(35) القيمة الإيحائية للألفاظ : تمتلك الألفاظ المردة –ومن قبل أن توضع في بناء لغوي- طاقات إيحائية خاصة ، يمكن إذا ما فطن إليها الشاعر ونجح في اتسغلالها أن تقوى من إيحاء الوسائل والأدوات الشعرية الأخرى ،وتقريه ، وقد استطاع الشاعر العربي القديم بوحي من إدراكه الفطري العميق لطبيعة لغته وأسصرارها وبحاسته السعرية المرهفة أن يقع على الألفاظ الأكثر ملاءمة لطبيعة رؤيته الشعرية فحين يريد شاعر كامئ القيس أن يصور إأحساسه بثل الليل وبطء مروره ، فلإنه يختا من الألفاظ ما يشع بإيحاءات الثقل والبطء والجثوم ، ويعمق من إيحاء تلك الصورة البارعة التي جسد بها الليل في ذل كالبيت الرائع : قلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازًا وناء بكلكل فكلمات "تمطى" و"صلبه" و"أردف"و"أعجاز" و"ناء"و"كلكل" توحي كلها بمعاني البطء والثقل والامتداد ،الممتزجة لإيحاءات الجمود والصلابة ،فكلمة "تمطى" توحي بالامتداد والبطء الشديد ، لتأتي من بعدها كلمة "صلب"لتوحي بالجمود والصلابة ، ولهذا آثرها الشاعر على كلمة "ظهر"لأن في الأولى من إيحاءات الصلابة واىلجمود ما ليس في الثانية ، ثم تأتي من بعد ذلك كلمة "أردف"بما توحيه من دلالات التتابع والاستمرار لتقوي من إيحاء اللكمتين السابقتين بالبطء والثقل ، ويدعم هذا الإيحاء باستعمال كلمة "أعجاز" بصيغة الجمع تأكيدًا لنفس الإيحاءات السابقة ،ويأتي بع ذكل الفعل "ناء"بما يوجيه من معنى السقوط الثقيل اباهظ ، ليختم البيت بهذه الكلمة الثقيلة بأصوواتها ودلالتها "كلكل"التي آثرها بدورها على كلمة صدر ونجوها لأن فيها من إيحاءات الثقل والشدة ما ليس في أية كلمة أخرى تؤدي نفس المعنى .هكذا استطاع امرؤي القيس أن يدرك –بفطرته اللغوية- والشعرية المرهفة- هذه الإأيحاءات التي تمتلكها هذه الألفاظ واستغلها استغلالاً موفقًا في التعبير عن الإحساس بطول الليل وامتداده وثقله، وقد استطاع أن يحقق نوعًا من التفاعل النامي بين إيحاء هذه الكلمات في إطار تلك الصورة الفنية البارعة التي جسد بها الليل في صورة ذلك الحيوان الكابوسي الغريب الثقيل ،بحيث أخذت كل لفظة من إيحاء الأخريات وأعطتها من إيحائها . |
(36) وإذا كان امرؤ القيس وسواه من شعرائنا القدامى قد اهتدوا إلى القيمة الإيحائية للألفاظ بوحي من فطرتهم الشعرية المرهفة وسليقتهم اللغوية الخالصة كما اهتدوا إلى بعض الطاقات الإيحائية للأصوات بنفس الوسيلة ،فإن بعض الاتجاهات الشعرية الحديثة أولت هذا الجانب اهتمامًا خاصًا ، كما فعل الرمزيون والسيرياليون ،فقد كان الرمزيون "يتأنقون في اختيار الألفاظ المشعة المصورة بحيث توحكي اللفظة في موقعها وقرائنها بأجواء نفسية رحيبة تعبر عما يقصر التعبير عنه ،وتفيد ما لا تفيد في أصلها الوضعي النفعي ".(33) بل إن بعضهم بالغ في الاعتماد على الطاقات الخاصة للكلمات إلى حد الذهاب إلى تجريد السياق اللغوي من العلاقات التركيبية اللغوية المنطقية ،وترتيب الكلمات ولق منطق ذاتي شعوري خاص.(34) .وقد بلغ هذا الاتجاه مداه لدى السرياليين بحيثب أصبح من الممكن عندهم أن تتألف القصيدة من مجموعة من الكلمات المفردة .وأن يتكئ الشاعر على الطاقات الإيحائية في هذه الكلمات للإيحاء بتلك المشاعر والأحاسيس المبهمة التي تتداعى في حرية.(35) وفي شعرنا العربي الحديث تأثر كثير من الشعراء بمثل هذه الاتجاهات في الشعر العاملي ،ومن الشعراء الذين تأثروا بها تأثرًا كبيرًا شعراء الرومانسية العربية أمثال أبي القاسم الشابي ،وعلي محمود طه،وسواهما من الشعراء الذين تأثروا –إلى جانب نزعتهم الرومانسية البارزة-بكثير من القيم الجمالية والفنية التي أرساها الشعراء الرمزيون ،فضلاً عن الشعراء الرمزيين العرب كبشر فارس وأديب مظهر ،وسعيد عقيل وصلاح لبكى وسواهم من شعراء الرمزية العرب . ____________________ (33) د.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث:ص427 (34)انظر:د.محمد فتوح أحمد :الرمز والرمزية في الشعر المعاصر .صفحات84،124-126. (35) انظر :R. Brechon : Le Surrelisme |
(37) ومن النماذج البارزة لاستغلال القيمة الإيحائية للكلمات قصيدة أبي القاسم الشابي المشهورة"صلوات في هيكل الحب" (36) التي يعتمد فيها اعتمادًا يكاد يكون أساسيًا على إيحاءات الألفاظ وإشعاعاتها النفسية الرحيبة ،يقول أبو القاسم الشابي في هذه القصيدة : عذبة انت كالطفولة ، كالأحلام ، كاللحن ،كالصباح الجديد كالسماء الضحوك ، كالليلة الحمراء،كالورد ، كابتسام الوليد فيك شب الشباب وشحه السحر ،وشدو الهوى ، وعطر الورود وتراءى الجمال يرقص رقصًا قدسيًا على أغاني الوجود وتهادت في أفق روحك أوزن الأغاني ورقة التغريد فتمايلت في الوجود كلحن عبقري الخيال ، حلو النشيد خطوات سكرانة بالأناشيد ، وصوت كرجع ناي بعيد فأبرز ما يجذب نظر القارئ وسمعه من هذه الأبيات –وهي نموذج لصنيع الشابي في قصيدته كلها –تلك الألفاظ المشعة الموحية التي تأنق الشاعر في اختيارها، بحيبث تشيع جوًا من الإحساس الرحيب بالجمال والطهر والنقاء والبراءة،تلك الأحاسيس التي ولع الشابي بإشاعتها في شعره ، وقد كثرت هذه الألفاظ في الأبيات إلى درجة التراكم ؛ففي بيتي المطلع وحدهما –علىل سبيل المثال –تتجمع كل هذه الألفاظ "العذوبة" "الطفولة" "الأحلام " "اللحن" "الصباح الجديد" "السماي الضحوك" "الليلة القمراء" "الورود" "ابتسام الوليد" وكلها تتوارد علىل الإحساس بالجمال البرئ الوديع الغض الذي لا تكاد تحده حدود مادية ملموسة ،إلى الحد الذي يمكن معه القول بان الشابي يتحدث عن محبوبة خيالية مجردة أكثر مما يتحدث عن إنسانة حية من لحم ودم. ــــــــــــــــــــ (36) أبو القاسم الشابي ،أغاني الحياة.دار الكتب الشرقية.القاهرة 1955.ص121 |
(38) وقد قامت الألفاظ بطاقتها الإيحائية الخاصة – في البيتين وفي القصيدة كلها بالدرو الأول في الإيحاء بهذه الأجواء الرحيبة من الشفافية ،والجمال الناصع ، أما بقية الأدوات فإن دورها يكادء يتوارى وراء إيحاءات الألفاظ ووقعها النفسي ؛ فوسيلة التصوير الأولى في القصيدة هي التشبيه ، التشبيه البسيط الواضح الأركان والعناصر ،بالإضافة إلى بعض الصور الشعرية القائمة على استعارات لا تتجاوز كثيرًا-من حيث بساطة تكوينها –تشبيهات الشاعر في القصيدة من مثل رقص الجمال ، وتهادي أوزان الأغاني في أفق روح المحبوبة ، والحقيقة أن معجم الشابي الشعري غني بمثل هذه الألفاظ ذات الإشعاعات الخاصة. أسلوب الحذف والإضمار : إن الإيحاء الذي يهدف إليه بناء القصيدة الحديثة يتطلب من الشاعر ألا يصرح بكل شيء ، بل إنه يلجأ أحيانًا إلى إسقاط بعض عناصر البناء اللغوي مما يثري الإيحاء ويقويه من ناحية وينشط خيال المتلقي من ناحية أخرى لتأويل هذه الجوانب المضمرة ، وبهذا يحقق الحذف والإضمار هذا الهدف المزدوج. ولقد كان الحذف والإضمار من الوسائل الإيحائية التي اهتم بها شعرنا العربي القديم ونقدنا العربي على السواء ،ووصل نقادنا إلى آراء ذات شأن في هذا المجال ،وفطنوا إلى قيمته الإيحائية ،وكيف أنه كثيرًا ما يكون أبلغ من الذكر والإفصاح ، حتى قال عنه الناقد والبلاغي الكبير عبد القاهر الجرجاني إنه "باب دقيق المسلك ،لطيف المأخذ ،عجيب الأمر،شبيه بالسحر ،فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر ،والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ،وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تبن" .(37)وقد له فصلاً طويلاً في كتابه "دلائل الإعجاز". ____________________ (37) عبد القاهر الجرجاني :دلائل الإعجاز. تحقيق الشيخ محمد عبده والشيخ محمد الشنقيطي.طبعة المنار،القاهرة ص105،107 |
(39) أما شعرنا العربي القديم ، فقد عرف نماذج جيدة من توظيف أسلوب الحذف والإضمار توظيفًا إيحائيًا موفقًا من مثل قل النابغة في رثاء حصن بن حذيفة.(38) يقولون حصن .. ثم تأبى نفوسهم وكيف بحصن والجبال جنوح ولم تنفض الموتى القبور ولم تزل نجوم السماء والأديم صحيح! فعما قليل،ثم جاء نعيــــــــــــــــه فظل ندى القوم وهو ينــــوح فقد استغل الشاعر أسلوب الحذف استغلالاً بارعًا في البيت الأول ،حيث يثير هذا الحذف من المشاعر والأحاسيس العميقة ما لم يكن ذكر الخبر المحذوف ليثير شيئًا منه ،فالحذف يوحي باستفظاع الناعي لهذا الخبر الفاجع الذي يحمله ، ومن ثم فإنه ينكص عن الإفضاء به ،بل إن الأمر يتجاوز النكوص إلى التشكيك في أن ما حدث قد حدث أو يمكن أن يحجث ، وكيف يكون حصن قد مات وما زال الوجود كما هو لم تتغير معالمه ؟ فالجبال لا تزال ماثلةل والموتى لا ينزالون في قبورهنم لم يُبعثوا ،ونجوم السماء وأديم الأرض ..كل شيء باق على حاله ، وهكذا تتضاعف الإيحاءات وتنمو بسبب حذف خبر المبتدأ "حصن".. وأمثلة الحذف في شعرنا القديم غير قليلة. وكان طبيعيًا في الشعر الحديث ،وبعد أن أصبح لأسلوب الحذف والإضمار فلسفته الجمالية ، وغاياته الفنية في الاتجاهات الشعرية والنقدية الحديثة ،أن يحتل أسلوب الحذف والإضمار دوره البارز بين أدوات الإيحاء الشعرية في القصيدة العربية الحديثة ، بحيث لا تكاد قصيدة حديثة تخلو من استخدام هذا الأسلوب على نحو أو آخر .فحين يقول شاعر كمحمد إبراهيم أبو سنة في قصيدته أغنية حب(39) : __________________ (38) المبرد (محمد بن يزيد) : الكامل في اللغة والأدب .تعليق محمد أبو الفضل إبراهيم .مكتبة نهضة مصر 3\129 (39) محمد إبراهيم أبو سنة : ديوان"أجراس السماء"الهيئة العامة المصرية للكتاب1975.ص4. |
