(56) لقد كان بيان الوظيفة التعبيرية للصورة من أول ما اهتم به رواد التجديد الأوائل في أدبنا الحديث من سمات الحداثة في القصيدة ، ويعتبر الأستاذ عباس العقاد أشد هؤلاء الرواد اهتمامًا بهذه القضية، وتأثيرًا في هذا المجال حيث ألح على ضرورة تبعير الصورة الشعرية عن حقيقة نفسية أو شعورية وعدم اقتصارها على تسجيل التشابه الحسي ، وكأن من المآخذ التي أخذها على شوقي بشدة ما جاء في شعره من صور تشبيهية حسية ، لا تحمل أكثر من التشابه المادي بين أطرافها، ففي نقده لقصيدة شوقي في رثاء محمد فريد ما إن يصل إلى تشبيه شوقي للهلال بالمنجل في قوله: تطلع الشمس حيث تطلع صبحًا وتنحى لمنجل حصاد تلك حمراء في السما ، وهذا أعوج النصل من مراس الجلاد حتى ينتهز الفرصة لينحي باللائمة على أولئك الذين "جعلوا التشبيه غاية فصرفوا إليه همهم ولم يتوسلوا به إلى جلاء معنى أو تقريب صورة ،ثم تمادو فأجبوا على الناظم أن يلصق بالمشبه كل صفات المشبه به ، كأن الأشياء لفقدت علاقاتها الطبيعية ، وكأن الناس فقدوا قدرة الإحساس بها على ظواهرها ، نظروا إلى الهلال فإذا هو أعوج معقوف ،فطلبوا به شبهًا وهو أغننى المنظورات عن الوصف الحسي .. وإن كان لابد من التشبيه فلنشبه ما يبثة في نفوسنا من حنين أو وحشة أو سكون أو ذكرى ، ففي هذا لا في رؤية الشكل تختلف النفوس والخواطر"(53) ولا يلبث أن يسوق إلى شوقي هذا الكلام العظيم الذي أصبح أصلاً من الأصول المتعلقة بهذه القضية في نقدنا الأدبي الحديث ، والذي لا يستطيع دارس لهذه القضية أن يغفله ، وهو قوله:"اعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها ، وأن ليست مزية الشاعر أن يقولو لك عن الشيء ماذا يشبه ، وإنما مزيته أن يقول ما هو ، ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به . وليس هم الناس من القصيدة أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع ،وإنما همهم أن يتعاطفوا ويودع أحسّهم وأطبعهم نفس أإخونه زبدة ما رآه وسمعه ، وخلاصة ما استطابه أو كرهه. ___________ (53)الديوان 1\17-18 |
(57) وإذا كان كذلك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد . ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك ، وماابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان ، فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها ، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس ، وبقوة الشعور وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه ..وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره ، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء ، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية.(54) وكلام العقاد هذا وإن كان منصبًا في الأصل على الصورة التشبيهية بالذات ، فإنه يصلح أساسًا جيدًا لبيان قيمة الصورة الشعرية ووظيفتها في القصيدة الحديثة ، أيًا كان نوعها أو كانت العلاقة بين أطرافها .وعلى أية حال فإن قيمة الصورة في القصيدة العربية الحديثة قد أصبحت منذ ذلك الحين تقاس بمدى طاقاتها الإيحائية ، ومدى الوظيفة التي تؤديها في توصيل أبعاد الرؤية الشعرية للشاعر ، والتعبير عن واقعه النفسي والشعوري الذي لا يمكن التعبير عنه بواسطة الأسلوب التقريري المباشر . 1- تشكيل الصورة الشعرية : يقوم الخيال بالدور الأساسي في تشكيل الصورة الشعرية وصياغتها ،فهو الذي يلتقط عناصرها من الواقع المادي الحسي ، وهو الذي يعيد التأليف بين هذه العناصر والمكونات لتصبح صورة للعالم الشعري الخاص بالشاعر بكل ما فيه من مكنات شعورية ونفسية وفكرية. ________ (54) السابق ص20،21 |
