(76) نجده يبدأ من تشابه حسي بين عنصري الصورة : شوارع المدينة من ناحية ، والقيعان من ناحية أخرىفكل منهما يشبه الآخر شكليًا في أنه مكان منخفض بين مرتفعات ولكن الشاعر لا يقف أمام هذا الشبه الشكلي المادي إلا بمقدار ما يعقد صلة بني الطرفين ليحول هذه الصلة إلى تشاهب عميق في الواقع النفسي للطرفين ، ليعكس من خلاله إحساسه نحو هذه المدينة القاسية الجهمة ، التي تصلي الغريب بحر لهيبها المختزن ، وتواجهه بوجه جامد صلد ، فليس ثمة سوى هذه الأشكال الجامدة التي لا معنى لها ، ولا حس فيها :البناء ،والسياج ،والمربعات والمثلثات والزجاج. أية غربة قاسية ، وأي أدوار وأية أحاسيس بالضياع والضآلة يعانيها الغريب في شوارع هذه المدينة بلا قلب ؟! لقد نجح الشاعر في أن يحول هذا التشابه الشكلي المحسوس بين الطرفين إلى أداة للإيحاء بهذا البعد الاساسي من أبعاد تجربته في هذ االديوان كله . وتبين لنا قيمة صنيع الشاعرهنا حين نقارته نصينع نزار قباني في تشبه شوارع غرناطة الملأى بالإسبانيات ذوات العيو السوداء الواىسعة بحقول اللؤلؤ الأسود ، فالصورة هناك صورة جامدة لا حياة فيها ولا حس ، أما هنا فالصورة تنبض بالحياة والحركة وتفيض بالإيحاءات ، على الرغم من أن عناصرها جامدة ، ولكن الشاعر استطاع أن يكسبها حياة من خلال المشاعر التي حاول أن يجسدها بواسطتها مع ملاحكة أن الشوارع طرف أساسي في كلتا الصورتين ، ومع ملاحظة أن الشوارع في صورة نزار تموج بالحياة ولكن الشاعر جمد ما فيها من حياة وحيوية بوقوفه عند التشابه الحسي على حين أن الشوارع في صورة حجازي جامدة أساسًا لا حياة فيها ، ولكن الشاعر استطاع- بمحاولته ربط هذه العناصر الخارجية الجامدة بعالمه النفسي الداخلي الموار بالحاءة والحركة –أن يضفي علها جمود الشوارع حركة نفسية بالغة الغنى . |
(77) التنافر : ثمةلونان من ألوان التنافر الذي يمثل عيبًا من عيوب الصورة الشعرية ، أولهما يمكن تسميته "تنافر عناصر الصورة "أما الثاني فيمكن تسميته "تنافر الصور". أما "تنافر عناصر الصورة " فيتمثل في أن يكون الوقع النفسي لأحد طرفي الصورة مناقضًا لوقع الطرف الآمخر الذي مفروض فيه أن يدعمه ويقويه ، وهذا النوع من اتتنافر غالبًا ما يكون نتجية لولع الشاعر برصد التشابه الحصي بين الأشيا دون أن يفطن إلى ما بين هذه العناصر المتشابهة في الحس من تنافر من ناحية إيحاءاتها النفسية ، كما رأينا في تشبين ابن المعتز للثريا في السماء المظلمة بقدم تبدت من ثياب حداد ، فلا شك أن بين الطرفين من التباعد في الأثرر النفسي ما بين السماء والأرض ، وأن معاني الضياء والغراق والوضاءة التي تثيرها الثريا في النفس متنافرة أشد التنافر مع ما يثيرة القدم من أحاسيس ومشاعر ، وكذلك الأمر بالنسبة للسماء وثياب الحداد. ومن هذا القبيل أيضًا قول الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل من قصيدته "عاهل الريف"(73)-الثور- في تصوير العذاب الذي يقاسيه الثور : يا ثور كيف غزتك أسواط الورى حيث يشبه حركة السياط صعودًا وهبوطًا على جسد الثور المسكين ، بحركة المصلي سجودًا ورفعًا ، ولا شك أن بين الحركتين –على الرغم ممن تشابههما الشكلي المحسوس-تنافرًا شديدًا من ناحية الوقع النفسي لكل منهما ؛فأين معاني القسوة والظلم والعدوان والرعب التي ترتبط نفسيُا بحركة السوط من معاني الرحمة والأمان والسلام والطمأنينة التي تثيرها في النفس حركة المصلي سجودًا وركوعًا ورفعًا ؟ إن انسياق الشاعر وراء التقاط مثل هذا التشابه الحصي بين أطراف الصورة يصرف عن إدراك ما بين هذه الأطراف من تنافض في إيحاءاتها ودلالاتها النفسية ومن ثم يقع في هذا اللون من ألوان التنافر . وتقطعت في جانبيك جلودها مردت على كتيفيك محرابًا إذا صلّت بلهب يفري حشاك سجودها _________________________ (73)محمود حسن إسماعيل : ديوان هكذا أغني مطبعة الاعتماد .القاهرة 1938.ص126 وانظر "د.محمد فتوح أحمد :الرمز والرمزية في الشعر المعاصر :ص256،257 |
(78) على أننا ينبغي أن نفرق بين تنافر عناصر الصورة –الذي هو عيب من عيوب الصورة- وبين ما سميناه مزج المتناقضات – الذي هو وسيلة من وسائل تشكيل الصورة الشعرية – إذ على الرغم من أن الاثنين يشتركان في وجود تنافر وتناقض فيهما بين العناصير التي تتألف منها الصورة ، فإن هذا التناقض في مزج المتناقضات يكون مقصودًا من الشاعر ، كما أن العناصر المتناقضة فيه تمتزج بعضها ببعض وتفقد استقلالها وتمزيها ، وينتج من مزجها مركب جديد ، أما في تنافر عناصر الصورة فإن هذ التنافر يتم بدون قصد من الشاعر ، بل وبدون وعي منه ، كما أن الأطراف المناقضة فيه لا تمتزج ، كما أن الأطراف المتناقضة فيه لا تتمازج وإنما تتنوازى ويظل لكل منها استقلاله وتميزه وتظل العلاقة بينها – من وجهة نظر الشاعر – هي العلاقة بين العناصر المتشاهبة التي تتوارد على فكرة واحدة ، وليست العلاقة بن العناصر الممتزجة التي تفقد في إطار المزج الجديد ممزاتها وخواصها ، ففي تشبهي حركة السوط بحركة المصلي يظل العنصران مفترقين ، ويظل كل منهما – من وجهة نظر الشاعر – معادلاً للآخر ومشابهًا له ، أما في "نشيد السكون " مثلاً أو "الثلج الأسود " فإن كلا العنصرين ليس موازيًا للآخر ، ولا مشابهًا له – من وجهة نظر الشاعر – فليس النشيد معادلاً للسكون ، ولا الثلج مكافئًا لصفة السواد ، وإنما يندمج كل من العنصرين في الآخر ، وينتج من هذا الاندماج شيء واحد هو "نشيد السكون" أو "الثلج الأسود " . أما تنافر الصور فأحرى به أن يكون عيبًا من عيوب وحدة القصيدة وليس عيبًا من عيوب الصورة ، لأ،ه ليس عيبًا فلي الصورة المفردة ،وإنما هو عيب في علاقة الصور في القصيدة بعضها ببعض ، فتنافر الصور معناه أن تعطى بعض الصور – مع خلوها من التناقض بين عناصرها – إيحاء مناقًا لإيحاء بقية الصور في القصيدة ، أو أن تعبر عن فكرة أو إحساس يتنافى مع المسار الشعوري والفكري العام في القصيدة أو في جزء من أجزائها ،فتنافر الصور إذن يتم بين صورة وصورة وليس بين عنصر وآخر من العناصر التي تتألف منها الصورة . |
(79) ومن نماذج تنافر الصور قول شوقي في قصيدته عن أبي الهول مصورًا عداء الدهر لأبي الهور ، وكيف سلط عليه ديك الصباح فنقر عينيه : أسال البياض ، وسل السواد ثم قوله في موضع ثالث من نفس القصيدة : وأوغل منقاره في الحفر فعدت كأنك ذو المحبسين قطيع الكلام سليب البصر وقوله بعد ذلك في نفس القصيدة : تطل على عالم يستهل وتوفي على عالم يحتضر تجوس بعين خلال الديار فالصورتان الأخيرتان تتنافران مع الصوةر الأولى ، وذلك لأن الشاعر في الصورة الأوىل صور أبا الهور وقد فقد بصره بعد أن نقر ديك الصباح عينيه فأصبح كأنه "ذو المحبسين ، قطيع الكلام سليب البصر "على حين يثبت له في الصورتين الأخيرتين حاسة الإبصار حيث يجعله في الصورة الأولى منهما يطل بعينيه على الأجيال المتعاقبة ، يستقبل من يأتي ويودع من يذهب ، فإحدى عينيه تستقبل من يولد والأخرى تشيع من يرحل ، وفي الصورة الأخيرة يصوره وهو يجوس بإحدى عينيه عبر البلاد ويعبر بالأخرى فضاء النهر . وعلى هذا النحو تتنافر إيحاءات الصور الثلاث ودلالاتها وينقض بعضها بعضًا .(74) وترمي بأخرى فضاء النهر ______________ (74)انظر : د.إحسان عباس : فن الشعر .الطبعة الثالثة . دار الثقافة بيروت.ص240 وما بعدها. |
(80) وواضح أن هذا اللون من التنافر نوع من الإخلال بوحدة القصيدة أكثر منه عيبًا من عيوب الصورة الشعرية. ولكن لما كانت القصيدة –في ضوء مفهوم الوحدة – بمثابة صورة كلية للرؤية الشعرية بأبعادها المختلفة ، وكانت الصور الجزئية بمثابة العناصر لهذه الصورة الكلية أمكن النظر إلى تنافر الصور على أنه عيب من عيوب الصروة الشعرية . الخضوع لإغراء الصورة ومخاطره: إن وظيفة الصورة الشعرية هي أن تكون أداة من الأدوات الفنية التي يجسد بها الشاعر رؤيته الشعرية الخاصة ، ويحدد بها أبعادها وتخومها ،فهي إذًا لبنة من لبنات بناء أكبر هو القصيدة ، لابد من أن تتسق مع بقية اللبنات ، وتساهم معها في تنمية المسار الشعور والنفسي والفكري في القصيدة لتصل به إلى مداه ، وقيمة الصوةر الشعرية تقاس فنيًا بمدى أدائها لهذا الدور ، وليس بمدى جمالها أو غرابتها ، وذلك لأن "الصور في القصائد –كما يقول أرشيبالد ماكليش- لا تهدف إلى أن تكون "جميلة" ، بل إن عملها أن تكون صورًا في قصائد وأن تؤدي ما تؤديه الصور في القصائد "(75) وأنه كلما كانت صورها" أجمل"(76) وقدمت هي صورًا" أجمل" وزدات عدد حبا ت اللؤلؤ المنظوم بها كانت القصائد ذاتها أفضل " . وإذا كان ماكليش يتجه بها التحذير إلى القارئ فإنه يصدق أيضًا على الشاعر ، بل ربما كان الأحرى به أن يوجه إلى الشاعر أساسًا ، فليس هناك ما هو أخطر على الصورة الشعرية وعلى القصيدة كلتيهما من أن يهتم الشاعر بالصورة الشعرية في ذاتها ، وينساق وراء إغراء جمالياتها الخاصة أو غرابتها على حساب النسيج العام للقصيدة الذي لا تمثل الصورة المفردة أكثر من خيط من خيوطه ، لابد له أن يتلاحم ويتسق مع بقية الخيوط ليسهم في نمو النسيج العام وتكامله. ___________________ (75) أرشيبالد ماكليش : الشعر والتجربة .ترجمة سلمى الخضراء .ص 67. (76):السابق والصفحة ذاتها . |
