عن بناء القصيدة العربية الحديثة-علي عشري زايد
بسم الله الرحمن الرحيم إقتباس:
ولم تكن لدي الرغبة في البحث عن أي كتاب له علاقة بالشعر ولا ما شاكله لطالما اعتدت على الانخداع بالكتب وعناوينها ولا يكون نصيب إلا أن ألوك المصطلحات المبهمة وأعود بخفي حنين. وفي هذه المرة ذهبت بشكل عارض إلى فرع مكتبة الأزبكية -وهي مكتبة مشهورة في مصر تبيع الكتب بأسعار رخيصة كما تبيع الكتب المستعملة- وظني أن زميلي سيجد بها ضالته ، ورحت أنتظره . وبينما أنا أطّلع بشكل عابر على الكتب المتراصة إذ بهذا الكتاب يمثل أمامي ، ففتحه وقرأت فهرسه وجعلت أقرأ بعض ما به حتى اقتنعت به واشتريته . ولشدة ما أفدت منه ووجدت فيه من نفع وجدت أن الأولى بي نشر هذا الكتاب لكل عاشقي الشعر حتى يتسنى لهم خوض هذا المضمار دون التخبط في ظلمات الاصطلاحات والمفاهيم المبهمة . وقد كنت أكتب في كل يوم ما تيسر لي حتى انتهيت منه ، في مدة طويلة كان من الممكن أن تقل عن ذلك لولا تباطئي . وأرجو أن يجد القارئ في هذا الكتاب ما يجيب عن أسئلته الحيرى ويغنيه عن الاطلاع العشوائي على كتب الشعر وما يتصل بها من فنون ، والله ولي التوفيق . |
هذا الكتاب الذي وفقني الله لكتابته حاولت قدر الإمكان كتابته كما هو ، وقد طرأت بعض التعديلات الطفيفة للغاية على بعض النصوص حذفًا ، وذلك لتنافيها مع الشريعة الإسلامية وإساءتها إلى الإسلام ورموزه العظيمة بشكل غير مباشر .
ولا يبلغ هذا الحذف أكثر من صفحة واحدة ، سأقوم بالاستعاضة عنها بنص آخر أشير فيه إلى هذا التغيير الطارئ ، كما أنني آثرت تنسيق الصفحة وتعدادها بشكل مخالف لما في الكتاب وذلك لاختلاف عارض في الرؤية المتعلقة بفلسفة النقل والقراءة في كل من الإصدار الورقي والإصدار الإلكتروني ، كما أنني سأقوم بترك صفحات فارغة لوضع المقدمة فيها لاحقًا بإذن الله ، وبعد ذلك أضعها في مدة لا تتجاوز ثلاثة الأيام من هذا التاريخ حرصًا على عدم تعطيل النشر بسبب مجموعة من الصفحات القليلة . وكل التقدير والشكر والوفاء والاحترام للراحل علي عشري زايد رحمه الله على هذا المؤلف الفذ الذي قلما يجد القارئ له مثيلاً في المكتبة العربية ، ولعل اطلاعك على هذا الكتاب -عزيزي القارئ- يشعرك بهذا الواقع فعلاً .. وعلى الله قصد السبيل . |
مقدمة الطبعة الرابعة (للمؤلف رحمه الله ) صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1978 ، وصدرت الطبعة الثانية مصورة عن الطبعة الأولى عام 1981 وصدرت طبعته الثالثة عام 1993 ، وها هي طبعته الرابعة تصدر بعد صدور الطبعة الأولى للكتاب بحوالى ربع قرن . وقد عنّ لي حين انتويت إصدار الطبعتين الثالثة والرابعة أن أعيد النظر في بعض جوانب الكتاب في ضوء ما طرأ على الشعر العربي ونقده كليهما من تطورات كبيرة ، ولكني في اللحظة الأخيرة كنت أرجئ تنفيذ ما عنّ لي لاعتبارين : أولهما : أن وجهة نظري بالنسبة للقضايا المطروحة في هذا الكتاب لم يطرأ علهيا تطور ذو بال ، وما يزال الكتاب بصورتها لحالية صالحًا للتعبير عن وجهة نظري الأساسية في هذه القضايا ، وما تزال النماذ ج التي اختارتها الدرساة صالحة لتمثيل القصيدة الحديثة ، بل لعلها أكثر صلاحية لهذا التمثيل من كثير من النماذج الأكثر حداثة . ثانيهما : أن الإضافات التي كنت أنتوي إدخالها على الكتاب كانت ستغير من طبيعته إلى الحد الذي لا يصبح معه هو نفس الكتاب الذي صدر عام 1978 ، كما أن هذه الإضافات في ذاتها يمكن أن تمثل مادة لكتاب جديد حول ما طرأ على بناء القصيدة العربية من ناحية واتجاهات نقددها ومناهجه من ناحية أخرى من تطورات خلال الأعوام التي مرت على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وهذا ما أعتزمه إذا أعان الله وأنسأ لي في الأجل ، وقد تناولت بعضها في كتب صدرت لي بعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب . والله سبحانه المستعان والهادي إلى سواء السبيل. علي عشري زايد القاهرة 1423 2002 |
مفتتح ثمة فجوة واسعة لا يمكن تجاهلها بين القصيدة العربية الحديثة وقارئها ، وربما كانت هذه الفجوة عاملاً أساسيًا من عوامل هذه الأزمة التي يمر بها شعرنا العربي المعاصر أكثر من كونها مظهرًا من مظاهرها . ولا شك أن قدرًا كبيرًا من مسوؤلية وجود هذه الفجوة يعود إلى القصيدة الحديثة والقارئ كليهما ؛ القصيدة بعوالمها الغريبة وتكنيكاتها الفنية المعقدة التي لا تضع في اعتبارها بالقدر الكافي طبيعة القارئ العربي الذي تتجه إليه ، والتقاليد الشعرية التي نما في ظلها ذوقه ، ومكونات ثقافته بشكل عام ، هذا بالإضافة إلى كثير من النماذج الردئية التي تنسب ظلمًا إلى القصيدة الحديثة وتحسب عليها ، وهي ليست منها ، والتي تتراوح بين قطبي الركاكة والابتذال من ناحية والغموض والإغراب من ناحية أخرى . أما القارئ فإنه يتحمل نصيبه من المسؤولية بتشبثه بذلك الأنموذج الشعري الذي نشأ عليه ذوقه ونما ، وعدم استعداده لبذل أي جهد جديد في سبيل استيعاب أي نماذج أو أنماط شعرية أخرى لا تخضع خضوعًا صارمًا لتقاليد الأنموذج الشعري الموروث وشروطه . لقد أعرض كلا الطرفين ونأى بجانبه عن الآخر الأمر الذي زاد الفجوة بينهما اتساعًا وعمقًا . |
الصفحة الثانية من المفتتح ولكن ثمة قدر أكبر من المسؤولية يقع على عاتق الناقد العربي المعاصر ، الذي هو أقدر الناس على تحقيق نوع من المصاحلة بين القصيدة العربية الحديثة وقارئها ، وعلى إزالة الفجوة الفاصلة بينهما ،أو على الأقل على تضييقها وإقامة الجسور عليها لتعبر فوقها القصيدة إلى قارئها ، أو ليعبر هو فوقها إليها ، ولكن النقد العربي المعاصر بدل أن يمد يد العون إلى القارئ ويعمل على تضييق الفجوة بينه وبين القصيدة الحديثة ساعد على توسيع هذه الفجوة وتعميها ؛ فالكثير من الدراسات النقدية التي تدور حول شعرنا العربي الحديث إما أن تهوم في أجواء من الغموض والضباببية ليست أقل انغلاقًا من تلك الأجواء التي التي يهوم في آ فاقها الشعر الحديث ذاتها ومن ثم فهي لا تساعد أحدًا على الولوج إلى هذه العوامل وفض مغاليها ، وإما أن تعنى بكل ما هو غير شعري في الشعر العربي الحديث . لذلك فالنقد العربي الحديث مدعو الآن أكثر من أي وقت مضى إلى أن يبذل جهدًا حقيقيًا في سبيل إزالة الفجوة بين القارئ والقصيدة العربية الحديثة وبينه وبين الأشكال الأدبية بشكل عام قبل أن تبلغ حدًا من الاتساع يتعذر معه إقامة أي جسر فوقها يصل القارئ العربي بالأشكال الأدبية الحديثة ، فتضحمل هذه الأشكال في عزلتها القاسية ، وهذا ما تلوح بوادره المخيفة بالفعل. |
الصفحة الثالثة من المفتتح وهذه الدراسة عن "بناء القصيدة العربية الحديثة" واحدة من المحاولات المخلصة التي تفهو إلى المساهمة ف إقامة جسر من الجسور بي القصيدة العربية الحديثة وقارئها فوق هوة عدم الثقة التلي تفصل بينهما ، والتي تزداد عمقًا واتساعًا يومًا بعد يوم . وقد وجهت اهتمامها الأساسي إلى الأدوات والتكنيكات المستخدمة في بناء القصيدة العربية الحديثة على أساس أنها أبرز عوامل الأزمة الموجودة بين القصيدة وقارئها ، ولم يكن في وسع هذه الدراسة بالطبع أن تهتم إلا بكل ما هو أساسي وجوهري من هذه التكنكيات والأدوات تاركة التفصيلات والجزئيات لدراسات أخرى أكثر تخصصًا .