(40) فحين يقول شاعر كمحمد إبراهيم أبو سنة في قصيدته أغنية حب: أفيقي ، فما زال يمكن ألا تكوني وسامًا وقبرًا وما زال يمكن أن يتوقف هذا النزيف ويبقى جمالك عصرًا ..وعصرًا وما زال يمكن ..ما زال يمكن .. ما زال يمكن.. ما .. أفيقي أحبك التي يخاطب يها مصر التي أحبها وتغذى بحبها مع لبن أمه ، وورث هذا الحب عن أبيه وجده ، وظل يعشقها رغم استكانتها أمام استباحة الطغاة والطامعين ، ورغم سخريات الآخرين منه ومن حبه لها ، إنه ما زال يؤمن بأنها قادرة على استرداد كل ما فقدته من نصاعتها وجلالها وألقها ، وبأن أمامها إمكانات غير متناهية لوقف هذا النزيف الأليم ، وللاحتفاظ ببهائها إلى الأبد. ويحس الشاعر بأن الألفاظ قاصرة عن الإحاطة بما يمكن لمصر أن تكونه ، فيلجأ إلى أسلوب الحذف والإضمار ،حيث يحذف فاعل الفعل "يمكن" بعد أن صرح به مرتين من قبل ، إيحاء بلا محدودية الإمكانات المتاحة أمام المحبوبة صر ، وأن ما يمكن أن تكونه لا يستطيع أن يحيط به تحديد. ولا يكتفي بالحذف في عبارة واحدة ، وإنما يكرر العبارة ،"وما زال يمكن.." أكثر من مرة ليضاعف من الإيحاء بكثرة الإمكانات وعدم تناهيها ، وفي المرة الأخيرة لا يبقي من العبارة إلا عىل كلمة "ما" ويحذف ما عداها ، وهنا تزداد القيمة الإيحائية للحذف ، فتتضاعف إيحاءاته ولا ندري إذا ما كان هذا الحذف استمرارًا لنفس الاتجاه في الإيحاء بعدم التناهي ما يمكن لمصر أن تكونه، أم هو تعبير عن يأس الشاعر من تحقيق هذه الإمكانات ، أم هو إحساس منه بأنه انساق وراء الأماني والأحلام أكثر مما ينبغي ، ومن ثم فإنه يبتر هذا الانسياق بهذا الأمر الصارم "أفيقي".. ليختم القصيدة عقب ذلك بهذا القرار الحاسم "أحبك".. فمهما أحاط الشك والغموض بأشياء كثيرة في رؤيا الشاعر فإن هناك يقينًا واحدًا واضحًا فوق أي شك وهو حبه لمصر ، ولذلك فإنه يعبر عن هذا الحب بهذه الصيغة التقريرية الحاسمة "أحبك". |
(41) لقد قام الحذف في هذا الجزء من القصيدة بدور إيحائي بارع ، بل لعله كان أهم عناصر الإيحاء التي استخدمها الشاعر هنا.ولعل في هذا القدر ما يوضح لنا القيمة الإيحائية لأسلوب الحذف والإضمار في القصيدة الحديثة. التكرار: التكرار من الوسائل اللغوية التي يمكن أن تؤدي في القصيدة العربية دورًا تعبيريًا واضحًا ، فتكرار لفظة ما ،أو عتبارة ما ، يوحي بشكل أولي بسيطرة هذا العنصر المكرر وإلحاحه على فكر الشاعر أو شعورة أو لا شعوره ، ومن ثم فهو لا يفتأ ينبثق في أفق رؤياه من لحظة لأخرى ، وقد عرفت القصدية العربية منذ أقدم عصورها هذه الوسيلة الإيحائية ؛فحين يقول شاعر كالصمة بن عبد الله القشيري.(40) ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة إليّ فهلا نفس ليلى شفيعها؟ أأكرم من ليل عليّ..فتبتغي به الجاه؟ أم كنت امراً لا أطعيها ؟ نحسّ بمدى سيطرة ليلى على وجدانه وفكره حتى ليكرر اسمها ثلاث مرات في البيتين لأنه يشعر بمتعة خاصة في ذكر هذا الاسم وتكراره ، وقد ساهم التكرار هنا مساهمة أساسية في التعبير عن ذلك العتاب الودود الذي يسروقه الشاعر إلى ليلى ، ليلى التي تتشفع إليه بسواها وهي أقرب الشفعاء إلى قلبه وأقواهم تأثيرًا على نفسه،وحتى اسمها هو أعذب الأسماء وأخفها على لسانه وسمعه ومن ثم فهو لا يسأم تكراره ، وقد تآزر هذا التكرار مع ذلك التساؤل العاتب في "أاكرم من ليلى عليّ؟" و"أم كنت امرأ لا أطيعها؟" على الإيحاءات بذلك العتاب الودود . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (40) انظر المرزوقي (أبو علي أحمد بن محمد):شرح ديوان الحماسة.نشر الأستاذين أحمد أمين وعبد السلام هارون.لجنة التأليف والترجمة والنشر.القاهرة 1952 القسم الثالث ص122. والبيتان في الكتاب بدون نسبة ، وقد نسبهما المحققان إلى الصمة أو ابن الدمينة |
(42) ويقوم التكرار في القصيدة العربية الحديثة بوظيفة إيحائية بارزة، وتتعدد أشكاله وصوره بتعدد الهدف الإيحائي الذين ينوطه الشاعر به، وتتراوح هذه الأشكال ما بين التكرار البسيط الذي لا يتجاوز تكرار لفظة معينة أو عبارة معينة بدون تغيير ، وبين أشكال أخرى أكثر تركيبًا وتعقيدًا يتصرف فيها الشاعر في العنصر المكرر بحيبث تغعدو أقوى إيحاء . وصور التكرار البسيط في القصيدة الحديثة كثيرة ، ومن نماذجها قول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في قصيدته "غريب على الخليج"(41) التي يعبر فيها عن حنينه الغلاب إلى العراق عندما اطضر إلى تركه إلى دول الخليج بحثًا عن لقمة العيش : أعلى من العباب يهدر صوته ن ومن الضجيج صوت تفجر في قرارة نفسي الكثلى :عراق كالمد يصعد ، كالسحابة ،كالدموع إلى العيون الريح تصرخ بي :عراق والموج يعول بي : عارق ، عراق ،ليس سوى عراق فتكرار كلمة "عراق" في الأبيات يوحي بمدى سيطرة العراق على رؤيا الشاعر وعلى مشاعره ،إنه يملأ ألفق هذه الرؤيا ،ويواجهه أينما اتجه ، وهو صوت يعلو على كل الأصوات بحييث لم يعد يسمع سواه أو يرى سواه والتكرار هنا هو الوسيلة الأساسية في الإيحاء بمدى ارتباط الشاعر بالعرابق وحنينه إليه وكل الأدوات الأخرى تأتي على هامشه. أما الأشكال الأكثر تعقيدًا من التكرار فهي التي تجلى فيها براعة الشاعر وعبقريته.وقد يكتفي الشاعر في تركيب التكرار بالمزج بينه وبين الوسائل اللغوية الإيحائية الأخرى بحيث تندمج أداتان أو أكثر تتآزران على تقوية الإيحاء المطلوب كما فعل الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة في النموذج السابق الذي مزج فيه بين التكرار وأسولب الحذف والإضمار على نحو تآزرت فيه الأداتان على الإيحاء بلا محدودية ما يمكن أن تكون مصر وأن تحققه . ______________________ (41)ديوان "أنشودة المطر " ص 11 |
(43) وقد يتصرف الشاعر في طريقة التكرار ذاتها بالتدخل في العنصر المكرر والتصرف في صياغته بحيبث لا يأتي بصورة واحدة في كل مرة ، ومن النماذج البارعة لهذه الصورة من صور التكرار المركب "الإصحاح العاشر " من قصيدة "سفر ألف دال" للشاعر أمل دنقل (42) الشوارع في آخر الليل ، آه، أرامل متشحات ينهنهن في عتبات القبور البيوت قطرة .. قطرة تساقط أدمعهن مصابيح ذابلة ،تتشبث في وجنة الليل ، ثم تموت *** الشوارع في آخر الليل ، آه ، خيوط من العنكبوت والمصابيح تلك الفراشات عالقة في مخالبها ، تتلوى ..فتعصرها ، ثم تنحّ شيئًا فشيئًا ، فتمتص من دمها قطرة ..قطرة ، فالمصابيح قوت *** الشوارع في آخر الليل ،آه ، أفاع تنام على راحة القمر الأدبي الصموت لمعان الجلود المفضضة المستطيلة يغدو مصابيح مسمومة الضوء،يغفو بداخلها الموت ، حتى إذا غرب القمر انطفأت ،وعلى في شرايينها السم تنزفه قطرة .. قطرة في السكون المميت *** وأنا كنت بين الشوارع وحدي،وبين المصابيح وحدي أتصبب بالحزن بين قميصي وجلدي قطرة ..قطرة كان حبي يموت وأنا خارج من فراديسه دون ورقة توت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ (42):ديوان العهد الآتي ، ص 60 |
(44) إن لدينا هنا مجموعة من العناصر التي تتكرر عدة مرات ، ولكن الشاعر يشكلها في كل مرة تشكيلاً جديدًا ،ويؤلف بينها تأليفًا جيدًا ، بحيث تأتي في صورة جديدة تمامًا. إن لدينا في الأبيات "شوارع طين" و"مصابيح" ووقت معين هو "آخر الليل" وآهة تتكرر ، ولدينا أخيرًا أشياء تتساقط أو تذوب ،أو تفنى ، "قطرة ..قطرة". هذه هي العناصر التي تتكرر في المقاطع الأربعة ، وتتشكل في كل مقطع بصورة جديدة ولكن الصور كلها تدور في النهاية حول محور واحد نو الشعور بالموت والذبول والانطفاء. في المقطع الأول ترى "الشوارع" في "آخر الليل" وقد تجسدت في صورة أرامل ثاكلات يبكين بحرقة في عتبات بيوتهن-القبور ، وتغدو" المصابيح" هي الدموع المتساقطة"فطرة ..قطرة" من عيون أنلئك الأرامل الثكالى ،والتي تحاول سدى أن تتشبث في وجنه الليل قبل أن تموت.وهكذا يلف الموت والانطفاءالصورة بكل عناصرها. وفي المقطع الثاني تتحول "الشوارع "في" آخر الليل" إلى خيوط عنكبوت ، وتصبح "المصابيح"هي الفراشات الضحايا التي تتلوى في قبضة الخيوط قبل أن تتحلل في مخالب الشوارع العنكبوت ، لتمتص دمها "قطرة ..قطرة " مرة أخرى يطالعنا الموت والانطفاء بصورة أخرى وشكل جديد ، وإن كان قد تكون من نفس العناصر. وفي المقطع الثالث تتحول "الشوارع" في "آخر الليل": مرة أخرى إلى أفاع تنام على راحة القمر ، أما "المصابيح" فهي لمعان جلود هذه الأفاعي ومن ثم فإن ضياءها ضياء مسموم ،لا يلبث-إذا انطفأ القمر –أن ينزف سمه "قطرة قطرة" في السكون المميت ، وهكذا تتشكل نفس العناصر المكررة للمرة الثالثة في صورة جديدة لحمتها وسداها الموت الانطفاء والفناء. |