(81) ولكن بعض الشعراء يغوبهم إغراء جماليات الصورة فنيساقون وراءه يشكلون الصور بلا هدف واضح ، ويولدون بعضها من بعبض بغير انضباط ، بحيث تأتي القصيدة ركامًا من الصور المكدسة التي لا يضمها نظام ، يضيع من القارئ في غمارها الخط الشعوري أو الفكري لرؤية الشاعر ، الذي من المفروض ان توضحه هذه الصور وتحدده. وإذا كان مثل هذا الضرب من توليد الصور مقبولاً –بل مطلوبًا – من وجهة نظر السيرياليين ، فقد كانت لهم فلسفتهم الخاصة في ذلك ، حيث كان اتجاههم صرخة عالية ضد طغيان قيود العقل والمنطق ، و نزعة إلى التعبير عن المشاعر والأحاسيس الفطرية الساذجة قبل أن تخضع لسيرطة هذه القيود ، كما كان لتتابع الصور عندهم منطقه الخاص الذي متى ما وعاه القارئ سهل عليه أن يدرك طبيعة هذا التتابع ، هذا بالإضافة إلى ان ما يقبل في بيئة معينة في عصر معين ليس مقبولاً بالضرورة في كل البيئات وكل العصور . وإذًا فإن الفتنان بجمال صورة في ذاته ، أو بغرابتها ، وانسياق بعض شعرائنا وراء إغرائها وما يترتب على هذا من تراكم الصور وتكدسها في القصيدة بدون نظام ، يعد عيبًا من أخطر العيوب التي تعتري الصورة الشعرية في القصيدة العربية الحديثة ، بل إنه يحيد بالصورة الشعرةي عن وظيفتها الأساسية –باعتبارها أداة من أدوات التعبير والإيحاء – يخل بوحدة القصيدة وترابط عناصرها ونمو الخط الشعوري النفسي فيها ، وأخيرًا فإنه يعد عاملاً من أهم عوامل ذلك الغموض الكثيف الذي تعاني منه القصيدة العربية الحديثة في الكثير من نماذجها ، والذي يمثل حاجزًا من الحواجز الضخمة التي تحول دون تعاطف القارئ العاربي المعاصر مع القصيدة الحديثة ، وإذا كانت الإشارة قد سبقت إلى خطر هذا النوع من الغموض فمن المهم أن نشير إليه هنا باعتباره عيبًا من أ هم العيوب التي تعتري الصورة الشعريةالحديثة. |
(82) هذه المخاطر كلها تكمن في ظاهرة انسياق الشاعر وراء إغراء الصورة المفردة ، ولنقرأ معًا قول الشاعر محمد عفيفي مطر -وهو واحد من الشعراء الذين تشع في شعرهم هذه الظاهرة بشكل خطير - في القصيدة الثالثة من قصائد "الحصان والجبل" : أتيت كما أثقلتني المورايث ، واستحكمت في دمائي الشريعه تطالعنا منذ الوهلة الأولى هذه الطاهرة بكل مخاطرها ومحاذيرها حيث يفتتن الشاعر افتتانًا كبيرًا بتكدجس الصور وتوليد بعضها من بعض دونأ، يكون في القصيدة خط شعوير أو فكري من الأساس ، فنحن حين نقرأ البيت الأول نحس أن مسر الشعرو أو الفكرة التي تحددها الصورتان اللتان يشتمل عليها هذا البيت هو التعبير عن- أو الشكوى من - خضوع الشاعر لمواريثه وسيطرة قوانين هذه المواريث ونوامسيها على تكوينه العاطفي أو الفكري ، فالشاعر يأتي وقد "أثقلته " هذه المورايث ، "واستحكمت" الشريعة في دمائه، ولكن ما إن نقرأ البيت الثاني حتى نحس أن الخيط الذي كدنا نمسك به في البيت الأول قد ابتدأ يتفلت قليلاً من أيدينا ، حيث تطالعنا من هذا البيت صورة مركبة غريبة ، وهي صورة "شيخوخة الدهر"التي " أضرمت نارها الفلكية فاحترقت كلمات الطبيعه"، ونحن لا نستطيع أ، نمنع أنفسنا من التساؤل : كيف يكون لشيخوخة الدهر -والشيخوخة هممود وخمود - نار تحرق بها كلمات الطبيعه -والنار تأج واضطرام وقوة ؟ ثم ما معنى أن تكون هذه النار فلكية ؟ولا نقصد بالمعنى المعنى المنطقي أو العقلي ،إنما نقصد المعنى الشعوري المتثل في قدرة الصورة على الإ يحاء بمشاعر أو أفكار خاصة تتلاءم مع المسار الشعوري العام في القصيدة ةوتنميه .وشيخوخة الدهر قد أضرمت نارها الفلكية ، فاحرتقت كلمات الطبيعه وأطعمني فندق الصمت خبز الفجيعه فجئت- كما طردتني الوصايا- من البحر والطرقات السحيقه فأوفقني مولد الوعد بين العروق العميقه |
(83) الخطابية والمباشرة : إن الصورة الشعرية وسيةل من وسائل الإيحاء بالأبعاء المختلفة لرؤية الشاعر ، فهي أداة إيحائية ولست أداة تقريرية ، أي أ،ها توحي بالمشاعر والأحاسيس والأفكار دون أن تسميها أو تصفها وصفًا مباشرًا ، وعلى هذا الأساس فإن من عيوب الصورة الشعرية الحديثة أن تكون صورة تقريرية تعبر عن الأشياء تعبريًا مباشرًا لأنها تتحول إلى لون من التعريف التقريري لا يميزه عن النثر سواء الوزن والقافية ، ويتصل بالمباشرة أيضًا أن تطغى على الصورة النبرة الخطابية العالية التي تتجه إلى السمع والحواس أكثر مما تتجه إلى الروح والوجدان ، وإذا خاطبت في القارئ شيئًا من عواطفه فإنما تخاطب أكثر هذه العواطف سطحية . فنحن حين نقرأ هذه الأبيات من قصيد ةالشاعر السوداني محمد الفيتوري : أغاني أفريقيا "77": وستبقى أرض أفريقيا لنا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ فهي ما كانت لقوم غيرنا نحن أهرقنا عليها دمنا ومزجنا ثراها عظمنا وشققناها بحارًا وربىً وزرعناها سيوفًا وقنا وركزنا فوقها أعلامنا وتحدينا عليها الزمنا وسنهديها إلى أحفادنا وسيحمون علاها مثلنا فاسلمي يا أرض أفريقيا لنا اسلمي يا أرض أفريقيا لنا (77)محمد الفيتوري :أغاني أفريقيا.نشر دار المعارف .بيروت.مطبعة دا ر الهنا .القاهرة .ص20 |
(84) الرمز الفصل الثالث (الرمز) -1 مفهوم الرمز الشعري : الرمز وسلة إيحائية من أبرز وسائل التصوير الشعرية التي ابتدعها الشاعر المعاصر عبر سعيه الدائب وراء اكتشاف وسائل تعبير لغوية ، ثري بها لغته الشعرية ويجعلها قادرة على الإيحاء بما يستعصي على التحديد والوصف من مشاعهر وأحاسيسه وابعاد رؤيته الشعرية المختلفة ، فالرمز إذًا اكتشاف شعري حديث عفلى الرغم من أن مصطلح الرمز ذاته (بمعنى التوحيد بين حدين أو طرفين) مصطلح قديم ، فنحن لم تكن لدينا فكرة واضحة عن حقيقة الرمز إلا منذ وقت قريب .(78) وقد أصبح الرمز منذ ذلك الحين موضع اهتمام وبحث في مجال مجموعة من العلوم المخلتفة ، كعلم النفس ، وعلوم اللغة وعلم الأدب والأساطير .. وغير ذلك من مجالات المعارف والعلوم والفنون . وكان طبيعيًا أن ينظر إلى الرمز في كل مجال من هذه المجالات من وجهة نظر مختلفة عن النوجهة التي ينظر إليه منها في المجالات الأخرى ، وأ، يحدد مفهومه ووظيفته نتيجة لذلك على أساس مختلف ، بحيث يأتي هذا المفهوم في كل مجال مغايرًا قليلاً أو كثيرًا لبقة المجالات ، وإن كانت هذه المفهومات المختلفة تنطلق في مجملها من المفهوم العام للرمز ، وهو "محاولة تقديم حقيقة مجردة او شعور أو فكرة غير مدركة بالحواس في هيئة صور وأشكال محسوسة.(79) ________________ (78):Olivier Beigbedr :La Symbloique.Presses Universitaires de France 1986.p.5 (79)Ibid |
(85) ونحن لا يهمنا بالطبع إلا تحديد مفهوم الرمز في المجال الأديب ، أو الشعري على وجه الخصوص ، وقد حاول كثير من النقاد والعلماء تحديد مفهوم الرمز الشعري (80) ، وكل محاولاتهم لا تبتعد كثيرًا عن المدلول العام للرمز إلا بمقدار ما تقتضيه طبيعة إلا بمقدار ما تقتضيه طبيعة الأداة المستخدمة في بناء الرمز الشعري وهي اللغة ، فالمرز الشعري والأدبي عمومًا "عبارة عن إشارة حسية مجازية لشيء لا يقع تحت الحواس ".(81) أي أن الرمز ببساطة "يستلزم مستويين :مستوى الأشياء الحسية أو الصور الحسية التي قالبًا للرمز ومستوى الحالات المعنوية المرموز إليها ، وحين يندمج المستويان نحصل على الرمز .(82) وعلى هذا الأساس فإننا في الرمز الشعري لا نستطيع أ، نستغنى بالرمز عن المرموز إليه ، أو بعبارة أخرى لا نستطيع أن أن نستغني بالمعطيا ت اللاحسية -التي تخذ رموزًا- عن الحالات المعنوية التجريدية - التي يرمز إليها بهذه المعطيات- كما لا يمكن بالمقابل أن نستغنى بالمرموز إليه عن الرمز ، لأن" الرمز كل غير قابل للتجزئة "83" تفنى فيه الحالات المعنوية التجريدية في المعطيات الحسية التي تتخذ رموزًا لها ، كما تفقد المعطيات الحسية ماديتها وتتحول إلى دلالات تجريدية ، والشاعر الذي يستخدم الرمز "لا يقصد إلى معنى يخفيه ثم يحاول أن يعبر عنه بطريقة أخى تنوب عنه ، فإذا وجدنا المعنى المقصود استغنينا به عن العمل نفسه ، إن الرموز لا تصنع بهذه الطريقة ..وبعبارة أخرى إن المستوا الحرفي أو الظاهر لا يُسخّرطريقة مصطنعة واضحة للتعبير عن معنى آخر ، المعنى الثاني ينمو نموًا باطنيًا من المعنى الأول .(84) _____________________________ (80)انظر : د.أنظون غطاس كرم:الرمزية والشعر العربي الحديث.ص8-14.ود.محمد فتوح أحمد الرمز والرمزية في الشعر المعاصر.ص33-43 (81). Grand Larousse Encyclopediaque.Paris1964.ART.Symbole, (82) : الرمز والمرزية في الشعر المعاصر ص 40 (83)La symoblique p.5. (84) د.مصطفى ناصف: مشكلة المعنى في النقد الحديث .ص91 |