وقد اجتهدت هذه الدراسة في أن تبتعد عن أن تكون مقولات نظرية خالصة بنفس القدر الذي اجتهدت به في الابتعاد عن أن تكون قراءة نقدية تحليلية خالصة لنماذج من شعرنا العربي المعاصر ، وإذا اكنت في هذا الموضع أو ذاك قد مالت نحو هذا الجانب أو ذاك ، فإنها حرصت في مجملها وفي مسارها العام على أن تكون على الحد الفاصل بين الجانبين ، وفي المواضع التي مالت فيها شيئًا ما إلى الجانب النظري كان اهتمامها الأساسي موجهًا إلى بيان الجوانب الفنية للتكنيكات الشعرية المسخدمة في بناء القصيدة لا إلى الفلسفات النظرية الكامنة وراء هذه التكنيكات ، أما في المواضع التي مالت فيها إلى الجانب التحليل شيئًا ما فقد حرصت على أن يكون التحليل محصورًا في إطار القضية المطروحة في كل موضع ، وبالقدر الذي يساعد على إ ضاءة هذه القضية وتوضيحها . بقي أن أشير إلى أن "الحداثة" في عنوان الدراسة هي مقولة فنية وليست مقولة زمنية ، فالقصيدة الحديثة في نظر هذه الدراسة هي التي كتبت بمفهوم حديث للقصيدة وأسلوب حديث في كتابتها ، وليست هي التي كتبت في العصر الحديث ، فكم من قصائد كتبت في أقدم عصور الشعر العربي هي أقرب إلى مفهوم الحداثة من كثير مما يكتب في العصر الحديث من الشعر . وإذا كانت الدراسة قد أسقطت من اعتبارها تلك القصائد التي لا تمت إلى الحداثة إلا بالعصر الذي كتبت فيه ، فقد أسقطت من اعتبارها أيضًا تلك المحاولات المسرفة في الإغراب باسم الحداثة ، والتي هي أقرب إلى المغامرات الشكلية البهلوانية منا إلى محاولات التجديد الجادة ، أسقطت هذه الدراسة هذه المحاولات من اعتبارها على الرغم من اجتهادها في أن تكون غالبية نماذجها من أشد أشكال القصيدة العربية حداثة ، وكان رائدها في ذلك عاملين : أولهما أن هذه النماذج لم تحظ بقدر كاف من الاهتمام يعادل ذلك القدر الذي حظيت به النماذج الأكثر كلاسيكية من القصيدة الحديثة ، وثانيهما أن الفجوة الموجودة بين القصيدة الحديثة وقرائها إنما هي موجودة بين هذه النماذج وقرائها . فإذا ما استطاعت هذه الدراسة أن تساهم على أي نحو في إقامة جسر على الفجوة القائمة بين القصيدة العربية الحديثة وجماهيرها ، فإنها تكون قد حققت ما تصبو إليه . والله ولي التوفيق علي عشري زايد |
حول مفهوم القصيدة الحديثة أولاً :القصيدة والمعاناة المزدوجة (1) القصيدة الحديثة نوع من الكشف والارتياد ،بمقدار ما هي نوع من المعاناة المرهقةوالجهد المضني .إنها بالنسبة للشاعر مغامرة يحاول خلالها أن يعيد اكتشاف الوجود ، وأن يكسبه معنى جديدًا غير معناه العادي المبتذل ،ووسيلته إلى ذلك هي النفاذ إلى صميم هذا الوجود لاكتشاف تلك العلاقات الخفية الحميمة التي تربط بين عناصره ومكوناته المختلفة ، حتى تلك التي تبدو في الظاهر على أكبر قدر من التباعد والتنافر ، وهو في سبيل وصوله إلى هذه العلاقات الخفية الحميمة بين عناصر لوجود كثيرًا ما يتجاوز العلاقات الظاهرة المحسوسة والمنطقية بين هذه العناصر ،تلك العلاقات التي لا تلتقط سواها النظرة العادية التي تقف عند ظوهار الأشياء ،بل إن الشاعر كثيرًا ما يحكم هذه العلاقات الظاهرية المألوفة ، لتتحول عناصر الوجود وأشياؤه إلى مجرد مفردات وأدوات في يديه يشكل بها عالمه الشعري الخاص ، أن يعيد بها صياغة العالم وفق رؤيته الشعرية الخاصة ، على نحو يزيده عمقًا وثراء واكتمالاً. فعل الشاعر -على حد تعبير شاعر وناقد أميريكي معاصر هو أرشيباك ماكليش- هو "أن يتصارع مع صمت العالم ، وما كان خلوًا من المعني فيه ويضطره أن يكون ذا معنى ، إلى أن يتمكن من جعل الصمت يجيب ، وجعل اللاوجود موجودًا". وما كليش يعلق بهذه العبارة على أبيات اقتبسها من قصيدة نثرية لشاعر صيني قديم هو "لوتشي" يحدد فيها مهمة الشاعر قائلاً :"نحن الشعراء نصارع اللاوجود لنجبره على أن يمنمح وجودًا ، ونقرع الصمت لتجيبنا الموسيقى.إننا نأسر المساحات التي لا حد لها في قدم مربع من الورق ، ونسكب طوفانًا من القلب الصغير بقدر بوصة"(1) 1-أرشيبالد ماكليش :الشعر والتجربة .ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي.دار اليقظة العربية ومؤسسة فرانكلين .بيروت 1963 ص17 ،18 |
(2) وإذا كان هذا القول ينطبق على عمل الشاعر بصفة عامة ،فهو أشد انطباقًا على عمل الشاعر المعاصر ،الذي يصارع اللاوجود من حوله ليجبره على أن يمنح وجودًا ، ويقرع الصمت لتجيبه الموسيقى ، كما قال الشاعر الصيني القديم في عبارته البارعة ، ولا شك أن هذا الدور الذي يقوم به الشاعر نوع من المعاناة الباهظة أو نوع من الصراع مع اللاوجود ..ومع الصمت ،ليمنحا وجودًا وموسيقى ، وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال الجهد المضني والمعناة الصادقة ، في سبيل إعادة اكتشاف الوجود الشعري وهو في حالة أشبه بالغيبوبة ، وإنما أصبح عليه أن يبذل أخلص الجهد وأضناه في سبيل استغلال تلك الموهبة الفذة التي منحها الله إياها،والتي تمكنه من النفاذ إلى صميم الوجود ورؤية ما لا يراه سواه ، ومعاناة الإحساس بنبض الوجود ،واستشعار أدق خلجاته والإخلاص في هذه المعناة إلى أقصى مدى .. وأخيرًا تجسيد ذلك كله تجسيدًا فنيًا متميزًا في كيان فني خاص وهو القصيدة،ولقد تغير مفهوم العبقرية وأخذت اسمًا آخر هو "البراعة" أو "المهارة"،هذا الاسم الذي يوحي بإتقان العمل والممارسة .. أما الجنون المقدس والإلهام التي تنسب إلى العبقرية فهي كلها غريبة على الأدب ، ولا تفيده شيئًا. ولكن الذي ليس غريبًا عليه هو الإلهام الآخر ،الذي هو الاهتمام الجاد بالأشياء التي تقال ، والهيام بالفكرة ، والعمل والعاطفة التي تخصنا .وهذا الإلهام يتطلب حرارة وعفوية وقريحة أدبية" (2) _____________________ 2(-Bendetoo Croce :La .Traduit Par D.Dryrus . Presses Universitaires do France .Paris 1951.p35 وانظر :د.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث .ط3 .دار النهضة العربية .مصر 1964 ص376،377 |
(3) وقد صور واحد من أنبغ شعرائنا العرب المعاصرين وهو الدكتور خليل الحاوي بطريقته الشعرية المتفردة تلك المعاناة الباهظة التي يعانها الشاعر في سبيل اقتناص العبارة الشعرية الحقيقية ، وكيف يصارع الأهوال ،ويجتاز الخاطر من أجل تلك العتبارة المتمنعة المدللة ، بكل ما تملكه من قدر ة خارقة على تغيير الوجود ،وإعادة صياغته. يقول الدكتور حاوي في مقطع "الريح" من قصيدته الطويلة "الناي والريح في صومعة كيمبريدج"(3): ولعل تخصب مرة أخرى ،وتعصف في مدى شفتي العبارة دربي إلى البدوية السمراء ،واحات العجين البكر، والفجوات ... أودية الهجير وزوابع الرمل المرير تعصي .. وليس يروضها غير الذي يتقمص الجمل الصبور وبقلبه طفل يكور جنة .. غير الذي يقتات من ثمر عجيب نصف من الجنات يسقط في السلال يأتي بلاتعب حلال نصف من العرق الصبيب الشوك ينبت في شقوق أظافري ،الشوك في شفتي يمـَّرج باللهيب في وجهها عبق الغريزة حين تصمت عن سؤال _______________________نهضت تلم غرور نهديها وتنفض عن جدائلها حكايات الرمال تحدو ، تدور كما أشير بإصبعي ولربما اصطاجدت بروقًا في دهاليزي تمر وما أعي وبدون أن أملي الحروف وأدعي تحدو، تدور،،تزوغ زوبعة طروب وأرى الرياح تسيح ،تنبع من يديها منبع الريح المعطرت الجنوب ومنابع الريح الطريقة والغضوب للريح موسمها الغضوب *** وحدي مع البدوية السمراء ،كنتب مع العبارة في الرمل كنتب أخوض عتمته وناره شرب المرارات الثقال بلا مراراة (3) ديوان خليل حاوي.دار العودة.بيروت 1972 ص 175 وما بعدها. |
(4) فالشاعر في هذا المقطع الرائع من مقاطع القصيدة يجسد ذلك العناء المبدع الذي يتحمله الشاعر العظيم في سبيل اقتناض العبارة الشعرية ،هذه المتمنعة المدلل التي :"تعصي وليس يروضها غير الذي يتقمص الجمل الصبور".. ولكن الصبقر والعناء وحدهما غير كافيين،بل لابد أن تسبقهما تلك الخبرة الشعرية الشفيفة النقية التي تماثل في نقائها وشفافيتها سريرة الأطفال لابد ان يكون الشعر "بقلبه طفل يكور جنة" وإذن فإن الشاعر العظيم الذي يستطيع أن يروض تلك العبارة الشموس هو ذلك "الذي يقتات من ثمر عجيب .نصف من الجنات يسقط في السلال ،يأتي بلا تعب حلال ،نصف من العرق الصبيب"،وليس هذا النصف الذي يسقط من الجنات في السلال حلالاً بدون تعب سوى تلك الومضة ــــــــــالمتوهجة التي ينعم بها الله على وجدان الشاعر ،فيستطيع على ضوئها أن يرى الوجود رؤية جديدة ،ثم القدرة على الهيام بتلك الومضة والإخلاص في معاناتها واحتضانها حتى تؤتي ثمارها الشهية. Edmee de La Rochefoucaauld:Paul Valery. Editions Universitarires. Paris 1976. P.57.انظر (4)أما النصف الثاني "العرق الصبيب" فهو ذلك الجهد المبذول في معاناة الرؤية الشعرية وتجسيدها ،ولقد تفنن الشاعر إيما تفنن في تصوير هذا الجهد ..فهو يخصوض إلى العبارة الشعرية "واحات العجين البكر"بكل ما توحي به من القدرة على التشكيل البكر والصياغة المتفردة و "أودية الهجير " و"زوابع الرمل المرير" و"الشوك ينبت في شقوق أظافره" ز "الشوك في شفتيه يمرج باللهيب".. وهو"في الرمل ..يخوض عتمته وناره " و"يشرب المرارات الثقال دون أن يشعر بالمرارة".. فاية دروب مضنية تلك التي يجتازها إلى العبارة الشاعرة؟! لقد تفنن الشاعر في تصوير تلك العبارة المتمنعة الشموس بمقدار ما فنن في تصوير مدى المعاناة المبذولة في سبيل الظهر بها ؛فهو يجسد هذه العبارة في صورة "بدوية سمراء " بكل ما تحمله هذه الصورة من بكارة الفطرة وحيويتها وتفجرها الهادر ، وهي شموس نافرة عصية لا يتسطيع ترويضها غير الصبور الشديد الصبر، وهي في العنفوان"ثم تلم غرور نهديها وتنفض عن جدائلها حكايات الرمال " وهي أخيرًا تملك قدرات خارقة ،فإذا ما سيطر عليها الشاعر استطاع أن يغير بها الوجود ، فيجعلها "تحدو .. تدور كما يشيبر بإصبعه" ويجعل "الريح تنبع بمن يديها "..إلخ. وإذن فالمعاناة والجهد المبذول ليس مجرد مسلمة نظرية ،وإنما هو يقين شعري يعيشه الشعراء ومن قبل خليل حاوي عبر الشاعر الفرنسي بول فاليري عن نفس اليقين بطريته الخاصة "إن الآلهة تمننحنا مجانًا البيت الأول من الشعر ، ولكن علينا نحن أن نصنع الثاني ". وفاليري من الذين بؤمنون بضرورة الجهد الجاد للعمل الشعري "لأن ما يتم بسهولة يتم بدوننا "على حد تعبيره(4) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ |
