(126) على أن هذه اللمحة البارعة من ابن عبد ربه لم يقدر لها -لسوء الحظ- أن تلفت أنظار النقاد العرب فيبلوروها في نظرية أو اتجاه يعني بوظيفة الموسيقى في القصيدة ودورها الإيحائي ، بل إننا نجد ابن عبد ربه نفسه يكاد يتنصل من تبعة هذه اللمحة فينسبها إلى الفلاسفة ، ويسندها إليها بصيغة الزعم الذي يفيد التشكيك ، ولم تحظ موسيقى الشعر بمثل هذه النظرة إلى دورها في القصيدة إلا بعد حوالى تسعة قرون من ابن عبد ربه ، وعلى يد الاتجاهات ا لحديثة في الشعر العالمي وخصوصًا الاتجاه الرمزي الذي عنى عناية كبرى بالوظيفة الإيحائية لموسيقى الشعر ، وقد انطلق الرمزيون في اهتمامهم بالجانب الموسيقى في القصيدة من فكرة شديدة الشبة بتلك الفكرة التي أشار إليها ابن عبد ربه على نحو عابر في مطلع القرن الرابع الهجري ، فلقد تأثر رواد الرمزية بالموسيقار الألماني ريتشارد فاجنر ، وأُخِذوا بما تمتلكه موسيقاه من طاقات خارقة على الإبحاء بأدق وأخفى حالات النفس الخفية وخلجاتها العميقة مما يعجز الكلام عن التعبير عنه ، ووجدنا بودلير-أبا الرمزية الفرنسية-يقول عن موسيقى فاجنر "إن هذه الموسيقى تعبر بأعذب الأصوات وأشدها نفاذًا عن أعمق ما في قلب الإنسان وأشده خفاءً" (110) وهو قول يذكرنا بكلام ابن عبد ربه السابق ،وقد احتفى بودلير حفاوة كبيرة بفاجنر وموسيقاه -التي لم تجد في بداية أمرها ما هي جديرة به من تقدير ورواج في فرنسا-وكُتِبَ عنه وعن موسقاه أكثر من دراسة ، وقد اعتبره سيد العناصر الأدائية ، وقال عنه إنه استطاع أن يسخِّر كل الطاقات البشرية لهذه العاطفة المشبوبة في تعبيره الفني ، وأن "بواسطة هذا الوجد العاطفي قد استطاع أن يضيف إلى كل شيء ما لا أدريه من القوة الخارقة، وبهذا الوجد وعى كل شيء ، وجعل الكل يعي " (111) _______________________ 110: Boudlelaire:l'art romantique.p.292 111: Ibid. |
(127) وكان من نتيجة هذا الإعجاب الشديد بالموسيقى فاجنر أن حاول بودلير استغلال هذه الطاقة الإيحائية الخارقة التي تمتلكها الموسيقى في شعره للإيحاء بهذه الجوانب الغامضة التي لا يستطيع التعبير عنها بواسطة اللغة حيث "اكتشف مثل فاجنر أنه بواسطة الموسيقى على وجه الخصوص ، ومن خلال الموسيقى يمكننا التحليق غلى العالم المثالي حيث يسود الجمال الخالص ، وأن الموسيقى من ناحية أخرى هي اللغة التي يمكن أن تعبر بأقل قدر ممكن من النقصان عن حالات الوجد الخاصة أو رؤى الفنان الملهم (112). ومن بعد بودلير احتفل الرمزيون احتفالاً كبيرًا بالموسيقى الشعرية ، باعتبارها واحدة من أرهف أدوات الإيحاء وأعمقها تأثيرًا ، حتى وجدنا الشاعر فرلين يبدأ قصيدته "فن الشعر " التي يمكن اعتبارها بيانًا شعريًا رمزيًا-بهذه الدعوة الحاسمة "الموسيقى قبل كل شيء " هذه الدعوة التي لا يفتأ يكررها ويلح عليها "الموسيقى مرة أخرى ودائمًا"(113). وإذا كان بودلير قد بدأ هذا الطريق فإن خلَفَه قد ساروا فيه إلى غايته ، ومنذ ذلك الحين اتجه الاهتمام إلى الموسيقى باعتبارها أداة أساسية من أدوات الإيحاء في القصيدة الحديثة، قد تأثرت القصيدة العربية الحديثة بمثل هذه الاتجاهات في تطوير الشكل الموسيقي الموروث للقصيدة العربية ، وتوليد إمكانات تعبير موسيقى جديدة منه ، على نحو ما سنرى. ________________________ (112) : ولبيان تأثيرؤ موسيقى فاجنر في الرمزيين انظر-بالإضافة إلى ما سبق-: د.إحسان عباس : فن الشعر ص65،66 . د.أنطون غطاس كرم : الرمزية والأدب العربي الحديث .ص22،23،75،76، د.محمد فتوح أحمد :الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر .ص59،58 (113) : Velaine:Jadist et Naguere. p .p 25,26 . |