(58) فالشاعر وإن كان يبدأ من الواقع المادي المحسوس ليستمد منه معظم عناصر صوره الشعرية ومكوناتها ، فإنه لا ينقل هذا الواقع نقلاً حرفيًا ، وإنما يبدأ منه ليتخطاه ويتجاوزه، ويحوله إلى "واقع شعري" إذا صح هذا التعبير ، واقع شعري لا تمثل العناصر المادية المحسوسة فيه سوى المادة الغفل التي يشكلها الشاعر تشكيلاً جديدًا وفق مقتضيات رؤيته الشعرية الخاصة ، ومن ثم فإنه لا يجزو محاكمة هذا" الواقع الشعري " المتمثل في اصورة الشعرية للتحليل المنطقي العقلي ، لأن هذه الصورة ليست مبنية على إقامة علاقات منطقية مفهومة بين الأشياء يمكن إدراكها بالعقل ، بل إنها غالبًا ما تقوم على تحطيم العلاقات المادية والمنطقية بين عناصرها ومكوناتها لتبدع بينها علاقات جديدة ، فإذا كان منطق الواقع المادي ومنطق العقل كلاهما يرفضان أن يكون للسأن أنفاس ، أو أن يكون للبلى يدان ، أو يكون للزمن أقدام ، فإن منطق العالم الشعري وقوانينه لا ترفض هذه الأشياءعلى نحو ما رأينا في قصيدة"العودة" لناجي . ويطيب لبعض شعرائنا المحديثن –ولعلهم في ذلك متأثرون برامبو في اكتشاف ما سماه "كيمياء الكلمة أو الفعل"- أن يمثلوا عملية الإبداع الشعري أو تشكيل الصورة الشعرية- عن طريق المزج بين العنصار والأشياء المختلفة لإنتاج مركب جديد مختلف في طبيعته وخواصه عن العناصر الأولية التي يتألف منها –بالعملية الكيميائية(55)، من حيث أن كلتا العمليتين تغير شكل الأشياء وطبيعتها وخواصها. -------------------------- (55) انظر القصيدة الطويلة التي تحمل عنوان "زهرة الكيمياء"للشاعر أدونيس(علي أحمد سعيد) في ديوان "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل" المكتبة المصرية.بيروت 1965 ص9. |
(59) وبمقدار نشاط الخيال وإيجابيتهفي التأليف بين عناصر الصورة ، واكتشاف العلاقات المستكنة بين العناصر ترتفع القيمة الفنية للصورة الشعرية ،وتتضاعف إيحاءاتها. والشاعر الحديث يلجأ إلى مجموعة من الوسائل الفنية لتشكيل صورتها الشعرية على نحو يكسبها قيمة إيحائية وتعبيرية أغنى ، تجعلها أقدر على الإيحاء بتلك العوالم النفسية الرحيبة التي يحاول الشاعر أن يعبر عنها في قصيدته ن ومن هذه الوسائل التي يلجأ إليها الشاعر الحديث لتشكيل صورته من مجموعة من العناصر والمكونا ت المتباعدة في منطق الحس والعقل. التشخيص : والتشخيص وسيلة فنية قديمة ،عرفها شعرنا العربي ،و الشعر العالمي ، منذ أقدم عصوره .وهذه الوسيلة تقوم على أساس تشخيص المعاني المجردة ومظاهر الطبيعة الجامدة في صورة كائنات تحية تحس وتتحرك وتنبض بالحياة ، وقد رأينا فيما سبق كيف شخص امرؤ القيس الليل ، وكيف شخص تأبط شرًا المنايا وفي صورة كائنات حية ،"وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة عامة في الأدب العاطفي في مختلف العصور والأمم ، قد أكثر الرومانتيكيون منها وكان طابعها في أدبهم أصدق وأكثر تنوعًا وأوسع مدى ، ولذا عد ذلك خاصة من خصائصهم ،وذلك لرهف إحساسهم ورقة مشاعرهم.