(5) ولا شك أن القصيدة التي تتطلب من مبدعها بذل مثل هذا الجهد المضني لا يمكن أن تمنح ذاتها لقارئها بيسر وسهولة ، بل إنها تتطلب منه من الجهد والمعاناة الصادقة في سبيل استيعابها وتذوقها ما يعادل الجهد الذي يبذله الشاعر في سبيل إبداعها ،فهي لا تقدم لقارئها تلك المتعة السطحية السهلة التي تسعى إليه دون أن يسعى إليها ، وإنما تقدم له نوعًا من المتعة العميقة التي تتجاوز الحواس الخارجية وما تحققه من متعة سطحية عابرة ، لتنفذ إلى صميم القارئ وتهز وجدانه من الداخل تلك النشوة الروحية الرائعة ،التي تهر أعماق الشاعر حين يعاني رؤياه الشعرية. ولم يعد الشاعر الحديث يهدف إلى إمتاع القارئ وإطرابه عن طريق تلخيص نتائج مغامراته له ، ووضعها بين يديه في أوزان مطربة تهدهد حواسه وتدغدغها ،وإنما أصبح هدفه الأول أن يهز قارئه ويقلقه ،وأن يدعوه إلى رؤية الوجود من زاوية أخرى غير تلك التي ألف أن يراه منها باستمرار ، وأ ن يقوده إلى مشاركته لذة الارتياد والكشف والمغامرة هذه اللة التي تتضاعف وتعمق بمقدار ما فيها من جهد ومعاناة وإذا كان قول بول فاليري السابق" إن ما يتم بسهولة يتم بدونن"ا ينطبق أساسًا على عمل الشاعر ، فإنه ينطبق بنفس القدر على عمل القارئ . ولكي يستطيع القارئ أن يواكب الشاعر في مغامراته تلك فإنه مطالب بأن يكون على وعي بطبيعة الرؤية الشعرية الحديثة من جهة ، وبطبيعة الأدوات الفنية التلي يجسد بها الشاعر هذه الرؤرية من جهة أخرى ، وبمقدار ما يتحقق للقارئ من هذا الوعي تزداد متعته بالقصيدة ، بل إنه بمقدار ما يبلذ القارئ في سبيل استيعاب القصيدة من جهد واعٍ ومخلص يزداد عطاؤها ويتضاعف ،لأن القصيدة الحديثة نوع من الإبداع المشترك بين الشاعر والقارئ ، فهي لا تحمل معنى محددًا وحيدًا ، والقارئ الجاد هو الذي يكسبها معناها ، أو على حد قول بول فاليري "إن أشعار تحمل المعنى الذي يضفيه القارئ عليها ، |
(6) أما ما أعطيه أنا لها من معننى فلا ينطبق على غيري ولا يمكن أن يحتج به على أحد"(5) ولا شك أنه بمقدار وعي القارئ وإخلاصه يعمق معنى القصيدة ويتضاعف عطاؤها الفني . ولكن الشاعر كثيرًا ما يصاب بلون من الإحباط وخيبة الأمل ،حين يجد قارئه عاجزًا عن متابعته في مغامرته عبر المجهول ،قانعًا بانتظاره حتى يعود هو إليه بثمار تلك المغامرة جاهزة دانية ، والشاعر يعرف أن أشهى تلك الثمار هو المغامرة ذاتها، وأن القارئ سيظل أبدًا عاجزًا عن الاستمتاع بكل مخاطرها ، وبكل معاناتها. وقد عبر واحد من شعرائنا المعاصرين عن هذا الشعور بالإحباط وخيبة الأمل الذي يعانيه الشعراء إزاء خمول قرائهم وعزوفهم عن مشاركتهم مغامرتهم الشعرية ، وذلك الشاعر هو صلاح عبد الصوبر في قصيدته الطويلة "رحلة إلى الليل" حيث يقول في المقطع الرابع من مقاطع تلك القصيدة المعنون بـ"السندباد":(6) في آخر المساء يمتلي الوساد بالورق كوجه فأر ميت طلاسم الخطوط وينضح الجبين بالعرق ويلتوي الدخان أخطبوط في آخر المساء عاد السندباد ليرسي السفين وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم السندباد : "لا تحك لصديق عن مخاطر الطريق" "إنه قلت للصاحي : انتشيت ، قال :كيف "؟ "السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت" الندامى : هذا محال سندباد أن نجوب في البلاد إنا هنا نضاجع المساء ونغرس الكروم ونعصر النبيذ للشتاء ونقرأ الكتاب في الصباح والمساء وعندما تعود .. نعدو نحو مجلس الندم تحكي لنا حكاية الضياع في بحر العدم والسندباد في تراثنا الشعري هو رمز المغامر الجواب ، فهو أحد أبطال قصص "ألف ليلة وليلة" ، وقد قام بسبع رحلات مليئة بالمغامرات العجيبة صادف خلالها الكثير من العجائب والمخاطر ،وكان عقب كل رحلة يعود ليوزع على أصدقائه وندمائه ما جب معه في رحتله من كنوز ، ليعود بعد ذلك إلى رحلة جديدة ومغامرة جديدة ، ومن ثم فقد أصبح السندباد في شعرنا المعاصر رمزًا للمغامرة والارتياد .والسندباد في قصيدة "صلاح عبد الصبور " ليس سوى الشاعر ذاته ، الذي يعاني تجربة الإبداع بينب أكداس الورق التي تملأ الوساد ، وبين طلاسم الخطوط المتشابهة المختلطة والدخان المتلوي حوله كأخطبوطوالعرق الناضح على جبينه من المعاناة والجهد ، وكلها صور وتجسيدات فنية لذلك المجهود الذي يبذله الشاعر في سبيل اقتناص العبارة الشعرية. __________________ (5): Ibid. p. 44 Note marginale N.3 6 :صلاح عبد الصبور : الناس في بلادي .دار الآداب .بيروت1975،ص40،41 |
(7) أما الندمان فليسوا سوى هؤلاء القراء الكسالى ،العزوفين عن المغامرة القانعين بلمذاتهم الحسيةالخاصة السطحية،وانتظار السندباد الشاعر حتى يعود إليهم بثمار ماغامرته الشعرية المضنية ، ولكن السندباد يدرك أ،هم لن يستطيعوا أبدًا أن يستمتعواى بلذة هذه الثمار التي لم يشاركوا في اقتطافها ، ولن يشرعوا بهذه النشوة العميقة التي يشعر بها بما لم يعانونهاى بأنفسهم معه :"إن قلت للصاحي :انتشيت ، قال: كيف؟". ولكن مع وضوح هذا اليقين لدى الشاعر السندباد فإنه لا يستطيع أن يكشف عن المغامرة والإبداع،فالإبداع هو تحقيق وجوده ، والسندباد إن كف عن المغامرة مات "السندباد كالإعصار.. إن يهدأ يمت ". وإذا كانت شكوى الشاعر من عجز قائه عن متابعته هي أ؛د وجهي العملة فإن الوجه الآخر لها هو شكوى القراء أنهسم من سعوبة القصيدة الحديثة وغموضها ، إلى الحد الذي تكاد تصبح فيه بعض بعض الأحيان عالمًا منغلقًا على الشاعر وحده . وقد يكون لقارئ القصيدة العربية الحديثة بعض العذر ،خصوصًا ذلك القارئ الذي تعود أن تقدم له القصيدة عالمًا مألوفًا له ، قد سبق له التعرف على كائناته عشرات المرات حتى باتت مألوفة لديه لا تثير دهشته ؛فمثل هذا القارئ غالبًا ما يصادف في القصيدة الحديثة عالمًا غريبًا لم يسبق له أن تعرف على كائنائته ،وحتى ما سبق له التعرف عليه من هذه الكائنات تبدو له مرتبطة بعضها إلى بعض بعلاقات جديدة غريبة ، لم يسبق له أن عرفها أو ألفها ، بحبث يبدو هذا العالم الشعري الخاص بالشاعر مباينًا إلى حد كبير للعالم الواقعي الذي ألفه القارئ بما فيه من كائنات وأشياء ، ومن روابط وصلات محسوسة ومنطقية بين هذه الكائنات والأشياء أصبح من الصعب على القرائ أن يتجاوزها. ولا شك أن هذا العالم الغريب غير المألوف للقارئ من ناحية ، والأدوات الفنية الغريبة التي يستخدمها الشاعر في بناء قصيدته من ناحية أخرى يمثلان أبرز مكونات هذا الحاجز الذي يحول بين القارئ العربي والقصيدة الحديثة . *** |
