(116) فالشاعر كما رأينا يصور كلا من الطرفين مستقلاً عن الآخر ، والطرف الأول بما يحمله من عبير المجد والعزة والخلود ، والثاني بكل ما آل إليه هذا المجد من اضمحلال وخمود ، ومن خلال وض عكل من الطرفين إزاء الآخر يبدأ التفاعل بينهما ، وتبرز المفارقة. وفي مثل هذه الصورة من المفارقة يظل الطرف التراثي محتفظًا بدلالته التراثية، ولا يحمل أية دلالة معاصرة في ذاته إلا من خلال مقابلته بالطرف المعاصر ، والتفاعل بينهما ، ومن ثم فإن هذه الصورة تظل أهون صور المفارقة ذات المعطيات التراثية قيمة من الناحية الفنيةالصورة الثانية : وفيها يستدعي الشاعر الطرف الثاني إلى وعي القارئ دون أن يصرح بملامحه التراثية-التي يعتمد على أنها مضمرة في وعي القارئ- وبدلاً من التصريح بهذه الملامح يضفي الشاعر على هذا الطرف التراثي الملامح الخاصة بالطرف المعاصر ، والتي تناقض الملامح الحقيقية -المضمرة - للطرف التراثي . ومن خلال التفاعل العميق بين هذه الملامح الحقيقية المضمرة والملامح المعاصرة تبدو المفارقة فادحة وأليمة ، حيث تصبح منابع العطاء والخصب في التراث رموزًا للجدب والعقم ،ومعاني الشجاعة رموزًا للجبن ، وقيم الخير رموزًا للشر ..إلخ أود لفت عناية القارئ أن الكاتب قد أورد في هذه الصورة مقطعًا من قصيدة تحمل نوعًا من التهكم بأحد الصحابة الذين لعبوا دورًا بارزًا في تاريخ الفتوحات الإسلامية ؛لذلك فقد استعضت عنها بنموذج آخر منعًا للحرج (مع الاحتفاظ بكامل التقدير للكاتب الراحل) |
(117) الصورة الثالثة : وهي عكس الصورة الثانية ، حيث يستدعي الشاعر فيها الطرف المعاصر للمفارقة دون أن يصرح بأي من ملامحه ، وبدلاً من ذلك يضفي عليه ملامح الطرف التراثي سلبًا ، أو بعبارة أخرى يربط هذه الملامح التراثية بالطرف المعاصر عن طريق نفيها عنه . ومن نماذج هذه الصورة من صور المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد قصيدة "الشعر وخصيان السلاطين" (103) للشاعر الفلسطيني معين بسيسو ، التي بناها على نوع من إثارة الإحساس بالمفارقة بين نوعية الشعراء الذين كانوا يشتهرون ويبرزون في الماضي ، وهم أولئك الشعراء الفحول الذين صنعوا مجد الشعر العربي وتاريخه ، وبين أورئك الذين يبرزون ويشتهرون في الحاضر وهم الانتهازيون المنافقون والمتسلقون ،وقد اختار الشاعر للطرف التراثي للمفارقة شخصية أبي الطيب المتنبي ، أحد رموز الأصالة والفحولة في شعرنا العربي القديم ، ليقابل بينه وبين الطرف المعاصر المتمثل في الشعراء الانتهازيين الدخلاء على ميدان الشعر ، وقد استدعى الشاعر هذا الطرف المعاصر دون أن يصرح بملامحه المعاصرة ، وإنما اكتفى بأن ينفي عنه الملامح التراثية للمتنبي التي تجسد أصالته وعظمته ،ومن ثم فإن ملامح الطرف المعاصر لا تتميز في مجابهة ملامح الطرف التراثي ،وإنما تتحقق المفارقة عن طريق سلب ملامح الطرف التراثي عن الطرف المعاصر : يا أبا الطيب ..خصيان السلاطين ، وغلمان القصور كل ذي قطر وخلخال وعقد وأساور كل من قد شده النخاس من وحل الضفائر كل من لم يعرف الخيل .. ولا الليل ..وبيداء المخاطر والقوافي .. وهي كالبيض البواتر جاءنا يركب صهوات القصائد وهكذا يضفي الشاعر ملامح الطرف التراثي سلبًا على الطرف المعاصر للمفارقة ، وهو الشعراء الوصوليون والمتسلقون والدخلاء ،حيث نفى عنهم ملمحين أساسيين من الملامح التراثية لشخصية المتنبي ، وهذان الملمحان هما الشجاعة والأصالة الشعرية ،وهما الملمحان اللذان حددهما المتنبي في بيته المشهور : الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ُ ___________________________ (103) معين بسيسو :الأشجار تموت واقفة، دار الآداب.بيروت 1966،ص1981 |
(118) وهو البيت الذي استدعاه الشاعر هذا ونفى مضمونه عن الشعراء المعاصرين الانتهازيين في البيتين الرابع والخامس .أما الأبيات الثلاثة الأولى فقد استعمل فيها الشاعر معجم المتنبي الذي كان يستعمله في هجاء بعض الأشخاص والطوائف ، فـ" خصيان السلاطين" و"غلمان القياصر" و "الأقراط والخلاخيل والعقود والأساور" و"النخاس " و"الضفائر" كل هذه مفردات أصيلة في معجم المتنبي الهجائي. وهكذا تتحقق المفارقة عن طريق سلب ملامح الجطرف التراثي عن الطرف المعاصر عكس ما حدث في الصورة الثانية من صور المفارقة . هذه هي الصور الثلاث للمفارقة ذات الطرف التراثي المبنية على المقابلة بين وضع تراثي وآخر معاصر ، وقد رأينا كيف كانت قصيدة برمتها تنبني على صورة من صور هذه المقبالة ، ولكن القصيدة الواحدة قد تجمع في بعض الأحيان بين أكثر من صورة من هذه الصور الثلاث كما فعل الشاعر صلاح عبد الصبور مثلاً في قصيدته "أبو تمام"(104) ، التي بناها على مفارقة تصويرية شاملة ضمت الصور الثلاث السابقة للمفارقة ذات الطرف التراثي. والطرف التراثي -أو الأطراف التراثية- للمفارقة في هذه القصيدة يتألف - أو تتألف - من ثلاث شخصيات تراثية ارتبطت بموقف تراثي تتجسد فيه العزة والمنعة العربية ، وهذه الشخصيات الثلاث هي شخصية الخليفة العباسي المعتصم ، وشخصية المرأة العربية الهاشمية التي وقعت في أسر الروم في عمورية فاستنجدت بالمعتمص في صرختها المشهورة "وامعتصماه" فلبى المعتصم صيحتها ، وزحف إلى نجدتها بجيش ضخم اكتسح به عمورية فدمرها وحرر المرأة الهاشمية . _____________ 104: ديوان ( أقول لكم). الطبعة الثالثة .دار الآداب .بيروت سنة 1969 ص49 |
(119) أما الشخصية الثانية فهي شخصية الشاعر أبي تمام الذي تغنى بهذا الانتصار في قصيدته المشهورة في فتح عمورية.والشاعر يستحضر هذا الموقف التراثي بأبطاله الثلاثة ليقابل بينه وبين الموقف العربي المهزوم الضعيف ، وحالة الهوان والتقاعس التي أصيب بها العرب . وهو يستخدم الصور الثلاث للمفارقة في إبراز هذا التناقض الفادح بين الموقفين . يستخدم أولاً في مطلع القصيدة الصورة الأولى مصرحًا بطرفي المفارقة : التراثي متمثلاً في المعتصم وهبته لنجدة المرأة العربية استجابة لصيحتها "وامعتصاه" ، والمعاصر ممثلاً في أصوات الاستصراخ المنبعثة من الأرض العربية المحتلة في فلسطين والجزائر-التي لم تكن قد استقلت بعد حين كتبت هذه القصيدة سنة 1961-هذه الأصوات التي لا تجاوبها سوى المؤتمرات والخطب والأحزان ، والشاعر يحتفظ لكل من الطرفين باستقلاله وتميزه عن الآخر فيقول في تصويره للطرف الأول : الصوت الصارخ في عمورية لم يذهب في البرية سيف البغدادي الثائر شق الصحراء إليه..لباه حين دعت أخت عربية : "وامعتصماه" |
(120) ثم يقابل بينه وبين الطرف المعاصر الذي احتفظ له هو أيضًا باستقلاله وتميزه ،تاركًا لعملية المقارنة بين الطرفين أن تقوم بإبراز المفارقة :لكن الصوت الصارخ في طبرية وفي المقطع الثاني يلجأ الشاعر إلى استخدام الصورة الثانية من صور المفارقة التصويرية ذات الطرف التراثي ، حيث يستدعي الطرف التراثي للمفارقة ، ممثلاً في المرأة العربية المستنجدة ، مضمرًا الدلالة التراثية لموقفها،المتمثلة في انتصار صيحتها واستجابة المعتصم لها وزحفه لتحريرها ، فلا يصرح بها ، وإنما يسقط على المرأة العربية ملامح الطرف المعاصر المتمثل في ضعف العرب وعجزهم عن تحرير أرضهم وتركها فريسة في يد الأعداء ، حيث يجعل السيف ما يزال مغمدًا في صدر الأخت العربية بينما يقنع أحفاد أبي تمم بالخطب وتبادل الأنباء في خدر :لباه مؤتمران لكن الصوت الصارخ في وهران لبته الأحزان في موعد تذكارك يا جدُ وأخيرًا يستخدم الشاعر الصورة الثالثة من صور المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد ، حيث يستدعي الطرف المعاصر بدون أن يستدعي ملامحه ، وبدلاً من استحضار ملامحه المعاصرة يضفي عليه سلبًا ملامح الطرف التراثي بنفيها عنه .يلقي الأبناء الأنباء يتعاطون أفاويق الأبناء والسيف المغمد في صدر الأخت العربية ما زال يشق النهدين والطرف المعاصر هنا هو أحفاد أبي تمام الذين لم يعوا أقواله ولم يفهموها ، وقد سلب الشاعر عن هذا الطرف بعض الملامح التراثية المرتبطة بأبي تمام ، والمتمثلة في تفضيله للسيف على الكتب في مطلع قصيدته المشهورة في فتح عمورية : السيف أصدق إنباءً من الكتب وقد نفى الشاعر مضمون هذا البيت عن الطرف المعاصر المتمثل في أحفاد أبي تمام الذين لم يعوا قوله ولم يفهمون ، فأغمدوا أسيافهم الصادقة ، وقنعوا بما ترويه الكتب :في حده الحد بين الجد ِ واللعبِ وأبو تمام الجد حزين لا يتكلم وهكذا بنى الشاعر قصيدته على هذه المفارقة الشاملة الكبيرة التي استخدم في إبرازها وبنائها الصور الثلاث للمفارقة ذات الطرف التراثي الواحد .