت أخيرًا أن تنوع الإيقاع في إطار الوزن الواحد ، لأن القوافي الداخلية حولت الإياقع في بعض الأبيات من وزن الرمل -الذي وحدة إيقاعه "فاعلاتن" إلى وزن الهزج - شريك الرمل في دائرته العروضية "المجتلب" ، ووحدة إيقاع الهزج "مفاعيلن" وهي مقلوبة وحدة الإيقاع للرمل (فاعلاتن- لن مفاعي) -حيث كانت القافية الداخلية تبتر التفعيلة "فاعلاتن" إلى شطرين ، يختم أحدهما "فا" بيتًا من (الأبيات الداخلية )وتبدًا بقيتها "علاتن" بيتًا آخر ذا إيقاع هزجي جديد . ولنقرأ معا جزءًا من هذا البيت الطويل ، الذي كتبه الشاعر على عدة سطور بطريقة تبرز تنوع الإيقاع فيه ، وسنلتزم كتابة الشعر ولكن واضعين في اعتبارنا أن هذه السطور كلها تؤلف بيتًا واحدًا ، يقول الشاعر في مطلع هذا البيت : ____________________ (137): انظرهذا الكتاب ص 50، 51 (138) :ديوان "العهد الآتي".ص 93 |
(155) .إلخ ؟آه .. من يوقف في رأسي الطواحين ؟ ومن ينزع من قلبي السكاكين ؟ ومن يقتل أطفالي المساكين ؟ لئلا يصبحوا في الشقق الحمراء خدامين مأبونين مأجورين من يقتل أطفالي المساكين ؟ لئلا يصبحوا في الغد شحاذين يستجدون أصحاب الدكاكين وأبواب المرابين .. . وهذه السطور كلها جزء من البيت الأول ، السطر الأول يبدأ بالإيقاع الأساسي للقصيدة وهو بحر الرمل ، على النحو التالي : آه .. من \يوقف في ر\ أسي الطواحيـ\ــن ؟ فاعلاتن \ فعلاتن \فاعلاتن \فــ بينما تحول السطر الثاني -الذي بدأ ببقية التفعيلة"فعلاتن" إلى إيقاع هزجي ، على النحو التالي : ومن ينز\ ع من قلبي السـ\ــكاكين ؟ مفاعيلن\ مفاعيلن\ مفاعيل |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.