(86) وإذا كانت محاولة الاكتفاء بالمرموز إليه عن الرمز تمثل مثل هذه الخطورة على العملية الرمزية ، فإن العملية المقابلة وهي الوقوف عند الدلالات المادية للرموز ليست أقل خطورة على الرمز ، فترجمة الرمز إلى دلالات مادية محسوسة عملية خاوية من المعنى ، لأن الصور الرمزية وإن كانت تشتمل بالتأكيد على كل الإشارات إلى المحسوس ، فإن عطاءها لا يمكن أن يستنفد في مثل هذه الإحالات إلى المحسوس ، وإلا لما كانت رموزًا ، لأن معنى كونها رموزًا أدبية أنها لا تشير إلى أشياء محددة محسوسة في الخارج وإنما تشير إلى حالات نفسية غامضة تند عن التحديد . ومن هنا فإن الرمز الشعري يختلف عن الرمز اللغوي المتمثل في الألفاظ اللغوية باعتبارها رموزًا ،لمعان محددة والرمز الرياضي وسواهما من الرموز الإشارة ذات المدلول المحدد ، فالرمز الشعري -خلافًا لهذه الرموز - لا يشير إلى شيء محدد معين يتفق الجميع عليه ، وإنما يوحي بحالة معنوية تجريدية غامضة لا يمكن تحديدها ، ومن ثم فإن الناس يختلفون اختلافًا بينًا في فهم الرموز الشعرية-والأدبية عمومًا- على حين يتفقون أو يكادون على فهم الرموز اللعغوية- من حيث هي ألفاظ تشير إلى مدلولات محددة-والرموز الإشارية من ناحية أخرى وهو أن دلالة الرموز الإشارية دلالة اتفاقية غير حتمية ، تكتسبها هذه الرموز نتيجة لاتفاق بين مستعملي هذه الرموز ، بينما دلالة الرمز الشعري دلالة داخلية حتمية ، ونتيجة لهذا -وهذا فرق ثالث بين الرمز الشعري والرموز الإشارية-فإن مدلول الرمز الشعري لاينفك عن الرمز ، بل يفني فيه ويتلاشى ، ويذوب كلاً الطرفين في الآخر ، أما في الرموز الأخرى فإن الصلة بين الرمز والمرموز إليه تكون قابلة للانفكاك ، ومن الممكن أن يعبر عن نفس المدلول برموز أخرى ، ونحن نجد بالفعل أن رموز المدلول الواحد في اللغات المختلفة تختلف من لغة إلى أخرى ، بل نجد في اللغة الواحدةبعض المدلولات يرمز إليها أكثر من رمز ، بينما في العملية الرمزية الشعرية لا يمكن أن نعبرعن المرموز إليه بغير هذا الرمز المعين ، بل إننا لا نستطع من الأساس أن نفصل بين ما هو رمز وما هو مرموز إليه . |
(87) الرمز الشعري إذن يبدأ من الواقع المادي المحسوس ليحول هذا الواقع إلى واقع نفسي وشعوري تجريدي يند عن التحديد الصرام فحين تريد شاعرة كناز الملائكة أن تعبر عن ذلك الإحساس الغريب والوديع بالحزن الذي اعتراها بعد وفاة أمها -التي كانت بها بمثابة صديقة- فإنها تلتقط رمزًا من الواقع الملموس المادي -وهو رمز الطفل- وتمضي تجرد هذ االمرز شيئًا فشيئًا على امتدا القصيدة لتحوله في النهايةإلى معنى تجردي خالص لا نستطيع أن نقول إنه أي شيء آخر غير ما قالته الشاعرة في القصيدة ، وإن كان هذا ل ايمنعنا من محاولة فهم الرمز دون ترجمته ، وفهم الرمز يتم عن طريق التقاط إيحاءاته واستيعابها ، على حين تعني ترجتمه تقديم مقابل دقيق له . تقول الشاعرة في هذ ه القصيدة(85): أفسحوا الدرب له ، للقاد م الصاف يالشعور للغلام المرهف السابح في بحر أريج ذي الجبين الأبيض السارق أسرار الثلوج إنه جاء إلينا عابرًا خصب المرور إنه أهدأ من ماء الغدير فاحذروا أن تجرحوه بالضجيج إنه ذاك الغلام الدائم الحزن الخجول ساكن الأمسية الغرقى بأحزان خفية والزوايا الغيهبيات السكون الشفقية أبدًا يجرحه النوح ، ويضينه العيول فليكن من صمتنا ظل ظليل يتلقاه ، وأحضان خفية *** وهو يحيا في الدموع الخرس في بعض العيون وله كوخ خفي ، شيد في عمق سحيق ضائع يعرفه الباكون في صمت عميق وسدى يبحث عنه الألم الخشن الرنين إنه يقتات أسرار السكون وأسى مختبئًا خلف العروق *** نحن هيأنا له حبًا ، وتقديسًا ونجوى وتهيأنا للقياه .. عيونًا ، وشفاها وسنهديه انفجار الأدمع العذبة سلوى وسنحبوه أسى أقوى . وأقوى وسنعطيه عيونًا ، وجباها *** إنه أجمل من أفراحنا ، من كل حب إنه زنبقة ، ألقى بها الموت علينا لم تزل دافئة ترعش في شوق يدينا وسنعطيها مكانًا عطرًا في كل قلب وشذى حزن عميق القعر خصب إنه منا ، وقد عاد إلينا ___________ (85) انظر Mircea Eliade :Images et symboles.p.16 |
(88) قد يشعر القارئ للوهلة الأولى أن الشاعرة تتحدث عن طفل حقيقي ، يتسم بالرهافة والوداعة ، ونصاعة الجبين والسريرة ، فأبيا ت المقاطع الأولى كلها لا تناقض هذا التصور ، ولكن القارئ لا يلبث أن يدرك –ابتداء من المقطع الثاني – أن هذ االطفل لم يعد هو الطفل الواقعي المادي ، وإنما ابتدأ يتخلى عن دلالته المادية ليتحول إلى معنى تجريدي،إلى نوع من الإحساس الغامض العميق والوديع بالحزن ، فالشاعرة لا تتحدث هنا عن مطلق الحزن ، وإنما عن حالة خاص ةمن الحزن ،أو عن تلك الحالة الغريبة التي يمتزج فيها الحزن بالطفل ليأخذ كل منهما من الآخر ويعطيه ،وليتفاعل كل منهما مع الآخر ، ومن خلال هذا التفاعل ينمو المعنى الرمزي في ا لقصيدة ،و على القارئ أن يتابع في إخلاص كيف يمتزج طرفا الرمز وكيف يتفاعلان . إن الحزن الذي تعبر عنه الشاعرة حزن وديع قرير ، ولكنه في الوقت نفسه حزن عميق وراسخ ، فهو حزن طفل مرهف ناصع ، ولكن هذا الحزن الطفل لا يسكن تلك الطبقة الخارجية من الإحساس ، وإنما هو يستقر في أعمق الأعماق في ذلك الصقع الغائر الغامض من أصقاع النفس الذي تختزن في كل ظلال الأسى والشجن ، والذي تتفنن الشاعرة في تصويره بكل عمقه ، وتنائيه وكل غرابته ، في أكثر من مقطع من مقاطع القصيدة ، فهو تارة" كوخ خفي شيد في عمق سحيق " لا تهتدي إليه إلا الأحاسيس الساكنة العميقة ، ولا يعرفه إلا الباكون في صمت عمق ، وهو تارة أخرى "امسية غرقى بأحزان خفية " وزوايا غيهبيات السكون شفقية"، ليس ثمة ما هو أخفى وأعمق من هذه الأمسية الغرقى بالأحزان الخفية اتي يسكنهاهذا الطفل ، حيث تزول الحدود بين الأشياء ، ويختلط الزمان بالمكان –الأمسية –مكانًا يسكنه هذا الحزن الطفل ، بكل ما تلقيه "الأمسية"من ظلال الحزن الشفيف الخفي ، وتقترن هذه الأمسية ، هذا المكان الغامض، بالزوايا الغيهبيات السكون لتزداد إيحاءات هذ االشجن الخفي الغامض الغريب رحابة وتعمقًا وتنوعًا. |
(89) وعلى هذا النحو تمضي الشاعرة في تطوير رمزها حريصة على إبراز بعدين من أبعاده ، وهما الوداعة والعمق ، ومحاولة أ، تعقد معه أواصر صداقة ومودة وألفى ، حيث تحنو عليه في حدب حفي ، وتدلله وتهش لمدقمه ، وعتتدعو الآخرين إلى مشاركتها حفاوتها بهذا القادم بتهيئة الجو الملائم له ، وعدم تنغيص هدوئه بالضجيج والعويل ، وستقبله بكل ما يستقبل به الأعزاء من حب واحتشاد ، بل إنها لتؤثره على كل عزيز-أليس هو طفلها المدلل الوديع؟!- فهو أجمل من الأفراح ومن كل حب ، وهو زنبقة نضيرة أهداها إليها الموت ، ومن ثم فستحتفظ بها دافئة في أعمق أعماقها . هكذا ينمو الالرمز ويتطور من خلال هذا التفاعل الخلاق بين طرفيه- الشحزن والطفل - ومن خلال هذه العلاقة المعقدة بينهما ، حيث نراهما يندمجان في بعض الأحيان ، ونرى أحدهما يبرز ليتوارى خلفه الآخر في أحيان أخرى بالتبادل ، وبحيث لا يتسغني بأي من الطرفين عن الآخر في فهم الرمز واستيعاب دلالاته وإيحاءاته ، وإدراك تلك الحالة النفسية الغامضة التي لا يمكن أ، يعبر عنها بغير ما عبرت الشاعرة به عنها ، وهذا معنى أن دلالة المرز الشعري دلالة داخلية غير قابلة للانفكاك ، ولكن ليس معنى أن الدلالة الإيحائية للرمز غير قابلة للانفكاك أن رمز عًا معينًا يرتبط بمدلول معين ارتباطًا مطلقًا ، وإلا لما أصبح رمزًا شعريًا ، فالرمز والمرموز إليه غير قابلين للانفكاك في إطار القصية الواحدة ، أما خارج هذه القصيدة فليس ثمة ارتباط بين الرمز والمرموز إليه ، بل إنه خارج القصيدة لا يكون ثمة رمز من الأساس . فالرمز مثلاً الذي رأينا كيف حولته ناز إلى مرز لتلك الحالة الخاصة من الحزن الشفيف الغامض ليس له أي معنى شعري خارج القصيدة لأن الشاعرة هي التي أكسبته دلالته الشعرية كرمز ، ومن ثم فهو خارج هذه القصيدة ليس أكثر من مجرد إمكانية لغوية غفل ، من الممكن أن يأتي شاعر آخر فيوظفه توظيفًا رمزيًا آخر ، ويكسبه دلالة رمزية أخرى ، وقد وجدنا بالفعل شعراء غير نازك يستخدمون رمز الطفل في التعبير عن جدالات نفسية ورؤى شعرية مختلفة ، فصلاح عبد الصبور مثلاث يستخدمه في قصيدتين رمزًا للحب ، بل رمزًا لحالتين مختلفتين من الحب ، الأولى حالة حب المحتضرالغارب وذلك في قصيدة "طفل " التي يقول في أولها: |