قد قال لنا ما لم نفهم والسيف الصادق في الغمد طويناه وقنعنا بالأنباء المروية المفارقة ذات الطرفين التراثيين : أما النمط الثاني من أنماط المفارقة التراثية فهو المفارقة ذات الطرفين التراثيين ، وهو نمنط أكثر تعقيدًا وعمقًا من المفارقة ذات الطرف التراثي الوحد ، إذ في هذه المفارقة التصويرية ذات الطرفين التراثيين يكون لطرفي المفارقة أو لأحدهما أكثر من مستوى دلالي ، بأن يحمل مع دلالته التراثية دلالة أخرى معاصرة رمزية ، وهكذا تتم عملية المقابلة في هذه المفارقة على مستويين حيث تتم أولاً بين الدلالة التراثية للطرفين وتتم ثانيًا بين الدلالة التراثية لأحدهما والدلالة المعاصرة الرمزية في الآخر ، وبهذا تزداد المفارقة عمقًا وتأثيرًا عن طريق هذه المقابلة المزدوجة التي تبرز التناقض بين الطرفين مرتين . |
(121) في قصيدة " من مذكرا ت المتنبي في مصر "(105) للشاعر أمل دنقل يستخدم الشاعر مفارقة تصويرية أحد طرفيها شخصية كافور الإخشيد ، الذي يمثل السلطة الضعيفة العاجزة المهزومة ، التي تحاول تغطية ضعفها وعجزها بلون من الدعاية الزائفة ، وهو يضفي على شخصية كافور من خلال هذه الملامح مدلولاً رمزيًا معاصرًا ويقابل بينه -بدلالته التراثية والرمزية- وبين شخصيتين تراثيتين أخريين ، تمثل كل منهما القوة والإقدام والغلبة ، وهما شخصيتا سيف الدولة الحمداني والمعتصم العباسي، مستخدمًا أسلوبين مختلفين في إبراز المفارقة بين شخصية كافور وكل من هاتين الشخصيتين فبالنسبة لشخصية سيف الدولة يستدعيها الشاعر من خلال رؤيا المتنبي -الذي يحمل بدوره إلى جانب دلالته التراثية دلالة أخرى رمزية ، حيث يرمز إلى صاحب الكلمة المعاصرة-ليقابل بينها وبين شخصية كافور بدلالتها التراثية ، ولكن من خلال هذه المقابلة يتم في وعي القارئ مستوى آخر من المقابلة بين شخصية سيف الدولة بما تمثله ، وشخصية كافور بمدلولها الرمزي المعاصر ، يقول الشاعر على لسان المتنبي متحدثًا عن سيف الدولة :حلم حلظة بكا وجندك الشجعان يهتفون : سيف الدولة ثم يقابل الشاعر بين سيف الدولة بهذه الدلالة المشرقة الرائعة وبين كافور -ودلالته الرمزية والتراثية-بكل ما يمثله من ضعف وتضعضع وهوان وتغن بأمجاد وبطولات زائفة :وأنت بدر تختفي هالة الغبار عند الجولة ممتطيًا جوادك الأسهب .. شاهرًا حسامك الطويل المُهلكا تصرخ في وجه جنود الروم بصرخة الحرب ، فتبسقط العيون في الحلقوم تخوض .. لا تبقى لهم إلا النجاة مسلكا تهوى .. فلا غير الدماء والبكا والصبية الصغار يهتفون في حلب : يا منقذ العرب يا منقذ العرب حين تعودت باسمًا ومنهكا حلمت لحظة بكا حين غفوت لكنني حين صحوت وجدت ذاك السيد الرخوا تصدر البهوا يقص في ندمانه عن سيفه الصارم وسيفه في غمده يأكله الصدأ وعندما يسقط جفناه الثقيلان .. وينكفئ يبتسم الخادم _________________ (105) : ديوان:البكاء بين يدي زرقاء اليمام.دار الآداب. بيروت 1969 . ص 121 |
(122) أما المقابلة بين شخصية كافور وشخصي المعتصم فإن الشاعر يسلك إليها طريقًا أكثر خفاء وبراعة ، حيث لا يصرح بشخصية المعتصم ولا بموقفه من المرأة العربية التي استنجدت به من أسر الروم بصرختها المشهورة "وامعتصماه" فأنجدها واكتسح عمورية وحررها من الأر ، لا يصرح الشاعر بأي من هذه الملامح التي تمثل الطرف الآخر للمفارقة وإنما يضمرها ويضفي على كافور من الملامح ما يستدعي إلى ذهن القارئ موقف المعتصم العظيم ، حيث يروي عن كافور قصة مشابهة عن فتاة عربية هي "خولةتلك البدوية الشموس "حبيبة المتنبي التي التقى بها بالقرب منب أريحا وعندما سأل عنها القادمين في القوافل بعد أن تركها أخبروه"أنها ظلت بسيفها تقاتل في اللي تجار الرقيق عن خبائها" ولكنهم اختطفوها بعد أن جرحوا شقيقها وأباها ، وعجز الجيران عن إغاثتها .يقول الشاعر على لسان المتنبي ، الذي يرو القصة مصورًا حزنه لوقوع حبيبته العربية في أسر الروم :ساءلني كافور عن حزني هكذا يستدعي الشاعر بهذا المسلك البارع إلى القارئ موقف المعتصم من الأسيرة التي استنجدت به ، وتنم المقابلة في صمتبين هذا الموقف الشامخ العظيم وموقف كافور الهزيل المثير للسخرية والازدراء ، دون أن ترد أية إشارة إلى المعتصم ، أو إلى موقفه من الأسيرة التي استنجدت به .فقلت : إنها تعيش الآن في بيزنطة حزينة كالقطة تصيح :"كافوراه ..كافوراه" فصاح في غلامه أن يشتري جارية رومية تجلد كي تصيح : وراوماه .. وراوماه" لكي تكون العين بالعين والسن بالسن وهكذا عن طريق هذا التركيب البارع في بناء المفارقة وتعدد مستويات التقابل بين الطرفين فيها تزداد المفارقة غنى وعمقًا ، وتزداد المعاني التي تستثيرها اتساعًا ورحابة في وجدان القارئ وعقله ، ويزداد إحساسه من ثم بفداحة المفارقة قوة وشمولاً . |
(123) المفارقة المبنية على نص تراثي :بقي نوع أخير من المفارقة التصويرية التي يستخدم الشاعر في بنائها بعض معطيات التراث ، وهي تلك المفارقة التي يكون العنصر التراثي فيها المستخدم اقتباسًا تراثيًا وليس شخصية أو حدثًا ،والصورة العامة لمثل هذه المفارقة القائمة على اقتباس تراثي أن يحور الشاعر في النص المقتبس ليولد من هذا التحوير دلالة معاصرة تتناقض مع الدلالة التراثية للنص التي ارتبطت به في الأذهان ، ومن خلال المقابلة بين هذا المدلول الجديد الذي اكتسبه النص المقتبس بعد تحويره وبين الدلالة الأساسية له -المضمرة في ذهن القارئ-تتولد المفارقة. فمثلاً حين يريد شاعر كمحمد عز الدين المناصرة أن يندد بالموقف الرعبي المعاصر من قضية فلسطين ، وكيف أن العرب يحاربون بالخطب ، والحكم فإنه يصوغ مفارقة تصويرية عن طريق استدعاء نصين تراثيين ارتبطا بمعاين العزم والقوة والشكيمة والسعي الحازم للثأر ، أولهما عبارة ارمئ القيس المشهورة التي قالها حين بلغه نبأ مقتل أبيه وهو عاكف على الخمر :"اليوم خمر وغدًا أمر " وكانت هذه العبارة بداية معارك طويلة ومريرة خاضها امرؤ القيس في سبيل الثأر لأبيه من قاتليه ، أما النص الثاني فهو بين ابن أخت تأبط شرًا في قصيدتهخ المشهورة التي قالها بعد مقتل خاله وانتداب نفسه للثأر له ، هذا البيت الذي يتفجر توعدًا وحماسًا وعزمًا جادًا على الثأر : فوراء الثأر مني ابن أخت يأخذ الشاعر المناصرة في قصيدته "المقهى الرمادي "(106) هذين النصين بكل ما يفيضان به من معاني الإصرار الحاسم على الثأر والسعي الدائب في سبيله ، فيحور فيهما بحيث يعطيان مدلولاً مناقضًا للمدلول التراثي الذي ارتبط بهما في الأذهان .مصع ، عقدت ما تحل _____________ (106):ديوان : يا عنب الخليل ، دار العودة .بيروت 1970 .ص38 |
(124) ومن خلال المقابلة بين هذا المدلول التراثي للنصين والمدلول الجديدالذي اسكتباه بعد تحويرهما تبرز المفارقة الأليمة :وأقول :"اليوم خمر .. وغدًال .. " يا غرباء هكذا تتحول تلك العزيمة الباترة في عبارة امرئ القيس "وغدًا أمر "وذلك الوعيد الرهيب في بيت ابن أخت تأبط شرًا إلى هذه الرخاوة وذلك الضعف المتمثلين في الخب الخاوية الجوفاء ، والحكم العاجزة الكسيحة التي نعدها للثأر ، وتتم المفارقة عن طريق إبراز هذا التناقض بين المدلول التراثي للنصين والمدلول الجديد الذي اكتسباه بعد تحويرهما.اسكتوا يا غرباء فوراء الثأر منا خطباء ووراء الثأر منا حكماء وشيبه بهذا ما صنعه الشاعر ممدوح عدوان في قصيدته "روي عن الخنساء" (107) حيث استدعى بيت الخنساء المشهور في إحدى قصائدها في رثاء صخر : ولولا كثرة الباكين حولي بكل ما يفيض به من معاني العزاء والتصبر بكثر ةالباكين ، فحور في هذا المعنى ليجعل بكاء الباكين عاملاً من عوامل مأساة الخنساء المعاصرة ، وبعدًا من أبعادها ، بعد أ، كان في مدلوله التراثي باعثًا من بواعث العزاء وعاملاً من عوامل التجلد ، يقول الشاعر :على قتلاهمو لقتلت نفسي ولولا كثرة الباكين حولي ما تعرت نسوة للفاتحين ضحى ولا اهترأت سيوف الهند في بيتي ولا قتلت قبيلتنا ابنها صخرا ، ولا عشنا بلا شمس ِ ولا جاء الرجال إلى في أثواب نسوتهم ..لينسوني صدى ميتي وهكذا يأخذ البكاء الباكين حول الخنساء ،بما كان يفيض به من معاني النبل والجلال والقدرة على بث العزاء في صدر الشاعرة ، معنى مناقضًا فيصبح رمزًا من رموز الخور والذلة والتهرب الجبان من مواجهة مسؤلية الثأر للشهداء ، وتتم المفارقة في وجدان المتلقي ووعيه بين المدلولين لتحدث هذه المفارقة ما يريد لها الشاعر أن تحدثه من أثر . ولعله قد تبين من محاولة دراسة هذا التكنيك من تكنيكات القصيدة الحديثة مدى غنى وروعة ما يحاول الشاعر المعاصر أن يوفره لتجربته الشعرية من أدوات فنية لا حدود لقدرتها على الإيحاء والتصوير . __________________ (107):ديوان الظل الأخضر ، منشورات وزارة الثقافة .دمشق 1976ص15 |