(8) ثانيًا : السمات العامة للقصيدة الحديثة ____________________تتميز القصيدة الحديثة بمجموعة من السمات والخصائص العامة ،التي اكتسب بعضها من طبيعة الرؤية الشعرية الحديثة ،وبعضها الآخر من طبيعة التكنيكات المستخدمة في بنائها وطريقة توظيف الشاعر لها ، ولعل من المفيد في تحديد مفهوم "القصيدة الحديثة " أن نتعرف على هذه السمات قبل أن نعرض بالتفصيل للأدوات والوسائل الفنية التي يستخدمها الشاعر في بناء هذه القصيدة. ومن أبرز هذه السمات : التفرد والخصوصية: تهفو القصيدة العربية إلى أن تكون كيانًا فنيًا متفردًا ،لا يرتبط إلى سوواه من تراثنا الشعري القديم المعاصر بغير تلك التقاليد الشعرية الفنية العامة ،التي تميز القصيدة باعتبارها جنسًا أدبيًا عن سواها من الأجناس الأدبية الأخرى ، ومن ثم فإن القصيدة الحديثة لا يمكن تصنيفها تحت أي غرض من الأغراض الشعرية العامة التي انحصر فيها تراثنا الشعري القديم من مدح وفخر وهجاء ورثاء ووصف وغزل (7).. لأن هذه القصيدة لا تريد أن تحصر نفسها في مجموعة من الأغراض المتناهية ، التي تمثل قيدًا صارمًا على قدرات الشاعر الإبداعية ، ورغبته في الانطلاق إلى آفاق التفرد والارتياد والابتكار. (7) تنبغي الإشارة هنا إلى أن نقادنا العرب القدامى يتحملون قسطًا كبيرًا من مسؤولية انحصار القصيدة العربية القديمة في هذه المجموتعة المحدودة من الأغراض ، ومن افتقارها في مجملها إلى سمة التفردوالابتكار ؛فقد فرضوا على على الشاعر العربي القديم لونًا صارمًا من الاتباعية ، بحيث لا يخرج عن الأغراض والموضوعات العامة التي تناولها الشعراء السابقون من ناحية ولا يحيد عن المناهج والأساليب الشعرية التن النتهدجوها من ناحية أخرى ، فنحن نجد ناقدًا كقدامة بن جعفر لا يكتفي بتتحديد الأغراض العامة التي يدور في فلكها الشعراء بل يتجاوز ذلك إلى تحديد المعاني الجزئية التي يدور حولنا كل غرض من هذه الأغرض ؛ فيحدد لغرض المدح مثلاً اربع صفات إذا مدح بها الشاعر كان مصيبًا ، وإن تجاوزها كان مخطئًا ، وهذه الصفات هي الأربع هي العقل والشجاعة والعدل والعفة ، وتحت هذه الصفات العامة تتدرج مجموعة من الصفات الفرعية.ولا يكتفي قدامة بهذا كله بل يحدد للشعراء الطوائف التي تمدح بكل صفة من هذه الصفات (انظر :قدامة بن جعفر : نقد الشعر شرح وضبط الأستاذ محمد عيسى منون .المطبعة المليجية .القاهرة 1934.ص 39 وما بعدها ) بل لقد بلغ الإسراف في هذا الاتجاه حدًا كعل ناقدًا واسع الأفق بالقياس إلى عصره كابن قتيبة يذهب إلى أن "ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج على مذهب المتقدمين ..فيقف على منزل عامر ، وبيكى عند مشيد البنيان ؛لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير ، أو يرد على المياه العذبة الجواري ؛لأن المتقدمين ورودوا على الأواجن الطوامي ، أو يطقع إلى الممدوح منابت النرجس والورد والآس ؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرار " (ابن قتيبة الشعر والشعراء .ضبط وتعليق السيد محمد بدر الدين النعساني .مكتبة الخانجى . مصر .1322ه،ص 7) .ولا يتوقع بالطبع في ظل مثل هذه التقاليد الاتباعية الصارة أن تكون سمة "التفرد والخصوصية" من السمات التي تتصف بها القصيدة العربية القديمة ، وإن كان شعراؤنا القدامى- لحسن الحظ- لم يلتزموا كثيرًا بهذه التقاليد الصارمة. |
(9) |
(10) وبمقدار خصوصية هذا الكيان الجديد وانتمائه إلى الشاعر ترتفع القيمة الفنية للقصيدة ، وبمقدار ابتعاد القصيدة عن أن تكون صورة حرفية للواقع تقترب من مفهوم الحداثة. فحين نقرأ قصيدة النهر العاشق (8)للشاعرة العراقية نازك الملائكة نحس أن هذا النهر من إبداع الشاعرة ، وأنه نهر خاص بها ، على الرغم من أن القصيدة تدور حول حادثة واقعية هي حادثة الفيضان الذي أغرق بغداد عام 1954 ، ولكن الشاعرة تناولت الحادثة من زاوية خاصة متفردة ،لم يعد النهار من خلالها مجرد نهر عات مدمر يغرق طوفانه المدينة ، وإ‘نما أصبح عاشقًا حانيًا ومحمومًا في الوقت ذاته ، يحتضن المدينة بحبه العارم المدمر . تقول نازك : أين نمضي ؟ إنه يعدو إلينا راكضًا عبر حقول القمح ، لا يلوي خطاه باسطًا في لمعة الفجر ذراعيه إلينا طافرًا كالريح ..نشوان ..يداه سوف تلقانا ، وتطوي رعبنا أنى مشينا *** إنه يعدو .. ويعدو وهو يجتاز بلا صوت قرانا ماؤه البني يجتاح ، ولا يلويه سد إنه يتبعنا لهفان أن يطوي صبانا في ذراعيه ، ويسقينا الحنانا *** لم يزل يتبعنا ..متبسمًا بسمة حب قدمان الرطبتان تركت آثارها الحمراء في كل مكان إنه قد عاث في ش رق وغرب في حنان أين نعدو ؟ وهو قد لف يديه حول أكتاف المدينة إنه يعمل في بطء وحزم وسكينة ساكبًا من شفتيته قٌبَلاً طينية ..غطت مراعينا الحزينة.. .. _______________ (8)ناازك الملائكة :شجرة القمر .دار العلم للملايين .بيروت .ومكتبة النهضة .بغداد 1968 ص135 |
(11) النهر في هذه القصيدة ليس هو ذلك النهر الذي أغرق بغداد وإنما هو ذلك العاشق الملهوف الواله ،الذي يركض محمومًا نحو محبوبته عبر حقول القمح ، لا يلوي خطاه ، وطوفانه الذي يحاصر المدينة ليس طوفانًا وإنما هو أذرع حانية تلتلف حول أكتاف المدينة وفي حنان مدمر ، والمياه التي تغطي الحقول لم تعد مياها ،وإنما هي قبل طينية تغطي المراعي الحزينة . ومن هنا أصبحت القصيدة كيانًا فنيًا متفردًا ينتمي إلى عالم نازك الملائكة الشعري ، وإلى رؤيتها الشعرية المتفردة أكثر من انتمائه إلى حادثة الفيضان الذي أغرق بغداد. وإذا ما نظرنا إلى طبيعة تلك الرؤية التي أكسبت القصيدة هذا اللون من التفرد والخصوصية فسوف نجدها رؤية خاصة لا تقف عند العادي والمبتذل ، فهي لا ترى في الفيضان مجرد كارثة مدمرة تخرب المدينة ، وإنما هي نوع من الوله الغريب ،والحب القاسي المحموم الذي يمتزج فيه الحنان بالقسوة ، والدمار بالعطاء المخصب ، ومن خلال تفاعل هذه المشاعر المتناقضة ينمو بناء القصيدة ويتطور ، وتنشأ علاقات جديدة بين عناصر هذا البناء التي لا يبدو بينها في الواقع أي صلات ، وتصبح هذه العلاقات- على غرابتها- مشروعة وطبيعية في ضوء هذه الرؤية الجديدة ، وفي إطار هذا البناء الجديد ، فلا نستغرب أن يكون للنهر يدان يحتضن بهما المدينة ، ولا أن تكون مياهه قبلاص تغطي المراعي الحزينة ، ولا أن تكون له قدمان رطبتان تتركان آثارهما في كل مكان ، ولا أن يتبع ضحاياه في لهفة يمتزج فيها الحنان بالتدمير،بل لا نستغرب أن يستحيل هذا الدمار –في رؤية الشاعرة – إلى نوع من العشق الواله .فكل هذه العناصر التي بينها في الاقع من التباعد –بل التنافر- ما يجعل من المستحيل على غير الرؤية الشعرية النافذة أن تكشف – أو تبدع-بينها أي نوع من العلاقات ،قد استطاعت الشاعرة أن تمزج بينها وتبدع بينها علاقات ليست أقل مشروعية ولا أقل عمقًا من العلاقات الحسية التي تربط بين الأشياء في الواقع المحسوس.من هنا تكتسب القصيدة الحديثة تفردها ولا تكون مجرد تكرار لما سبق قوله مئات المرات بطريقة أخرى. |
(12) التركيب : |
(13) فلجوء الشاعر الحديث إذًا لمثل هذا البناء المعقد ،واستخدجامه لمثل هذه الأدوات والتكنيكات الغريبة ليس نوعًا من الحذلقة الفنية ، وإنما هو استجابة لضرورة التعبير عن الرؤية الشعرية الحديثة التي لم تعد خيطًا شعوريًا بسيطًا وواضحًا ، وإنماأصبحت نسيجًا شعوريًا متشابك الخيوط ، سداه ولُحمته مزيج غريب من المشاعر والأحاسيس والرؤى المتشابكة المعقدة ، ومثل هذه الرؤية الخاصة تحتاج إلى بناء فني في مثل تشابكها وتعقيدها ليستطيع تجسيد أبعادها المختلفة. صحيح أن بعض النماذج الحديثة تسرف في التركيب والتعقيد دون أن يكون ثمة داع لذلك ، ودون أن يكون وراء هذا التعقيد المسرف رؤية شعرية على قدر من العمق والرحابة يستدعي مثل هذا التعقيد ، ومن ثم فإن الجهد المبذول من القارئ في سبيل استيعاب هذه النماذج يكون جهدًا شائعًا سدى ، ومثل هذا التعقيد يكون ناشئًا عن ضعف التأليف والتركيب وليس عن التركيب في ذاته، وغالبًا ما تكون الرؤية الشعرية في مثل هذه القصائد على قدر من التشوش والتفكك والضحالة ، ويكون مثل هذا التعقيد ستارًا يستر به الشاعر ضحالة رؤياه وخواءها ، فهو لا يعكس أكثر من نزعة مراهقة إلى استعراض المهارات التكنيكية واللعب بها بدل الإخلاص الصادق في معاناة الرؤيا الشعرية ومحاولة تحقيق التلاحم والتكامل والامتزاج بين عناصرها وتجسيدها في أكثر الأشكال الفنية ملاءمة لها. |