(45) وفي المقطع الأخير تصبح "الشوارع "و"المصابيح"بكل إيحاءاتها السابقة ، وبكل أشباح الموت والانطفاء التي تحف بها مسرحًا حزينًا لمشهد حزين وهو مشهد الشاعر الضائع الوحيد،المتصبب حزنًا ، والذي يشهد مصرع حبه "قطرة ..قكرة" ويخرج من فراديس هذا الحب خاويًا ،عاريًا حتى من ورقة توت. وعلى الرغم من "الشوارع " و"المصابيح" في هذا المقطع الأخير لم تتشكل في أية صورة جديدة ، فإن إيحاءات الصور السابقة التي تشكلت فيها تنعكس عليها ، فنحسّ أن هذه الشوارع وهذه المصابيح التي يتخبط بينها الشاعر وحيدًا يتصبب بالحزن بين قميصه وجلده ليست أبدًا تلك الشوارع و"المصابيح" الواقعية ،وإنما هي الشوارع والمصابيح الأرامل والدموع ، والعنكبوت والفراشات ، والأفاعي ولمعان جلودها المسموم ،إنها ببساطة الشوارع والمصابيح الموت والانطفاء التي توحد بها الشاعر وأصبح الجميع صورًا متعددة لحقيقة واحدة هي الموت .. والانتهاء. هكذا استطاع الشاعر أن يتصرف ببراعة في هذه العناصر المكررة ،حيبث شكل منها في كل مرة شيئًا جديدًا مختلفًا ، وبهذا حقق لونًا من التنوع من خلال الوحدة ، وإن كانت التشكيلات كلها كما رأينا تدور حول محور شعوري واحد ، مما يحقق من جديد نوعًا من الوحدة ، من خلال التنوع ، أو بعبارة أخرى يرد التنوع إلى لون من الوحدة. ولعله اتضح من هذا مدى ثراء الإمكانات الإيحائية لصور التكرار المركب وهي إمكانات غير محدودة سواء في صيغها أو في طاقاتها الإيحائية. إلغاء أدوات الربط اللغوية: عرفنا كيف حرر الرمزيون ومن بعدهم السيرياليونلغتهم الشعرية من الروابط والصلات المنطقية التي تربط الجمل والألفاظ بعضها إلى بعض ، حتى إن بعض القصائد السيريالية النموذجية كانت تتألف من مجموعة من الجمل المتجاورة بدون ترابط ، أو حتى مجموعة من الألفاظ غير المترابطة وقد أسرف السيرياليون في هذا الاتجاه ، حيث كانوا يرون أن الجمل ينبغي أن تتوارد آليًا كما ترد في الذهن ،ودون أي تدخل من الفكر لتنظيمها أوالربط بينها.(43) ______________ (43) انظر :Andre Breton : Manifestes du Surrealisme.Gallimard,Paris 1967.p.37 |
(46) وقد تأثرت بمثل هذا الاتجاه القصيدة العربيةب الحديثة ، فشاع في الكثير من نماذجها توالي الجميل بدون أدوات ربط لغوي تصل ما بينها ، وبخاصة في تلك القصائد التي تتألف الرؤية الشعرية فيها من مجموعة من الأحاسيس والخواطر والهواجس المبعثرة المشتتة ، أوما أشبه ذلك من الرؤى الشعرية التي تلائمها مثل هذه الوسيلة. ومن النماذج الجيدة لاستخدام هذه الوسيلة قصيدة "مائدة الفرح الميت" للشاعر ممحد إبراهيم أبي سنـّة(44) التي تصور انفصام الروابط والوشائج بين حبيبين ، من خلال لقاء بينهما عقب انطفاء جذوة حبهما .يقول الشاعر في مطلع القصيدة : ينبت ظلي في مرآة الحائط ينبت ظلك في مرآة السقف نتواجه ..نجلس نقتسم الصمت ، وأقداح الشاي البارد تفصلنا مائدة الفرح الميت تتتحرك فينا أوراق خريف العام الماضي وهكذا تتوالى الجمبل بدون ترابط ، وبدون أن يستخدم الشاعر أدوات الوصل اللغوية في ربط بعضها ببعض ، فظلت كل جملة منعزلة عن أخواتها مما يناسب الجو النفسي الذي يوشح الأبيات ، فنحن نحسّ منذ الوهلة الأولى أن العزلة والانفصام والفرقة تفرض ظلالها الثقيلة على الموقف برمته ، فقد أصبح كل من الحبيبين بعيدًا عن الآخر ،تفصله عنه عزلة عاطفية وروحية قاسية-رغم المكان الواحد الذي يضمهمها- محتى ظل من منهما ينبت في اتجاه مخالف للاتجداه الذي ينبت فيه ظل الآخر ، فعلى حين ينبت ظله "في مرآة الحائط"ينبت ظلها في مرأة السقف ". إن برودة العزلة تلف الجو كله ، بعد أن خمدت جذوة الحب المتوهجة ، انطفأت حرارة العواطف وتلاشى دفئها ، وقد امتدات برودة الموقف حتى إلى الشاي فأصبح بدورهشايًا باردًا ، والحبيبان لم يعد لديهما ما يقتسمانه سوى "الصمت" وأقداح هذا "الشاي البارد"، ولم يعد يتحرك في داخلها إلا "أوراق خريف العام الماضي". إن كل ما في الموقف يوحي بتصرم الصلات وانبتات الروابط وتقطعها ، ومن ثم جاءت الجمل بدورها تعكس هذ االجو الثقيل ، بعدم ترابطها وانقطاع الصلات اللغوية بينها ، وتساعد – من ناحي أخرى-على الإيحاء بتشتت خواطر الشاعر وهواجسه وعدم ترابطها وتماسكها. هذه هي أهم الإإمكانات اللغوية الخالصة التي يستخدمها الشاعر استخدامًا إيحائيًا تعبيريًا ، والتي كان من الضروري أن نعرض لها في إطار دراستنا لللغة الشعر ، قبل الانتقال إلى دراسة الأدوات والوسائل الشعرية الأخرى التي تمثل اللغة مادتها الأولى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (44) ديوان "أجرس المساء" ص 17 |
(47) الفصل الثالث الصورة الشعرية الصروة الشعرية واحدة من الأدوات الأساسية التي يستتخدمها الشساعر الحديث في بناء قصيدته وتجسيد الأبعاد المختلفة لرؤيته الشعرية ، فبواسطة الصورة يشكل الشاعر أحاسيسه وأفكاره وخواطره في شكل فني محسوس ، وبواسطتها يصور رؤيته الخاصة للوجود وللعلاقات الخفية بين عناصره.وإذا كان الشاعر الحديث –بشكل عام- يستخدم إلى جانب الصورة الشعرية أدوات وتكنيكات شعرية أخرى ، فإن هناك من الاتجاهات الشعرية الحديثة ما يعتمد اعتمادًا أساسيًا على الصورة الشعرية ، كالسيريالية ، حيث "يكفي أن نفتحس كيفما اتفق أية مجموتعة شعرية سيريالية أو قريبة من السيريالية ، لندرك أن الصورة فيها هي المادة الأولى للغة الشعرية(45) "والسمات الخاصة للغة السيريالة تنجم مباشرة عن وظيلفة الصور ، فكل نص سيريالي يبدو كما لو كان سلسلة من الصور." (46 ). (45)Robert Brechon. Le SURREALISME. P.1661- الصورة في موروثنا الشعري والنقدي: إن الصورة الشعرية ليست اختراعًا شعريًا حديثًا ، وإنما هي أداة من الأدوالات الشعرية التي استخدمها الشاعر منذ أقدم عصور الشعر .وشعرنا العربي القديم حافل بالصور الشعرية البارعة التي استخدمها الشعراء في تجسيد أ؛اسئيسهم ومشاعرهم ، والتعبير عن رؤيتهم الخاصة للوجود ، وإن كان طبيعيًا أن تختلف الصورة في القصيدة القديم ةفي مفهومها ، وغايتها الفنية ،وطريقة تكشيلها ، وطبيع العلاقات بين عناصرها ، عمن الصورة في القصيدة الحديثة ، نتيجة لاختلاف طبيعة الخيال ،ولاختلاف مفهوم الشعر بشكل عم بينهما .حيث كانت العلاقات بين عناصر الصورة القديمة على قدر من الوضوح وقرب المتناول . ____________ (46)Ibid . p.175 |
(48) ولعل علاقة المشابهة كانت هي اأكثر العلاقات بين عناصر الصورة شيوعًا في القصيدة العربية الموروثة ، ومن ثم فإن معظم جهود النقاد والبلاغيين العرب في دراسة الصورة الشعرية – وهو مصطلح لم يستخدم بمفهومه الحديث في البلاغة والنقد العربي القديم- دارت حول هذه الصورة التي تقوم على فكرة المشابهة ، حيث انصبت معظم جهودهم على دراسة "التشبيه" و"الاستعارة" –التي هي من وجهة نظر البلاغة العربية والنقد العربي القديم تشبيه حذف أحد طرفيه – وإن كانوا لم يغفلوا أنواعًا أخرى من الصور الفنية التي تقوم على علاقات أخرى بين عناصرها وأطرافها غير المشابهة ، ولكن اهتمامه بمثل هذه هذه الصور يكاد يجئ على هامش اهتمامهم الشديد بالتشبيه والاستعارة . بل إن اهتمامهم الشدبد هذا بعلاقة المشابهة قد قادهم إلى إدخال نوع من الصور الفنية التي تقوم على أساس تشخيص المجردات في صورة كائنات حية في إطار الصور التي تقوم على أساس علاقة التشابه ،حيث اعتبروها نوعًا من أنواع الاستعارة أطلقوا عليه اسم "الاستعارة المكنية" ومضوا من ثم يبحثون عن التشابه بين عناصر هذه الصوة. حيث لا تشابه في الواقع ،لأن "الاستعارة المكنية" عندهم أصلها تشبيه حذف منه المشبه به وكنى عنه بلازم من لوازمه أضيف إلى المشبه ، وكانوا بهذا الصنيع يخنقون ما في مثل هذه الصور من طاقات تعبيرية ، ويطفئون إشعاعاتها الإيحائية النافذة بحثًا عن علاقة حسية لا وجود لها ، فحين يقول امرؤ القيس مثلاً مصورًا إحساسه بطول الليل وامتداده وثقله: فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازًا وناء بكلكل يقول البلاغيون في تحليلهم لمثل هذه الصورة البارعة إنه شبه الليل بجمل أو نحوه ، ثم حذف المشبه به ، وهو الجمل وأثبت بعض لوازمه –وهو الصلبوالأعجاز والكلكل- لمشبه ، وهو الليل على سبيل االستعارة المكنية.(47) ـــــــــــــــــــــــــــ (47)انظر: د. علي عشري زايد :البلاغة العربية تاريخها.مصادرها .مناهجها .مكتبة الشباب .القاهرة 1977 ص84،85 |