(125) الفصل السادس موسيقى الشعر 1-وظيفة الموسيقى في القصيدة : الموسيقى عنصر أساسي من عناصر الشعر ، و أداة من أبرز الأدواتالتي يستخدمها الشاعر في بناء قصيدته ،وهي بالإضافة إلى هذا فارق جوهري من الفوارق التي تميز الشعر ع النثر ، وإن لم تكن هي الفارق الوحيد بينهما ،وهذا ما فطن إليه أرسطو حيث نبه في كتابه "فن الشعر"إلى خطأ إطلاق لقب الشاعر على من ينظم نظرية في الطب أوالطبيعة ، على أساس أن النظم أو الوزن ، ليس وحده هو ما يميز الشاعر من سواه ، وذكر "أن من ينظم نظرية في الطب أو الطبيعة يسمى عادة شاعرًا ، ورغم ذلك فلا وجه للمقارنة بين هوميروس وأنباذوقليس إلا في الوزن ، ولهذا يخلق بناء أن نسمي َ أحدهما (هوميروس)شاعرًا ، والآخر طبيعيًا أولى منه شاعرًا .(108) والموسيقى في الشعر ليست حلية خارجية تضاف إليه ، وإنما هي وسيلة من أقوى وسائل الإيحاء ، وأقدرها على التعبير عن كل ما هو عميق وخفي في النفس مما لا يستطيع الكلام أن يعبر عنه ، ولهذا فهي من أقوى وسائل الإيحاء سلطانًا على النفس ، وأعمقها تأثيرًا فيها ، ولقد فطن بعض نقادنا العرب القدامى على نحو غامض إلى هذه الوظيفة الإيحائية للموسيقى ، كابن عبد ربه الذي قال في كتابه "العقد الفريد" : "زعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقيَ من المنطق لم يقدر اللسنان على استخراجه ، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيح لا على التقطيع ، فلما ظهر عشقته النفس وحنت إليه الروح " (109) _________________________________ (108) : أرسطو : فن الشعر .ترجمة وشرح د.عبد الرحمن بدوي .مكتبة النهضة المصرية 1952 .ص6. وأبناذوقليس -القرن الخامس قبل الميلاد -فيلسوف يوناني من علماء الطب والطبيعة ، وهوميروس -القرن التاسع قبل الميلاد - أشهر شعراء اليونان ، وصاحب أشهر ملحمتين في تاريخ الأدب العالمي-"الإلياذة" و.الأوديسة". (109):أحمد بن عبد ربه: العقد الفريد.المطبعة الشرقية.القاهرة 1305،3\177.وانظر :د.محمد غنيمي هلال:النقد الأدبي الحديث ص486 |
(126) على أن هذه اللمحة البارعة من ابن عبد ربه لم يقدر لها -لسوء الحظ- أن تلفت أنظار النقاد العرب فيبلوروها في نظرية أو اتجاه يعني بوظيفة الموسيقى في القصيدة ودورها الإيحائي ، بل إننا نجد ابن عبد ربه نفسه يكاد يتنصل من تبعة هذه اللمحة فينسبها إلى الفلاسفة ، ويسندها إليها بصيغة الزعم الذي يفيد التشكيك ، ولم تحظ موسيقى الشعر بمثل هذه النظرة إلى دورها في القصيدة إلا بعد حوالى تسعة قرون من ابن عبد ربه ، وعلى يد الاتجاهات ا لحديثة في الشعر العالمي وخصوصًا الاتجاه الرمزي الذي عنى عناية كبرى بالوظيفة الإيحائية لموسيقى الشعر ، وقد انطلق الرمزيون في اهتمامهم بالجانب الموسيقى في القصيدة من فكرة شديدة الشبة بتلك الفكرة التي أشار إليها ابن عبد ربه على نحو عابر في مطلع القرن الرابع الهجري ، فلقد تأثر رواد الرمزية بالموسيقار الألماني ريتشارد فاجنر ، وأُخِذوا بما تمتلكه موسيقاه من طاقات خارقة على الإبحاء بأدق وأخفى حالات النفس الخفية وخلجاتها العميقة مما يعجز الكلام عن التعبير عنه ، ووجدنا بودلير-أبا الرمزية الفرنسية-يقول عن موسيقى فاجنر "إن هذه الموسيقى تعبر بأعذب الأصوات وأشدها نفاذًا عن أعمق ما في قلب الإنسان وأشده خفاءً" (110) وهو قول يذكرنا بكلام ابن عبد ربه السابق ،وقد احتفى بودلير حفاوة كبيرة بفاجنر وموسيقاه -التي لم تجد في بداية أمرها ما هي جديرة به من تقدير ورواج في فرنسا-وكُتِبَ عنه وعن موسقاه أكثر من دراسة ، وقد اعتبره سيد العناصر الأدائية ، وقال عنه إنه استطاع أن يسخِّر كل الطاقات البشرية لهذه العاطفة المشبوبة في تعبيره الفني ، وأن "بواسطة هذا الوجد العاطفي قد استطاع أن يضيف إلى كل شيء ما لا أدريه من القوة الخارقة، وبهذا الوجد وعى كل شيء ، وجعل الكل يعي " (111) _______________________ 110: Boudlelaire:l'art romantique.p.292 111: Ibid. |
(127) وكان من نتيجة هذا الإعجاب الشديد بالموسيقى فاجنر أن حاول بودلير استغلال هذه الطاقة الإيحائية الخارقة التي تمتلكها الموسيقى في شعره للإيحاء بهذه الجوانب الغامضة التي لا يستطيع التعبير عنها بواسطة اللغة حيث "اكتشف مثل فاجنر أنه بواسطة الموسيقى على وجه الخصوص ، ومن خلال الموسيقى يمكننا التحليق غلى العالم المثالي حيث يسود الجمال الخالص ، وأن الموسيقى من ناحية أخرى هي اللغة التي يمكن أن تعبر بأقل قدر ممكن من النقصان عن حالات الوجد الخاصة أو رؤى الفنان الملهم (112). ومن بعد بودلير احتفل الرمزيون احتفالاً كبيرًا بالموسيقى الشعرية ، باعتبارها واحدة من أرهف أدوات الإيحاء وأعمقها تأثيرًا ، حتى وجدنا الشاعر فرلين يبدأ قصيدته "فن الشعر " التي يمكن اعتبارها بيانًا شعريًا رمزيًا-بهذه الدعوة الحاسمة "الموسيقى قبل كل شيء " هذه الدعوة التي لا يفتأ يكررها ويلح عليها "الموسيقى مرة أخرى ودائمًا"(113). وإذا كان بودلير قد بدأ هذا الطريق فإن خلَفَه قد ساروا فيه إلى غايته ، ومنذ ذلك الحين اتجه الاهتمام إلى الموسيقى باعتبارها أداة أساسية من أدوات الإيحاء في القصيدة الحديثة، قد تأثرت القصيدة العربية الحديثة بمثل هذه الاتجاهات في تطوير الشكل الموسيقي الموروث للقصيدة العربية ، وتوليد إمكانات تعبير موسيقى جديدة منه ، على نحو ما سنرى. ________________________ (112) : ولبيان تأثيرؤ موسيقى فاجنر في الرمزيين انظر-بالإضافة إلى ما سبق-: د.إحسان عباس : فن الشعر ص65،66 . د.أنطون غطاس كرم : الرمزية والأدب العربي الحديث .ص22،23،75،76، د.محمد فتوح أحمد :الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر .ص59،58 (113) : Velaine:Jadist et Naguere. p .p 25,26 . |
(128) 2- الشكل الموسيقي للقصيدة العربية الموروثة : لقد حظيت الموسيقى في القصيدة العربية الموروثة باهتمام مبالغ فيه إلى حد أنها احتلت-بعنصريها: الوزن والقافية- نصف المفهوم الذي حدده قدامة بن جعفر للشعر في كتابه "نقد الشعر"، ذلك المفهوم الذي ترك بصماته لفترة طويلة من الزمن على اتجاه النقاد العرب في تحديد مفهوم الشعر ، فقد عرف قدامة الشعر بأنه " قول موزون مقفى يدل على معنى"(114) ويحلل قدامة هذا التعريف إلى عناصره الأولية الأربعة : اللفظ والمعنى والوزن والقافية(115)التي تمثل الموسيقى عنصرين منها هما الوزن والقافية . ولكن اهتمام النقاد والشعراء العرب بالموسيقى لم يكن باعتبارها وسيلة من وسائل الإيحاء"تعبير -كما يقول بودلير -بأعذب الأصوات وأشدها نفاذًا عن أعمق ما في القلب الإنساني وأخفاه" وإنما باعتبارها قالبًا محكمصا صارمًا يتضمن المعنى ، أو ينظم فيه الشاعر أفكاره وأحاسيسه وخواطره ، وليم يقدر لمثل إشارة ابن عبد ربه البارعة أن تنال حظها من اهتمام النقاد و الشعراء العرب على السواء ، توجههم وجهة جديدة في النظر إلى موسيقى القصيدة . ولقد اتضحت طبيعة هذا الاهتمام بالموسيقى باعتبارها قالبًا صارمًا بالغ الإحكام والدقة في مجموعة الالتزامات والقواعد الصارمة التي يقوم على أساسها الشكل الموسيقي للقصيدة العربية الموروثة .فإذا كان الإحساس بموسيقى الشعر ينشأ من إدراك الانسجام المتولد من ظاهرة صوتية معينة وتكرارها على نحو خاص ، فإن الشكل الموسيقي الموروث قد التزم مجموعة من التكرارات الصارمة ، حيث يقوم هذا الشكل على الالتزامات التالية : ________________________ (114): قدامة بن جعفر : نقد الشعر .ص 13 (115): السابق . ص 17 |