(14) وتنبغي الإشارة في النهاية إلى أن درجة التركيب في القصيدة الحدديثة تتفاوت بتفاوت خط الرية الشعرية التي تجسدها القصيدة من التركيب والتعقيد ، فعلى حين نجد بعض القصائد على قدر من بساطة التركيب –إذا صح هذا التعبير-لا يصعب معه على القارئ إدراك طبيعة العناصر التي يتألف من ها هذا التركيب ، ونهوعية الععلاقات والروابط التي تؤلف بين هذه العناصر ، نجد بعضها الآخر يبلغ درجة من التركيبو التعقيد تحتاج إلى جهد حقيقي من القارئ ليدرك طبيعة هذا التركيب ونوعية العلاقات بين عناصره ، وعلى أية حال فإن طبيع ةالرربية والشعرية هي التي تحدد طبيعة الإطار الفني الملائم ، وحظه من التركيب والتعقيد. الوحدة : على الرغم من أن القصيدة الحديثة تتركب –سواء على مستوى نسيجها النفسي والشعوري ، أو على مستوى بنائها الفني –من مجموعة من العناصر والمكونات المتنوعة ، والمتنافرة في بعض الأحيان ، فإن ثمة وحدة عمليقة تؤلف بين هذه العناصر ، وتنصهر فيها هذه المكونات المتناثرة المتنافرة لتصبح كيانًا واحدًا متلاحمًا متجانسًا ، لا تفكك فيه ولا تنافر .وهذه الوحدة تنسحب على العناصر الشعورية والنفسية والفكرية التي يتألف منها نسيج القصيدة الشعوري بمدقار ما تنسحب على الأادوات والتكتنيكات الفنية التي يتأللف منها بناؤها الفني ، فكل هذه الأشياءي في القصيدة الحديثة تمتزج وتتلاحم وتتكامل في كيان واحد متماسك. ولقد كانت وحدة القصيدة من أول ما اهتم به رواد التجديد عندنا من سمات الحداثة في القصيدة العربية ، وقد تجلى هذا الاهتمام في كتابات مطران والعقاد وشكري في مقدمات دواوينهم وفي كتبهم النقدية كما تجلى في أعمالهم الشعرية(9) ، وقد اعتبر هؤلاء الرواد وحدة القصيدة مقياسًا من أهم المقاييس التي يقومون بهاب شعر معاصريهم ليبينوا مدى محظه من الحداثة ، وكثيرًا ما كان حجماسهم لهذه الوحدة يدفعهم إلى نوع من التشدد والصرامة في تطبيقها على شعر معاصريهم ، بحيث إذا وجدوا قصيدة من القصائد يمكن تقديم بعض أبياتها على بعض اعتبروا هذا إخلالاطص بالوحدة في القصيدة يستحق اللوم والمؤاخذة . ولقد كان من أبرز هذه المآخذ التي أخذها العقاد في "الديوان" على شوقي في قصائده أن بعض قصائده يمكن إعادة ترتيبها بتقديم بعض أبياتها على بعض ، وقد حاول إعادة ترتيب أبيات هذه القصيدة التي كتبهاشوقي في رثاء مصطفى كامل ، حيث عرضها أولا ًكما كتبها "شوقي"ثم عرضها مرة ثانية بعد أن غير في ترتيبها ، بحيث جاءت على ترتيب آخر يبتعد جد الابتعاد عن الترتيب الأول ليقرأها القارئ المرتاب ، ويلمس الفروق بين ما يصلح أن يسمى قصيدة من الشعر ، وبين أبيات مشتتة، لا روح فيها ، ولا سياق ، ولا شعور ينتظمها ويؤلف بينها(10). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ (9)انظر محمد غنيمي هلال:النقد الأدبي الحديث ،ص409وما بعدها والمراجع المبينة به. (10)عباس محمود العقاد بالاشتراك مع إبراهيم عبد القادر المازني :الديوان.اتلطبعة الثالثة.(جزآن متصلان).دار الشعب –القاهرة (بدون تاريخ)ص122 . |
(15) والحقيقة أن قصيدة شوقي لم تكن بمثل هذا التفكك الذي حاول العقاد أن يتهمها بثب ، والحقيقة أيضًا أن وحدة القصيدة ليست بمثل هذه الصرامة التي ترفض إمكان تقديم بيت من أبيات القصيدة أو تأخيره ، كما سنوضح بعد قليل،ولكننا إذا ما نحينا جانبًا هذه النزعة المتحاملة في كلام العقاد عن ظاهرة التفكك في شعر شوقي –وفي موقفه من شوقي عمومًا- فإنه يبقى لنا منه ذلك الإدراك الموضوعي الواعي لضرورة ترابط أجزاء القصيدة وعناصرها ، ونعيه على القصيدة المكونة من مجموعة من الأبيات المفككة المستقلة ، وعلى الذين "يحسبون البيت في القصيدة جزئًا قائمًا بنفسه ، ولا عضوًا متصلاً بسائر أعضائها ، فيقولون أفخر بيت وأغزل بيت وأشجع بيت ، وهذا بيت القصيد ، وواسطة العقد ،كأن الأبيات في القصيدة حبات عتقد تشترى كل منها بقيمتها ، فلا يفقدها انفصالها عن سائر الحبات شيئًا من جوهرها ، وهذا أول دليل على فقدان الخاطر المؤلف بين أبيات القصيدة ، وتقطع النفس فيها ، وقصر الفكرة ، وجفاف السليقة؛فكأنما القريحةالتي تنظم هذا النظم وبصات نور متقطعة لا كوكب صامد متصل الآشعة يريك كل جانب وينير لك كل زاوية وشعبة ، أو كأنما هي ميدان قتال فيه ألف عين وألف ذراع وألف جمجمة ، ولكن ليس فيه بنية واحدة حية ، ولقد كان خييرًا من ذلك جمجمة واحدة على أعضاء جسم فرد تسري فيه حياة.(11)ويعد هذا الكلام الذي كتب في بداية العقد الثالث من القرن العشرين من أنضج ما كتب عن وحجدة القصيدة في نقدنا العربي الحديث ، وقد تأثر بدعوة العقاد وأقرانه الكثير من الشعراء والنقاد والمثقفين عمومًا حتى أصبحت سمة من أبرز سمات الحداثة في القصيدة العربية الحديثة. ولكنه ينبغي تقرير أن الوحدة العضوية في القصيدة ليست في وضوح وصرامة الوحدة في المسرحية والرواية اللتين تتسلسل أحداثهما ومواقفهما في ترابط وتماسك يضفي على البناء العام لكل منهما لونًا من الوحمدة الصارمة الوثيقة ، بحيث لو قدم منظر من مناظر المسرحية أو حدث من أحدجاث الرواية أو أخر عن موضعه لأصاب ذلك بناءها العام بالخلل والاضطراب ، أما وحدة القصيدة في على قدر كمن المرونة لا يرفض إماكن تقديم بيت من أبيات القصيدة أو مقطع من مقاطعها على سواه ، ودون أن يكون في ذلك إخلال بالوحدة ، ما دام ثمة نوع من الوحدة الشعورية والفنية يضم هذه الأبيات والمقاطع بعضها إلى بعض .(12) __________________________ (11) السابق 131،132 .والوبصات : الومضات (12)انظر : النقد الأدبي الحديث .ص411 . بل إن الوحدة العضوية في المسرحية والرواية ذاتهما لم تعد بمثل ما كانت عليه من الصرامة والرسوخ ،خصوصًا في الاتجاهات الروائية والمسرحية الحديثة التي لم تعد تعطي الحدث الخارجي وتسلسله ما كان له من أهمية من قبل ؛ حيث أصبح من الممكن في ظل هذه الاتجاهات أن تكتب مسرحية أو رواية دون أن تعتمد على أحداث خارجية ذات بال ، بل أصبح كسر التسلسل الطبيعي للأحداث والترابط المنطقي بينها تكتيكًا فنيًا من تكنيكات هذه المسرحيات والروايات التي لم تعد خاضعة لتلك الوحدة الظاهرية المحسوسة الصارمة ، وإنما أصبحت خاضعة لنوع من الوحدة أكثر خفاء ودقة. |
(16) وإذا كان حماس رواد التجديد الأوائل في شعرنا ونقدنا الحديث لوحدة القصيدة قد دفعهم إلى نوع من التشدد في تطبيقها ،فإن حماسهم لم يلبث أن أن ارتد إلى نوع من الاعتدال والموضوعية ، بل إنهم في الوقت الذي كانوا يتشددون فيه على المستوى الإجرائي في تطبيقهم لمقياس الوحدة لى شعر معاصريهم كان كلامهم النظري عنها أكثر اعتدالاً وموضوعية ففي الوقت الذي نجد فيه العقاد يتشدد-على المستوى الإجرائي –في تطبيق مقياس الوحدة على شعر شوقي إلى حد التعسف ، نراه على المستو النظري يقول مثل هذا الكلام الموضوعي المعتدل "إننا لا نريد تعقيبًا كتعقيب الأقيسة المنطقية ولا تقسيمًا كتقسيم الأقيسة الرياضية ، وإنما نريد أن يشع الخاطر في القصيدة ، ولا ينفرد كل بيت بخاطر فتكون كما أسلفنا بالأشلاء المعلقة أشبه منها بالأعضاء المنسقة .(13)أمخا في الشكل الأكثر حدابثة في القصيدة العربية فقد أصبحت بالوحمدة أكثر خفاءً ودقة ، نتجية لخفاء ودقة العلاقات التي تربط بين عناصر القصيدة ومكوناتها ، بحيبث أصبح من المشروع في إطار هذه الوحدة إمكان تقديم بيت على بيت أو مقطع على مقطع ، بل لقد تجاوز الأمر ذلك إلى جواز وجود نوع من التباعد الظاهري بين بعض أجزاء القصيدة وبعضها الآخر ، إذا كان مثل هذا التنافر موظفًا توظيفًا إيحائيًا ،وإذا كان ثمة نوع من الوحدة العميقة الخفية يضم كل هذه العناصر المتنافرة في الظاهر ، ويصهرها في كيان نفسي وفني واحد . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (13) الديوان .ص141 |