(128) 2- الشكل الموسيقي للقصيدة العربية الموروثة : لقد حظيت الموسيقى في القصيدة العربية الموروثة باهتمام مبالغ فيه إلى حد أنها احتلت-بعنصريها: الوزن والقافية- نصف المفهوم الذي حدده قدامة بن جعفر للشعر في كتابه "نقد الشعر"، ذلك المفهوم الذي ترك بصماته لفترة طويلة من الزمن على اتجاه النقاد العرب في تحديد مفهوم الشعر ، فقد عرف قدامة الشعر بأنه " قول موزون مقفى يدل على معنى"(114) ويحلل قدامة هذا التعريف إلى عناصره الأولية الأربعة : اللفظ والمعنى والوزن والقافية(115)التي تمثل الموسيقى عنصرين منها هما الوزن والقافية . ولكن اهتمام النقاد والشعراء العرب بالموسيقى لم يكن باعتبارها وسيلة من وسائل الإيحاء"تعبير -كما يقول بودلير -بأعذب الأصوات وأشدها نفاذًا عن أعمق ما في القلب الإنساني وأخفاه" وإنما باعتبارها قالبًا محكمصا صارمًا يتضمن المعنى ، أو ينظم فيه الشاعر أفكاره وأحاسيسه وخواطره ، وليم يقدر لمثل إشارة ابن عبد ربه البارعة أن تنال حظها من اهتمام النقاد و الشعراء العرب على السواء ، توجههم وجهة جديدة في النظر إلى موسيقى القصيدة . ولقد اتضحت طبيعة هذا الاهتمام بالموسيقى باعتبارها قالبًا صارمًا بالغ الإحكام والدقة في مجموعة الالتزامات والقواعد الصارمة التي يقوم على أساسها الشكل الموسيقي للقصيدة العربية الموروثة .فإذا كان الإحساس بموسيقى الشعر ينشأ من إدراك الانسجام المتولد من ظاهرة صوتية معينة وتكرارها على نحو خاص ، فإن الشكل الموسيقي الموروث قد التزم مجموعة من التكرارات الصارمة ، حيث يقوم هذا الشكل على الالتزامات التالية : ________________________ (114): قدامة بن جعفر : نقد الشعر .ص 13 (115): السابق . ص 17 |
(129) أولاً : تكرار وحدة صوتية معينة هي "وحدة الإيقاع"التي تتألف مما عرف في العروض العربي باسم "التفاعيل"، وتتألف التفعيلة من توالي مجموعة من السواكن والحركات على نحو معين ، قد تكون وحدة الإيقاع تفعيلة واحدة ، وقد تتركب من أكثر من تفعيلة على نحو ما سنرى ، ومن تكرار هذه الوحدة يتولد الإيقاع الموسيقي الأساسي في القصيدة ،ولا يسمح في تكرار هذه الوحدة إلا بتنويع محدود ومنضبط ينظمه ما عرِفَ في العروض العربي باسم "الزحاف والعلل "وهذا التنويع المسموح به لا يترتب عليه تغيير جوهري في بنية وحدة الإيقاع . ثانيًا : تكرار عدد معين من وحدات الإيقاع يؤلف بدوره وحدة موسيقية جديدة مركبة هي "البيت" الذي يتألف من عدد من التفاعيل أو وحدات الإيقاع لابد من التزامه في كل بي على امتداد القصيدة . ثالثًا :تكرار صوت معين أو مجموعة من الأصوات -الساكنة والمتحركة- في نهاية كل بيت ، بحيث يلتزم هذا الصوت بعينه -أو هذه الأصوات بعينها-في آخر أبيات القصيدة