(129) أولاً : تكرار وحدة صوتية معينة هي "وحدة الإيقاع"التي تتألف مما عرف في العروض العربي باسم "التفاعيل"، وتتألف التفعيلة من توالي مجموعة من السواكن والحركات على نحو معين ، قد تكون وحدة الإيقاع تفعيلة واحدة ، وقد تتركب من أكثر من تفعيلة على نحو ما سنرى ، ومن تكرار هذه الوحدة يتولد الإيقاع الموسيقي الأساسي في القصيدة ،ولا يسمح في تكرار هذه الوحدة إلا بتنويع محدود ومنضبط ينظمه ما عرِفَ في العروض العربي باسم "الزحاف والعلل "وهذا التنويع المسموح به لا يترتب عليه تغيير جوهري في بنية وحدة الإيقاع . ثانيًا : تكرار عدد معين من وحدات الإيقاع يؤلف بدوره وحدة موسيقية جديدة مركبة هي "البيت" الذي يتألف من عدد من التفاعيل أو وحدات الإيقاع لابد من التزامه في كل بي على امتداد القصيدة . ثالثًا :تكرار صوت معين أو مجموعة من الأصوات -الساكنة والمتحركة- في نهاية كل بيت ، بحيث يلتزم هذا الصوت بعينه -أو هذه الأصوات بعينها-في آخر أبيات القصيدة كلها ، وهذه هي" القافية". رابعًا : وهذا نوع ثانوي من التكرار ليس في أهمية الأنواع الثلاثة السابقة وصرامتها ، وهو الالتزام بتكرار صيغة محددة من صيغ التفعيلة الأخيرة في البيت -وهذه التفعيلة تسمى "الضرب"- فإذا جاءت هذه التفعيلة في البيت الأول على صيغة معينة -سواء أكانت صحيحة أو معتلة- وجب أن تلتزم هذه الصيغة بعينها طوال القصيدة ،بخلاف الزحافات التي تعرض لصيغ التفعيلة في حشو البيت فإنها لا تلتزم. فإذا ما قرأنا مثلاً أبيات الشريف الرضي التالية : ولقد مررت على ديارهمو وطلولها بيد البلى نهب ُ فوقفت حتى ضج من لغب نضوى،ولج بعذلي الركبُ وتلفتت عيني ، فماخفيت عني الطلول تلفّت القلب ُ(116) وجدنا الشاعر يلتزم هذه الأنواع الأربعة من التكرار : فهو يلتزم أولاً بتكرار "وحدة الإيقاع"المؤلفة من تفعيلة واحدة هي "متفاعلن"طوال الأبيات . _____________ (116):الشريف الرضي(أبو الحسين بن طاهر) :ديوان الشريف الرضي.المطبعة الأدبية:بيروت1307هـ-1\145 |
(130 ) النمط البسيط : وهو الذي تتألف وحدة إيقاعه من تفعيلة واحدة تتكرر على امتداد البيت ، والقصيدة ، ويضم هذا النمط سبعة أوزان أو بحور وهي : الكامل : ووحدة إيقاعه"متفاعلن"وصيغته الأساسية تتألف من ترددها ست مرات : ولقد ذكرتك والرماح نواهل متفاعلن متفاعلن متفاعلن مني وبيض الهند تقتطر من دمي (117) متفاعلن متفاعلن متفاعلن الوافر : ووحدة إيقاعه "مفاعلتن"وصيغته الأساسية مكونة من ترددها ست مرات أيضًا : الرجز : ووحدة إيقاعه "مستفعلن"ويتألف البيت من ترددها ست مرات : والله لايذهب شيخي باطلا مستفعلن مستفعلن مستفعلن حتى أبير مالكا وكاهلا مستفعلن مستفعلن مستفعلن الرمل : ووحدة إيقاعه "فاعلاتن"ويتألف البيت فيه من ترددها ست مرات : آه يا قبر هنا كم طاف روحي فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن هائمًا حولك كالطير الذبيح فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن الهزج : ووحدة إيقاعه :"مفاعيلن" ويتألف البيت من ترددها أربع مرات : تعلقت بآمال مفاعيلن مفاعيلن طوال أي آمال ِ مفاعيلن مفاعيلن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ (117): لن نراعي في الوزن من الزحافات والعلل الوارد في التفعيلات إلا تلك التي ترِد على تفعيلتي العروض والضرب |
(131) المتقارب : ووحدة إيقاعه "فعولن" ويتألف البيت من ترددها ثماني مرات : هي الشمس مسكنها في السماء فعولن فعولن فعولن فعولن فعزّ الفؤاد عزاء جميلاً فعولن فعولن فعولن فعولن المتدارك : ووحدة إيقاعه "فاعلن" ويتألف البيت من ترددها ثماني مرات : ليس موت الفتى دفنه في الثرى فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن إنما موته موته وهو حي فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن نلاحظ في كل بحر من هذه البحور أن الإيقاع فيه يتولد من تكرار تفعيلة واحدة عددًا معينًا من المرات في كل بيت. |
(132) النمط المركب : وهو الذي تتكون وحدة الإيقاع فيه منأكثر من تفعيلة ، وهو بدوره ينقسم إلى قسمين، حسب طبيعة تركيب وحدة الإيقاع: القسم الأول : وهو الذي تتألف وحد الإيقاع فيه من تفعيلتين اثنتين ، ويشمل خمسة بحور وهي : الطويل : ألا يا صبا نجد متى هجت من نجدِ فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن لقد زادني مسراك وجدًا على وجدي فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن البسيط : ووحدة إيقاعه "مستفعلن فاعلن" ويتألف البيت من ترددها أربع مرات أيضًا : هذا الذي تعرف البطحاء وطأته مستفعلن فاعلن مستفعن فاعلن والبيت يعرفه والحل والحرم مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن المجتث: ووحدة إيقاعه "مستفعلن فاعلاتن" ويتألف البيت من ترددها مرتين : طاب الهوى لعميده مستفعلن فاعلاتن لولا اعتراض صدوده مستفعلن فاعلاتن المقتضب: ووحدة إيقاعه"مفعولات مستفعلن" ويتألف البيت من ترددها مرتين : حامل الهوى تعب مفعولات مفتعلن يستخفه الطرب مفعولات مفتعلن المضارع: ووحدة إيقاعه "مفاعيل فاعلاتن"ويتألف البيت من ترددها مرتين: أرى للصبا وداعا مفاعيلُ فاعلاتن وما يذكر اجتماعا مفاعيلُ فاعلاتن القسم الثاني : وتتألف وحدة إيقاعه من ثلاث تفعيلات -أو بعبارة أخرى من تفعيلتين واحدة منهما مكررة -ويضم هذا القسم أربعة بحور وهي : الخفيف : ووحدة إيقاعه "فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن" ويتألف من ترددها مرتين : صنت نفسي عما يدنس نفسي فاعلاتن مستفعلن فاعلاتــــن وترفعت عن جدا كل جبسِ فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن |
(133) المديد : ووحدة إيقاعه "فاعلاتن فاعلن فاعلاتن" ويتألف البيت من ترددها مرتين : إن بالشعب الذي دون سلع فاعلاتن فاعلن فاعلاتن لقتيلا دمه ما يطل فاعلاتن فاعلن فاعلاتن السريع : ووحدة إيقاعه"مستفعلن مستفعلن فاعلن" ويتألف البيت من ترددها مرتين أيضًا : ليس على الله بمستنكر مستفعلن مستفعلن فاعلن أن يجمع العالم في واحدِ مستفعلن مستفعلن فاعلن المنسرح : ووحدة إيقاعه "مستفعلن مفعولات مستفعلن" ويتألف البيت من ترددها مرتين : عليلة بالشآم مفـــــــــــردة مستفعلن مفعلات مفتعلن بات بأيدي العدا معللها مستفعلن مفعلات مفتعلن وكما رأينا في أوزان هذا النمط المركب يتولد الإيقاع من تكرار وحدة صوتية مركبة من تفعيلتين أو ثلاث عددا معينًا من المرات في كل بيت . هذه هي الصيغ الأساسية للأوزان أو البحور الستة عشر للقصيدة العربية الموروثة ، ولكل بحر من هذه البحور مجموعة من الصيغ الفرعيةالأخرى التي تنشأ عن التصرف في عدد مرات تكرار وحدة الإيقاع في البيت أو في صيغة هذه الوحدة . ولكن الشاعر متى ما اختار صيغة من صيغ هذه الأوزان كان عليه أن يلتزمها طوال قصيدته ولا يحيد عنها، أي أن هذه الصيغ الكثيرة تظل إمكانات نظرية مطروحة أمام الشاعر حتى إذا ما اختار واحدة منها تقيد بها ولم يعد متاحًا له سواها . |