(49) ولا شك أنه ليس ثمة تشابه بين الليل والجمل بل ليس في الصورة جمل أو أي حيوان مادي آخر من الأساس ، وإنما هناك ذلك الحيوان الكابوسي الغريب الثقيل الوطأة الذي هو الليل ، وهو حيوان لا وجود له إلا في خيال امرئ القيس ووعيه ، وهو حيوان شديد البطء ، جاثم على وجدان الشاعر لا يكاد يريم . وقد تأنق امرؤق القيس في تصوير بطئه وثقله ،فاستخدم أولاً ألفاظًا ومفردات تشع بإيحاءات البطء والثقل والتراخي ـ ثم اهتم برصد أدق التفاصيل للحركة البطيئة لهذا الحيوان الغريب الجاثم على أعماقه بكل ثقله ، فلم يكتف بالقول بأن هذا الحيوان قد جثم ، أو برك ، أو أناخ ،أو تمدد ، وإنما راح يتتبع في دأب كل تفاصيل هذه الحركة وجزئياتها ؛التمطي بالصلب ، ثم إرداف الأعجاز ، ثم السقوط بالكلكل ، مما يوحي بالامتداد والثقل والبطء الشديد ، ويعكس مدى المعاناة والضيق اللذين يكابدهما الشاعر من طول هذا الليل ، فصنيعه هنا أشبه ما يكون بعملية التصوير البطئ في السينما ، التي تعنى بإبراز التفصيلات الدقيقة للحركة ، وتعطي إحساسًا بالبطء والامتداد. لم يهتم البلاغيون والنقاد العرب بكل هذه الإيحاءات ، وجمدوا مثل هذه الصورة الحية في ذلك القالب الجامد الذي سموه "الاستعارة المكنية" على أننا لم نعدم ان نجد ناقدًا وبلاغيًا واسع الأفق مرهف الحس كعبد القاهر الجرجاني لا يرتاج بالاً إلى نشدان التشابه في مثل هذه الصور التشخيصية ، ولا يميل إلى اعتارها تشبيهات حذف منه المشبه به وأضيفت بعض لوازمه للمشبه . فلقد عرض عبد القاهره لهذه الصورة في أكثر من موضع في كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" معبرًا عن عدم اطمئنانه إلى ما يذهب إليه البلاغيون في تحليلهم لها ، بل إنه اقترب كثيرًا من إدراك طبيعة التشخيص الفني للمجردات فيها ، وتجسيد هذه المجردات في صور مادية . |
(50) ففي تحليله لبيت تأبط شرًا الذي أورده أبو تمام في الحماسة : إذا هزه في عظم قرن تهللت نواجذ أغواه المنايا الضواحكِ يقول:"أنت الآن لا تستيطع أنه تزعم في بيت ال حماسة أن استعار لفظة النواجذ ولاغظ الأفواه لأن ذلك يوجب المحال، وهو أن يكون في المنايا شيء قد شبّه بالنواجذ ، وشيء قد شبه بالأفواه ، فليس إلا أن تقول إنه لما ادعى أن المنايا تسر وتستبشر إذا هو هز السيف ، وجعلها لسرورها بذلك تضحك ، أراد أن يبالغ في الأمر فجعلها في صورة من يضحك حتى تبدو نواجذه من شدة السرور"(48) إنه ببساطة يكاد يقول إنه لا سبيل إلى تحليل هذه الصورة وتذوقها إلا أن تقول أن الشاعر قد جسد المنايا وشخصها في صورة كائن حي ، بل إنه قال بالفعل شيئاكهذا في مكان آخر ، وذلك حين تحدث عن الوظائف الفنية للاستعارة في كتابه"أسرار البلاغة" حيث قال :"إنك لترى بها الجماد ناطقًا ، والأعجم فصيحًا ، والأجسام الخرس مبينة ، والمعاني الخفية بادية جلية ..إن شئت أرتك المعاني اللظيفة التي هي من خبايا العقل ، كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون ، وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها الظنون.(49) لكن نقادنا وبلاغيينا القدماء لم يكونواى كلهم في مثل رهافة حس عبد القاهر الجرجاني ووعيه الفني الناضج ، ومن ثم ظلوا منجذبين إلى علاقة المشابهة افي الصور الشعرية وبخاصة المشابهة الحسية الواضحة التي يسهل على الحواس التقاطها ، بل إن عبد القاهر نفسه – مع موقفه البارع من قضية الاستعارة المكنية – لم ينج من الانسياق في تيار الإعجاب بالصور التشبيهية التي تقوم على مشابهات حسية تدركها الحواس بسهولة ، ولعل هذا الاهتمام الشديد من نقادنا وبلاغيينا بمثل هذه الصور كان من بين العوامل التي ساعدت على شيوعها في موروثنا الشعري . (48) عبد القاهر الجرجاني :دلائل الإعجاز.ص 314 (49) عبد القاهر الجرجاني:أسرار البلاغة ،تصحيح الشيخين محمد عبده ومجمد الشنقيطي.دار المنار .الطبعة الثانية .ص33 ولمزيد من التفاصيل حول هذه القضية يراجع كتاب "البلاغة العربية"ص200-203 |
(51) 2- الصورة في القصيدة الحديثة والنقد الحديث : لم تعد المشابهة بين أطراف الصورة وعناصرها – وبخاصة المشابهة الحسية – هي العلاقة الأساسية بين هذه الأطراف والعناصر في القصيدة العربية الحديثة ، وفي الشعر الحديث بوجه عام ، فالصونرةر في هذا الشعر "إبداع خالص للروح ، وهي لا يمكن أن تتولد من التشابه ، وإنما من التقريب بين حقيقتين متاعدتين كثيرًا أو قليلاً ، وكلما كانت الصلات بين الحقيقتين اللتين يقرب بينهنما الشاعر بعيدة ودقيقة كانت الصورة أقوى ، وأقدر على الـتأثير ،وأغنى بالحقيقة الشعرية.(50) ومن ثم فإننا نجد أطراف الصورة في القصيدة ا لحديثة على قدر واضح من التباعد ، والشاعر هو الذي يثرب بينهنا ، لأنه يكتشف العلاقات بينها بروحه وخياله وليس بحواسه، ومن ثم فإنه يهتدي –بوحي من الروح والخيال –إلى هذه العلاقات الأكثر خفاء وعمقًا ، فحين نقرأ قول الشاعر إبراهيم ناجي من قصيدته "العودة"(51) متحدثًا عن بيت أجبائه المهجور: موطن الحسن ثوى فيه السأم وسرت أنفاسه في جوهن وأناخ الليل فيه وجثم وجرت أشباحه في بهوه والبلى أبصرته رأي العيان ويداه تنسجان العنكبوت قلت يا ويحك تبدو في مكان كل شيء فيه حي لا يموت كل شيء من سرور وحزن والليالي من بهيج وشجِ وأنا أسمع أقدام الزمن وخطا الوحشة فوق الدرجِ ــــــــــــــــــــــــــــ (50) الكلمات للشاعر ببير ريفردي . انظر : A.Bertoon; Manifestes du surrealism.p.31 (51) إبراهيم ناجي ، وراء الغمام ، طبعة دار العودة.بيروت 1973 ص20 |
(53) نجد مجموعة من الصور التي تتباعد أطرافها وعناصرها في الحسن إلى أقصى مدى ممكن من التباعد، ولكن الشاعر استطاع أن يقرب بينها وأن يكتشف علاقاتها الكامنة التي تتجاوز الحواس ، فيجمع بين "السأم" مثلاً –وهو معنى حسي مجرد- وبين حركة الثواء والإقامة المحسوسة الملموسة ،ثم بينه وبين "الأنفاس"- التي هي من خواص الكائنات الحية-وعن طريق هذا التقريب يشخص هذا السأم في صورة كائن حي يكاد يلمسه القارئ بحواسه ، ويفعل نحو ذلك بالليل الذي هو بدورنه معنى تجريدي- فيقرت بينه وبين حركة الجثوم- التي هي أيضًا من خواص الكائنات الحية-فيجسده ويجعل له أشباحًا تجري في أبهاء الصورة المهجورة ، وهكذا يمضي الشاعر على هذا النحو يجسد كل المعاني والمشاعر والخواطر المجردة التي يحسها في صورة حية مشخصة ، مما يعطي إحساسًا عميقًا لدى المتلقي بمدى قوة إحساس الشاعر بهذه المشاعر والأحاسيس حتى ليكاد يلمسها بيديه ، ويحس بأنفاسها تلفح في وجهه ، وهكذا يصبح البيت المهجور بفضل هذا التشخيص مسرحًا عجيبًا تجوس في أنحائه كل معاني الوحشة والخراب ،فالسأم ثاوٍ فيه يتردد صوت أنفاسه في أجوائه ،والليل منيخ جاثم –بكل ما يوحي به الفعلان من "أناخ" و"جثم" من رسوخ ثقيل –وأشباحه تعبث طليقة في الأبهاء،والبلى ذاته يتجسد حقيقة شاخصة أليمة ، بحيث نكاد نراه بأعيننا مع الشاعر ويداه تنسجان الخيوط العنكبوتية المقبضة ،والزمن أيضًا نكاد نسمع مع الشاعر وقع أقدامه الثقيلة في الممرات والوحشة خطاها الثقيلة تدب فوق السلم. لقد استطاع الشاعر بهذا التجسيد البارع لهذه المعاني والأحاسيس التجريدية أن يجعلها شاخصة أمام الأبصار ،وأن يقوي في الوقت ذاته من فداحة الإحساس بالمفارقة الأليمة بين هذه الحال الكئيبة التي وصل إليها البيت وبين ما كان عليه قديمًا يوم كان عامرًا بالأحباء ويوم كانت أضواؤه تستقبل الشاعر محتفة باشة وتضحك له من بعيد. |
(54) واضح أن هذه الصور في مجملها لا تقوم على التشابه بين طرفيها –أو أطرافها – وحتى ما قام منها على أساس هذه العقلاقات فإن الصلات بين طرفيها لا تقف عند مجرد التشابه الحسي الملموس ، وإنما تتجاوزه إلى العلاقات الدقيقة العميقة المتمثلة في تشابه الوقع النفسي والشعوري للطرفين المتشابهين. ومن ثم فإن الصور التي تكتفي برصد التشابه الحسي بينأطرافها وتسجيله ليس لها كبير اعتابر في ضوء المفهوم الحديث للصورة الشعرية ووظيفتها ، فوظيفة الصورة في إطار هذا المفهوم هي تجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية التي يريد الشاعر أنيعبر عنها . ومن ثم فإن هذه الصور الحسية الخالصة التي شاعت في شعر بعض شعرائنا أمثل عبد الله بن المعتز وسواه ليس لها كبير وزن في ضوء المقاييس الحديثة لتقويم الصورة الشعرية .فحين يقول ابن المعتز مثلاً : كأن عيون النرجس الغض حولها مداهن دار حشوهن عقيق أو يقول : وأرى الثريا في السماء كأنها قدم تبدت من ثياب حدادِ أو حين يقول الصنوبري : كأن في غدرانها حواجبا ظللت تُمطّ (52) فإننا نجد الشاعر يوجه كل همه إلى رصد الصلات الحسية الملموسة بين عناصر الصورة وتسجيلها أو بعبارةر أخرى يوجهه إلى البحث لأحد طرفي الصورة –وهو المشبه – عن طرف آخر مماثل له في الصورة أو الشكل أو اللون ،بصرف النظر عن مدى مماثلته له في الواقع النفسي والشعوري . ------------------------ (52)الأمثلة من كتاب "أسرار البلاغة" لعبد القاهر الجرجاني 75،158 وفي الكتاب أمثلة كثيرة لهذا اللون من الصور |