(90)
قولي ..أمات ؟! ___________________ جسيه ، جسي وجنتيه هذ االبريق ما زال ومض منه يفرش مقلتيه ومض الشعاع بعينه الهدباء ومضته الأخيرة ثم احترق هذا الصبي ابن السنين الداميا ت العاريات من الفرح هو فرحتي ن لا تلمسيه أسكنته صدري فنام وسدته قلبي الكسير وجعلت حائطه الدموع وأنرت من هدبي الشموع(86) (86) صلاح عبد الصبور : الناس في بلادي . ص100. |
(91) وعلى هذ االنحو يمضي الشاعر يزاوج بني الطفل وبين هذ الحب المحتضر الغارب بكل ما كان الشاعر يعلقه عليه من آمال ، وبكل ما كانت يحتله في نفسه من مكانة ، ومن ثم فإنه يدفته في صدره في صمت حزين ، بعدمحاولة مخفقة لإيهام نفسه بأنه لا يزال حيًا ، وتتجسد هذه المحاولة في تساؤله الذاهل :"قولي ..أمات؟!"،ثمفي ذلك الوهم الكاذب الذي يعلل به نفسه من أن "هذا البريق ما زال اومض منه يفرش مقلتيه" ولكن الحقيقة ألأليمة كانت أنوضح من أن يستطيع تجاهلها ، ومن ثم فإنه يخضع للواقع ، ويدفن هذا الطفل الحب . أما القصيدة الثانية فإن الشاعر يرمز بالطفل فيها مرة أخرى إلى هذا الحب ، وقد عادج بعد أن غاب عن البيت سنينا ، وقد سمى هذه القصيدة "العائد " (87): طفلنا الأول قد عاد إلينا ___________________بعد أن غاب عن البيت سنينا عاد خجلان ، حييًا ، وحزينا فتلمسنا بكف نبضت فيها عروق الرعشة الأولى الجبينا وتمزقنا عليه وبكى لما بكينا في يديه (87) ديوان صلاح عبد الصبور . دار العودة . بيروت 1972.ص133 |
(92) وهكذا يحمل الرمز في هذه القصيد مدلولاً رمزيًا جديدًا ، ويوحي بتلك الفرحة الغامرة التي أحسها الحبيبان الأبوان بعودة طفلهما الغائب الحب ، وذلك الحدب اللاهف الذي استقبلاه به . الرمز إذًا يكتسب في كل قصيدة مدلولاص جديدًا ، ولا يتجمد عند مدلول واحد محدد ، والارتباط الحتمي بين الرموز ومرموزاتها لا يكون إلا في إطار العمل المعين ، وأخطر ما يهدد كيان الرمز الشعري هو تجميده في مدلول معين يدور في فلكه ، لأن الرمز يتحول حينئذ إلى رمز لغوي عادي ، ويفقد إيحاءاته البكر اللامحدودة ويفقد من ثم ثيمته الفنية كرمز ، التي تكمن في أنه لا يعبر عن شيء معين محدد وإنما يعبر عما لا يمكن التعبير عنه بوسائل اللغة العادي . وللأسف فإن هذه الظاهرة شاعت بشكل واضح في الشعري العربي الحديث ، فما إن يستخدم شاعر من الشعراء رمزًا معينًا بمدلول خاص ويقيض لهذ االرمز قدر من التوفيق والنجاح حتى يتهافت الشعراء على هذا الرمز يستخدمونه بنفس المدلول حتى يبتذلوه ، ويستندوا طاقته الإيحائية ويحولوه إلى رمز لغوي عادي . على أن هاك بالمقابل خطرًا آخر يهدد كيان الرمز الشعري بنفس القدر وه والمغالاة في إبهام الرمز حتى يستغلق مدلوله ، وحتى لا يكاد يوحي بشيء عل الإطلاق ، أو يوحي بسراب مبهم لا يقود إلى شيء ،وهذه الظاهرة بدورها لست أقل شيوعًا في شعرنا الحديث من ظاهرة تجميد الرمز عند مدلول واحد . |
(93) 2-الدلالة المزدوجة للرمز : الرمز الشعري يحمل إلى جانب دلالته الرمزية التي يوحي بها إيحاء دلالته الواقعية المادية التي لا يتخلى عنها كلية ،بل التي لا يتخلى عنها إطلاقًا في بعض الأحيان ، والمعنى الرمزي في أي رمز يتوالد من خلال التفاعل بين هاتين الدلالتين وقد لا يتولد المعنى الرمزي إلا من خلال تجرد الرمز عن جانب كبير من مدلوله الواقعي المادي ففي قصيدة "أغنية الحزن" مثلاً لا يبدأ المعنى الرمزي إلا في اللاحظة التي يكف فيها الطفل عن أن يكون مجرد طفل واقعي ، ويبدأ يتخلى عن كثير من ملامحه الواقعية ويتحول إلى معنى تجريدي غير محدد يسكن (الأمسية ) الغرقى بأحزان خفية ، والزوايا الغيبهبيات السكون" إلى غير ذلك من المعالم التي أخذ الطفل من خلالها يتجرد من جانب كبير من دلالته المادية التي ظلت مع ذلك تفاعل مع إيحاءاته التجريدية ، ومن خلال هذا التفاعل ينمو معنى الرمز ويتطور على امتداد القصيدة. وفي بعض الأحيان لا يتجرد الرمز عن دلالته الواقعية المادية على الإطلاق ، وإنما يشف عن دلالته الإيحائية من خلال هذه الدلالة الواقعية ذاتها ، وبهذا يصبح للرمز مستويان من الدلالة : مستوى الدلالة الواقعية المادية ومستوى الدلالة الرمزية التي يشف عنها الرمز من خلال دلالته الواقعية المادية ؛فحين نقرأ قصيدة مثل قصيدة "سلة ليمون "(88) للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ندرك أن"سلة الليمون " هذه ليست سوى رمز يشف عن مدلوله الرمزي من خلال دلالته الواقعية المادية ،يقول الشاعر في هذه القصيدة : سلة ليمون تحت شعاع الشمس المسنون والولد ينادي بالصوت المحزن "عشرون بقرش بالقرش الواحد عشرون " *** ______________ (88) ديوان : مدينة بلا قلب .ص116 |
(94) نحي في القراءة الأولى أن الشاعر يتحدث بالفعل عن ذلك الليمون الذي كان يعيش على أشجاره نضيرًا عزيزًا في ظلال القرية الحانية ، حتى امتدت إليه يد قاسية فقطفته من أشجاره ونقلته عنوة ، وفي رحلة قاسية إلى :مدينة بلا قلب "حيث قاسى الضياع والهوان ، تحت أشعة شمسها المسنونة التي لا تحرم ، والتي تجفف نداه ونضارته فيذوي دون أن يشمه أحد في شوارع المدينة المزدحمات المختنقات .سلة ليمون غادرت القرية في الفجر كانت حتى هذا الوقت خضراء منداة بالطل سابحة في أمواج الظل كانت في غفوتها الخضراء عروش الطير أواه .. من روعها ؟! أي يد جاءت قطفتها هذا الفجر حملتها في غبش الإصباح لشوارع مختنقات مزدحمات أقدام لا تتوقف ، سيارات تمشي بحري الرنزين ؟! مسكن ! لا أحد يشمك يا ليمون والشمس تجفف طلك يا ليمون |
(95) ولكننا بقراءة أخرى أكثر إمعانًا وإخلاصًا لا نلبث أن ندرك أن وراء هذه الدلالة المادية الواقعية دلالة أخرى رمزية تشف عنها القصيدة من خلال هذه الدلالة الواقعية ذاتها ، التي لا تتجرد عنها القصيدة إطلاقًا ، وتبدو لنا هذه الدلالة الرمزية بجلاء حين نقرأ القصيدة في إطار تجربة الشاعر في الديوان كله ، وهي تجربة الشاعر الريفي مع المدينة ، تجربة الإنسان الريفي المرهف الذي جاء إلى المدينة حاملاً في أعماقه كل براءة الفطرية الريفية وكل نقائها وصفائها ، فتصدمه المدينة بماديتها وجفافها وقسوتها ، ويفتقد فيها كل ما اعتاده في الريف من دفء العواطف وصدقها وعفويتها ، ومن عمق التعاطف وقوة الوشائح بين الناس ،فهذه المدينة "مدينة بلا قلب "- وهذا هو العنوان الذي اختاره الشاعر للديوان-تطحن الغرباء في زحام صخبها وضجيجها ،وتحرقهم بهجيرها اللافح . حين نقرأ قصيدة سلة ليمون في ضوء تلك التجربة العامة في الديوان ، واضعين في الاعتبار تلك القرائن الخفية التي بثها الشاعر في القصيدة لتقودنا إلى تلك الدلالة الرمزية الخفية – من نحو ذلك التعاطف الغريب- الشاعر في القصيدة لتقودنا إلى تلك الدلالة الرمزية الخفية -من نحو ذلك التعاطف الغريب الذي يبديه الشاعر نحو الليمون ، وغير ذلك من القرائن التي سنشير إليها عند تحليلنا للمعنى الرمزي في القصيدة –نضع أيدينا على المدلول الرمزي للقصيدة ، فالليمون الذي فقد تحت أشعة شمس الميدنة المسنونة ما كان ينعم به في ظل القرية الوارف من نضارة واخضرار هو الشاعر ذاته ، الذي اصطلى بحر الميدنة وهجيرها وتجهمها وقسوتها ، بعد ما كان ينعم به من صفاء وظل حان وريف من التعاطف والود في القرية ، ولنذكر –في مواجهة شعاع الشمس المسنون الذي يجفف نضارة الليمون ونداوته-صرخة الشاعر الملتاعة ضد هجير المدينة في قصيدة أخرى: |