(17) ولقد كان شعراء الرمزية هم رواد هذا الاتجاه ، حيث كاهوا ينتقلون في قصائدهم من فكرة إلى فكرة أو من خاطر إلى خاطر دون أن يكون بينهما ترابط منطقي ، وذلك بهدف إثارة عنصر المفاجأة ،رغبة في تقوية الجانب الإيحائي في قصائدهم دون أن تفقد هذه القصائد وحدتها الخفية العميقة.(14) وفي إطار هذه الوحدة عندهم لا بأس من أن يجتمع الشيء مع أشد الأشياء تباعدًا عنه وتنافردًا معه ، مد داما يتآزران على إحداث أثر نفسي واحد ، وبث إيحاء واحد ، وهذا ما عبر عنه الشاعر الرمزي الفرنسي الكبير شارل بودلير في قصيدته" تراسلات correspondances " (15) التي يقول فيها الطبيعة معبد ، الدعائم الحية فيه يصدر عنها في بعض الأحيان همهمات مبهمة يسير المرء فيها عبر غابات من رموز ترمقه بنظرات رفيقة وكأصداء طويلة تختلط من بعيد في وحدة معتمة عميقة رحيبة كالليل وكالضوء تتجاوب العطور والألوان والأصوات ولقد تأثرت القصيدة العربية الحديثة بمثل هذه النزعة ، بحيث لم يعد نادرًا أن نجد القصيدة تجمع بين أشياء بينها من التباعد والتنافر الظاهريين أكثر مما بينها من الترابط، ومبالغة في هذا الاتجاه فإننا كثيرًا ما منجد الشاعر يسقط أدوات الربط اللغوي بين أجزاء القصيدة ، حتى لتبدو القصيدة في بعض الأحيان أشبه ما تكون بمجموعة من العبارات والجمل المفككة المستقلة ،الواقعة بذاتها في الفراغ ، ولكن يكن هناك رابط وثيق خفي يضم شتات هذه الأجزاء المتنافرة في كيان واحد شديد التماسك (16) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ (14) انظر النقد الأدبي الحديث.ص407 (15) Charles Baudelaire:Les Fleurs du Mal.Ed. Club.de Libraires de France,1959.p.38. وانظر النقد الأدبي الحديث .ص 426 (16) سنعرض لهذه القضية بشيء من التفصيل عند الحديث عن لغة القصيدة الحديثة . |
(18) وفي بعض الأحيان تتركب الرؤية الشعرية في القصيدة من مجموعة من الأبعاد التي يتميز بعضها عن بعض إلى حد ما دون ان تفقد ترابطها وتلاحمها الكلي ، فتجئ مثل هذه القصيدة مؤلفة من مجموعة من المقاطع التي تتمتع بلون من الاستقلال كثيرًا ما يؤكده الشاعر بإعطاء كل مقطع منها عنوانًا خاصًا في إطار الوحدة العميقة الوثيقة التي تتعانق في إطارها كل الأبعاد وتمتزج كل المقاطع . وهذا واضح في القصائد الطويلة التي اصبحت تمثل القدر الأكبر من نتاج الشعر الحديث ، وقد سبق أن اقتبسنا نصوصًا من قصيدتين من هذا القبيل ، وهما قصيدتا "الناي والريح في صومعة كيمبردج" لخليل حاوي ،" ورحلة في الليل" لصلاح عبد الصبور. فالقصيدة الأولى منهما تتألف من ستة مقاطع تحمل أربعة عناوين خاصة هي على التوالي : 1- في الصومعة 2- الناي 3- الريح 4- الناسك.بينما اكتفى في تمييز المقطعين الثاني والسادس بإعطائهما أرقامًا خاصة. أما القصيدة الثانية "رحلة في الليل" فهي تتألف أيضًا من ستة مقاطع يحمل كل منها عنوانًا خاصًا ، والعناوين الستة على التوالي هي : 1-بحر الحداد 2- أغنية صغيرة 3- نزهة الجبل 4- السندباد 5-الميلاد الثاني 6- إلى الأبد ولم يحل هذا التمييز الظاهري بين مقاطع كلتا القصيدتين دون وجود نوع من الوحدة الخفية العميقة التي تضم هذه المقاطع كلها وتربط بينها بأوثق الروابط. |
(19) وإذا ما أخذنا قصيدة الدكتور خليل حاوي (17) نموذجًا ، فإننا نجد مقاطعها كلها تدور حول محور واحد هو الصراع والتفاعل في ذات الشاعر بين بعدين متعارضين يتجسدان في مجموعة من الرموز المتشابكة المتآزرة. ويتمثل أول البعدين في كل ما هو ثابت وراسخ وجامد في حياة الشاعر ، بينما يتمثل ثانيهما في رياح التغيير الهادرة التي تعصف حوله في عرامة. وقد تمثل البعد الأول في مجموعة من الرموز الفنية ، منها "الصومعة"،حيث يعكف الشاعر على أبحاثه العلمية –ولقد يكون من المفيد أن نعرف أن الشاعر كتب هذه القصيدة وهو يعد للحصول على الدكتوراه من جامعة "كيمبردج"-منكبًا على أقلامه وأوراقه العتيقة ، وحيث الثبات والرسوخ يحينل من في الصومعة إلى مجموعة من "النساك" و"اللحم المقدد"، ومن القصائد التي تجسد فيها البعد الأول "الناي"بكل ما ارتبط به من إيحاءات الأسى الراسخ ، ثم الأسرة ممثلة في الأب الذي ينتظره في صبر – مع أمه- ليحمل عنه هم البيت الثقيل ،وصاحبته التي تنتظره معهما هناك ، والتي لا تفكر إلا فيه ولا تحلم إلا به حتى يبت على اسمه ، ومص دماءها شبحه ، وقد تموت انتظارًا قبل أن يعود إليها .ثم ذلك الناسك المخذول في رأسه- الذي تكون من طول عكوفه في الصومعة من ناحية ، ومن تراثه العريق في الحكمة من ناحية أخرى – وهذا الناسك لا يفتأ يلاحقه بنصائحه وتحذيراته من الاندفاع في رياح التغيير بكل ما فيها من مخاطر وعدم تبصر.وأخيرًا ذلك الواقع الحضاري والسياسي المتخلف الذي يعيشه وطنه العربي ، بكل ما فيه من تجزؤ وتفتت ، وما يعيش على ثراه من نماذج بشرية مشوهة التكوين تكرس هذا الواقع المتخلف المتفسح لأنها لا تستطيع العيش إلا في ظلاله. ________________________ (17)تراجع القصيدة في "جيوان خليل الحاوي"ص167-189 |
(20) ولقد امتزجت هذه الرموز وتفاعلت لتعكس من خلال نموها وترابطها وتفاعلها هذا البعد من بعدي الرؤية الشعرية في هذه القصيدة ، وعلى الرغم من أنها تمثل في مجموعها بعدًا واحدًا ، أو طرفًا واحدًا من طرفي الصراع ، فإنها لمك تبرأ من وجود نوع من الصراع فيما بينها ، لأن الثابت إذا كان يعني في جانب من جوانبه التخلف والجمود ، فإنه يعني في جانب آخر العراقة والأصالة والرسوخ ، ومن ثم فإننا نجد نوعًا من الصراع بين رموز هذا البعد الواحد، ومن خلال هذا الصراع والتفاعل تنمو الرموز وتتشابك ، وتنمو معها ومحدة القصيدة وتقوى . أما البعد الثاني في القصيدة "التغيير " فإن الشارع يرمز إليه برمزين أساسيين هما :"الريح " و"البدوية السمراء" التي يرمز بها إلى العبارة الشعرية الخلاقة البكر ، التي تملم كالقدرة على الاتغيير والعصف بكل ما هو متخلف ومتفسخ في وجود الشاعر ، وهذان الرمزان بدورها يمتزجان امتزاجًا شديدًا ويتكاملان ،فالريح تنبع من بين يدي العبارة الشعرية البكر ذات الطاقات الخارقة. وعلى الرغم من قلة الرموز التي جسد بها الشعر هذا البعد الثاني ،بالقياس إلى تلك التي جسد بها البعد الأول ، فإنه قد أسبغ عليها من الفاعلية والإيجابية ما جعلها تقوم ندًا لرموز البعد الأول على كثرتها ، بل تكاد تنتصر عليها في ذلك المقطع الرائع الذي يحمل عنوان "الريح" وهو أطول مقاطع القصيدة الستة ، بل إنه وحده يكاد يتجاوز في الطول المقاطع الجمسة الأخرى مجتمعة ؛ففي بداية ذلك المقطع نجد الشاعر مهمومًا بالاستجابة لنداء التغيير ، متلهفًا إلى العزيمة التي يستطيع بها أن ينشق عن كل الرموز التي تربطه بواقعه الثابت ،بكل ما في هذا الانشقاق من آلام "أطأ القلوب وبينها قلبي ، وأشرب من مرارات الدروب بلا مرارة"، وهنا تخطر في رؤياه العبارة الشعرية البكر ، البدوية السمراء بكل ما يحيط بدروب الوصول إليها من مخاطر ومعاناة ، وفي نفس الوقت بكل ما تملكه من طاقة خارقة على الغيير ؛فمنها تنبع الريح التي تملك جوع مبارد الفولاذ لتمحو هذه الحدود المتحجرة التي تمزق التراب العربي إلى مجموعة من الأجزاء المتناثرة ، وتعود الأرض بكرًا خصيبة كما كانت في بدء الخليقة ، أما النماذج الإنسانية المتفسخة فإنه يوكل ريح الرمل بها لتعجنها ، وينتهي المقطع الرائع ورموز التغيير المتجدد تكاد تنتصر على التخلف والجمود. ولكن القصية ليست بهذه البساطة ، ولاصراع لم يكن ليحسم بهذه السهولة ،فإذا كانت رموز التغيير تمتلك مثل هذه الفاعلية ، فإن الثبات ليس دائمًا جمودًا وركودًا ، وإنما هو في الوقت ذاته في بعض جوانبه عراقة وأصالة ولبعض رموز هذا الثبات من القوة والرسوخ ما يحول دون حسم الصراع بهذه السهولة لصالح البعد الآخر ، ومن ثم فإن القصيدة تنتهي ورموز الثبات تكاد تحقق نوعًا من الانتصار في الصراع ،فإذا كانت القصيدة بدأت وبين الشاعر والباب الذي يقود إلى عالم الانطلاق والتغيير : ..أقلام ومحبرة ، صدى متأفف ، كوم من الورق العتيق هم العبور ، وخطوة أو خطوتان أإلى يقين الباب ، ثم إلى الطريق فإذا هي تنتهي وقد تضخمت هذه الحوائل وازدادت ،فإذا هي : ..صحراء من الورق العتيق ،وخلفها واد من الورق العتيق ، وخلفها عمر من الورق العتيق ومن خلال الصراع والتفاعل المعقدين بين رموز البعد الأول بعضها وبعض من ناحية ،ثم بينها وبين رموز البعد الثاني من ناحية أخرى ينمو بناء القصيدة وتتشابك أجزاؤها وعناصرها وتترابط ، وتتأكد من خلال ذلك وحدتها وتقوى رغم ما توحي به العناوين المستقلة للمقاطع من تمايز هذه المقطاع واستقلال بعضها عن بعض . وهكذا نجد أن وحدة القصيدة الحديثة لا تقف عند حدود وحدة المشاعر والأفكار التي تألف منها الرؤية الشعرية،وإنما تتجاوز ذلك إلى وحدة الأدوات والتكنيكات الشعرية المستخدمة في تجسيد هذه الرؤية ذات الأبعاد المتعددة الترابطة .كما نجد أن هذه الوحدة موجودة بأعماق صورها وأوثقها حتى في تلك القصائد التي تبدو في الظاهر متفككة الأجزاء مستقلة المقاطع . |