(55) وبصرف النظر عما إذا كان ضم كل من الطرفين إلى الآخر يعبر عن حقيقة نفسية أو فكرية ذات شأن أو لا يعبر ،؛ففي الصورة الأولى مثلاً يبحثب الشاعر لزهرة النرجس النضيرة عن شبيه فلا يجد سوى مداهن الدر المحشوة بالعقيق ، فلا نحسّ أن ثمة رابطًا بين الطرفي نسوى الشكل واللون ، أي أن الصورة ببساطة لا تخاطب أبعد من حواسنا ، وأنها لا تحمل من الرصيد الشعوري والنفسي قدر ما تحمل من التشابه الحسي ، فإذا تركنا الصورة الأولى إلى الثانية وجدنا الخطب فيها أفدح حيث قادت الشاعر نزعته إلى البحث عن التشابه الحسي إلى هذه الصورة التي تنم عن ذوق سقيم ، والتي جمع فيها بين أكثر الأشياء تنافرًا وتباعدًا من ناحية الوقع النفسي لمجرد تشابهها في الشكل أو في اللون والشكل –وليس ثمة ما يجمع السماء المظلمة والثياب السوداء سوى اللون الأسود ، وكذلك ليس ثمة ما يجمع بين الثريا المتلألئة والقدم سوى الشكل واللون الأبيض. والأمر في الصورة الثالثة ليس أقل سقمًا .فالجمع بين التموجات المقوسة التي تحدثها الريح على وجه مياه الغدران من ناحية ، والحواجب التي تمتد وتمط من ناحية أخرى لمجرد تشابههما في الشكل قد أنتج هذه الصورة المضحكة الغريبة. في هذه الصور الثلاث لا نحس أن وراء التشابه الحسي بين أطرافها أي رصيد شعوري أو نفسي ، وهو ما ينبغي أن يكون غاية كل صورة شعرية. |
(56) لقد كان بيان الوظيفة التعبيرية للصورة من أول ما اهتم به رواد التجديد الأوائل في أدبنا الحديث من سمات الحداثة في القصيدة ، ويعتبر الأستاذ عباس العقاد أشد هؤلاء الرواد اهتمامًا بهذه القضية، وتأثيرًا في هذا المجال حيث ألح على ضرورة تبعير الصورة الشعرية عن حقيقة نفسية أو شعورية وعدم اقتصارها على تسجيل التشابه الحسي ، وكأن من المآخذ التي أخذها على شوقي بشدة ما جاء في شعره من صور تشبيهية حسية ، لا تحمل أكثر من التشابه المادي بين أطرافها، ففي نقده لقصيدة شوقي في رثاء محمد فريد ما إن يصل إلى تشبيه شوقي للهلال بالمنجل في قوله: تطلع الشمس حيث تطلع صبحًا وتنحى لمنجل حصاد تلك حمراء في السما ، وهذا أعوج النصل من مراس الجلاد حتى ينتهز الفرصة لينحي باللائمة على أولئك الذين "جعلوا التشبيه غاية فصرفوا إليه همهم ولم يتوسلوا به إلى جلاء معنى أو تقريب صورة ،ثم تمادو فأجبوا على الناظم أن يلصق بالمشبه كل صفات المشبه به ، كأن الأشياء لفقدت علاقاتها الطبيعية ، وكأن الناس فقدوا قدرة الإحساس بها على ظواهرها ، نظروا إلى الهلال فإذا هو أعوج معقوف ،فطلبوا به شبهًا وهو أغننى المنظورات عن الوصف الحسي .. وإن كان لابد من التشبيه فلنشبه ما يبثة في نفوسنا من حنين أو وحشة أو سكون أو ذكرى ، ففي هذا لا في رؤية الشكل تختلف النفوس والخواطر"(53) ولا يلبث أن يسوق إلى شوقي هذا الكلام العظيم الذي أصبح أصلاً من الأصول المتعلقة بهذه القضية في نقدنا الأدبي الحديث ، والذي لا يستطيع دارس لهذه القضية أن يغفله ، وهو قوله:"اعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها ، وأن ليست مزية الشاعر أن يقولو لك عن الشيء ماذا يشبه ، وإنما مزيته أن يقول ما هو ، ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به . وليس هم الناس من القصيدة أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع ،وإنما همهم أن يتعاطفوا ويودع أحسّهم وأطبعهم نفس أإخونه زبدة ما رآه وسمعه ، وخلاصة ما استطابه أو كرهه. ___________ (53)الديوان 1\17-18 |
(57) وإذا كان كذلك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد . ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك ، وماابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان ، فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها ، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس ، وبقوة الشعور وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه ..وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره ، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء ، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية.(54) وكلام العقاد هذا وإن كان منصبًا في الأصل على الصورة التشبيهية بالذات ، فإنه يصلح أساسًا جيدًا لبيان قيمة الصورة الشعرية ووظيفتها في القصيدة الحديثة ، أيًا كان نوعها أو كانت العلاقة بين أطرافها .وعلى أية حال فإن قيمة الصورة في القصيدة العربية الحديثة قد أصبحت منذ ذلك الحين تقاس بمدى طاقاتها الإيحائية ، ومدى الوظيفة التي تؤديها في توصيل أبعاد الرؤية الشعرية للشاعر ، والتعبير عن واقعه النفسي والشعوري الذي لا يمكن التعبير عنه بواسطة الأسلوب التقريري المباشر . 1- تشكيل الصورة الشعرية : يقوم الخيال بالدور الأساسي في تشكيل الصورة الشعرية وصياغتها ،فهو الذي يلتقط عناصرها من الواقع المادي الحسي ، وهو الذي يعيد التأليف بين هذه العناصر والمكونات لتصبح صورة للعالم الشعري الخاص بالشاعر بكل ما فيه من مكنات شعورية ونفسية وفكرية. ________ (54) السابق ص20،21 |
(58) فالشاعر وإن كان يبدأ من الواقع المادي المحسوس ليستمد منه معظم عناصر صوره الشعرية ومكوناتها ، فإنه لا ينقل هذا الواقع نقلاً حرفيًا ، وإنما يبدأ منه ليتخطاه ويتجاوزه، ويحوله إلى "واقع شعري" إذا صح هذا التعبير ، واقع شعري لا تمثل العناصر المادية المحسوسة فيه سوى المادة الغفل التي يشكلها الشاعر تشكيلاً جديدًا وفق مقتضيات رؤيته الشعرية الخاصة ، ومن ثم فإنه لا يجزو محاكمة هذا" الواقع الشعري " المتمثل في اصورة الشعرية للتحليل المنطقي العقلي ، لأن هذه الصورة ليست مبنية على إقامة علاقات منطقية مفهومة بين الأشياء يمكن إدراكها بالعقل ، بل إنها غالبًا ما تقوم على تحطيم العلاقات المادية والمنطقية بين عناصرها ومكوناتها لتبدع بينها علاقات جديدة ، فإذا كان منطق الواقع المادي ومنطق العقل كلاهما يرفضان أن يكون للسأن أنفاس ، أو أن يكون للبلى يدان ، أو يكون للزمن أقدام ، فإن منطق العالم الشعري وقوانينه لا ترفض هذه الأشياءعلى نحو ما رأينا في قصيدة"العودة" لناجي . ويطيب لبعض شعرائنا المحديثن –ولعلهم في ذلك متأثرون برامبو في اكتشاف ما سماه "كيمياء الكلمة أو الفعل"- أن يمثلوا عملية الإبداع الشعري أو تشكيل الصورة الشعرية- عن طريق المزج بين العنصار والأشياء المختلفة لإنتاج مركب جديد مختلف في طبيعته وخواصه عن العناصر الأولية التي يتألف منها –بالعملية الكيميائية(55)، من حيث أن كلتا العمليتين تغير شكل الأشياء وطبيعتها وخواصها. -------------------------- (55) انظر القصيدة الطويلة التي تحمل عنوان "زهرة الكيمياء"للشاعر أدونيس(علي أحمد سعيد) في ديوان "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل" المكتبة المصرية.بيروت 1965 ص9. |
(59) وبمقدار نشاط الخيال وإيجابيتهفي التأليف بين عناصر الصورة ، واكتشاف العلاقات المستكنة بين العناصر ترتفع القيمة الفنية للصورة الشعرية ،وتتضاعف إيحاءاتها. والشاعر الحديث يلجأ إلى مجموعة من الوسائل الفنية لتشكيل صورتها الشعرية على نحو يكسبها قيمة إيحائية وتعبيرية أغنى ، تجعلها أقدر على الإيحاء بتلك العوالم النفسية الرحيبة التي يحاول الشاعر أن يعبر عنها في قصيدته ن ومن هذه الوسائل التي يلجأ إليها الشاعر الحديث لتشكيل صورته من مجموعة من العناصر والمكونا ت المتباعدة في منطق الحس والعقل. التشخيص : والتشخيص وسيلة فنية قديمة ،عرفها شعرنا العربي ،و الشعر العالمي ، منذ أقدم عصوره .وهذه الوسيلة تقوم على أساس تشخيص المعاني المجردة ومظاهر الطبيعة الجامدة في صورة كائنات تحية تحس وتتحرك وتنبض بالحياة ، وقد رأينا فيما سبق كيف شخص امرؤ القيس الليل ، وكيف شخص تأبط شرًا المنايا وفي صورة كائنات حية ،"وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة عامة في الأدب العاطفي في مختلف العصور والأمم ، قد أكثر الرومانتيكيون منها وكان طابعها في أدبهم أصدق وأكثر تنوعًا وأوسع مدى ، ولذا عد ذلك خاصة من خصائصهم ،وذلك لرهف إحساسهم ورقة مشاعرهم.(56) حيث كان من نزعات الرومانتيكيين الواضحة الهرب إلى الطبيعة ، والامتزاج بها فرارًا من فساد المجتمع وما يموج به من ظلم وشرور ، وكثيرًا ما كانوا يجعلون الطبيعة تشاركهم عواطفهم الخاصة ، فيسقطون عليها أحاسيسهم ، ويشخصون مظاهرها المختلفة ، ومن ثم قامت الصورة التشخيصية بدور بارز في الشعر الرومانتيكي وشاعت عن طريق التأثر بالرومانتيكية في شعرنا العربي المعاصر ، ولم تعد الصورة التشخيصية في مجر لمحات متناثرة ، وإنما أصبح التشخيص أساسًا من الأسس التي يصوغ عن طريقها الشاعر العربي الحديث صوره ، وقد رأينا كيف اعتمد الشاعر إبراهيم ناجي ،اعتمادًا أساسيًا على هذه الوسيلة الفنية في تشكيل الكثير من صوره الشعرية في قصيدة "العودة" التي شخص فيها الكثير من المعاني والأحاسيس التجريدية في صورة كائنات تنبض بالحياة ، كما رأينا قبل ذلك كيف لجأت شاعرة أخرى ذات نزعة رومانتيكية ، وهي الشاعرة نازك الملائكة ،إلى هذه الوسيلة في قصيدتها "النهر العاشق" ،حيث كان التشخيص فيها الوسيلة الأساسية في تشكيل الصورة الشعرية ، بل في بناء القصيدة كلها ،حيث شخصت النهر –الذي هو ظاهرة من ظواهر الطبيعة – في صورة كائن حي ، وكانت هذه الصورة الأساسية في القصيدة أإطارًا عامًا تتعانق خلاله مجموتعة من الصورة الجزئية التشخيصية التي تدعم التشخيص في هذه الصورة الكلية وتقويه. _____________ (56) د.محمد غنيمي هلال : الرومانتيكية .مكتبة نهضة مصر.القاهرة .ص140 وانظر له أيضًا :النقد الأدبي الحديث ، ص421،422 |