كلها ، وهذه هي" القافية". رابعًا : وهذا نوع ثانوي من التكرار ليس في أهمية الأنواع الثلاثة السابقة وصرامتها ، وهو الالتزام بتكرار صيغة محددة من صيغ التفعيلة الأخيرة في البيت -وهذه التفعيلة تسمى "الضرب"- فإذا جاءت هذه التفعيلة في البيت الأول على صيغة معينة -سواء أكانت صحيحة أو معتلة- وجب أن تلتزم هذه الصيغة بعينها طوال القصيدة ،بخلاف الزحافات التي تعرض لصيغ التفعيلة في حشو البيت فإنها لا تلتزم. فإذا ما قرأنا مثلاً أبيات الشريف الرضي التالية : ولقد مررت على ديارهمو وطلولها بيد البلى نهب ُ فوقفت حتى ضج من لغب نضوى،ولج بعذلي الركبُ وتلفتت عيني ، فماخفيت عني الطلول تلفّت القلب ُ(116) وجدنا الشاعر يلتزم هذه الأنواع الأربعة من التكرار : فهو يلتزم أولاً بتكرار "وحدة الإيقاع"المؤلفة من تفعيلة واحدة هي "متفاعلن"طوال الأبيات . _____________ (116):الشريف الرضي(أبو الحسين بن طاهر) :ديوان الشريف الرضي.المطبعة الأدبية:بيروت1307هـ-1\145 |
(130 ) النمط البسيط : وهو الذي تتألف وحدة إيقاعه من تفعيلة واحدة تتكرر على امتداد البيت ، والقصيدة ، ويضم هذا النمط سبعة أوزان أو بحور وهي : الكامل : ووحدة إيقاعه"متفاعلن"وصيغته الأساسية تتألف من ترددها ست مرات : ولقد ذكرتك والرماح نواهل متفاعلن متفاعلن متفاعلن مني وبيض الهند تقتطر من دمي (117) متفاعلن متفاعلن متفاعلن الوافر : ووحدة إيقاعه "مفاعلتن"وصيغته الأساسية مكونة من ترددها ست مرات أيضًا : الرجز : ووحدة إيقاعه "مستفعلن"ويتألف البيت من ترددها ست مرات : والله لايذهب شيخي باطلا مستفعلن مستفعلن مستفعلن حتى أبير مالكا وكاهلا مستفعلن مستفعلن مستفعلن الرمل : ووحدة إيقاعه "فاعلاتن"ويتألف البيت فيه من ترددها ست مرات : آه يا قبر هنا كم طاف روحي فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن هائمًا حولك كالطير الذبيح فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن الهزج : ووحدة إيقاعه :"مفاعيلن" ويتألف البيت من ترددها أربع مرات : تعلقت بآمال مفاعيلن مفاعيلن طوال أي آمال ِ مفاعيلن مفاعيلن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ (117): لن نراعي في الوزن من الزحافات والعلل الوارد في التفعيلات إلا تلك التي ترِد على تفعيلتي العروض والضرب |
(131) المتقارب : ووحدة إيقاعه "فعولن" ويتألف البيت من ترددها ثماني مرات : هي الشمس مسكنها في السماء فعولن فعولن فعولن فعولن فعزّ الفؤاد عزاء جميلاً فعولن فعولن فعولن فعولن المتدارك : ووحدة إيقاعه "فاعلن" ويتألف البيت من ترددها ثماني مرات : ليس موت الفتى دفنه في الثرى فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن إنما موته موته وهو حي فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن نلاحظ في كل بحر من هذه البحور أن الإيقاع فيه يتولد من تكرار تفعيلة واحدة عددًا معينًا من المرات في كل بيت. |