(134) ولعلنا رأينا من هذا الاستعراض السريع لطبيعة بناء الشكل الموسيقي للقصيدة الموروثة مدى ما في هذا الشكل من صرامة ودقة ، مما جعل الشاعر العربي -على امتداد تاريخ الشعر العربي- يحاول التمرد على صرامة هذه الالتزامات وقوتها . فقامت عدة محاولات لتطوير هذا الشكل وتخفيف ما فيه من قيود والتزامات ، ولعل أجرأ هذه المحاولا ت وأعمقها أثرًا ما فعله شعراء الأندلس في "الموشح"الذي تخفف من كثير من التزامات الشكل الموروث وإن كان قد فرض على نفسه في مقابل هذا قيودًا ليست أقل صرامة وقسوة .وبعد الموشح توالت حركات التجديد في موسيقى القصيدة العربية ، وكانت كلها متأثرة بشكل أو بآخر بمعالم التجديد في الموشح الأندلسي . وجاء الشاعر العربي المعاصر ، وورث كل هذه المحاولا تالتجديدية ، جحاول بدوره في ضوئها ، وفي ضواء التأثري باتجاهات التجديد في موسيقى القصيدة في الآداب الغربية ، أن يستخلص من الشكل الموسقي الموروث للقصيد إمكانات إيقاع جديدة يضعها -إلى جانب الشكل الموروث-رهن التعبير عن رؤيته الشعرية الحديثة، وقد وصل من خلال محاولات إلى ما عرف في شعرنا العربي الحديث باسم "الشعر الحر ". 3- لماذا البحث عن شكل موسيقي جديد ؟! "يعتمد الإيقاع -كما يقول ريتشاردز- كمكا يعتمد الزن الذي هو صروته الخاصة على التكرار والتوقع ؛فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقعنا سواء كان ما نتوقع حدوثه يحدث بالفعل أو لا يحدث .. وعادة يكون هذا التوقع لا شعوريًا ، فتتابع المقاطع على نحو خاص -سواء كانت هذه المقاطع أصواتًا ، أم صورًا للحركات الكلامية -يهيئ الذي لتقبل تتابع جديد من هذا النمط دون غيره (118) ____________________________________ (118)ريتاشاردز (أيفور آرمسترونج) : مبادئ النقد الأدبي .ترجمة الدكتور مصطفى بدوي .المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطابعة والنشر .القاهرة 1963 ص 188 |
(135) وبناء على هذا فإن الشكل الموسيقي الموروث للقصيدة العربية - في ضوء ما عرفناه من قوانينه الموسيقية -يقوم على مجموعة من التوقعات الدقيقة وإشباعاتها ؛ فحين يقرأ المتلقي أو يسمع قول عمرو بن كلثوم في مطلع قصيدته مثلاً : ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا فإنه يتوقع -بناء على توالي السواكن والحركات على هذا النحو المعين - عدة توقعات : يتوقع أولاً أن تتوالى-على امتداد القصيدة -وحدات صوتية متماثلة ، يتألف كل منها من مجموعة من السواكن والحركات توازن التفعيلة "مفاعلتن" في ترتيب سواكنها وحركاتها، وهذه هي "وحدة الإيقاع ". ويتوقع ثانيًا أن تتألف من كل ست من الوحدات السابقة وحدة أخرى مركبة هي "البيت"، وهذه الوحدة المركبة تتوالى أيضًا بنسقها الجديد على امتداد القصيدة . ويتوقع ثالثًا أن تكون التفعيلة الأخيرة على صيغة معينة هي الصيغة المقطوعة-التي حذف منها الحرفان السادس والسابع وسكن الحرف الخامس فأصبحت (مُفاعَلْ)بسكون اللام -وهذه هي تفعيلة "الضرب". ويتوقع أخيرًا أن ينتهي كل بيت بمجموعة من الأصوات المحددة التي تمثل "القافية" ، وهي هنا النون المفتوحة المسبوقة بياء أو واو التي يعقبها ألف . إن قارئ القصيدة العربية الموروثة يتوقع كل هذه التوقعات ، والشكل الموسيقي الموروث تمامًا- باستثناء خلافات يسيرة مسموح بها في "وحدة الإيقاع"وهذه الخلافات بدورها محكومة ومنضبطة ، وينظمها في العروض الموروث ،كما سبق القول ، ما يعرف باسم "الزحافات والعلل"-ومن ثم فإن مثل هذا المتلقي لا يكاد يصاب بأي نوع من خيبة الأمل فيما يتصل بتوقعاته بالنسبة للشكل الموسيقي للقصيدة . |
(136) ولكن "معظم ضروب الإيقاع -كما يقول ريتشاردز مرة أخرى -يتألف من عدد المفاجآت ومشاعر التسويف وخيبة الظن لا يقل عن عدد الإشباعات البسيطة المباشرة ، وهذا يفسر لنا لماذا سرعان ما يصبح الإيقاع المسرف في البساطة شيئًا مملاً تمجه النفس ، خاليًا من الانفعال والتأثر (119)و"غالبًا ما يكون لخيبة التوقعات أهمية أكثر من تحققها ، والنظم الذي لا نجد فيه غير ما نتوقعه بالضبط دائمًا بدل أن نجد فيه ما يطور استجاباتنا الكلية هو مجرد نظم رتيب يبعبث على الضيق "(120). وكان هذا عاملاً من العوامل التي دفعت الشاعر العبي - منذ عصور موغلة في القدم إلى أن يتمرد على هذا الشكل وأن يكسر قليلاً من حدة صرامته وانضباطه ، وهو أيضًا عامل من أهم العوامل التي دعت الشاعر العربي المعاصر إلى البحث عن شكل موسيقي جديد يصوغ من خلاله رؤيته الشعرية الحديثة ، شكل يكون أقل إحكامًا ، وأكثر مرونة وطواعية من الشكل الموروث . يضاف إلى هذا العامل الأساسي مجموعة من العوامل الأخرى لعل أهمها أن الشكل الموسقي الموروث -على الرغم من كثرة الالتزامات فيه - يتألف من نغمة واحدة منضطبة ، تتردد على امتداد القصيدة بتدون تنوع يكذر ، وهذا بدوره يحرم المتلقي من متعة مشاركة الشاعر في اكتشاف شكله الموسيقي وإبداعه أولاً بأول ، لأن الشكل الموسيقي الموروث يمنح عطاءه الموسيقي منذ البيت الأول ، ولا يترك للقارئ بعد ذلك شيئًا ذا بال -فيما يتصل بالجانب الموسيقي -ليكتشفه ، حيث يجيء كل شيء على النحو الذي يتوقعه تمامًا -كماسبقت الإشارة إلى ذلك - : وحدة الإيقاع ،والبيت ، والضرب ، والقافية . ____________________________ (119) السابق .ص 192 (120)السابق .ص 195 |
(137) ويحاول البعض في العادة أن يربط بين الشكل الموسيقي والتراث الشعري الذي كتِبَ في إطاره ، فيعتبر أن أية محاولة لتطوير الشكل الموسيقي يمثل موقفًا من التراث الذي كتِبَ بهذا الشكل ، مع أنهما شيئان مختلفان ، ومن الممكن لشكل ما أن يضيق عن استيعاب بعض أبعاد التجربة الشعرية في عصر معين نتيجة لظروف حضاروية وفنية واجتماعية خاصة ، دون أن يعني ذلك أن التراث الذي كُتِبَ في إطار هذا الشكل في عصور سابقة ، وفي ظل ظروف أخرى ، غير قابل للفناء والخلود ، ولقد اتسع الشكل الموسيقي للقصيدة العربية الموروثة لأبعاد تجربة الشاعر العربي ،واستطاع هذا الشاعر أن يبدع في إطار هذا الشكل أروعا لقصائد وأبقاها . وفي الوقت الذي أحس فيه الشاعر العربي بأن هذا الشكل لم يعد -وحده- قادرًا على استيعاب كل أبعاد رؤيت بدأ محاولة تطوير هذا الشكل ، ومن يومها استمرت المحاولات حتى العصر الحديث . والشاعر العربي الحديث في محاولته لتطوير الشكل الموسيقي للقصيدة العربية ، واكتشاف إمكانيات تعبير وإيحاء موسيقية جديدة لم يتخل كلية عن الشكل الموسيقي الموروث بأشد صيغة إحكامًا وصرامة ، فظل يستعمله إلى جانب الأنماط الموسيقية الأخرى التي اكتشفها ، أو بتعبير أدق استولدها من هذا الشكل الموروث . وقد اعتمد الشاعر العربي المعاصر في محاولة اكتشاف شكله الموسيقي الجديد على مصدرين أساسيين : أولاً : محاولات التجديد الموسيقي في تراث القصيدة العربية ، ابتداء بالموشح الذي طور الكثير من التقاليد الموسيقية للشكل الموروث للقصيدة-على الرغم من أنه فرض في مقابلها قيودًا قد لا تكون في بعض جوانبها أقل صرامة-وانتهى بمحاولات رواد التجديد الأُوَل في القصيدة العربية الحديثة من شعراء المهجر ، وشعراء أبوللو ، وسواهم من رواد التجديد في تاريخ شعرنا الحديث . |
(138) وثانيهما : محاولات التجديد في موسيقى القصيدة في الآداب الأوروبية الحديثة ، وخصوصًا الأدب الرمزي الفرنسي، وامتداداته في الآداب الأوروبية الأخرى ، وقد تعرفنا على مدى اهتمام الرمزيين بالجانب الموسيقي في الشعر نتيجة لتأثرهم بموسيقى فاجنر ، وما تمتلكه من قدرات تعبيرية جعلت بودلير يقول عنها " إنها -حتى بدون شعر - تظل تعمل عملاً شعريًا، لتمتعها بكل المزايا التي تصنع شعرًا عظيمًا"(121) والتي دفعت واحدًا من شعراء ونقاد آخر أجيال الرمزية الفرنسية وهو "بول فاليري"إلى أن يقول :"إن مهمة الشعر أن يسترد من الموسيقى ما سلبته منه"(122) وأنه "لم يكن من سبيل للشعر إلا أن يحاكوا بكل جهدهم هذا المنافس الخطير" (123)ولم يكن من الممكن أن يحاكوه من خلال الشكل الموسيقي الموروث للقصيدة الفرنسية ، المتمثل في "البحر الإسكندري " الذي كان يتميز بنوع من الرتابة والإحكام ، وهم يريدون أن تكون موسيقى أشعارهم صدى لتلك الخلجات الروحية العميقة ، وتلك الأبعاد النفسية الغامضة ، وليست قالبًا جاهزًا تسجن فيه تلك الخلجات ، إنهم يريدون أن يستغلوا ما فيها من طاقات إيحائية خارقة لا تحدها قيود للإيحاء بهذه الجوانب التي لا تعبر عنها الكلمات ، ومن ثم أعلنوا الثورة على رتابة البحر الإسكندري ولجأوا إلى "الشعر الحر Vers Libre"وقد وجدت دعوة الرمزيين إلى هذا الشكل معارضة شديدة في بادئ الأمر ، ولكنه لم يلبث أن فرض نفسه كشكل موسيقي جديد ،وحتى الذين عارضوا الأسس النظرية للدعوة إلى الشعر الحر لم يتمالكوا أنفسهم من الإعجاب بالنماذج الشعرية التطبيقية(124) وكان أبرز ما يميز هذا النمط الموسيقي أن عناصره لم تكن مستمدة من قواعد مفروضة سلفًا وإنما كانت تنبع غالبًا من التوافق الداخلي بين الكلمات والأصوات ، فكان له إيقاعه الخاص الذي يحاول فيه أن يكون صورة من الإحساس الداخلي للشاعر والخوالج الباطنية التي لا يمكن أن تتساوى وتتماثل "وبلد أن يخضعوا الخوالج للتعبير أخضعوا التعبير لها ، فجرى تقسيم الأبيات تبعًا للمدى الزمني الداخلي الي تستغرقه العاطفة .(125) _______________________ (121) : Baudelaire.L'ar Romantique.p.288 (122):انظر :د.إحسان عباس ؛فن الشعر ص65 (123):السابق . ص66. (124): Gustav Kahn : Les Orginies Du Symbolisme .Ed Albert Messein. Paris. 1936. p.10 (125):د.أنطون غطاس كرم : الرمزية والأدب العربي الحديث.ص102 |