(60) فرأينا النهر "يعدو" ورأيناه "راكضًا" وباسطًا في لمعة الفجر ذراعه..إلى الجماهير المفزوعة المرتاعة ، ورأينا له "قدمين" و "يدين" و "شفتين" ..إلى آخر هذه الصورة التشخيصية الجزئية التي تدعم الصورة الأساسية الكلية. وثمة قصائد كثيرة في الشعر العربي الحديث تقوم كلها على أساس التشخيص ، سواء في ذلك تشخيص مظاهر الطبيعة الجامدة ، أو تشخيص المعاني الذهنية والمشاعر المجردة ، وعدا هذه القصائد التي تقوم كلية على أساس التشخيص فإن التشخيص يظل وسيلة أساسية من وسائل تشكيل الصورة في كل شعرنا العربي الحديث بكل اتجاهاته وتياراته المختلفة ، بما في ذلك التيارات التي لم تتأثر تأثرًا مباشرًا بالرومانتيكية. |
(61) تراسل الحواس: تراسل الحواس وسيلة من وسائل تشكيل الصورة الشعرية التي عنى بها الرمزيون ، وعن طريقهم انتقلت إلى الآداب العالمية ، بما فيها أدبنا العربي الاحديث . وتراسل الحواس معناه وصف مدركات حاسة من الحواس بصفات مدكرات حاسة أخرى ،فنعطي للأشياء التي تدركها بحاسة السمع صفات الأشياء التي ندركها بحاسة البصر ، ونَصِف الأشياء التي ندكرها بحاسة الذوق بصفات الأشياء التي ندركها بحاسة الشم ، وهكذا تصبح الأصوات ألوانًا والطعوم عطورًا ..إلخ وقد مرت بنا قصيدة"رامبو" الأصوات المتحركة (57) التي حول فيها الأصوات –التي هي من مدركات حاسة السمع – إلى ألوان ، فأضفى عليها صفات مدكرات حاسة البصر ، وقبل رامبو ومحاولته المتطرفة حاول بودلير تطبيق نظرية تراسل الحواس في أكثر من قصيدة من قصائده ، وقد رأينا كيف اعتبر في قصيدة "تراسلات" أن الروائح والألوان والأصوات تتجاوب في وجدة معتمة عميقة ، رحيبة كالليل وكالضوء(58) ، ويتعجب بودلير من الذين يرون أنه من غير الممكن أن تتبادل الحواس معطياتها ، ويرى أن هذا أمر مقرر يمكن إثباته ابتداء بدون أي تحليل أو مقارنة ، وأنه لا ينبغي أن يكون مثار دهشة لأحد"لأن الذي يثير الدهشة بحق هو ألا يستطيع النغم أن يوحي بالوون ، وأن تعجز الألوان عن إعطاء فكترة لحن ما ، وأن يكون النغم واللون عاجزين عن التعبير عن الأفكار .وذلك لأن الأشياء يعبر عنها دائمًا بواسطة ما بينها من تشابه متبادل من يوم أن خلق الله العالم كلاً مركبصا غير قبل للتجزئة .(59) ويستشهد بقصيدته"تراسلات" على هذه الوحدة الكونية التي تتعانق في إطار كل الروائح والألوان والأصوات وتتجاوب.(60) ___________________ (57) انظر هذا الكتاب ص 44-45 (58)انظر هذا الكتاب ص 30 (59)Charles Baudelaire : l’art Romantique –Gamier fFlammarion – Paris 1968 p.271 (60) ibid.p.272. |
(62) وقد شاعت هذه الوسيلة من وسائل التصوير الشعري في القصيدة العربية الحديثة ، وأسرف فيها بعض الشعراء وبخاصة في بداية فترة التأثير الرمزي في الشعر العربي المعاصر ، حيث وجدنا الكثير من القصائد التي تتزاحم فيها هذه الصور القائمة على تراسل الحواس . ومن النماذج الواضحة للاعتماد بشكل أساسي على هذه الوسيلة من وسائل التصوير الشعري قول الشعر محمد عبد المعطي الهمشري في قصيدته "أحلام النارنجة الذابلة":(61) هيهات .. لن أنسى بظلك مجلسي وأنا أراعي الأفق نصف مغعمضِ خنقت جفوني ذكريات حلوة من عطر كالقمري والنغم الوضي فانساب منك على كليل مشاعري يبوع لحن في الخيال مفضضِ ونهفت عليك الروح من وادي الأسى لتعب من خمر الأريج الأبيضِ فالتراسل بين معطيا تالحواس في هذه الأبيا تشديد الولضوح ، ففي البيت الثاني يصف العطر –الذي هو من مدكرات حاسة الشم- بأنه قمري – وهي صفة من صفات ما يدرك بحاسة البصر –و كذلك يصف النغم – الذي هو من مدكرات حاسة السمع – بأنه وضيء، فيضفي عليه صفة من صفات مدركات حاسة البصر .بل إنه لا يكتفي بالتراسل المتبادل بين حاستين اثنتين كالسمع والبصر ، أو الشم والبصر ، وإنما يجعل التراسل في بعض الصور ثتم بين ثلاث حواس تتبادل معطياتها ؛فالبيت الثالث تقوم شطرته الثانية على تراسل متبادل بين ثلاث حواىس هي على التوالي الذوق والسمع والبصر ، فالينبوع هو باعتابر ما من معطيات حاسة الذوق ، واللحن من معطيات حاسة السمع ، واللون المفضض من معطيات حاسة البصر ، ومن هذا القبيل أيضًا صورة "خمر الأريج الأبيض" في البيت الرابع ،التي تتراسل فيها حواس الذوق والشم والبصر ، فالخمر من دائرة حاسة الذوق ، وهو يضيفها إىل أحد مدركات حاسة الشم وهو الأريج الذي يضفه بصفة من نطاق حاسة البصر وهي البياض. ________________ (61) محمد عبد المعطي الهمشري : ديوان الهمشري.جمع وتحقيق صالح جودت.الهيئة العامة المصرية للكتاب 1974 .ص150. |
(63) مزج المتناقضات : لم يقف عبث الشاع الحديث بالعلاقات المألوفة بين عناصر الصور عند حدود الجمع بين الأشياء المتباعدة عن طريق تراسل احواس وغير ذلك من الوسائل الفنية ، وإنما تجاوز الأمر ذلك إلى مزج المتناقضات في كيان واحد يعانق في إطاره الشيء نقيضه ، ويمتزج به مستمدًا منه بعض خصائصه ومضفيًىا عليه بعض سماته ، تعبيرًا عن الحالات النفسية والأحاسيس الغامضة المبهمة التي تتعانق فيها المشاعر المتضادة وتتفاعل ، فحين يقول شاعر كأديب مظهر في قصيدته "نشيد السكون" التي تعد من النماذج المبكرة في شعرنا العربي الحديث التي تأثرت تأثرًا واضحًا بوسائل الإيحاء في الشعر الرمزي: __________ (62)د.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث ص 425،ص426 وانظر :د.محمد فتوح أحمد : الرمز والرمزية في الشعر المعاصر .ص137،138. |
(64) أعد على مسمعي نشيد السكون حلوًا كمر النسيم الأسودِ واستبدل الأنات بالأدمع واسمع عزيف اليأس في أضلعي واستبقني بالله يا منشدي نجد الشاعر بالإضافة إلى اعتماده اعتمادًا أساسيًا على تراسل الحواس وغير ذلك من الوسائل الإيحائية الأخرى يعتمد على مزج النقيضين في البيت الأول وهما "النشيد" و"السكون". . |
(65) حيث يجعل للسكون نشيدًا ،تعبيرًا عن إحساسه بأن للصمت صوته الخاص وللسكون نشيده الخاص الذي يسمعه الشاعر ، ويحسه ليس بسمعه فحسب وإنما بكل حواسه ، حيث يراه ببصره ، ويتذوق طعمه ، ويلمسه بحواسه ، ولا شك أن المزجبين النقيضين هنا قام بدور أساسي في تصوير تلك الحالة النفسية المبهمة الغريبة . ومن هذا القبيل قول الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة في قصيدته :"أجلس كي أنتظرك" : أدخل وحدي نصف القمر المظلم حيث يمزج الشاعر بين الأشيء المتناقضة ، فهو يمزج في البيت الأول الضياء (القمر) بالظلام ، حين يصف القمر بالإظلام ،ويمزج في البيت الأخير البياض (الثلج) بالسواد ، حين يصف الثلج بالسواد ،بل إن هذا المزج يصبح أكثر تركيبًتا وتعقيدًا حين نعرف أن هذا "الثلج الأسود " يتساقط من رسالة يبعثها "الصيف" القادم- بما يوحه الصيف من الدفء والحرارة – وإذن في الصورة مجموعة من المتناقضات المتعانقة التي يعتبر "الثلج " هو القاسم المشترك بينها ، حيث نجد الحرارة "الصيف" تمتزج بالبرودة "الثلج" من جهة ، كما نجد البياض "الثلج" يمتزج بالسواد من جهة ثانية ، وهذا المزج يوحي بحالة نفسية خاصة يمتج فيها الضياء بالظملة –أو بتعبير آخر يتحول في إطارها الضياء إلى ظلمة – كما يختلط الإحساس بالبرودة بالإحساس بالقتامة ؛فالقصيدة كلها تدور حول انتظار الشاعر لحبيب –أو شخص ما –يبدو أنه لن يجيء ، وانتظاره له لا يزيده إلا إحساسًا بالوحشة ، ولا يقوده إلى إلى عوالم شديدة الغرابة ، ومناف جديدة يزداد فيها وحدة وغربة ، حيث لا يصله في هذه المنافي إلا رسالة غريبة يبعثها الصيف القادم-لعلها بدورها وعد بدفء لن يجيء- هذه الرسالة لا يتساقط منها دفء الصيف وحرارته ، وإنما "يتساقط منها ثلج أسود". وهكذا يسهم المزج بين هذه المتناقضات الكثيرة بدور بارز في الإيحاء بتلك الأحاسيس والمشاعر الغريبة ، وبهذه الوحشة التي تحيط بجو م نالبرودة القاتلة القاتمة التي تتجمد في نطاقها كل لمحة دفء أو ومضة ضوء .تبلغني في منفاي رسالة يبعثها الصيف القادم يتساقط منها ثلج أسود |