(56) حيث كان من نزعات الرومانتيكيين الواضحة الهرب إلى الطبيعة ، والامتزاج بها فرارًا من فساد المجتمع وما يموج به من ظلم وشرور ، وكثيرًا ما كانوا يجعلون الطبيعة تشاركهم عواطفهم الخاصة ، فيسقطون عليها أحاسيسهم ، ويشخصون مظاهرها المختلفة ، ومن ثم قامت الصورة التشخيصية بدور بارز في الشعر الرومانتيكي وشاعت عن طريق التأثر بالرومانتيكية في شعرنا العربي المعاصر ، ولم تعد الصورة التشخيصية في مجر لمحات متناثرة ، وإنما أصبح التشخيص أساسًا من الأسس التي يصوغ عن طريقها الشاعر العربي الحديث صوره ، وقد رأينا كيف اعتمد الشاعر إبراهيم ناجي ،اعتمادًا أساسيًا على هذه الوسيلة الفنية في تشكيل الكثير من صوره الشعرية في قصيدة "العودة" التي شخص فيها الكثير من المعاني والأحاسيس التجريدية في صورة كائنات تنبض بالحياة ، كما رأينا قبل ذلك كيف لجأت شاعرة أخرى ذات نزعة رومانتيكية ، وهي الشاعرة نازك الملائكة ،إلى هذه الوسيلة في قصيدتها "النهر العاشق" ،حيث كان التشخيص فيها الوسيلة الأساسية في تشكيل الصورة الشعرية ، بل في بناء القصيدة كلها ،حيث شخصت النهر –الذي هو ظاهرة من ظواهر الطبيعة – في صورة كائن حي ، وكانت هذه الصورة الأساسية في القصيدة أإطارًا عامًا تتعانق خلاله مجموتعة من الصورة الجزئية التشخيصية التي تدعم التشخيص في هذه الصورة الكلية وتقويه. _____________ (56) د.محمد غنيمي هلال : الرومانتيكية .مكتبة نهضة مصر.القاهرة .ص140 وانظر له أيضًا :النقد الأدبي الحديث ، ص421،422 |
(60) فرأينا النهر "يعدو" ورأيناه "راكضًا" وباسطًا في لمعة الفجر ذراعه..إلى الجماهير المفزوعة المرتاعة ، ورأينا له "قدمين" و "يدين" و "شفتين" ..إلى آخر هذه الصورة التشخيصية الجزئية التي تدعم الصورة الأساسية الكلية. وثمة قصائد كثيرة في الشعر العربي الحديث تقوم كلها على أساس التشخيص ، سواء في ذلك تشخيص مظاهر الطبيعة الجامدة ، أو تشخيص المعاني الذهنية والمشاعر المجردة ، وعدا هذه القصائد التي تقوم كلية على أساس التشخيص فإن التشخيص يظل وسيلة أساسية من وسائل تشكيل الصورة في كل شعرنا العربي الحديث بكل اتجاهاته وتياراته المختلفة ، بما في ذلك التيارات التي لم تتأثر تأثرًا مباشرًا بالرومانتيكية. |
(61) تراسل الحواس: تراسل الحواس وسيلة من وسائل تشكيل الصورة الشعرية التي عنى بها الرمزيون ، وعن طريقهم انتقلت إلى الآداب العالمية ، بما فيها أدبنا العربي الاحديث . وتراسل الحواس معناه وصف مدركات حاسة من الحواس بصفات مدكرات حاسة أخرى ،فنعطي للأشياء التي تدركها بحاسة السمع صفات الأشياء التي ندركها بحاسة البصر ، ونَصِف الأشياء التي ندكرها بحاسة الذوق بصفات الأشياء التي ندركها بحاسة الشم ، وهكذا تصبح الأصوات ألوانًا والطعوم عطورًا ..