(132) النمط المركب : وهو الذي تتكون وحدة الإيقاع فيه منأكثر من تفعيلة ، وهو بدوره ينقسم إلى قسمين، حسب طبيعة تركيب وحدة الإيقاع: القسم الأول : وهو الذي تتألف وحد الإيقاع فيه من تفعيلتين اثنتين ، ويشمل خمسة بحور وهي : الطويل : ألا يا صبا نجد متى هجت من نجدِ فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن لقد زادني مسراك وجدًا على وجدي فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن البسيط : ووحدة إيقاعه "مستفعلن فاعلن" ويتألف البيت من ترددها أربع مرات أيضًا : هذا الذي تعرف البطحاء وطأته مستفعلن فاعلن مستفعن فاعلن والبيت يعرفه والحل والحرم مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن المجتث: ووحدة إيقاعه "مستفعلن فاعلاتن" ويتألف البيت من ترددها مرتين : طاب الهوى لعميده مستفعلن فاعلاتن لولا اعتراض صدوده مستفعلن فاعلاتن المقتضب: ووحدة إيقاعه"مفعولات مستفعلن" ويتألف البيت من ترددها مرتين : حامل الهوى تعب مفعولات مفتعلن يستخفه الطرب مفعولات مفتعلن المضارع: ووحدة إيقاعه "مفاعيل فاعلاتن"ويتألف البيت من ترددها مرتين: أرى للصبا وداعا مفاعيلُ فاعلاتن وما يذكر اجتماعا مفاعيلُ فاعلاتن القسم الثاني : وتتألف وحدة إيقاعه من ثلاث تفعيلات -أو بعبارة أخرى من تفعيلتين واحدة منهما مكررة -ويضم هذا القسم أربعة بحور وهي : الخفيف : ووحدة إيقاعه "فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن" ويتألف من ترددها مرتين : صنت نفسي عما يدنس نفسي فاعلاتن مستفعلن فاعلاتــــن وترفعت عن جدا كل جبسِ فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن |
(133) المديد : ووحدة إيقاعه "فاعلاتن فاعلن فاعلاتن" ويتألف البيت من ترددها مرتين : إن بالشعب الذي دون سلع فاعلاتن فاعلن فاعلاتن لقتيلا دمه ما يطل فاعلاتن فاعلن فاعلاتن السريع : ووحدة إيقاعه"مستفعلن مستفعلن فاعلن" ويتألف البيت من ترددها مرتين أيضًا : ليس على الله بمستنكر مستفعلن مستفعلن فاعلن أن يجمع العالم في واحدِ مستفعلن مستفعلن فاعلن المنسرح : ووحدة إيقاعه "مستفعلن مفعولات مستفعلن" ويتألف البيت من ترددها مرتين : عليلة بالشآم مفـــــــــــردة مستفعلن مفعلات مفتعلن بات بأيدي العدا معللها مستفعلن مفعلات مفتعلن وكما رأينا في أوزان هذا النمط المركب يتولد الإيقاع من تكرار وحدة صوتية مركبة من تفعيلتين أو ثلاث عددا معينًا من المرات في كل بيت . هذه هي الصيغ الأساسية للأوزان أو البحور الستة عشر للقصيدة العربية الموروثة ، ولكل بحر من هذه البحور مجموعة من الصيغ الفرعيةالأخرى التي تنشأ عن التصرف في عدد مرات تكرار وحدة الإيقاع في البيت أو في صيغة هذه الوحدة . ولكن الشاعر متى ما اختار صيغة من صيغ هذه الأوزان كان عليه أن يلتزمها طوال قصيدته ولا يحيد عنها، أي أن هذه الصيغ الكثيرة تظل إمكانات نظرية مطروحة أمام الشاعر حتى إذا ما اختار واحدة منها تقيد بها ولم يعد متاحًا له سواها . |