(139) وإذا كان بعض الذين كتبوا بالشكل الحر من الشعراء الرمزيين الفرنسيين ومن تأثر بهم في المرحلة الرمزية قد ارتدوا لأسباب متعددة-كما توقع جوستاف كاهن- إلى الشكل التقليدي فإن هذا الارتداد-بالإضافة إلى كل المعارضة التي جوبه بها الشكل الحر والدعوة إليه-لم يكن له سوى تاثير ضئيل(126)وذلك لأن "موجة الإيقاع الرمزي لم تنحسر إلا بعد أ، تركت آثارًا عميقة في كثير من الشعراء الفرنسيين والمعاصرين.. وكما امتدت التصورية (127) وعن طريق هذا الامتداد بالذات من امتدادات التأثير لتطوير الشكل الموسيقي للقصيدة العربية إلى "الشعر الحر " 4- الأسس الموسيقية للشعر الحر : ليس معنى الحرية في الشعر الحر الذي يعتبر أحدث الأشكال الموسيقية للقصيدة العربية الحديثة -وإن لم يكن هو شكلها الموسيقي الوحيد- أنه قد تحرر كلية من الالتزامات الموسيقية في الشكل الموروث ، أو أنه لم يعد يسمح للمتلقي بأي لون من ألوان التوقع المنضبط الدقيق التي كان يسمح له بها الشكل الموروث . _____________________________________________ (126):د.أنطون غطاس كرم:الرمزية والأدب العربي الحديث .ص 102 (127):Las Originds du Symbolisme..10 |
(140) فالشعر الحر يلتزم التزامًا دقيقًا بالأساس الجوهري من أسس الإيقاع في الشكل الموروث ، وهو تكرار وحدة الإيقاع ،وهو يلتزم -وإن كان بشكل أكثر مرونة- بالقافية ، ولكنه لا يلتزم فيها نسقًا ثابتًا كما سنرى . أما الأساس الذي تحرر منه هذا الشكل كلية من الأسس الموسيقية للشكل الموروث فهو "البيت" بمعناه الموروث -أي بمعنى عدد محدد من التفاعيل يلتزم في أي سطر من السطور . أما وحدة "الضرب " فإن الشعر الحر لم يلتزم بها أيضًا التزامًا حاسمًا ، وإن كنا لا نعدم أن نجد في بعض القصائد الحرة ذات القافية الموحدة نوعًا من التزام وحدة الضر ب. وعلى الرغم من أن شعراءنا المحدثين حاولوا تطويع بعض الأوزان من النمط المركب -الذي تتألف وحدة إيقاعه من أكثر من تفعيلة -فإن الغالبية العظمى من نتاج الشعر الحر جاءت في إطار النمط البسيط -الذي تتألف وحدة إيقاعه من تفعيلة واحدة -ولنتعرف على طبيعة البناء الموسيقي للشعر الحر نقرأ معصا هذاالنموذج للشاعر محمد الفيتوري 128) كان قلب الحديقة يركض مختبئًا في الظلام والحديقة أرخت ستائرها كي تنام وتدلى القمر ذلك العاشق الملكي ،محب السهر ومضى يتسلق سور الحديقة نجد أولاً أن الأبيات كلها تلتزم تكرار وحدة إيقاع واحدة هي التفعيلة "فاعلن" وهي وحدة إيقاع بحر "المتدارك"ولكن الشاعر لم يلتزم تكرارها عددًا محددًا من المرات في كل بيت ، فالبيت الأول مثلاً يتألف من ست وحدات : (128):محمد الفيتوري. قصيدة القمر والحديقة.ديوان "الثورة والبطل والمشنقة"دار العودة .بيروت_________________________ |
(141) وهكذا لا يتشابه بيت من الأبيات الخمسة في الطول مع سواه-إذا ما استثنينا البيتين الثاني والرابع- وهكذا تتراوح أطوال الأبيات في هذا النموذج ما بين وحدتين من وحدات الإيقاع ست وحدات .كان قلـ\ ب الحديـ\قة ير\كض مخـ\تبئًا \في الظلام فاعلن\ فاعلــــن\فعلـن\ فعلن \فعلن\فـــاعلان والحديـ\قة أر\خت ستـا\ئرها\ كي تنام فاعلن \ فعلن \ فاعلن \ فعلن \فاعلان وتدلـ ــلى القمر فعلن\ فاعلن بينما يتألف البيت الأخير من أربع وحدات: ومضى\ يتسلـ\ق سو\ر الحديقة فعلن\ فعلن\فعلن \فاعلاتن أما "الضرب" فإن الشاعر لم يلتزم فيه صيغة واحدة ، فهو"فاعلن" في البيتين الثالث والرابع ، وهو "فاعلان" في البيتين الأول والثاني ، وهو "فاعلاتن" في البيت الأخير . وكذلك القافية لم يلتزم فيها الشاعر نسقًا واحدًا ، وإنما ظل يراوح بين مجموعة من القوافي بدون نسق ثابت ، أي أنه يلتزم بنوع من التقفية ولا يلتزم بمبدأ القافية الواحدة ،أو القافية المتنوعة وفق نظام ثابت محدد . ولكن الشاعر قد يرى أحيانًا أنه في حاجة ماسة إلى التزام قافية واحدة طوال قصيدته الحرة إذا أحس أنه يحتاج إلى إبراز الإيقاع كما فعل الشاعر محمود حسن إسماعيل مثلاً (وهو واحد من الرواد الأوائل في مجال استخدام"الشعر الحر"ولكنه ارتد عنه مرة أخرى إلى القالب الموروث بأشكاله المتطورة ، ثم عاد إلى الشعر الحر من جديد في أخريات حياته) في قصيدته "التزام":(129) _______________ (29) : محمود حسن إسماعيل: ديوان "نهر الحقيقة".الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972ص18. وهي قصيدة طويلة تتجاوز المائة بيت ، وقد التزم الشاعر فيها كلها قافية واحدة هي النون الساكنة المسبوقة بألف ، يقول الشاعر في مطلع هذه القصيدة : |
(142) القصيدة من بحر الكامل والشاعر لم يلتزم بتكرار واحدة إيقاعه "متفاعلن" عددًا محددًا من المرات في كل بيت ، وإنما تتنوع أطوال الأبيات ما بين وحدة واحدة كالبيتين الأول والثاني مثلاً ، ووحدتين كالبيت الثالث ، وثلاث كالبيت الرابع ، وخمس كالبيت الخامس ، والسادس والسابع ، وهكذا..متلازمان متعانقان في كل آونة وآن كالظل في كبد الغدير .. يهومان وكالشعاعة في تلفت نجمة وحشا هجير ..يهبطان كالوهم ..حين تروغ حيته بأغصان الشعور ..يداهمان كالحم يخلق من خريف النفس أجنحة تطير ..يرفرفان .. .. .. .. .. .. متلازمان متعانقان أنا والحقيقة كل آن |
(143) ولكن الشاعر في غمرة سبحه في ذلك الأفق الصوفي -الذي يحس فيه بتعانق روحه الحقيقية وامتزاجها بها-أحس بأنه في حاجة إلى تكثيف الجانب الإيقاعي وإثراء الناحية الغنائية وذلك عن طريق التقفية ، فالتزم قافية واحدة طوال القصيدة ، بل إنه لم يكتف بهذه القافية الموحدة في نهاية كل بيت فراح يدعمها بمجموعة من القوافي الداخلية ،التي تتناثر داخل الأبيات فتغني الإيقاع وتكثفه ، وذلك كالراء المسبوقة بياء أو حرف واو -ومعروف أن الواو والياء إذا وقعت إحداهما ردفًا (وهو حرف المد الذي يسبق حرف الرويّ في القافية) يجوز تبادلها مع الأخرى-وهذا واضح في الأبيات من الرابع إلى السابع ، وفي أبيات أخرى في القصيدة . ونتيجة لالتزام الشاعر قافية واحدة فإن صيغة الضرب جاءت بدورها موحدة على امتداد القصيدة ، حيث جاءت تفعيلة الضرب في كل بيت على صيغة "متفاعلان" وهي الصيغة المذيلة-التي زيد في آخرها حرف ساكن- لوحدة إيقاع الكامل . وإذا كان في الشعر الحر مثل هذه النماذج التي التزمت قافية واحده فإن فيه في مقابل ذلك نماذج أخرى لم تلتزم التقفية إطلاقًا ، وقد مرت بنا بعض هذه النماذج كقصيدة "مائدة الفرح الميت" (130)للشاعر محمد إبراهيم أبي سنة مثلاً التي لا يتشابه فيها بيتان في قافيتهما . فالقافية في القصيدة الحرة باختصار ليس لها نظام ثابت ملتزم ، وإنما يتصرف فيها الشاعر وفق طبيعة رؤيته الشعرية الخاصة . وإذا كانت الغالبية العظمى من الشعر الحر قد كتبت في إطار النمط البسيط من نمطي الأوزان العروضية الموروثة فإن هناك محاولات كثيرة كتبت أيضًا في إطار النمط المركب بقسميه . _______________ (130): انظر هذا الكتاب ص 63 |
(144) فمن نماذج القسم الأول - وهو الذي تتألف وحدة الإياقع فيه من تفعيلتين اثنتين -يقول السياب في المقطع الرابع من قصيدة"سفر أيوب"(132)-وهي قصيدة طويلة كتبها الشاعر وهو يعالَج في لندن من مرضه الطويل الذي انتهى به إلى الموت : أطفال أيوب من يرعاهم الآنا ضاعوا ضياع اليتامي في دجى شات ِ جيكور ، والشمس ، والأطفال راكضة بين النخيلات ِ وزوجة تتمرى وهي تبتسم أو ترقب الباب ، تعدو كلما قرعا لعله رجعا مشاءة دون عكاز به القدم فالقصيدة من بحر البسيط الذي تتركب وحدة إيقاعه من تفعيلتين "مستفعلن فاعلن"ولكن الشاعر لم يلتزم هنا بتردد هذه الوحدة أربع مرات في كل بيت -كما هي تقاليد الشكل الموروث- وإنما تراوح تردد هذه الوحدة ما بين مرة واحدة ،ومرتين ، وثلاث ، فهي تتردد مرة واحدة في البيت السابع : لعله رجعا متفعلن فعلن وتتردد ثلاث مرات في اليبت الرابع : ______________ (131):بدر شاكر السياب .ديوان "منزل الأفنان".دار العودة.بيروت1971ص 33 |