إلخ وقد مرت بنا قصيدة"رامبو" الأصوات المتحركة (57) التي حول فيها الأصوات –التي هي من مدركات حاسة السمع – إلى ألوان ، فأضفى عليها صفات مدكرات حاسة البصر ، وقبل رامبو ومحاولته المتطرفة حاول بودلير تطبيق نظرية تراسل الحواس في أكثر من قصيدة من قصائده ، وقد رأينا كيف اعتبر في قصيدة "تراسلات" أن الروائح والألوان والأصوات تتجاوب في وجدة معتمة عميقة ، رحيبة كالليل وكالضوء(58) ، ويتعجب بودلير من الذين يرون أنه من غير الممكن أن تتبادل الحواس معطياتها ، ويرى أن هذا أمر مقرر يمكن إثباته ابتداء بدون أي تحليل أو مقارنة ، وأنه لا ينبغي أن يكون مثار دهشة لأحد"لأن الذي يثير الدهشة بحق هو ألا يستطيع النغم أن يوحي بالوون ، وأن تعجز الألوان عن إعطاء فكترة لحن ما ، وأن يكون النغم واللون عاجزين عن التعبير عن الأفكار .وذلك لأن الأشياء يعبر عنها دائمًا بواسطة ما بينها من تشابه متبادل من يوم أن خلق الله العالم كلاً مركبصا غير قبل للتجزئة .(59) ويستشهد بقصيدته"تراسلات" على هذه الوحدة الكونية التي تتعانق في إطار كل الروائح والألوان والأصوات وتتجاوب.(60) ___________________ (57) انظر هذا الكتاب ص 44-45 (58)انظر هذا الكتاب ص 30 (59)Charles Baudelaire : l’art Romantique –Gamier fFlammarion – Paris 1968 p.271 (60) ibid.p.272. |
(62) وقد شاعت هذه الوسيلة من وسائل التصوير الشعري في القصيدة العربية الحديثة ، وأسرف فيها بعض الشعراء وبخاصة في بداية فترة التأثير الرمزي في الشعر العربي المعاصر ، حيث وجدنا الكثير من القصائد التي تتزاحم فيها هذه الصور القائمة على تراسل الحواس . ومن النماذج الواضحة للاعتماد بشكل أساسي على هذه الوسيلة من وسائل التصوير الشعري قول الشعر محمد عبد المعطي الهمشري في قصيدته "أحلام النارنجة الذابلة":(61) هيهات .. لن أنسى بظلك مجلسي وأنا أراعي الأفق نصف مغعمضِ خنقت جفوني ذكريات حلوة من عطر كالقمري والنغم الوضي فانساب منك على كليل مشاعري يبوع لحن في الخيال مفضضِ ونهفت عليك الروح من وادي الأسى لتعب من خمر الأريج الأبيضِ فالتراسل بين معطيا تالحواس في هذه الأبيا تشديد الولضوح ، ففي البيت الثاني يصف العطر –الذي هو من مدكرات حاسة الشم- بأنه قمري – وهي صفة من صفات ما يدرك بحاسة البصر –و كذلك يصف النغم – الذي هو من مدكرات حاسة السمع – بأنه وضيء، فيضفي عليه صفة من صفات مدركات حاسة البصر .بل إنه لا يكتفي بالتراسل المتبادل بين حاستين اثنتين كالسمع والبصر ، أو الشم والبصر ، وإنما يجعل التراسل في بعض الصور ثتم بين ثلاث حواس تتبادل معطياتها ؛فالبيت الثالث تقوم شطرته الثانية على تراسل متبادل بين ثلاث حواىس هي على التوالي الذوق والسمع والبصر ، فالينبوع هو باعتابر ما من معطيات حاسة الذوق ، واللحن من معطيات حاسة السمع ، واللون المفضض من معطيات حاسة البصر ، ومن هذا القبيل أيضًا صورة "خمر الأريج الأبيض" في البيت الرابع ،التي تتراسل فيها حواس الذوق والشم والبصر ، فالخمر من دائرة حاسة الذوق ، وهو يضيفها إىل أحد مدركات حاسة الشم وهو الأريج الذي يضفه بصفة من نطاق حاسة البصر وهي البياض. ________________ (61) محمد عبد المعطي الهمشري : ديوان الهمشري.جمع وتحقيق صالح جودت.الهيئة العامة المصرية للكتاب 1974 .ص150. |