(96) يا ويله من لم يصادف غير شمسها" ولنذكر أيضًا- في مواجهة كساد الليمون،وإهماله دون أن يعبأ أحد بأمره "مسكين لا أحد يشمك يا ليمون"(89)-تصويره لضياعه هو الخاص في شوارع المدينة في قصيدة أخرى :(90)بلا نقود ، جائع حتى العياء وفي قصيدة أخرى كيرة في الديوان .بل إننا لا نكاد نجد ملمحًا أسقطه الشاعر على الليمون في هذه القصيدة دون أن يكون قد أسقط مثله على نفسه في الديوان مما يمثل قرائن قوية تقودنا إلى الدلالة الرمزية الليمون في القصيدة ، وأن الشاعر رأى في هذا الليمون ذاته ورأى في كساده وإهماله ضياعه هو الخاص وهو أنه في هذه المدينة ، ورأى في الحالة التي كان عليها الليمون وهو على أشجاره في ظلال القرية ما كان يعيش فيه هو من ظل وريف من تعاطف الناس ، ونداوة عواطفهم ، ومن ثم حاول أن يوظف هذا الرمز للإيحاء بكل هذه المشاعر والأحاسيس ، دون أن يتخلى الليمون في القصيدة عن دلالته المادية الواقعية.( 91 ) بلا رفيق كأنني طفل رمته خاطئة فلم يعره العابرون في الطريق حتى الرثاء ______________________ (89) قصيدة : إلى اللقاء /ص119 ( 90 ) قصيدة :"الطريق إلى السيدة" ص 105 ( 91 )انظر تحليلاً جيدًا لهذه القصيدة في كتاب "الرمز والرمزية في الشعر المعاصر " للدكتور محمد فتوح أحمد ص327-330 |
(97) وعلى هذا الأساس تظل للقصيدة هذه الدلالة المزدوجة ، ومن ثم فقد يقرأ القصيدة فلا يدرك منها سوى مستواها المادي الواقعي ، على حين يقرؤها قارئ آخر فينفذ من هذه الدلالة الواقعية إلى ما تشف عنه من إيحاءات رمزية. وهكذا يتلاعب الشاعر بالدلالة المزدوجة للرمز ، سواء بتجريده قليلاً أو كثيرًا من مدلوله الواقعي المادي ، أو بالإيحاء بالمدلول الرمزي من خلال المدلول الواقعي ذاته ، من أجل الوصول إلى الإيحاء بما يريد أن يوظف الرمز للإيحاء به من أبعاد تجربته . -3الرمز الكلي والرمز الجزئي: قد يبني الشاعر قصيدته على رمز واحد كلي يستقطب كل الأبعاد النفسية في رؤيته الشعرية ، كما رأينا في كل النماذج السابقة ، فالطفل في قصيدة نازك وقصيدتي عبد الصبور ، والليمون في قصيدة حجازي رموز كلية لأن،ها تمثل أطرًا عامة تستوعب الرؤية الشعرية في كل قصيدة من القصائد ، وتتحكر في إطارها كل الأدوات الشعرية الأخرى في القصيدة . وأحيانًا يكون الرمز رمزًا جزئيًا يوحي ببعد واحد من أبعاد الرؤية الشعرية المتعددة ، ويتآزر مع بقية الأدوات الأخرى في القصيدة ، وقد يكون الرمز الجزئي عنصرًا من عناصر رمز كلي عام ، فحين تقول الشاعرة نازك الملائكة في قصيدتها "يوتوبيا الضائعة" ( 92 ) _______________ (92 ) ديوان نازك الملائكة .دار العودة ، بيروت 1971 .المجلد الثاني.ص35 و"يوتوبيا " في الأساس كلمة لاتينية معناها ليس في أي مكان ، وهي أيضًا مدينة خيالية تخليها الكاتب الإنجليزي توماس مور 1516 يعيش فيها شعب سعيد تحكمه حكومة مثالية ، وإن كانت الشاعرة تشير في ديوانها إلى أنها استخدمت كلمة "يوتوبيا"للدلالة على ميدنة شعرية خيالية لا وجودج لها إلا في أحلامها ، وأنه لا علاق ةلهذه المدينة بيوتوبيا توماس مور ،وعلى أية حال فإن كلمة يوتوبيا ترمز عادة للأحلام الخيالية السعيد ةغير القابلة للتحقيق . |
(98) وفي حلم آخر كنت أسير على شائط من حصى ورمال نجد الشاعرة تستخدم لاصخرة رمزًا جزئيًا في إطار الرمز الكلي العام في القصيدة وهو يوتوبينا المدينة الفاضلة السعيدة التي لن تتحقق في ها العامل والتي ترمز بها الشاعرة إلى كل أحلام الإنسان المثالية ، وكل آماله الخيالية في الحياة السعيدة التي لن تتحقق على ظهر هذه الأرض ، والصخرة هنا ترمز إلى تلك العقبات الكئود التي تحول بين الإنسان وبين الوصول إلى أحلامه المثالية السعيدة ، وقد تفننت الشاعرة في تصوير صعوبة اجتياز هذه الصخرة وتسلقها ، فهي من الرسومخ بحيث بدت للشاعرة كالمحال ، ومن الملاسة بحيث إن الظلال بذاتها تتزحلق عليها ، ومن الضخامة بحيث إن الشاعرة تقف "على قدميها"ضئيلة يائسة باكية تتساؤؤل عما وراء هذه الصخرة العملاقة ليأتيها الجواب قاسيًا أليمًا :إنه اليوتوبيا ،الأمل الذي لن تصل إليه الشاعر ةأبدًا ، وهكذا تؤدي الصخرة هنا دور الرمز الجزئي ،باعتبارها عنصرًا من عناصر الرمز الكلي الذي يمثل الإطار العام للقصيدة كلها وهو "يوتوبيا"المدينة الفاضلة المثالية. غريب غريب بلون الأثير يحف به أفق كالخيار تناهي بأقدامي المتعبات إلى صخرة رسخت كالمحال تسلقها أمل مضمحل فقد تتزحلق حتى الظلال وقفت على قدميها أنوح على حلم بائس لن يُنال وساءت :ماذا ترى خلفها ؟فقال لي الرمل :يوتوبيا 4- بين الرمز والصورة : الرمز والصورة كلتاهما وسيلتان من الوسائل الإيحائية التي يستخدمها الشاعر في القصيدة الحديثة ، والفروق بينهما تتلخص فيث أن الصورة أقل تجريدًا من الرمز ، فعلى الرغم من أنها تنطلق مثله من الواقع الحسي لتتجاوزه وتوحي من خلاله بالواقع النفسي ، فإنها تظل أكثر منه ارتباطًا بهذا الواقع الحسي الذي بدأت منه . |
( 99 ) على حين يصبح الرمز كيانًا مستقلاً بذاته ، منفصلاً عن الواقع الحسي الذي بدأ منه منذا اللحظة التي نعتبره فيها رمزًا ، حتى وإن شف عن معناه الرمزي من خلال معناه الواقعي ذاته . يضاف إلى هذا أن الرمز أكثر تعقيدًا وتركيبًا من الصورة بحيثب يمكن أن نعتبر الصورة عنصرًا من عناصر بناء الرمز( 92 ) ؛ففي قصيدة نازك الملائكة السابقة –مثلاً – نجد أن الرمز يتألف من مجموعة من الصور الجزئية ،التي تكتسب –في إطار هذ االرمز – طاقات إيحائية خاصة ، فذلك الجو الأثيري الغريب الحلمي الذي أضفته الشاعرة على المقطع الذي اقتبسناه ، وذلك الأفق الخيالي الذي يحف به ، ورسوخ الصخرة كالمحال ، وتزحلق الظلال عليها ،ووقوف الشاعرة على قدميها تنوح ..كل هذه الصور يتألف من مجموعها الرمز ، وتكتسب في إطاره قيمتها الإيحائية ، وإن كان ما توحي به أقل تجريدًا وأكثر قابلية للتحديد مما يوبحي به الرمز . على أن من الصور الشعرية ما يبلغ درجة من التركيب والتجريد تكاد تزول معها الحدود بينه وبين الرمز ، ومن ثم فإن بعض الدارسين لهذه القضية لا يفرقون كثيرًا بين الصورة والرمز (93 ). وعلى أي حال فإن المعيار الأساسي لا عتبار التشكيل من التجريد أو المادية من ناحية ، ومن التركيب أو البساطة من ناحية أخرى ، ومن محدودية الإيحاء أو لا محدوديته من ناحية أخيرة . يضاف إلى هذا أن الرمز يكون من الكلية والشمول بحيث يستيطع استيعاب رؤية الشاعر بكل أبعادها ، أو على الأقل استبعاب بعد متكامل من أبعادها بكل ما يتبلور حوله من مشاعر وأفكار جزئية ، بينما تظل وظيفة الصورة-مهما بلغ حظها من التجريد- وظيفة جزئية ، محدودة بحدود التعبير عن الشعور أو المفرد ، أو الفكرة الجزئية. _________________________ (93)د. محمد أبو الفتوح أحمد :الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر .ص142،143 ( 94) السابق .ص 144،145 |
(100) الرمز التراثي: إذا كان الشاعر يستمد عناصر رموزه الشعرية أساسًا من الواقع كما رأينا في النماذج الماضية ، فإنه في أحيان كثيرة يستمد عناصر هذه الرموز من التراث –بمصادره المتعددة- باعتبار هذا التراث منجم طاقات إيحائية لا ينفد له عطاء ؛فعناصر هذ االتراث ومعطياته لها من القدرة على الإيحاء بمشاعروأحاسيس لا تنفد ، وعلى التأثير في نفوص الجماهير ووجداناتهم ما ليس لأية معطيات أخرى يستغلها الشاعر ، حيث تعيش هذه المعطيات التراثية في وحدانات الناس وأعماقهم تحف بها هالة من القداسة والإكبار لأنها تمثل الجذور الأساسية لتكوينهم الفكري والوجداني والنفسي ، ومن ثم فإن الشاعر حين يتوسل إلى إيصال الأبعاد النفسية والشعورية لرؤيته الشعرية عبر جسور من معطيات هذ االتراث ، فإنه يتوسل إلى ذلك بأكثر الوسائل فعالية وقدرة عل ىالتأثير والنفاذ . هذا بالإضافة إلى أن استخدام الرموز التراثية يضفي على العمل الشعري عراقة وأصالة ،ويمثل نوعًا من امتداد الماضي في الحاضر ،وتغلغل الحاضر بجذوره في تربة الماضي الخصية المعطاء ، كما أنه يمنح الرؤية الشعرية نوعًامن الشمول والكلية ، حيث يجعلها تتخطى حدود الزمان والمكان ، ويتعانق في إطارها الماضي مع الحاضر . نتيجة لهاذ شاعت الرموز التراثية في القصيدة العربية الحديثة ، حيث عكف شعراؤنا على موروثهم ،يستمدون من مصادره المختلفة – من موروث ديني وموروث صوفي ، وموروث تاريخي ، وموروث أدبي ، وموروث أسطوري أو فولكلوري – عناصر ومعطيات مختلفة ، من أحداث وشخصيات وإشارات ، يبنون منها رموزهم ، ويوكون من خلالها بأكثر أبعاد رؤيتهم الشعرية معاصرة وذاتية . وكما يجرد الشاعر الرمز الواقعي من بعض ادلالته الواقعية ليستطيع أن يحمله بعض أبعاد تجربته ، فإنه يسلك نفس المسلك مع الموروث التراث ، حيث يجرده من بعض دلالته التراثية ليحمله الأبعاد المعاصر لرؤيته الشعرية . |