(134) ولعلنا رأينا من هذا الاستعراض السريع لطبيعة بناء الشكل الموسيقي للقصيدة الموروثة مدى ما في هذا الشكل من صرامة ودقة ، مما جعل الشاعر العربي -على امتداد تاريخ الشعر العربي- يحاول التمرد على صرامة هذه الالتزامات وقوتها . فقامت عدة محاولات لتطوير هذا الشكل وتخفيف ما فيه من قيود والتزامات ، ولعل أجرأ هذه المحاولا ت وأعمقها أثرًا ما فعله شعراء الأندلس في "الموشح"الذي تخفف من كثير من التزامات الشكل الموروث وإن كان قد فرض على نفسه في مقابل هذا قيودًا ليست أقل صرامة وقسوة .وبعد الموشح توالت حركات التجديد في موسيقى القصيدة العربية ، وكانت كلها متأثرة بشكل أو بآخر بمعالم التجديد في الموشح الأندلسي . وجاء الشاعر العربي المعاصر ، وورث كل هذه المحاولا تالتجديدية ، جحاول بدوره في ضوئها ، وفي ضواء التأثري باتجاهات التجديد في موسيقى القصيدة في الآداب الغربية ، أن يستخلص من الشكل الموسقي الموروث للقصيد إمكانات إيقاع جديدة يضعها -إلى جانب الشكل الموروث-رهن التعبير عن رؤيته الشعرية الحديثة، وقد وصل من خلال محاولات إلى ما عرف في شعرنا العربي الحديث باسم "الشعر الحر ". 3- لماذا البحث عن شكل موسيقي جديد ؟! "يعتمد الإيقاع -كما يقول ريتشاردز- كمكا يعتمد الزن الذي هو صروته الخاصة على التكرار والتوقع ؛فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقعنا سواء كان ما نتوقع حدوثه يحدث بالفعل أو لا يحدث .. وعادة يكون هذا التوقع لا شعوريًا ، فتتابع المقاطع على نحو خاص -سواء كانت هذه المقاطع أصواتًا ، أم صورًا للحركات الكلامية -يهيئ الذي لتقبل تتابع جديد من هذا النمط دون غيره (118) ____________________________________ (118)ريتاشاردز (أيفور آرمسترونج) : مبادئ النقد الأدبي .ترجمة الدكتور مصطفى بدوي .المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطابعة والنشر .القاهرة 1963 ص 188 |
(135) وبناء على هذا فإن الشكل الموسيقي الموروث للقصيدة العربية - في ضوء ما عرفناه من قوانينه الموسيقية -يقوم على مجموعة من التوقعات الدقيقة وإشباعاتها ؛ فحين يقرأ المتلقي أو يسمع قول عمرو بن كلثوم في مطلع قصيدته مثلاً : ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا فإنه يتوقع -بناء على توالي السواكن والحركات على هذا النحو المعين - عدة توقعات : يتوقع أولاً أن تتوالى-على امتداد القصيدة -وحدات صوتية متماثلة ، يتألف كل منها من مجموعة من السواكن والحركات توازن التفعيلة "مفاعلتن" في ترتيب سواكنها وحركاتها، وهذه هي "وحدة الإيقاع ". ويتوقع ثانيًا أن تتألف من كل ست من الوحدات السابقة وحدة أخرى مركبة هي "البيت"، وهذه الوحدة المركبة تتوالى أيضًا بنسقها الجديد على امتداد القصيدة . ويتوقع ثالثًا أن تكون التفعيلة الأخيرة على صيغة معينة هي الصيغة المقطوعة-التي حذف منها الحرفان السادس والسابع وسكن الحرف الخامس فأصبحت (مُفاعَلْ)بسكون اللام -وهذه هي تفعيلة "الضرب". ويتوقع أخيرًا أن ينتهي كل بيت بمجموعة من الأصوات المحددة التي تمثل "القافية" ، وهي هنا النون المفتوحة المسبوقة بياء أو واو التي يعقبها ألف . إن قارئ القصيدة العربية الموروثة يتوقع كل هذه التوقعات ، والشكل الموسيقي الموروث تمامًا- باستثناء خلافات يسيرة مسموح بها في "وحدة الإيقاع"وهذه الخلافات بدورها محكومة ومنضبطة ، وينظمها في العروض الموروث ،كما سبق القول ، ما يعرف باسم "الزحافات والعلل"-ومن ثم فإن مثل هذا المتلقي لا يكاد يصاب بأي نوع من خيبة الأمل فيما يتصل بتوقعاته بالنسبة للشكل الموسيقي للقصيدة . |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.