(21) بل إن هناك من المحاولات الحديثة ما يهدف إلى تحقيق نوع من الوحدة بين ديوان كامل وليس ببين عناصر قصيدة واحدة ، وقد يتألفل مثل هذا الديوان من ممجموعة من القصائد المتكاملة أو من مجموعة من المقطاع التي يمكن أن تيشكل في مجموها قصيدة واحدة طويلة تمتد على طور الديوان ، ومن نماذج هذه المحاولات دواوين "يوميات امرأة لا مبالية " لنزار قباني ، و"حوار عبر الأبعاد الثلاثة "لبلند الحيدري ، و"الذي يأتي ولا يأتي " لعبد الوهاب البياتي و "بيادر الجوع"لخليل حاوي ، و"مأساة الحياة وا أغنية لإنسان" لنازك الملائكة وغيرها . إلا أنه لا ينبغي أن نتوقع أن تكون الو حدة في مثل هذه الأعمال في مثل قوة الوحدة ووضوحها في القصيدة الواحدة . الإيحاء وعدم المباشرة: من السمات البارزة فلي القصيدة الحديثة أنها لا تعبر تعبيرًا مباشرًا عن مضمون حدد واضح ،وإنما تقدم مضمونها الشعري بطرية إيحاية توحي بالمشاعر والأحاسيس والأفكار ولا تحددها أو تسميها ،ونتيجة لهذا فإن القصيدة الحديثة لا تحمل معنى واحدًا متفقًا عليه ، "ومن المخطأ المضاد لطبيعة الشعر ،بل القاتل له ،أن نتطلب من كل قصيدة أن يكون لها معنى واقعي وحيد ، هو صورة طبق الأصل من فكرة ما لدى الشاعر "(18) لأن الشاعر لو كانت لديه فكرة محددة واضحة المعالم يريد إيصالها إلى القارئ لما لجأ إلى الشعر أسلوبًا لنقلها ،ولآثر عليه النثر الذي هو أكثر قدرة على تحجديد المعاني والأفكار وتوضيحها ، أما الشعر فإنه يوحي بمجموعة من المعاني والأفكار والمشاعر التي تنمو وتعمق بمقدار ما يبذل القائر من جهد وإخلاص في قراءتها ،هذا معنى أن القارئ يسهم في إبداع القصيدة ، وأن عطاء القصيدة الحديثة ينمو ويتنوع بمقدار إخلاص القارئ وجديته ،فقد يقرأ القصيدة الواحدة أكثر من قارئ ويخرج كل منهم بحصيلة مختلفة عن التي خرج بها الآخرون ، ولكن تعدد عطاء القصيدة الحديثة ليس تعدد التناقض والتعارض ،وإنما هو تعدد التكامل ،فقد لا يخرج قارئ من القراء من قراءته للقصيدة بأكثر من معناها السطحي المباشر –الذي هو أهون جوانب القصيدة قيمة،بل هو الجانب غير الشعري فيها –بينما يستطيع قارئ ثان أن يلتقط بعض إيحاءاتها الأكثر عمقًا وخفاء دون أن يربط بين هذه الإيحاءات بإيحاءات ودلالات أخرى جديدة لا تكف عن النمو والتنوع والعمق ، وهذه هي سمة الفن العظيم في كل عصر من العصور "فهو ينقل إلى كثيرين معنى سطحيًا واضحًا ولو نسبيًا، بينما يحتفظ للقليلين بمجموعة من الأعماق ، وهذه الثنائية كانت وستظل سمة كل فن عظيم"(19). فحين نقرأ مثلاً قصيدة كقصيدة "جيكور والمدينة" (20) للشاعر العراقي بدر شاكر السياب الي يقول في أولها : وتلتف حولي دروب المدينة حبالاً من الطين يمضغن قلبي ، ويعطين عن جمرة فيه طينة حبالات من النار يجلدن عري الحقول المدينة ويحرقن جيكور في قاع روحي ، ويزرعن فيها رماد الضغينة ____________________ (18) paul valery ,p.44 Note marginale N.3. (19)د.مصطفى ناصف :مشكلة المعننى في النقد الحديث.مكتبة الشباب .القاهرة 1969.ص29. (20)بدر شارك السياب :أنشودة المطر .دار مجلة الشعر .بيروت 1960 ص103 |
(22) قد لا يخرج قارئ منها بأكثر من الدلالات الحرفية للألفاظ بينما يستطيع قارئ آخر أن يدرك المعنى العام المباشر –غير الشعري- للقصيدة ، وهو أن القصيدة نوع من المقابلة بين المدينة والقرية –ممثلة في "جيكور"قرية الشاعر في جنوب العراق –ولا نستطيع أن نسمى أياً من هاتين القارءتين قراءة شعرية للقصيدة،ولكن القراء الشعرية تبدأ بعد ذلك ،حيث يوجه القارئ اهتمامه إلى التقاط الإيحاءات التي تشعها الأبيات، وهذه القراءة الشعرية ذاتها تتعدد مستوياتها باختلاف القدرة على تلقي هذه الإيحاءات ، فقد يقف قارئ عند حدود الإحساس بأن الشاعر يصور هنا ضيقه وتبرمه بمادية المدينة وزيفها وافتعالها ، ويحن إلى بساط ةلاقرية وبراءتها الناصعة ، وقد يذهب خطوة أبعد من ذلك فيرى أن الأبيات تعبير عن الحنين الأبدي إلى براءة الفطرة الأولي ونقائها –كما يتمثلان في القرية- والضيق بمادية الحياة الحديثة وجفافها وجهامتها-كما يتمثل ذلك كله في المدينة. وقد لا يقنع قارئ آخر أكثر إخلاصًا ودأبًا بمثل هذه الإيحاءات العامة ، فيمضي يقتش عن الإيحاءات الأكثر خفاء وعمقًالكل عنصر من عناصر البناءا لشعري منفردًا ومتفاعلاً مع بقية العناصر ،بكل ما يشعه هذا التفاعل من إيحاءات جديدة غير متناهية ، فثمة (دروب) في مطلع القصيدة "تلتف " "حول" الشاعر ،هذه الدروب هي "دروب المدينة" ، وإذن فإن في الأمر "التفافًا" لعله الحصار الذي تضربه المدينة حول الشاعر ،بل لعله ضرب من الشنق ، فإن هذه الدروب تتحول إلى "حبال" ومن التفاعل بين "الالتفاف" و"الحبال" تشع إيحاءات الخنق ، إذن فإن العمل الذي تمارسه المدينة نحو الشاعر ليس مجرد الحصار وإنما هو القتل ، ولكن أي قتل ؟ إن الدروب –الحبال التي تلتف حول الشاعر –هي حبال "من طين" تمضغ قلب الشاعر "ويعطين عن جمرة فيه طينة" وإذن هو قتل روحي لأنه خنق ما هو متوهج ونبيل في أعماق الشاعر . |
(23) وهكذا تطالعنا المدينة منذ بداية القصيدة بهذا الوجه الآثم الجاني ، وإلى هنا ووجه القرية-جيكور-لم يلح في أفق رؤيا الشاعر ،ومع بداية البيت الثالث يبدأ وجه "جيكور"يطل في أفق رؤيا الشاعر مهزومًا حزينًا محترقًا ،فهذه الحبال التي كانت في البيت السابق حبالاً من الطين تطفئ الجمرة المتوهجة في قلب الشاعر قت استحالت هنا إىل حبال من النار.. ولكنها ليست النار الموهنجة المعطاءة ، وإنما هي النار الحارقة المدمرة،فحبالها –التي هي دروب المدينة- "يجلدن عرى الحقول الحزينة" ومن هنا يبدأ وجه القرية الكاسف الحزين العاري متمزقًا تحت سياط حبال النار التي تحولت إليها دروب المدينة ،ولا تكتفي هذه الحبال بجلد الحقول العارية الحزينة ،وإنما هي تحرق "جيكور"في قاع روح الشاعر..إنها المقابل الروحي لكل حفاف المدينة وماديتها وقسوتها ،إنها الرحمة والأ/ن والسلام التي يفهو الشاعر إلى أن تنتصر على كل فساد المدينة وكل شرورها لتحول كل جفافها إلى نضرة ،وكل طغيانها إلى سلام رحيم: فمن يشعل الحب في كل درب ، وفي كل مقهى ، وفي كل دار ؟! ومن يرجع المخلب الآدمي يدًا يمسح الطفل فيها جبينه ؟! وتخصل من لمسها ، من سماوة القلب فيها ،عروق الحجار ؟! غير أن الشاعر يعرف أن كل ذلك أمل ضائع ، ومن صم فإن قاصرى ما يطمح إليه أن تظل جيكور ملاذًا روحيًا له يلجأ إليه بروحه من جفاف المدينة وهجيرها وفسادها ،ولكن حتى هذا الأمل المتواضع أصبح عسير التحقق ،فإن المدينة تحاصره وتسد كل دروبه إلى جيكور "فمن حيث دار اشرأبت إليه دروب المدينة ".. |
(24) وهكذا يظل على امتداد القصيدة هذ1ا الصراع غير المتكافئ بين "جيكور " والمدينة ،بين نصاعة الفطرة وبراءتها الأولى وجفاف المدينة وماديتها وقسوتها ،المدينة بكل جبروتها وطغياتها وجيكور بكل وداعتها ونقائها ،وتنتهي القصيدة هذه النهاية الأليمة "وجكور من دونها قام سور ، وبوابة ،واحتوتها سكينة" هذه النهاية التي تردنا إلى بداية القصيدة ، وتوحد بين الشاعر وجيكور فكلاهما سجين محاصر ؛الشاعر في البداية "تلتف حولنه دروب المدينة " وجيكور في النهاية "من حولها قم سور وبوابة واحتوتها سكينة". إن أحدًا لا يستطع أن يدي أن مثل هذه القصيدة تعبر بطريق مباشر عن معنى محدد يمكن تعيينه والاتفاق حوله ،إن ما تقدمه هو مجمموعة من الإحيحاءات المتشابكة المتنامية غير المحدودة وهذا هو الشأن في كل قصيدة حديثة ، وفي كل عمل فني عظيم ، وإذا كانت هذه السمة تسبب انزعاجًا لبعض الذين ينشدون من قراءتهم اللشعر معنى واحدًا دقيقًا يتفق جوله الجميع أو يكادون ،ويرفضون من الشعر كل ملا يقدم لهم هذا المعنى ، فإن النظرة العادلة تقتضينا "أن نربط بين مجال الإبلاغ أو التوصيل ،وقدرة اللغة على الإهابة بأعماقها ،ومن الخطأ أن نسوي بين مفهوم الدقة واتفاق عدد من الناس " (21) بل كثيرًا ما تكون هذه الإيحاءات الخفية أكثر دقة ، وأكثر قربًا إلى الحقيقة من ذلك المعنى المشترك بين القراء،والذي يحكى بقدر أكبر من اتفاق الجميع ،وهو المعنى المباشر. ولكي يحقق الشاعر المعاصر لقصيدته سمة الإيحاء تلك –وسواها من السمات السابقة –فإنه يلجأ إلى استخدام مجموعتة من الأدوات والتكنيكات الفنية ،بعضها مستمد من التقاليد الموروثة منذ أقدم عصوره ،كاللغة الشعرية،والصورة الشعرية ،والموسيقى الشعرية المتمثلة في الوزن والقافية ،وبعضها الآخر من التقاليد الشعرية الحديثة كالرمز ،والمفارقة التصويريةـ وغير ذلك من الأدوات الفنية التي ابتكرها الشاعر الحديث ،وبعضها الثالث استعاره الشاعر من الفنون الأدبية العربية التراثية بعض قوالبها الفنية ، كقالب المقامة والتوقيع مثلاً ،كما استمد من الرواية الحديثة أسلوب الارتداد(فلاش باك) والمونولج الداخلي ، وغير ذلك من تكنيكات الرواية الحديثة ، كما استعار من المسرحية أخص تكنيكاتها بها مثل تعدد الأصسوات والحوار ،والصراع بل إن بعض القصائد الحديثة استعارت القالب المسرحي بكل مكوناته وعناصره. ولم يقف الشاعر المعاصر عند حدود الاستعارة من الفنون الأدبية المختلفة -قديمها وحديثها - وإنما مضى يستعير من الفنون الجميلة الأخرى من تصوير وموسيقى ،وسينما ،..