( 101 ) وكما يتولد المعنى الرمزي –في الرموز المستمدة من الواقع- من التفاعل بين المدلول الواقعي للرمز والمدلول الرمزي له ، فإن المعى الرمزي في الرمز التراث يتولد أيضًا من التفاعل بين المدلول التراثي للرمز والمدلول المعاصر له. وقد يستخدم الشاعر المعطى التراثي رمزًا جزئيًا يعبر عن بعد من أبعاد رؤيته الشعرية ، كما قد يستخدمه رمزًا كليًا يستوعب رؤيته الشعرية في القصيدة بكل أبعادها ، وتتعانق في إطاره كل الأدوات الشعرية الأخرى التي يستخدمها الشاعر في القصيدة يستخدمها الشاعر في القصيدة . ومن نماذج هذه الرموز التراثية الكلية قصيدة عذاب الحلاج للشاعر عبد الوهاب البياتي التي استخدم فيها البياتي رمزًا تراثيًا كليًا استمده من التراث الصوفي ، وهو الحسين بن منصور الحلاج الصوفي والمصلح الذي حكم عليه بالموت ونفذ فيه الحكم في بغدادعام 309 في عهد الخليفة المقتدر والتي من أجلهاأبيح دم الحلاج وكانت التهم الموجهة إليه تهمًا دينية تتعلق بعقيدته ، على حين كان الدافع الحقيقي إلى محاكمته وقتله من وجهة نظر بعض الدارسين والمبدعن دافعًا سياسيًا يتمثل في دعوة الجلاج الإصلاحية ، ومحاربته لفساد السلطة العباسية ، وسعيه إلى إصلاح هذا الفساد ، فلم يكن منهج الحلاج الصوفي يقوم –كما هو الشأن في تصوف عصره – على مجرد اعتزال الناس ، والنجاة بالنفس عن طريق مجادهدتها بالعبادات الرياضية والروحية ،وإنما كان يقوم من وجهة نظر هؤلاء الدارسين على أسا آخر إصلاحي غايته محاربة الففساد المستشري والدعوة إلى إصلاح سياسة الدولة الإدارية والمالية (95)ولكن هذا المنهج التصوفي كان غريبًا على متصوفة عصره. ___________ (95) :عبد الوهاب البياتي : ديوان "سفر الفقر والثورة".دار العودة. بيروت 1971ص7 |
(102) وقام في سبيل دعوته الإصلاحية بأكثر من رحلة خارج العراق كلها ، واستطاع أن يجمع حوله وحول دعوته الفقراء وبعض أولي الشأن في الدولة ، واستطاع أنصاره بالفعل أن يبدؤا ثورة إصلاحية ضد الفساد المالي الدولة، وإرهاق الطبقات الفقيرة بالالتزامات المالية الباهظة ( 96) في الأمر الذي ألب عليه العناصر الفاسدة السلطة من وزراء وقواد ، فسجن أكثر من مرة ، وقدم إلى المحاكمة أكثر من مرة كان آخرها تلك المحاكمة التي استمرت من عام 308 إلى 309 وحكم عليه فيها بالموت ، وقد نجح خصومه في السلطة في حبك هذه المحاكمة سواء من ناحية التهم التي تراوحت ما بين فساد عقيدته واتصاله بأعداء الدولة العباسية من العلويين والقرامطة ، أو من ناحية اختيار القاضي وهو أبو عمر الحمادي القاضي المالكي الذي عُرِف بخضوعه للسلطة وتملقه لرجالها ، وصدوره في أحكامه عن رغبة في إرضائهم ، أو من ناحية حشد عدد كبير من الشهود المحترفين يشهدون على الحلاج ويعلنون تحملهم لتبعة دمه ، وكان طبيعيًا أن تنتهي مثل هذه المحاكمة بإباحة دم الحلاج وتصديق الخليفة -تحت ضغط خصوم الحلاج في السلطة الذين أعدوا لهذه المحاكمة-على موت الحلاج . ( 97 ) وقد تفنن هؤلاء الخصوم في إنزال أبشع ألوان التنكيل بالحلاج أثناء تنفيذ الحكم الذي تم أمام جمع غفير من الناس حيث جيء به فصُلِب حيًا ، ثم ضرب ألف سوط وهو مضروب ، ثم قطع السياف يديه ، وصفوف الجماهير تموج بالغضب وتُرِك َ مصلوبًا هكذا إلى اليوم الثاني حيث قطعوا قدميه ومزقوا جسمه بالسياط ، وفي اليوم الثالث قطع رأسه ، وأحرق جثمانه وذرى رماده في الدجلة من فوق رأس مئذنة .( 98 ) ولقد كان للمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون تأثير كبير على الدارسين والأدباء الذين تبنوا وجهة النظر هذه. على أن هناك وجهة نظر أخرى ترد محاكمة الحلاج وصلبه إلى أسباب تتصل بفساد في عقيدته انعكس على شعره وسلوكه وهو ما أنكره عليه بعض كبار متصوفة عصره . استعار البياتي هذه الشخصية -التي أطلنا قليلاً في عرض أبز ملامح حياتها للتعرف على طبيعة ما استعاره الشاعر من سماتها التي استمدها من أصحاب وجهة النظر الأولى التي ترد مأساة الحلاج إلى أسباب سياسية- ليجعلها رمزًا أساسيًا في قصيدته الطويلة التي اشتملت على ستة مقاطع حملت العناوين الآتية : 1- المريد 2- رحلة حول الكلمات 3-فسيفساء 4-المحاكمة 5-الصلب 6- رماد في الريح وواضح أن عناوين المقاطع ذاتها مستمدة من حياة الحلاج وملامح شخصيته وقد استعار البياتي ما استعاره من ملامح شخصية الحلاج ليوحي من خلالها بتجربته هو الخاصة-وتجربة الشاعر المعاصر ذي الرسالة عمومًا -في التصدي للفساد ، وفي التعبير عن آلام الفقراء وآمالهم ، وتحمل أقسى أنواع العنت والاضطهاد في سبيل هذ الرسالة والإحساس بأن الموت في سبيل هذه الرسالة الخالدة حياة . __________________ (96):انظر طه عبد الباقي سرور :الحسين بن منصور الحلاج شهيد التصوف الإسلامي.المكتبة العلمية.القاهرة 1961ص58.و:لوليس ماسينيون :لامنحى الشخصي لحياة الحلاج شهيد الصوفية في الإسلام.ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه شخصيات" قلقة في الإسلام"مكتبة النهضة المصرية 1946ص70،71 (97): انظر الحسين بن منصور الحلاد .ص60 ،والمنحنى الشخصي لحياة الحلاج ص66 (98 ) انظر تفصيلات المحاكمة في :الحسين بن منصور الحلاج ص145وما بعدها والمنحنى الشخصي لحياة الحلاج ص 75 وما بعدها . |
(103 ) وإذا كانت هذه وظيفة كل مصلح وكل ثائر فإننا لا يهمنا في هذا المجال إلا التعرف على الوسيلة التي استطاع بها البياتي أن يحول مثل هذه المهمة إلى شعر ، وأن يجعل سلاحه في ثورته الكلمة الشعرية . وكان طبيعيًا أن يكون أول ما يستعيره الشاعر من ملاح شخصية الحلاج ليوحي عن طريق بأعباد رؤيه الخاصة هو ثورة الحلاج على الفساد المستشري : ما أوحش اليل إذا ما انطفأ المصباح فهذا الملمح حلاجي واضح ، وكان من الطبيعي ألا ينقل الشاعر الملمح التراثي كما هو ، بل لابد أن يمزجه برؤيته الخاصة ، ويخلطه بعناصرها ، ومن خلال التفاعل بين العنصر التراثي والأبعاد المعاصرة لرؤية الشاعر تنمو العملية الرمزية في القصيدة ،فربما لم تكن الرؤية الاجتماعية لدى الحلاج في وضوح رؤية البياني الاجتماعية وتبلورها ،ولكن حين تمتزج وأكلت خبز الجائعين الكادحين زُمر الذئاب وصائدو الذباب وخربت حديقة الصباح السحب السوداء والأمطار والرياح الرؤيتان فإن كلاً منهما تكتسب من الأخرى بعض ملامحها ، وتكسبها بالتالي بعض ملامحها. وثمة ملمح آخر ارتبط بهذ الملمح الشعري في حياة الحلاج واستمده البياتي لالتقائه مع بعد من أبرز أبعاد رؤيته الشعرية وهو الارتباط بالفقراء : الفقراء منحوني هذه الأسمال وهذه الأقوال |
(104) وقد لا تحمل "الأسمال " هذا المدلول الصوفي التراثي ،وإنما توحي بما ينتهي إليه الشاعر الذي يتبنى قضايا الفقراء من فقر ومسغبة ، ولكنه على أية حال ملمح حلاجي أصيل استطاع الشاعر أن يستغلة في الإيحاء ببعد من أبعاد رؤيته ،وبخاصة حين يقترن بـ"الأقوال" التي كانت منحة الفقراء إلى الحلاج وإلى الشاعر معًا ، والتي كانت سلاح كل منهما في معركته . ومن أبرز الملامح الحلاجية التي استعارها البياتي والتي لونت القصيدة كلها ملمح العذاب والتضحة ، لقد ضحى الحلاج في سبيل رسالته بحياته ، وتحمل أقسى ألوان العذاب وأشدها هو لا ولم ينكص ، واقد استعار البياتي الكثير من مشاهد المحاكمة والتعذيب ليوحي من خلالها بموقف قوى التخلف من أصحاب الرسالات الإصلاحية في كل عصر : واندفع القضاة والشهود والسياف وفي المقطع الأخير "رماد في الرياح" -الذي استمده الشاعر من المشه الأخير في مأساة في الحلاج حين أحرق جثمانه وذرى الريح- يصور الشاعر هذه الآلام التي يعانيها باعتباره صاحب رسالة والتي تستمد كل ملامحها من مشهد مأساة الحلاجفأحرقوا لساني ونهبوا بستاني وبصقوا في البئر يا محيري ومسكري وطردوا الأضياف |