(145) جيكور ، والشمس ، والــ\ راكضة \بين النخيلات ِ(132) مستفعلن فاعلن \مستفعلن فعلن\مستفعلن فعلن وتتردد مرتين في بقية الأبيات ، فالبيت الأول مثلاً : أطفال أيـ \وب من \ يرعاهم الــآنا مستفعلن فاعلن \مستفعلن فعلن أما القسم الثاني من قسمي النمط المركب -وهو ذلك الذي تركب وحدة الإيقاع فيه من ثلاث تفعيلات-فإن معظم النماذج التي كتبت به-باستثناء تلك التي كتبت من بحر "السريع"-كتبت بأسلوب "التدوير " وسنحلل بعض هذه النماذج حين نعرض لهذا الأسلوب . 5-المزج بين الشكلين الحر والموروث : ظل الشكل الموسيقي الموروث يستخدم مع الشكل الحر جنبًا إلى جنب في بناء القصيدة العربية الحيدثة ، وإن كانت نسبة استخدامه آخذة في التضاؤل بالقياس إلى الشعر الحر ، ولكن الشاعر العربي الحديث ما زال يشعر أن من أبعاد رؤيته الشعرية ما لا يصلح للتعبير عنه إلا الشكل الموروث بإيقاعه المحكم الدقيق ، ومن ثم فإننا نجد القصائد الحرة تتجاور في الديوان الواحد مع القصائد المكتوبة بالشكل الموروث ، بل إن الشاعر أيحانًا يحس أن بعض أبعاد رؤيته الشعرية في إطار القصيدة الواحدة يلائمها استخدام الشكل الحر ، بينما يلائم بعضها الآخر الشكل الموروث ، ومن ثم فإنه يمزج الشكلين في القصيدة الواحدة ، وخصوصًا تلك التي يكون فيها نوع من الحوار والصراع بين صوتين،أو بين بعدين من أبعاد رؤية الشاعر ، ومن النماذج البارعة لهذه المزج بين الشكلين قصيدة "بورسعيد" (133)لبدر شاكر السياب . _________________________ (132): لم نلتزم هنا -وفي كل المواضع الأخرى- بالكتابة العروضية،باستثناء كتابة الحرف المشدد حرفين إذا كان مشتركًا بين تفعيلتين . (133):ديوان "أنشودة المطر"ص181 وسنعرض لهذه القصيدة في مبحث"البناء الدرامي للقصيدة الحديثة" |
(146) ولقد تأثر بالفكرة الموسيقية في هذه القصيدة كثير من الشعراء ، ومن الذين تأثروا بها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في قصيدته "حوارية العار"(137) التي تتحاور فيها مجموعة من الأصوات ، هي صوت "السلطان" وصوت"السادن" وصوت "العبيد" وصوت "أوزيريس" وصوت "الشاعر " ، وتدور القصيدة حول ذلك الصراع الأبدي بين السلطان المستبد وعملائه من ناحية ، وبين قوى المقاومة والصمود من ناحية أخرى ؛السلطان بكل ما يملكه من إمكانيات الترغيب والترهيب ، وقوى المقاومة بكل ما تمتلكه من قدرة على البذل ، والتضحية والفداء ، وإذن فعلى الرغم من تعدد الأصوات في القصيدة فإن الصراع أساسًا يقوم بين طرفين أساسيين ، يتمثل الطرف الأول في السلطان وعملائه-ممثلين في "السادن"- ويتمثل الطرف الثاني في قوى المقاومة ممثلين في "أوزيريس" من ناحية ، "والشاعر " من ناحية أخرى -ولعل الشاعر يرمز بأوزوريس إلى عنصر الفداء والتضحية في قوى المقاومة ، فأوزوريس في الميثولوجيا المصرية هوي رمز الخير الذي صرعه رمز الشر "ست" وبعثر أشلاءه في أرجاء مصر ، ولعله يرمز في جانب من جوانبه إلى القيادات الفكرية والروحية للمقاومة ، أما "الشاعر " فهو رمز لعنصر الصمود والإصرار في قوى المقاومة ،ولعله أيضًا في بعض جوانبه يعبر عن صوت جماهير المقاومة ، أما "العبيد " فهم رمز الطبقة المسحوقة التي لا تفعل أكثر من ترديد صوت السلطان وعملائه . ولقد استخدم الشاعر الشكل الحر في التعبير عن كل الأصوات ما عدا صوت "الشاعر" حيث كتبه بالشكل الموروث بكل ما فيه من علو نبرة وفخامة إيقاع ، وكأنما يريد أن يجعل نبرة صوته أعلى من كل النبرات ، وبؤكد من خلال ارتفاعها إصرار المقاومة على الاستمرار رغم كل التضحيات وكل البذل ومن ثم فإنه يعبر عن صوت "أوزوربس"نفسه بالشكل الحر ، لأنه يريد أن يجعل صوت الصمود-الذي يرمز إليه الشاعر-أعلى من آلام التضحية -التي يرمز إليها أوزيريس-ولأن صوت القيادات الروحية والفكرية للمقاومة- التي يرمز إليها أوزيريس أيضًا في بعض جوانبه-يكون عادة أهدًا نبرة من صوت جماهير المقاومة، ممثلة في الشاعر . ________________________________ (134):سميح القاسم :ديوان :"دمي على كفي " دار العودة ، بيروت (بدون تاريخ)ص102 |
(147) وتبدأ القصيدة -بعد افتتاحية قصيرة تقدم بإيجاز شديد المسرح الذي يجري عليه الصراع بين الأصوات المختلفة -بصوت "السادن"العميل ، وهو يزين لسيده السلطان الاستبداد بالرعية والإغداق على أتباعه والعصف بخصومه: مولاي ..يمتثل الجموع الخزي والدمع والدموع والعبد ، عن كرم، يبيح السيد المعبود أرضه ويبيحه إن شاء عرضه هذي صكوك الذل وقعها القطيع وتهافت الخصيان ، فامنحهم فتات المائدة .. .. .. .. .. .. .. .. أمطر على الأتباع ياقوتًا ، ونيرانًا على زمرالفلول الجاحدة هذا الزمان كما تشاء ، ورهن شهوتك الفلك والخصب في كفيك يا تموزنا . .والمجد لك وهكذا يقسم "السادن" القوى إلى ثلاث فئات : فئة "الأتباع" الذين يطلب من السلطان أن يمطر عليهم ياقوتًا ، وفئة الخصوم من "زمر الفلول الجاحدة" وهؤلاء يغري بهم السلطان ويطلب منه أن يمطر عليه منيرانًا ، وأخيرًا فئة العبيد من الجماهير المسحوقة التي توقع صكوك الذل للسطان ، وهؤلاء ليس لهم لدى السلطان سوى "فتات المائدة" يطلب من السلطان أن يمنحه لهم . |
(148) وعقب صوت "العبيد" يأتي صوت "أوزيريس" هدائًا ولكن في صلابة ، معبرًا عن تطلعات الجماهير إلى الحرية وأملهم الباقي فيها ، مهما كانت التضحيات والآلام : عبر القرون الدامسات ، وعبر طوفان الدماء عبر المذلة ، والخيانة ، والشقاء عبر الكوارث والمخاطر .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. عدنا ،وملء قلوبنا وهج النبوءة والفداء عدنا ، وملء شفاهنا تسبحة الأفق المكبل للضياء وبعد صوت أوزيريس-الذي يعبر عن بعد التضحية والفداء في المقاومة-يأتي صوت "الشاعر " الذي يعبر عن بعد الصمود والإصرار -هادرًا ، وحاسمًا، وعالي النبرة ، يؤكد عدم الخضوع إلى لداعي الحرية وندائها ، ويصوغ الشاعر هذا الصوت في شكل موسيقي كلاسيكي بارز الإيقاع صارمه : غير اللواء الحر لا نترسم وبغير صك جراحنا لا نقسم ولغير قدس الشعب لسنا ننحني وبغير وحي الشعب لا نتكلم فلتشرب الرايات نخب جراحنا كأسًا يفيض على جوانبها الدم |
(149) ويفاجأ السلطان بهذا الصوت الغريب على فنائه ، فيعلن : باسمي ..أعدوا النطع للصوت الغريب على فنائي وليصلب المتمردون على مشيئتي الوحيدة ولتحشد الأسلاك ، والجوع المذل ، وعدة الموت المريدة |
(150) ويأتي صوت "السادن" العميل من جديد ، مرددًا أصداء صوت مولاه السلطان ، مشجعًا له على الاستمرار في طريق التنكيل بالخصوم حتى تعنو جباههم لسلطانه ، ويضع في النهاية نفسه في خدمة السلطان ، أداة من أدوات بطشه بمعارضيه : مولاي .. مولاي المطاع .. .. .. .. .. .. .. .. ..الآبقون التفاهون فم يصيح .. ولا ذراع ألب عليهم حسرة المنفى ، وأوباء السجون واجعل ضماد جراحهم ملحًا ، وكبريتًا وطين وإذا أمرت .. فإني سوط ، ومقصلة ، وسيف ويعقب هذا الصوت العميل صوت "العبيد " مرة أخرى ، مرددًا عبارته الخانعة المسكينة "ما شئت لك" ليأتي بعده صوت "أوزيريس" بدعوته النبيلة إلى الحرية ، وإلى مقاومة الاستبداد مهما كان الثمن ، ومهما كانت التضحيات ، وبأن هذه هي سبيل المناضلين التي لا سبيل لهم سواها ، وهذه هي قمتهم الشامخة التي يحلقون فوقها ناظرين في إشفاق إلى الذين يعيشون في مستنقعات صمتهم وخنوعهم أبأس حياة : مستنقعات الصمت للديدان .. فليقنع بصمته من باع للشيطان جذوته ، وخان عهود بيته مستنقعات الصمت للديدان .. والقمم العصية للشمس ، والبصر الجسور فتهيئي للقائنا يا واحة الله القصية عدنا ..رجال الأرض ، إن شحت وإن كانت سخية .. .. .. .. .. .. .. .. .. |
(151)