(63) مزج المتناقضات : لم يقف عبث الشاع الحديث بالعلاقات المألوفة بين عناصر الصور عند حدود الجمع بين الأشياء المتباعدة عن طريق تراسل احواس وغير ذلك من الوسائل الفنية ، وإنما تجاوز الأمر ذلك إلى مزج المتناقضات في كيان واحد يعانق في إطاره الشيء نقيضه ، ويمتزج به مستمدًا منه بعض خصائصه ومضفيًىا عليه بعض سماته ، تعبيرًا عن الحالات النفسية والأحاسيس الغامضة المبهمة التي تتعانق فيها المشاعر المتضادة وتتفاعل ، فحين يقول شاعر كأديب مظهر في قصيدته "نشيد السكون" التي تعد من النماذج المبكرة في شعرنا العربي الحديث التي تأثرت تأثرًا واضحًا بوسائل الإيحاء في الشعر الرمزي: __________ (62)د.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث ص 425،ص426 وانظر :د.محمد فتوح أحمد : الرمز والرمزية في الشعر المعاصر .ص137،138. |
(64) أعد على مسمعي نشيد السكون حلوًا كمر النسيم الأسودِ واستبدل الأنات بالأدمع واسمع عزيف اليأس في أضلعي واستبقني بالله يا منشدي نجد الشاعر بالإضافة إلى اعتماده اعتمادًا أساسيًا على تراسل الحواس وغير ذلك من الوسائل الإيحائية الأخرى يعتمد على مزج النقيضين في البيت الأول وهما "النشيد" و"السكون". . |
(65) حيث يجعل للسكون نشيدًا ،تعبيرًا عن إحساسه بأن للصمت صوته الخاص وللسكون نشيده الخاص الذي يسمعه الشاعر ، ويحسه ليس بسمعه فحسب وإنما بكل حواسه ، حيث يراه ببصره ، ويتذوق طعمه ، ويلمسه بحواسه ، ولا شك أن المزجبين النقيضين هنا قام بدور أساسي في تصوير تلك الحالة النفسية المبهمة الغريبة . ومن هذا القبيل قول الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة في قصيدته :"أجلس كي أنتظرك" : أدخل وحدي نصف القمر المظلم حيث يمزج الشاعر بين الأشيء المتناقضة ، فهو يمزج في البيت الأول الضياء (القمر) بالظلام ، حين يصف القمر بالإظلام ،ويمزج في البيت الأخير البياض (الثلج) بالسواد ، حين يصف الثلج بالسواد ،بل إن هذا المزج يصبح أكثر تركيبًتا وتعقيدًا حين نعرف أن هذا "الثلج الأسود " يتساقط من رسالة يبعثها "الصيف" القادم- بما يوحه الصيف من الدفء والحرارة – وإذن في الصورة مجموعة من المتناقضات المتعانقة التي يعتبر "الثلج " هو القاسم المشترك بينها ، حيث نجد الحرارة "الصيف" تمتزج بالبرودة "الثلج" من جهة ، كما نجد البياض "الثلج" يمتزج بالسواد من جهة ثانية ، وهذا المزج يوحي بحالة نفسية خاصة يمتج فيها الضياء بالظملة –أو بتعبير آخر يتحول في إطارها الضياء إلى ظلمة – كما يختلط الإحساس بالبرودة بالإحساس بالقتامة ؛فالقصيدة كلها تدور حول انتظار الشاعر لحبيب –أو شخص ما –يبدو أنه لن يجيء ، وانتظاره له لا يزيده إلا إحساسًا بالوحشة ، ولا يقوده إلى إلى عوالم شديدة الغرابة ، ومناف جديدة يزداد فيها وحدة وغربة ، حيث لا يصله في هذه المنافي إلا رسالة غريبة يبعثها الصيف القادم-لعلها بدورها وعد بدفء لن يجيء- هذه الرسالة لا يتساقط منها دفء الصيف وحرارته ، وإنما "يتساقط منها ثلج أسود". وهكذا يسهم المزج بين هذه المتناقضات الكثيرة بدور بارز في الإيحاء بتلك الأحاسيس والمشاعر الغريبة ، وبهذه الوحشة التي تحيط بجو م نالبرودة القاتلة القاتمة التي تتجمد في نطاقها كل لمحة دفء أو ومضة ضوء .تبلغني في منفاي رسالة يبعثها الصيف القادم يتساقط منها ثلج أسود |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.