(105 ) وقد عبر البياتي عن هذه الفكرة تعبيرًاشعريًا بارعًا ، ينطلق من موروث الحلاج وتجربته الخاصة إلى أفق الإيحاء بإحساس كل صاحب رسالة أن تضحيته لن تذهب سدى ، وأن حياته التي يقدمها في سبيل فكرته ودعوته ستثمر حيوات جديدة لا متناهية ، تكون امتدادًا لهذه الحياة وستظل بذرة حية لا تموت أبدًا : أوصال جسمي أصبحت سماد وليس معنى استعارة البياتي لهذه الملامح من شخصية الحلاج أن دوره اقتصر على إسقاط على أبعاد رؤيته هذه الملامح عن طريق الإشارة ، وإنما قام بنوع من المزج بين أبعاد تجربة الحلاج وأبعاد رؤيته هو المعاصرة الخاصة مما أتاح لعناصر التجربتين أن يندمجا وأن يتفاعلا ويتحاورا في غابة الرماد ستكبر الغابة يا صديقي وعاشقي ستكبر الأشجار سنلتقي بعد غدٍ في هيكل الأنوار فالزيت في المصباح لن يجف ، والموعد لن يفوت والجرح لن يبرأ ، والبذرة لن تموت بشكل نام ٍ خلاق ، ومن ثم فإننا نجد في أجزاء من القصيدة ملامح شخصية الحلاج تغيب تمامًا لتحل ملامح رؤية البياتي مكانها -كصورة من صور التفاعل والحوار بين طرفي الرمز ولا نعدم أن نجد العكس في مقاطع أخرى حيث تبرز ملامح شخصية الحلاج وتتوارى ملامح رؤية البياتي المعاصرة وراءهما تمامًا حتى لا نكاد نحسها ، بالإضافة إلى المواضع التي يتعانق فيها الطرفان تمامًا ويفني أحدهما في الآخر بحيث نحس أن هذا الملمح أو ذاك ملمح حلاجي بمقدار ما هو ملمح بياتي ، وأن انتماءه إلى أحد الطرفين ليس بأولى من انتمائه إلى الآخر . وعلى هذا النحو يمضي الشعر الحديث يستعير من مصادر تراثه المختلفة رموزًا وعناصر يثري بها تجربته الشعرية ويستغلها في بناء رموزه للإيحاء بما لا تستطيع اللغة العادية أن توحي به من مشاعره وأفكاره ورؤاه . وينبغي التنويه في النهاية إلى أن الرمز التراثي يعاني من نفس المخاطر التي يعاني منها الرمز المستمدة من الواقع هذه المخاطر المتمثلة في التقليد والابتذال من ناحية ، والغموض من ناحية أخرى ،يضاف إلى هذا فيما- يتصل بالرمز التراثي من إسراف بعض الشعراء في استخدام هذه الرموز التراثية ،واستعارة بعض الشعراء لرموزهم التراثية من تراثات أخرى غري تراثهم القومي ،ليس لها في وجدان جماهيرهم ما لمعطيات تراثهم من إيحاءات وتأثير . |
(106) المفارقة التصويريةالفصل الرابع مفهومها : المفارقة التصويرية تكتيك فني يستخدمه الشاعر المعاصر لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين بينهما نوع من التناقض . وعلى الرغم من أن شعرنا القديم قد عرف صورًا وفطن إلى الدور الذي تقوم به عملية إبراز التناقض بين النقيضين في تجلية معنى كل منهما في أ:مل صورة ، ولخص إدراكه لهذا الدور في تلك الحكمة المشهورة : والضد يظهر حسنه الضد على الرغم من هذا فإن النقد العربي القديم والبلاغة العربية كليهما لم يهتما بهذا التكنيك الفني ، وإن كانت البلاغة قد عنيت بلون من التصوير البديعي القائم على فكرة التضاد ، وعالجته تحت اسم "الطباق "-في صورته البسيطة - والمقابلة في صورته المركبة -ولكن المفارقة التصويرية تكتيك مختلف تمامًا عن المطابقة والمقابلة ،سواء من ناحية بنائه الفني ، أو من ناحية وظيفته الإيحائية،وذلك لأن المفارقة التصويرية تقوم على إبراز التناقض بين طرفيها ، هذا التناقض الذي قديمتد ليشمل القصيدة برمتها ـ فتقوم كلها على مفارقة تصويرية كبرى ، كما سنرى في بعض النماذج التي سنعرض لها .والتناقض في المفارقة التصويرية في أبرز صوره فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل ، أ بتعبير مقابل تقوم على افتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف ،والشاعر المعاصر يستغل هذه العملية في تصوير بعض المواقف والقضايا التي يبرز فيها هذا التناقض ، والتي تقوم المفارقة التصويرية بدور فعال في إبراز أبعادها |
(107) فحين يقول المتنبي : فلا الجود بغنى المال والجد مقبل ولا البخل يبقى المال والجد مدبر فإنه لا يهدف إلى إبراز فكرة التناقض بني الجود والإفناء والإقبال في الشطرة الأولى ، والبخل والإبقاء والإدبار في الشطرة الثانية ، لأنه ليس من بين هذه الأضداد في البيت تناقض أساسًا ، والشطرة الثانية تكاد تكون صياغة أخرى بما يريد الشاعر أن يوحي به في الشطرة الأولى ، وقاصى ما يهدف إليه الشاعر هو المقابلة بين المدلولات اللغوي لهذه الأضداد ، أو الجمع بينهما على صعيد واحد ، وهذا هو المدلول البلاغي لمصطلح "المقابلة " الذي هو الصورة المركبة "للطباق ". أما حين يقول شاعر معاصر كبدر شاكر السياب في تصوير حال أبناء العراق الكادحين الذين كانوا يضطرون في بعض العهود إلى الهجرة إلى الخليج تحت ضغط الحاجة مخاطرين بحياتهم بحثًا عن لقمة العيش التي كانوا لا يكادون يعثرون عليها ، على حين يفيض العراق بالخيرات التي كان ينعم بها المستغلون والطغاة : وينثر الخليج من هباته الكثار (99)على الرمال رغوة الأجاج والمحار وما تبقى من عظام بائس غريق من المهاجرني ظل يشربا لردى من لجة الخليج في القرار وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق من زهرة يروبها الفرات بالندى ______________________ (99): ديوان أنشودة المطر، بدر شاكر السياب ، ص106 |
(108) فإن الشاعر يهدف في أبياته إلى إبراز التناقض الجائر بين وضعين متناقضين من خلال مفارقة تصويرية كبيرة ، طرفها الأول أبناء العراق الكادحون ، الذين يهاجرون إلى الخليج بحثًا عن لقمة العيش ، حيث لا يصادفون هناك سوى الموت في قاع الخليج الذي ينثر على الرمال ما تبقى من عظامهم .أما طرفها الثاني فهم أولئك المستغلون في العراق الذين ينعمون بخيراته الكثيرة دون أن يتحلموا أي جهد أو عناء .والشاعر يهدف أساسًا إلى إبراز هذا التناقض الجائر بين الوضعين وتجسيده ولا يهدف إلى مجرد الجمع بين مجموعة من الأضداد كما فعل المتنبي في بيته السابق . والتناقض في أبيات السياب قائم على اتففراض التوافق المفقود على مستويين : المستوى الأول التنعن بخيرات العراق الذي كان مفروضًا أن يتساوى فيه كل أبناء العراق وكل طوائفه بلا تفاوت ، ولكنهم في الواقع لا يستوون ، ويبلغ التناقض بين الوضعين قمة فداحته حين يصور الشاعر أن الذين ينعمون هم الذين لا يستحقون ، هم أولئك المستغلون الذين لا يكدحون ولا يجهدون بينما يحرم المستحقو ن الكادحون ، وهذا هو المستوى الثاني للتوافق المفقود ، فقد كان مفروضًا أن يتساوى الجميع في تحمل العبء أولاً ، أو أن ينال كل بحسب جهده وعطائه ثانيًا ، ولكن التوافق مفقود على المستويين ، وهكذا تقوم المفارقة بهذا الدور الفعال في تجسيد رؤية الشاعر . |
(109) أنماط المفارقة التصويرية :تقوم المفارقة التصويرية إذًا في أوضح صورها على إبراز التناقض بين وضعين متقابلين هما طرفا المفارقة ولبناء المفارقة على هذا النحو شكلان أساسيان في شعرنا المعاصر : الشكل الأول يستمد الشاعر فيه طرفي المفارقة من الواقع المعاصر ، والشكل الثاني يستمد فيه أحد الطرفين -أو كليهما -من التراث . ولكل من هذين الشكلين مجموعة من الأنماط والصور . أولاً : المفارقة ذات الطرفين المعاصرين : ولهذا الشكل من شكلي المفارقة التصويرية نمطان أساسيان - من حيث أسلوب مقابلة كل من طرفي المفارقة بالآخر : النمط الأول :فيه يضع الشاعر الطرف الأول مكتملاً ، وبكل عناصره ومقوماته ، في مواجهة الطرف الثاني مكتملاً أيضًا ، وبكل عناصره ومقوماته ، ومن خلال مقابلة كل من الطرفين بالآخر تحدث المفارقة تأثيرها ، ويبرز التناقض بين الطرفين واضحًا وفادحًا. ومن النماذج الجيدة لهذا النمط من أنماط المفارقة ذات الطرفين المعاصرين قصيدة "هاجرت من عروبتها " (100)للشاعر ممدوح عدوان ، التي يقابل فيها بين وجهين من وجوه دمشق أو بين حالتين من حالاتها : الحالة الأولى يوم كانت أمًا رءومًا له ولأبنائها ، تحتضنه -وتحضن كل ساكنيها-بكل حنان الأم وحبها ، وتغذوه -وتغذوهم- بلبان الثورة والفداء مما جعلها بالنسبة له ملاذًا ، وربط بينه وبينها برباط تواصل حميم متبادل . ___________ (100) :ممدوح عدوان : الدماء تدق على النوافذ،منشورات وزارة الإعلام العراقية.بغداد 1974ص 35 |