ويختتم القاسم قصيدته بصوت "الشاعر " بنغمته الهادرة بكل ما فيها من إصرار وصمود ،ليؤكد أن كلمته هي الكلمة الأخيرة في الحوار ، وأن صوته سوف يظل عاليًا وصامدًا رغم كل التضحيات الفادحة ، مرددًا أغنيته الحرة الخالدة: قسمًا بأطلال لنا تتكلم ُ وبصحوة تبني الزمان وتهدمُ قسمًا بمن أهووا ،وآخر شهقة منهم بميدان الفداء : تقدموا قسمًا بأعراس الجراح وفجرها غير اللواء الحر ..لا تترسمُ وهكذا استطاع الشاعر أن يستغل هذا التنوع الموسيقي استغلالاً إيحائيًا بارعًا ، فيعطي كل صوت من الأصوات نغمته الموسيقية الملائمة . وثمة نماذج أخرى كثيرة في شعرنا المعاصر استطاعت أن تستغل هذا المزج بين الشكلين في التعبير عن الأبعاد المختلفة للرؤية الشعرية في القصيدة الواحدة . 6- التدوير في القصيدة الحرة : "التدوير" مصطلح عروضي قديم أخذ في القصيدة الحرة مفهومًا حديثًا ، فالتدوير في ا لعروش الموروث يعني اتصال شطري البيت ، واشتراكاهما في كلمة واحدة ، أو بعبارة أخرى يعني انقسام كلمة واحدة بين الشطرين بحيث ينتهي الشطر الأول في صدرها ويبدأ الثاني بعجزها ، فحين نقرأ الأبيات التالية من سينية البحتري التي يصف فيها صورة معركة "أنطاكية" بين الفرس والروم المرسومة في إيوان كسرى : وإذا ما رأيت صورة أنطا كية ارتعت بين روم وفرسِ والمنايا موائل وأنو شرو ان يزجي الصفوف تحت الدرفس ِ .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. تصف العين أنهم جد أحيا ء لهم بينهم إشارة خرس ِ |
(152) يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقراهم يدي بلمس ِ(135) نجد الأبيات الثلاثة الأولى مدورة ، بمعنى أن نهاية الشطر الأول في كل منها لا تصادف نهاية كلمة ، وإنما تأتي في وسط الكلمة ليبدأ الشطر الثاني ببقيتها ، وهكذا يتصل الشطران ،فكلمة "أنطاكية" في البيت الأول ، و"أنوشروان" في البيت الثاني ، و"أحياء" في اليت الثالث مشتركة بين الشطرين ، ويتضح لنا هذا حين نحلل هذه الأبيات عروضيًا : وإذا ما \رأيت صو\رة أنطا كية ارت\ بين رو\ م وفرس فعلاتن \ متفعلن \فعلاتن فاعلاتن\متفعلن \ فاعلاتـــنالقصيدة من بحر "الخفيف" وقد انقسمت كلمة "أنطاكية" بين شطري البيت ، فختم صدرها "أنطا" الشطر الأول ، وبدأالشطر الثاني بعجزها "كية" وهكذا الشأن في البيتين الأخيرين ، وفي كل الأبيات المدورة . أما القصيدة الحرة فإن التدوير بهذا المفهوم لا يمكن أن يرد فيها ، وذلك لأن البيت الحر لا يتألف من شطرين حت يتصل ثانيهما بأولهما وتنقسم بينهما الكلمة ، ولكن مصطلح "التدوير" أصبح يطلق قي القصيدة الحرة على ظاهرة شاعت شيوعًا كبيرًا في المرحلة الأخيرة ، وهذه الظاهرة هي اتصال أبيات القصيدة بعضها ببعض ، حتى تصبح القصيدة بيتًا واحدًا ، أو مجموعة محدودة من الأبيات المفرطة الطول . وصحيح أن البيت الحر ليس له طول محدد ليمكن القول إن هذا البيت أو ذاك تجاوز هذا الطول المحدد ، ولكن البيت الذي يزيد طوله في العادة بصورة غير مألوفة عن أطول صيغ شكله الموروث يعتبر بيتًا مدورًا ، فالبيت المدور في وزن المتقارب مثلاً هو الذي يتجاوز طول ثماني تفعيلات بشكل واضح ، وإن كان التدوير عادة في القصيدة الحرة لا يطلق في العادة إلا على القصيدة التي تطول أبياتها بشكل غير مألوف ، حتى يصبح البيت وكأنه مجموعة من الأبيات المتصل ببعضها البعض . _____________________ (135) : ديوان البحتري.تحقيق حسن كامل الصيرفي .المجلد الثاني .دار المعارف بمصر 1963 ص 1156،1157. وأنطاكية : بلد بالشام دارت فيه معركةبين كسرى أنو شروان ملك الفرس ويوستينيانوس إمبراطور الروم .الدرفس . العلم الكبير |
(153) بل إن بعض القصائد الحرة في المرحلة الأخيرة قد أصبحت بيتًا واحدًا متصلاً لا ينتهي -عروضيًا -إلا مع نهاية القصيدة ، ولا يشتمل على أية وقفات عروضية يقف عندها القارئ ليلتقط أنفاسه ، حين نقرأ مثلاً أولى قصائد ديوان "زيادة السيدة السومرية"(136) للشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر وهي قصيدة "الإقامة على الأرض" لا نتوقف -عروضيًا- إلا مع آخر تفعيلة فيها ، يقول الشاعر في بداية هذه القصيدة :بمقبرة خلف برلين يرقد طفل من النخل قيل : استراح بن جودة ، هل يذكر السرو ، منحنيًا فوق قبر ابن جودة ، طفلين في النخل يحتطبان؟ اهدئي عند جرفيك أيتها الموجة ، الصبية الشاحبون المهازيل في الريح والبرق ينتظرون التي وجهها فضة، في مقاه مقاعدها حشب أو حصير قرأنا الجرائد والنسوة السافرات ، اهدئي عند جرفك أيتها الموجة ..إلخ وهكذا تستمر الموسيقى متدفقة بدون توقف إلى نهاية القصيدة وبدون أية وقفات عروضية يستريح القارئ عندها . والإفراط في استخدام التدوير في القصيدة الحرة -زيادة على كونه يرهق القارئ الذي يركن في العادة إلى وجود وقفات موسيقية في نهاية الأبيات يلتقط عندها أنفاسه -يضعف الإيقاع العام في القصيدة ، لأنه يقضي على بعض عناصر هذا الإيقاع المتمثلة في الوقفات الموسيقية عند نهاية كل بيت ، والقوافي المرتبطة بهذه الوقفات، فمعظم القصائد المدورة مفتقرة إلى عنصر القافية لأنها تتألف من بيت واحد ، والقافية تتطلب تعدد الأبيات . _____________________________________ (136) : حسب الشيخ جعفر . زيارة السيدة السومرية.منشورات وزارة الإعلام العراقية .بغداد1974 ص 7 |
(154) ولكن بعض الشعراء يحاولون تعويض هذه الجوانب عن طريق تكثيف الموسيقى الداخلية وإثرائها من ناحية ، ثم عن طريق بعض القوافي الداخلية أيضًا التي لا يمكن اعتبارها نهايات أبيات ، ولكنها تتيح للقارئ أن يقف عندها لالتقاط أنفاسه من ناحية أخرى . وللشاعر أمل دنقل محاولات جيدة في هذ االمجال ، تعرفنا على بعضها في قصيدة "صلاة" (137) حيث كثف الموسيقى الداخلية في البيت المدور عن طريق استخدام مجموعة من الأصوات والألفاظ المتشابهة التي تكثف الجو الموسيقي وتثري الإيقاع وتحقق لونًا من التقفية الداخلية في إطار البيت الواحد . ومن محاولاته البارعة في هذا المضمار قصيدته "خاتمة" (138) ، وهي قصيدة مدورة من بحر الرمل مؤلفة من ثلاثة أبيات فقط يتمد أولها فيتجاوز طوله الأربعين تفعيلة ، أي ما يساوي سبعة أبيات موصولة من أطول صيغ الشكل الموسيقي الموروث للرمل . ولكن الشاعر استطاع أن يكسر من حدة انثيال الموسيقى في البيت بوسيلة فنية بارعة حققت مجموعة من الأهداف الفنية ، وهذه الوسيلة عبارة عن نوع من التقفية الداخلية التي استطاعت أن تكسر حدة انثيال الموسيقى بوفقات موسيقية في إطار البيت الواحد ، واستطاعت أيضًاأن تثري الإيقاع وتثري الجو الموسيقي ، واستطاعت أخيرًا أن تنوع الإيقاع في إطار الوزن الواحد ، لأن القوافي الداخلية حولت الإياقع في بعض الأبيات من وزن الرمل -الذي وحدة إيقاعه "فاعلاتن" إلى وزن الهزج - شريك الرمل في دائرته العروضية "المجتلب" ، ووحدة إيقاع الهزج "مفاعيلن" وهي مقلوبة وحدة الإيقاع للرمل (فاعلاتن- لن مفاعي) -حيث كانت القافية الداخلية تبتر التفعيلة "فاعلاتن" إلى شطرين ، يختم أحدهما "فا" بيتًا من (الأبيات الداخلية )وتبدًا بقيتها "علاتن" بيتًا آخر ذا إيقاع هزجي جديد . ولنقرأ معا جزءًا من هذا البيت الطويل ، الذي كتبه الشاعر على عدة سطور بطريقة تبرز تنوع الإيقاع فيه ، وسنلتزم كتابة الشعر ولكن واضعين في اعتبارنا أن هذه السطور كلها تؤلف بيتًا واحدًا ، يقول الشاعر في مطلع هذا البيت : ____________________ (137): انظرهذا الكتاب ص 50، 51 (138) :ديوان "العهد الآتي".ص 93 |
(155) .إلخ ؟آه .. من يوقف في رأسي الطواحين ؟ ومن ينزع من قلبي السكاكين ؟ ومن يقتل أطفالي المساكين ؟ لئلا يصبحوا في الشقق الحمراء خدامين مأبونين مأجورين من يقتل أطفالي المساكين ؟ لئلا يصبحوا في الغد شحاذين يستجدون أصحاب الدكاكين وأبواب المرابين .. . وهذه السطور كلها جزء من البيت الأول ، السطر الأول يبدأ بالإيقاع الأساسي للقصيدة وهو بحر الرمل ، على النحو التالي : آه .. من \يوقف في ر\ أسي الطواحيـ\ــن ؟ فاعلاتن \ فعلاتن \فاعلاتن \فــ بينما تحول السطر الثاني -الذي بدأ ببقية التفعيلة"فعلاتن" إلى إيقاع هزجي ، على النحو التالي : ومن ينز\ ع من قلبي السـ\ــكاكين ؟ مفاعيلن\ مفاعيلن\ مفاعيل |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.