(66) الغموض نتيجة لاستخدام الوسائل السباقة في تشكل الصورة ، بكل ما تقوم علهي من تحطيم للعلاقات المنطقية المألوفة بين الأشياء ، وابتداع علاقات جديدة غريبة بينها ، فإن الصورة الشعرية في القصيدة الحديثة تتوشح بنوع من الغموض الشفيف المشع . وهذا الغموض ليس مجرد نتيجة للعبث بالعلاقات المنطقية بين عناصر الوجود فحسب ، وإنما هو أيضًا وسيلة يستخدمها الشاعر عن وعي لتقوية الجانب الإيحائي في الصورة ، وبخاصة إذا كانت هذه الصورة توحي بتلك الأبعاد الخفية المستترة من تجربة الشاعر ، التي لا يستطيع الشاعر –حتى إذا أراد- أن يعبر عنها بشكل واضح محدد ، دون أن يغير طبيعتها ، ومثل هذه الصور لا تقدم شيئًا محددًا واضحًا ، وإنما هي تشف عن مجموعة من الدلالات والمعاني من خلال هذه الغلالة الشفيفة من الغموض وعدم التحدد ، وبواسطة هذه الظلال الموحية غير المحددة تستطيع الصورة أن تعبر عما لا يستطيع التعبير عنه الألوان المحددة الواضحة ، ويعبر عن هذا المعنى الشاعر الرمزي الفرنسي فرلين في قصيدة له بعنوان :فن الشعر Art poetique التي تحدد بعض ملامح المذهب الرمزي حيث يرى أنه لا شيء أثمن من الأغنية الرمادية التي يلتقي فيها الواضح بالمبهم ، ويشبهها بعيون جميلة من وراء نقاب ، ويبرر إيثاره لمثل هذه الأغنية الرمادية بأ،هم ينشدون الظلال لا الألوان ، الظلال و لا شيء غيرها . |
(67) وتوظيف الغموض المشع للإيحاء فنيًا بالجوانب الغامضة المستترة في رؤية الشاعر يرتبط من بعض الجوانب بفكرة مشاركة القارئ للشاعر في عملية الاكتشاف والإبداع ، لأن الصورة إذا ما حددت للقارئ كل شيء فإنه لن يبقى له شيء يكتشفه ويشعر بمتعة اكتشافه ، كما أن في الوضوح خطر الملل ، لأن القرائ يؤثر أن يكتشف هو أسرار الصورة بنفسه على أن تتكشف له هذه الأسرار من تلقاء نفسها ،فتضع عليه لذة الاكتشاف والمشاركة في الإبداع .(64) وهذا الغموض الموحي سمة من سمات معظم الصور الشعرية في القصيدة العربية الحديثة ، حيث لا تنم هذه الصور في الغالب عن مضمون واضح محدد ، وإنما تشع بإيحاءات خفية غير محددة يحسها القارئ دون أن يفهمها فهمًا دقيقًا ، فحين نقرأ قول الشاعر محمد أبي سنة في قصيدته التي عرضنا لها منذ قليل : تبلغني في منفاي رسالة لا نستطيع أن نقول إننا فهمنا هذه الصورة ، أو أنها قدمت لنا شيئًا محددًا ملموسًا يمكن الإمساك به و القول بأن هو "معنى الصورة"إن الصورة لا تقدم لنا أكثر من إيحاء غامض بوعد بالدفء يتلقاه الشاعر في برودة وحدته التي ينتظر فيها ذلك القادم الذي يبدو أنه لن يقدم أبدًا ، ولكن حتى هذا الوعد غير المحدد بالدفء تشوبه ملامح البرودة ، ويلفه ذلك الجو الجليدي القاتم الذي يلف رؤية الشاعر كلها ، فإذا بهذه الرسالة "يتساقط منها ثلج أسود" . وهذه الإيحاءات غير المحددة تشع من وراء ذلك النقاب الشفيف من الغموض الذي يغلف الصورة . يبعثها الصيف القادم على أننا ينبغي أن نفرق بين هذا النوع من الغموض الشفيف الموحي ، الذي تشع من خلفه إيحاءات الصور ودلالاتها الغامضة كما تشف العيون الفاتنة من وراء نقاب –كما يقول فرلين – والذي يعتبر وسلة من وسائل الإيحاء وبين نوع آخر من الغموض الكثيف ،الذي لا يكاد يشف عن شيء ، الذي يقوم حاجزًا سميكًا بين القارئ ودلالة الصورة الشعرية ، بل بين القارئ والقصيدة الحديثة بوجه عام(65) .فهذا النو ع الأخير من الغموض لا يستطيع القارئ أن يخترقه إلى عالم الشاعر مهما بذل من الجهد الصادق قأن ينفذ منه إلى إيحاءات الصور ودلالاتها ، ومن ثم إلى الرؤية الشعرية التي يجسدها الشاعر في قصيدته. ولا شك أن هذا الغموض الكثيف يعد واحدًا من أهم عوامل الأزمة القائمة بين القصيدة العربية الحديثة وقرائها ، حيث صار سمة من أبرز سمات النتاج الشعري الحديث وشاع شيوعًا كبيرًا في نتاج بعض شعرائنا إلى الحد الذي كاد نتاجهم يتحول معه إلى عوالم منغلقة عليهم ، ويصعب على أي قائ أن ينفذ إليهم فيها. _______________________________ (64):النص منقول عن :النقد الأدبي الحديث ص429 و"الرمزية في الشعر المعاصر "ص194 Verlaine :Jadis et Naguere .Ed.LE liver de Poche.Paris 1968-p. 25 (65) وانظر أيضًا : د.أنطون غطاس كرم .الرمزية والأدب العربي الحديث .دار الكشاف.بيروت 1949 ص103،104 ود.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث ص426،427 |
(68) ومن الشعراء الذين شاع في شعرهم هذا الغموض الكثيف الشاعر السوري الأصل أدونيس(عليى أحمد سعيد)والشاعر المصري محمد عفيفي مطر ، وإلى حد ما الشاعر الكبير الراحل محمود حسن إسماعيل فضلاً عن معظم الشعراء الشباب في شتى أقطار الوطن العربي . ولنتعرف على طبيعة هذا الغموض الكثيف نقرأ بعض نماذجه ، وليكن مثلاً مقطع "مرآة الحلم"من قصيدة أدوينس الطويلة "مرايا وأحلام حول الزمان المكسور ".يقول أدونيس في هذا المقطع(66) : خذيه ، هذا حلمي ، خيطيه والبسيه نجد الصور في مجموعها تستح في جو من الضباب الكثيف الذي يتعذر على القارئ اختراقه ، النفاذ منه إلى دلالات هذه الصور وإيحاءاتها ، ولا يكاد القارئ يحس بأ،ه قد أمسك بخيط من الخيوط التي تهديه كإلى مسار الخطب الشعوري في الأبيات الذي ينتظم كل هذه الصور حتى يتفلت مه هذا الخط من جديد ، ويضيع في خضم الغموض الكثيف الذي تسبح في الصور كلها ، ويخرج القارئ في النهاية خالي الوفاض إلى من نتف من إحساسات ومشاعر مبعثرة لا يربطها رابط ولا يجمعها نظام. غلاله : أنت جعلت الأمس ينام في يدي يطوف بي ، يدور كالهدير في عربات الشمس في نورس يطير كأنه يطير من عيني ــــــــــــــــــــــــــــــــــ (66):أدونيس :الآثار الكاملة.المجلد الثاني .دار العودة.بيروت 1971.ص353. |
(69) الصورة بين الحقيقة والمجاز : ليس معنى كون الغموض الشفيف وسيلة من وسائل الإيحاء في الصورة الشعرية أن الصورة ينبغي أن تكون دائمًا غامضة ، أو أن هذا الغموض شرط من شروط جوتها أو مقياس من مقاييس حسنها ، بل ليس معنى كون "التشخيص" أو "تراسل الحواس" أو "مزج المتناقضات" او غير ذلك من الأساليب المجازية هي الأدوات الأساسية لتشكيل الصورة الشعرية الحديثة أن هذه الصورة ينبغي أن تعتمد على المجاز في كل الأحوال ، فمن الممكن أن تكون الصورة على أكبر قدر من الوضوح ، ومن الممكن ألا يكون في الصورة أي مجاز لغوي ، ومع ذلك تكون صورة شعرية بكل المقاييس ، وإيحائية كأغنى ما تكون ا لصورة الشعرية بالإيحاء . وتراثنا الشعري القديم والحديث حافل بكثير من الصور التي لا تقوم على أي مجا زلغوي ، ومع ذلك ففيها من الطاقات الإيحائية ما ليس في كثير من الصور التي تقوم على المجاز المتكلف المفتعل . ومقياس جودة الصورة في النهاية هو قدرتها على الإشعاع ، وما تزخر به من طاقات إيحائية ، فبمقدار ثراء الصورة الشعرية بالطاقات الإيحائية ترتفع قيمتها الشعرية ، فنحن حين نقرأ من ترثانا القديم قول ذي الرمة فلي التعبير عن ذلك الإحساس بالذهول والاسي الذي اعتراه حين عاد إلى منزل أحبابه فوجده خاليًا موحشًا : عشية ما لي حيلة غير أنني نحس بمدى الذهول والحزن الذي ران على الشاعر من خلال الإيحاءات الفنية التي تشعها هذه الصورة البسيطة البارعة ،الخالية تقريبًا من أي استخدام مجازي للكلمات. بلقط الحصى والخط في الترب مولع أخط وأمحو الخط ثم أعيده بكفي والغربان في الدار وقّعُ(67) ___________________________ (67):النص منقول من كتاب (النقد المنهجي عن العرب ) للدكتور محمد مندور ، دار نهضة مصر.القاهرة (بدون تاريخ) ص 33 |
(70) ولكن الشاعر استطاع عن طريق التقاطه المرهف لعناصر الصورة أن يشحنها بإيحاءات الذهول الأسى الذي أصابه حين صدمه منظر الدار الموحشة ، فجلس في ساحتها حزينًا شاردًا يلقط الحصى في ذهول وينكت بيده خطوطًا في التراب ، ثم يعود فيمحو ما خطه ليعود فيخطه من جديد ، ووالغربان تسقط حوله في الساحة الموحشة تضاعف من الإحساس بالأسى اللوعة والذهول ، فهذه صورة شعرية رائعة بكل المقاييس، رغم أن العلاقات بين عناصرها ومكوناتها علاقات طبيعية مألوفة ، وليس فيها أي تخطيم للعلاقات العادية والمنطقية بين الأشياء ، أو بتعبير آخر ليس فيها أي استخدام مجازي للغة ، ولكن الشاعر استطاع من خالل اختياره البارع لعناصر صورته ، وللعلاقات بينها أن يوحي بكل معاني الذهول والشرود والحزن التي أراد أن يعبر عنها . ومثل هذه الصور ليست قليلة في تراثنا الشعري القديم . أما شعرنا العربي المعصار فهو بدوره حافل بمثل هذه الصور التي لا تقوم على المجاز ، أو على تحطيم العلاقا ت المألوفة بين عناصرها ، ومع ذلك تزخر بالقيم الإيحائية والطاقات التعبيرية ، فحين نقرأ مثلاً الفقرة الثالثة من قصدة "فقرات من كتاب الموت " (68)للشاعر أمل دنقل التي يقول فيه : أعود مخمورًا إلى بيتي في الليل الأخير _______________________ يوقفني الشرطي في الشارع للشبهة يوقفني برهة وبعد أن رشوته أواصل المسير *** توقفني المرأة في استنادها المثير على عمود الضوء(كانت ملصقات الفتح والجبهة تملأ خلف ظهرها العمودا) تسألني لفافة (لم تيرك الشرطي واحدة من تبغها الليلي) تسألني إن كنت أمضي ليلتي وحيدا وعندما أرفع وجهي نحوها ..سعيدا أبصر خلف ظهرها شهيدا معلقًا على الجدار ناصع الجبهة تغوض عيناه.. كنصلين رصاصيين أصرخ من رهافة الحدين أمضي بلا وجهة (68):أمل دنقل ، ديوان تعليق على ما حدث .دار العودة. بيروت .1971.ص11. |