(110) أما الحالة الثانية فيوم أن تجهمت له وأنكرته ، وتخلت عن دورها العظيم ،يوم "هاجرت من عروبتها"وقطعت أواصر العمودة والتواصل بينها وبينه . والشاعر يضع الوجه الأول بكل ملامحه وقسماته -التي يتأنق في تصويرها - في مقابلة الوجه الثاني بكل ملامحه وقسماته . يقول في تصوير ملامح الوجه الأول :كنت أعرف هذا المدينة ،كانت شوارعها تتأبطني في ليلي الضجر وتواعدني في الغياب ، تكاتبني إذ يطول السفر تشتكي لي ، وتنقل بشرى ، تذكرني بالزمان القديم أتوهج شوقًا ، وحين أرى وجهها في اللقاء أبش ، فتبسم ، تربكني بابتسامتها الساحرة .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. والمدينة كانت تنادمني ، وتعيد عليّ أحاديثها .. عن ليالي أساها وأمجادها الغابرة . كنت أعرف هذا المدينة : صوت بكاء أعزيه ، فرحة عمر أغني لديها ديارًا تكفكف مني اغترابي وحضنًا على صدرها أترعرع ، صوت انتخاء إذا ما أتاها الخطر كنت أعرف هذه المدينة ، كانت دمشق ، وكان الدمشقي فيها يسجيها بالدماء كنت أعرف أنا بناة الحصون بها ، وكماة المعارك ، الحاصدون المواسم جمعًا من الفقراء |
(111) وعلى هذا الوجه يمضي الشاعر في تصوير الوجه الأول بكل تألقه ، وبكل كبريائه وجلاله ،وبكل حنوه وتواصله الحميم معه ،وما إن ينتهي من تصوير هذا الوجه -الذي يمثل الطرف الأول للمفارقة- حتى ينتقل إلى تصوير الوجه الثاني لدمشق-الذي يمثل الطرف الثاني فيها- :أمس فتشت فيها عن الفقراء عن الثائرين بغوطتها لم أجدهم ، وعن وهكذا يمضي الشاعر في تصوير ملامح هذا الوجه الآخر من وجهي دمشق،شجر الغوطتين فلم أتعرف على الخضرة الحانية ثم وجهت وجهي إلى حارة كانت "القنوات"وكانت تقاتل أعداءنا ، وتقدم بين الحواري ملاجئها للمطارد ، وحدي صرخت بها ..لم تجب ، لم أجد غير جبهتها الدامية أمس فتشت عن أصدقائي القدامى فما عرفوني ، رأيت الوجوه تغيم ، تجف ، تفر الملامح منها ، وكنت أنادي فلم يسمعوني ، ولم يفهموا لغتي بالنداء كنت أعرف هذي المدينة . ما للمدينة تنكر وجهي ، أضاحكها لا تجيب، تصادر صوتي ، تحاصرني باليعاسيب ، تملأ أوجهها بالطحالب والميتين ..إلخ بكل مكا نفيه من تجهم له ، واربداد وإنكار ، وبكل ما يخد قسماته من ملامح الضعف والهوان والانكسار ؛فالمدينة التي كانت شوارعها خنادق نضال وصمود ،التي كان يحس الشاعر بالانتماء إليها والتواصل الحميم معها ، حيث كان يحس أنها جزء منه وأنه جزء منها ..تحتضنه وتنادمه وتمنحه الأمان والنجدة والحمى إذا ما استغاث بها قد تحولت إلى خرائب صامتة يحس فيها بالغربة ،يستصرخها فلا يجيبه أحد ، يضاحكها لا تستجيب ، تنكر ملامحه وتحاصره بكل ملامح الركود والخمود والموت ،اليعاسيب والطحالب والميتين |
(112) وهكذا من خلال مقابلة الوجه الثاني -بكل ملامحه-بالوجه الأول-بكل ملامحه أيضًا - تبرز فداحة المفارقةويتجاوز إيحاؤها في كل من الطرفين مدى ما كان يستطيع أن يصل إليه تصوير كل طرف منفردًا،لأن كلا في المفارقة يلقي بظلاله على الآخر فيبرز ملامحه ويزيدها وضوحًا وجلاء ، ومن خلال التفاعل بين ملامح الطرفين تغني إيحاءات القصيدة ، ويعمق عطاؤها . أما النمط الثاني من نمطي المفارقة ذات الطرفين المعاصرين ، فإن الشاعر لا يقدم كلاً من الطرفين متكاملاً في مقابلة الآخر ، وإنما يفتت كلاً منهما إلى مجموعة من العناصر التفصيلية ، ثم يضع كل عنصر منها في مقابلة ما يناقضه من عناصر الطرف الآخر ، بحيثب تنحل المفارقة في النهاية إلى مجموعة من المفارقات الجزئية ، وبذلك يتم إبراز التناقض على مستويين ، يتم أولاً على مستوى جزئيات كل الطرفين ، ويتم ثانيًا-ومن خلال تجميع هذه الجزئيات-على مستوى الكل الذي يتألف منها . ففي قصيدة "الزيارة.."(101)للشاعر حامد طاهر ، التي كتبها في ذكرى وفاة بعض الأعزاء من الراحلين ، وتصوير ما كانت عليه حاله قبل رحيلهم من سعادة وانطلاق وتفتح للحياة ، وقدر ةعلى الإبداع والعطاء ، وما أصبحت عليه هذه الحال بعد رحيلهم من تعاسة وكلال وانطفاء ، وهذان هما طرفا المقابلة الأساسيان ، ولكن الشاعر يفتت كلاً منهما إلى مجموعة من العناصر الجزئية ، ويضع كل عنصر من هذه العناصر بإزاء ما يقابله من عناصر الطرف الآخر ،فيقول: ___________________ (101) حامد طاهر:"قصدية الزيارة" حوليات كلي دار العلوم .العام الجامعي 1972\1973.ص 155 |
(113) كانت خطواتي حين أسايرهم نغمًا يزهر فيه الصوتصارت خطواتي يابسة ، وامتد خريف الصمت كان خيالي مشبوبًا .. يتعلق بالسحب ، وينفذ من أبواب الجنة صار خيالاً مشلولاً ،يتعثر بالأحجار ويسكن حفر الأرض بصري كان أحدّ ، وعيناي تجوبان سماء الأمل ، ومملكة الشمس صرت ضعيف البصر ، أحدق في ظلمات اليأس كان لروحي إشعاع ، وبنفسي شوق للمجهول جف الشوق ، انطفأ الإشعاع تهاوت أجنحة النفس وهكذا يحل كل من الطرفين إلى مجموعة من العناصر التي يقوم بها كل عنصر منها بإزاء العنصر المقابل له من الطرف الآخر ؛ فخطوات الشاعر التي كانت في ظل هؤلاء الراحلين نغمًا مزدهرًا بالصوت-وهذا عنصر من عناصر الطرف الأول - قد أصبحت خطوات يابسة يرين عليها خريف ممتد من الصمت -وهذا هو العنصر المقابل له من الطرف الثاني - وخيال الشاعر الذي كان من قبل رحيل هؤلاء الراحلين خيالًا مجنحًا طليقًا ،يحلق إلى أقصى الآفاق ولا تقف في وجهه حدود ولا تخوم - وهذا عنصر آخر من عناصر الطرف الأول للمفارقة-قد أصبح خيالاً كسيحًا يتعثر في أحجار الأرض وحفرها -وهذا هو العنصر المقابل-والبصر الذي كان حديدًا نافذًا يتطلع دائمًا إلى سماوات الأمل المفتوحة-وهذا عنصر ثالث من عناصر الطرف الأول - قد أصبح بصرًا كليلاً مشدودًا إلى الأرض وإلى ظلمات اليأس - وهذا هو ما يقابله من عناصر الطرف الثاني -وأخيرًا فإن روحه التي كانت تفيض بالإشعاع ،ونفسه التي كان يفعمها بالشوق إلى المجهول- وهذا هو عنصر الطرف الأول - قد جف فيهما الشوق إلى المجهول-وهذا هو عنصر الطرف الأول -قد جف فيهما الشوق وانطفأ الإشعاع .. وعلى هذا النحو يضع الشاعر كل عنصر من عناصر الطرف الأول في مواجهة ما يقابله من عناصر الطرف الثاني . وتتحول الأبيات إلى مجموعة من المفارقات الجزئية البارعة ، التي تتألف من مجموعها المفارقة الكبرى في القصيدة، ويشعر القارئ بفداحة المفارقة بين الحالين مرتين ، مرة على مستوى جزئيات كل من الحالين ، ومرة على مستوى الحالين ككل ، وبهذا يزيد معنى المفارقة عمقًا ووضوحًا . |
(114) ثانيًا :المفارقات ذات المعطيات التراثية : شاع في شعرنا العربي الحديث في المرحلة الأخيرة بناء المفارقة التصويرية عن طريق استخدام بعض معطيات التراث لإبراز التناقض بينها وبين بعض الأوضاع المعاصرة ، ولهذه المفارقة المبنية على معطيات تراثية بدورها نمطان أساسيان : النمط الأول : المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد ، وفي هذا النمط من نمطى المفارقة ذات المعطيات التراثية يقابل الشاعر بين طرف تراثي ، وطرف آخر معاصر . النمط الثاني : المفارقة ذات الطرفين التراثيين ،وفي هذا النمط يكون طرفا المفارقة كلاهما من التراث ، ولكن الشاعر يسقط عليهما -أو على أحدهما -دلالة معاصرة رمزية ، وبهذا تتم المفارقة في هذا النمط على مستويين . المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد : ولهذا النمط من نمطي المفارقة ذات المعطيا ت ا لتراثية ثلاث صور أساسية : الصورة الأولى :يصرح فيها الشاعر بطرفي المفارقة-التراثي والمعاصر- محتفظًا لكل منهما بتميزه واستقلاله عن الآخر ، وتتحقق المفارقة عن طريق المقابلة بين الطرفين المتمايزين ، ففي قصيدة "أحزان في الأندلس"(102) للشاعر نزار قباني ، يبني الشاعر القصيدة على مفارقة تصويرية كبيرة طرفها الأول -التراثي-ماضي العرب في الأندلس ، وما كانوا عليه من قوة وبأس وسلطان ومجد ، وطرفها الثاني ما آل إليه هذ االمجد من انطفاء وخمول ،والشاعر يصرح بكلا الطرفين لا يخلطه بالآخر ، ولا يسقط عليه أيًا من ملامحه وسماته ، يقول عن الطرف الأول مصورًا عزة الماضي العربي في الأندلس وتألقه : ___________________ (102)نزار قباني : ديوان "الرسم بالكلمات" ص 176 |
(115) كتبتِ لي يا غالية … كتبت تسألين عن إسبانية عن طارق يفتح باسم الله دنيا ثانية عن عقبة بن نافع يزرع شتل نخلة في قلب كل رابية سالت عن أمية سألت عن أميرها معاوية عن السرايا الزاهية تحمل من دمشق في ركابها حضارة وعافية ثم ينتقل إلى تصوير ملامح الطرف المعاصر المتمثل فيما آل إليه هذا المجد من انطفاء وذبول : لم يبق من اسبانية منا ومن عصورها الثمانية غير الذي يبقى من الخمر بجوف الآنية .. .. .. .. .. .. .. .. لم يبق من قرطبة سوى المئذنات الباكية سوى عبير الورد والنارنج والأضاليه لم يبق من ولاّده ومن حكايا حبها قافية… ولا بقايا قافية لم يبق من غرناطة ، ومن بني الأحمر إلا ما يقول الراوية .. إلخ |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.