(71) نجد هذه الصورة المركبة المتعددة العناصر خالة من لاستخدم المجازي للكمات والعبارات –باسثناء تثوير عيني الشهيد في صورة نصلين رصاصيين يغوصان في أعماق الشاعر –وومع ذلك نجح الشاعر في شحنها بمجموعة من الإيحاءات والدلالات الشعرية البالغة الغني ، وذلك عن طريق اختباره للعناصر ووضع بعضها بإزاء بعض ، فمن خلال تأليفه البارع لعنصار الصورة استطاع أن ييبرز المفارقة الفادحة بين واقعين كانت تعيشهما الأمة العربية عندما كتب الشاعر القصيدة ، أولهما فاسد متحلل مهترئ ، يتمثل في ذلك الشرطي –حارس الأمن والقيم- المرتشي الفاسد ، الذي يرشوه الشاعر أولا ليسمح له بمواصلة المسير بعد أن استوقفة متلبسًا بالسكر ، والذي يسلب فتاة الليل –التي هي مظهر آخر من مظاهر ذلك الواقع المتفسخ المهترئ- سجائرها فلا يترك لها واحدة ، ويكاد الشاعر ذاته يصبح وجهًا ثالثًا من وجوه ذلك الواقع المتحلل وهو يعود مخمورًا إلى بيته في آخر الليل ، وهو يرشو الشرطي ليسمح له بالمسير ، وأخيرًا وهو يحاول مساومة فتاة الليل .. ولكنه لا يلبث أن يتحول إلى ضحية من ضحايا هذا التناقض الأليم بين الواقعين اللذين كان يتمزق بينهما كل مثقف وكل شاب . |
(72) أما الواقع الثاني فهو مشرق وضيء ينبثق من خلال انهيار الواقع الأول وسقوطه ، ويتمثل هذا الاقع الثاني في العمل الفدائي الذي يعبر عنه الشاعر بملصقات المنظمات الفدائية التي تملأ عمود النور خلف ظهر فتاة الليل ، وهنا تظهر فداحة المفارقة بين الواقعين حين يجمع الشاعر بين أبرز وجوه الواقعين : فتاة الليل التي تمثل الواقع المننحل الموبوء ، والملصقات الفدائية التي تمثل الواقع المضيء الصامد ، وبينهما عمود النور حائرًا في الانتماء إلى أي من الواقعين . وعلى الرغم من أن الواقع الوضيء لا يتمثل في المشهد إلا في مظهر واحد شاحب –وهو الملصقات –بينما يتمثل الواقع الآخر في مجموعة من المظاهر الحية المتحركة : الشرطي ، وفتاة الليل ،والشاب المخمور العائد إلى بيته مع الليل الأخير ، على الرغم من هذا فإن الواقع الوضيء هو الذي ينتصر في النهاية على الواقع الفاسد بكل مظاهره ، فعينا الشهيد اللتان تنفذان إلى أعماق الشاعر من خلال أإحى المصقات المعلقة على الجدار خلف ظهر فتاة الليل هما اللتان تحبطان هذه الصفقة المحرمة التي كانت على وشك الإتمام بين الشاعر وفتاة الليل ، وصحيح أنه انتصار شاحب ، وأنه لم يتم إلى بثمن فادح هو الاستشهاد –فالعينان اللتان أحبطتا الصفقة عينا شهيد – ولكنه في النهاية انتصار وومضة أمل صامد تشع من خلال كل مظاهر الانهيار والتفسخ . لقد استطاع الشارع أن يحمل الصورة كل هذه الإيحاءا تالفنية دون أن يلجأ إلى استخدام مجازي ، ودون أن يحطم العلاقات الطبيعية بين العناصر التي كون منها صورته ، ولكنه استطاع من خلال هذه العلاقات أن يوحي بكل ما أراد الإأيحاء به .(69) _______________________ (69) استخدم الشاعر في المقطع وسائل وتكنيكات شعرية أخرى ساعدت على إبراز إيحاءات الصورة وتقويتها ومن هذه الوسائل "المفارقة التصويرية" التي سنعرض لها بالدرسة في موضعها من هذا الكتاب . |
(73) وقد يقرأ القارئ هذه الصورة فلا يدرك منها سوى مدلولها الحرفي المباشر ،دون أن يستشف ما وراء هذا المدلول المباشر من إيحاءات ، فل ايفهم من هذه الصورة مثلاً أكثر من أن الشاعر عاد مخمورًا في آخر الليل ، ثم استوقفه الشرطي ، فرشاه ، وسار في طريقه ، وبعد أن استوقفته المرأة الساقطة في استنادها المثير إلى عمود النور ..إلخ ويتقلص عطاء الصورة بالنسبة له إلى مجرد حوار بين ساقطة وشاب مخمور . لكن القارئ الأكثر تدقيقًا يستطيع أنيلتقط من وراء المدلول الحرفي المباشر لعناصر الصورة كل دلالاتها وإيحاءاتها الأكثر عمقًا وخفاء ، ودون أن تكف هذه العناصر عن دلالتها الواقعية المباشرة ، فمثل هذه الصور أيضًا –شأنها شأن الصور المجازية – لها أكثر من مستوى دلالي ، وما يقال عن هذه الصورة يقال أيضًا عن صورة ذي الرمة السابقة. حتى تؤدي الصورة وظيفتها : تعرفنا عرضًا أثناء درسة مفهوم الصورة وأساليب تشكيلها على بعض المزالق والعيوب التي تهبط بقيمة الصورةر ، وتحيد بها عن أداء وظيفتها الفنية باعتبارها أداة أساسية من أدوات الشاعر في تشكيل رؤيته الشعرية تشكيلاً فنيًا ،والإيحاء بالأبعاء المختللفة لهذه الرؤية ، ونحن في هذا المبحث نحدد أهم هذه المزالق والعيوب التي تعتري بناء الصورة فتعوقها عن أداء ءمهمتها الإأيحائية ، وتبتهط بالتالي بقيمتها الفنية من وجهة نظر نقدية حديثة . وأهم هذه العيوب: الوقوف عند التشابه الحسي : الوظيفة الأساسية للصورة هي تصوير ا لعالم الداخلي للشاعر -إذا صح هذ االتعبير –بكل ما يموج به من مشاعر وخواطر وهواجس وأفكار ، وإذا كان الشاعر يستغل في الإيحاء بأبعاد هذا العالم الداخلي الشعور معطيات العالم الخارجي المحسوس فإنه لا ينبغي أن يقف عند هذه المعطيات الحسية مكتفيًا بتسجيل التشابهات المحسوسة بينها ، وإنما لابد أن يحول هذه المعطيا ت إلى أدوات للإيحاء بواقعه النفسي الخاص ، ومن ثم فإن الوقوف عند تسجيل اتشابه الحسي الملموس بين عناصر الصورة يعد عيبًا من العيوب الخطيرة في تشكيل الصورة وتوظيفها. |
(74) وقد رأينا كيف نبه ؤرواد التحديد في شعرنا ونقدنا المعاصرين إلى هذ االعيب منذ وقت مبكر ، ومن ثم فإن الصور الحسية التي عرضنا لها من شعر ابن المعتز وسواه في مثل هذه الصور عند حدود رصد التشابه المادي الملموس بين عناصر الصورة وأطرافها . وعلى هذا الأساس فإن تشبيه نزار قباني لشعر المرأة الأصفر بسنابل القمح في قوله من قصيدة :"تعود شعري عليك "(70): تعود شعري الطويل عليك تعودت أرخيه كل مساء سنابل قمح على راحتيك صورة معيبة فنية لوقوفها عند تسجيل التشابه الحسي المتمثل في اللون والشكل بين الشعر الأصفر من ناحية ، وسنابل القممح من ناحية أخرى ، ولم يستطع الشاعر النفاذ من هذا التشابه الحسي إلى الإيحاء ببعد نفسي أو شعوري . ومن هذا القبيل أيضًا قول نزار في تشبيه عيون الإسبانيات الواسعة السوداء باللؤلؤ الأسود في مقطع "اللؤلؤ الأسود" من قصيدة" أوراق أسبانية ":(71) شوارع غرناطة في الظهيرة فالشاعر هنا أيضًا يقف عند تسجيل التشابه الحسي في اللون بين أعين الإسبانيات الوساعة السوداء التي تمتلئ بها الشوارع وبين حقول اللؤلؤ الأسود ، وواضح أنه لا صلبة بين الطرفين سوى اللون وهو صلة حسية لم يستطع الشاعر أن يصور من خلالها إحساسه الخاص بهذه العيون ، بل إن هذا التشابه الحسي يحجب لونًا من التباعد في الواقع النفسي بين الطرفين لم يفطن إليه الشاعر في غمرهم فرحه باكتشاف هذا التشابه الحسي ، فأين الواقع الذي تتركه لؤلؤة سوداء في نفس القارئ من ذلك الوقع العميق الذي تتركه العيون السوداء ، ولا سيماء أن الشاعر بمعرض تصوير جمال هذه العيون وقوة تأثيرها في نفسه . حقول من اللؤلؤ الأسود فمن مقعدي أرى وطني في العيو ن الكبيره ________________________ (70) :نزار قباني :ديوان الرسم بالكلمات .الطبعة الثانية .منشورات نزار قباني .بيروت 1967ز ص 188. (71)السابق ص 170 |
(75) على أن رصد التشابه الحصي بين عناصر الصورة ليس معيبًا في ذاته ، ولكن المعسيب هو الوقوف عند رصد هذا التشابه وتسجيله وعدم توظيفه إيحائيًا وإلا فأن كثيرًا من الصور الشعرية البارعة تقوم على مثل هذ االتشابه الحسي ، ولكن الشاعر يتجاوز هذا التشااهب وينفذذ من خالله إلى البوح بمكنون نفسه الدفين ، فحين يقول الاشعر أحمد عبد المعطي حجازي مثلاً في تصوير إحساسه بهجير المدينة وقسوتها وجهامتها في ديوانه الذي أطلق عليه اسم "مدينة بلا قلب ":(72) شوارع المدينة الكبيره قيعان نار تجتر في الظهيره ماشربته في الضحى من اللهيب يا ويله من لم يصادف غير شمسها غير البناء والسياج والبناء والسياج غير المربعات والمثلثات الزجاج _________ (72)أحمد عبد المعطي حجازي:قصيدة "إلى اللقاء " من يوان" مدينة بلا قلب" .الطبعة الثانية.دار الكتاب العربي .القاهرة .1968ص119 |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.