إلخ وقد طوع الشاعر بالطبع ما استعاره من تكنيكات هذه الفنون لطبيعة البناء الفني للقصيدة ، بحيث أصبحت تكنيكات شعرية تنتمي إلى القصيدة بنفس القدر الذي تنتمي به إليها التقاليد الشعرية الموروثة ، وأيضًا بنفس القدر الذي تنتمي به هذه التكنيكات إلى فنونها الأصلية. ودراسة هذه الأدوات والتكنيكات في القصيدة الحديثة في موضوع المباحث التالية من الكتاب. ________________________ (21)د.مصطفى ناصف:مشكلة المعننى في النقد الحديث .ص29. |
(25) الفصل الثاني لغة القصيدة الحديثة اللغة هي الأداة الأساسية لشاعر –وللأديب عمومًا- أو لنقل إنها الماة الأولى التي يشكل منها وبها بناءه الشعري بكل وسائل التشكيل الشعري المعروفة ، أو أنها الأداة الأم التي تخرج كل الأدوات الشعرية الأخرى من تحت عباءتها ،وتمارس دورها في إطارها . وإذا كان النثر يستخدم اللغة كما يستخدمها الشاعر ،فإن ثمة فروقًاً جوهرية بين استخدام الشاعر اللغة ،واستخدام الناثر لها ، أو بين"لغة الشاعر " و"لغة النثر"لأن للشعر لغة خاصة داخل اللغة ينذر الشاعر نفسه ويفنيها في سبيل تحديدها وإبداعها.(1) .والفارق الأساسي بين الاستخدامين أنه في لغة الشعر يستهلك المضمون الشعري ، و في البناء اللغوي الذي "يتضمنه " بحيث يستحيل الفصل بينهما ؛فالمشاعر والأحاسيس والأ فكار ، وكل العناصر الشعورية والذهنية ، تتحول في الشعر إلى عناصر لغوية بحيث إذا تقوض البناء اللغوي في الشعر تقوض معه الكيان النفسي والشعوري المتضمن فيه ، يخلاف النثر الذي يظل المضمون فيه متميزًا إلى حد ما عن الشكل اللغوي الذي "يحمله "بحيث يمكن لهذا الشكل اللغوي أن يفنى ويتلاشى-بل إنه يفني ويتلاشى بالفعل – عقب إيصاله للمضمون الذي يحمله ، دون أن يتلاشى هذا المضمون أو يتأثر ،وذلك لاأن اللغة في النثر "وسيلة" تؤدي غرضًا محددًا ، وتوصل إلى غاية معينة ، ومن ثم فإن دورها –شأن كل وسيلة من الوسائل –ينتهي بالوصول إلى الغاية المستهدفة من ورائها ، على حين أن اللغة في الشعر " غاية" في ذاتها،والتشكيل اللغوي الذي يشكله الشاعر في القصيدة ليس وسيلة لأي هدف آخر وراءه. ______________ (22)انظر:Paul Valery p.85 |
(26) ويوضح بول فاليري الفرق بين استخدام الناثر للغة واستخدام الشاعر لها بمثال استخدام الخطوات بالنسبةل لكل من ال ماشي والراقص ، فكلاهما يبستخدم نفس الخجطوات ونفس ‘ضاء الجسم التي يستخدمها الآخر ولكن الخطوات بالنسبة للماشي وسيلة توصله إلى هدف معين ، وينتهي دورها بالوصول إلى هذا الهدف ، على حين أن الخطوات بالنسبة للراقص غاية وهدف في ذاتها ،لا يهدف من ورائها إلى الوصول إلى شيء آخر . هكذا اللغة في النثر وفي الشعر ؛ فهي بمثابةالخطوات في المشي ، وسيلة ينتهي دورها بأداء الغرض منها ، أما في الشعر فهي بمثابة الاخطوات في الرقص ،غاية لا يستهدف بها شيئًا آخر وراءها.(23) ونتيجة لهذا الفارق الجوهري العام بين "لغة الشعر " ولغة النثر فإنه من الممكن أن نعبر عن الفكرة التي تتضمنها العبارة النثرية بأي أسلوب نثري آخر دون أن تفقد شيئًا من جوهرها ، ما دام هناك نوع من التمايز بين الفكرة والعبارة النثرية ، وما دامت الفكرة هي الغاية والعبارة هي الوسيلة إليها ، إذ من الممكن الوصول إلى الغاية الواحدة بأكثر من وسيلة ، أما الشعر فلا يمكن التعبير عن مضمونه-إذا صح أن له مضمونًا آخر غير شكله- بأي أسلوب آخر –نثرًا كان هذا الأسلوب أو شعرًا- دون أن يفقد شيئًا أساسيًا من جوهره،والشعر الذي يمكن تقديم معادل نثري له دون أن يفقد شيئًا من جوهره سوى الموسيقى هو في الواقع ليس شعرًا ، وإنما هو "نظم نثري" ردئ-إذا صح هذا التعبير-لا يمت إلى جنس الشعر بأكثر من الوزن والقافية اللذين لم يعودا أهم سات الشعر وةمميزاته التي تميزه عن النثر. _________________ (23)انظر مقال بول فاليري:"حول قصيدة المقبرة البحرية "في كتاب "الرؤيا الإبداعية".وهو مجموعة أشرف على ىجمعها هاسكل بلوك وهيرما سالينجر ،ترجمة أسعد حلم .مكتبة نهضة مصر.القاهرة1966 ص35،36 وأيضًا د.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث .ص386. |
(27) وكما يمكن التعبير عن المضمون النثري بأي أسلوب نثري آخر فكذلك يمكن ترجمته من لغة إلى أخرى دون أن يفقد شيئًا ذا بال من قيمته ،أما الشعر فتستحيل ترجتمه من لغة إلى لغة دون أن يفقد الكثير من خواصه وسماته، فالشعر يكتب في إطار التقاليد والقوانين الخاصة باللغة التي كتب فيها ، والتي يتعذر نقلها إلى لغة أخرى بدقة كاملة. ________________________على أننا حين نتحدث عن هذه الفروق الجوهرية الحادة بين لغة الشعر ولغة النثر ، وعن إمكان ترجمة النثر من لغة إلى لغة فإننا ينبغي –كما يقول بندتو كروتشه- أن نقصر هذه المقولة على النثر الخالص- غير الأدبي- وعلى السمات والخصائص النثرية لهذا النثر ، وينعي كروتشه على أولئك الذين يحاولون تطبيق هذه المقولة باستخفاف على النثر الأدبي الذي يحمل من السمات الجمالية والفنية ما يضع أمام إمكان ترجمته نفس العقبة الكأداء التي يضعها الشعر أمامه(24). وثمة نماذج من هذا النقثر الأدبي تقترب –في لغتها-من الشعر حتى لا يكاد يصبح بينها وبين الشعر من فارق سوى الموسيقى. ولكن ما هي السمات الفنية الخاصة للغة الشعر بشكل عام ولغة القصيدة الحديثة على وجه الخصوص التي تميزها عن لغة النثر على هذا النحو الذي أشرنا إليه؟ إن أبرز ما يميز هذه اللغة هو ثراؤها بالطاقات التعبيرية ، واكتنازها بالإيحاءات اللامحدودة ، فلقد كان الهم الأول للشاعر في كل العصور هو أن يعيد للغة طاقاتها الأولى ، وقدراتها الخارقة على التأثير التي كانت لها في عصورها الأسطورية الأولى قبل أن تبتذل وتتحول إلى لغة عملية نفعية تضخع لمنطق العقول وتحديداته الصارمة ، وتسعى إلى نوع من التحدد والموضوعية بحيث لا تعبر إلا عن كل ما هو واضح ومحدد. (24) :انظر :97-96La Poesie. .p.p |
(28) ولكن الشاعر يحس دائمًا أن ثمة أشياء تند عن التحديد والوضوح ، ومن ثم فإن هذه اللغة العادية بمحدوديتها وتناهيها عاجزة عن استعيابها والتعبير عنها ، ومن هنا كان سعيه الدائب وراء اكتشاف لغة أخرى تتسع للتعبير عن هذه الأحاسيس والمشاعر اللامحدودة التي يحسها ويشعر بعج اللغة العادية عن استيعابها ، أو بتعبير آخر كانت محاولته المتصلة في سبيل إبداع لغة داخل لغة. ولقد كان إحساس الشعراء المعاصرين-وبخاصة شعراء الرمزية الأوروبية- بهذه المشكلة حادًا عميقًا ، ومن ثم كان سعيهم وراء اكتشاف اللغة الجديدة-أو اللغة الأسطورية الأولى- بنفس القدر من العمق والحدة (25).وقد تراوحت محاولات هؤلاء الشعراء بين الحماس المتزن والتطرف المسرف ، ولعل من أكثر الشعراء المزيين إسرافًا وتطرفًا في محاولاته "رامبو"الذي اهتم اهتمامًا كبيرًا بهذه القضية ، ونذر نفسه للبحث عن لغة جديدة ،أو لابتكار وسائل إيحاء جديدة داخل اللغة ، وكان يرى أن "الشاعر ينبغي أن يكون سارق النار " وأن يعثر على "اللغة الشاملة""وهذه اللغة ستكون من الروح إلى الروح ،وتلخص كل العطور ،والأصوات والألوان"(26). ولقد حاول رامبو بالفعل أن يعثر على هذه اللغة التي دعا إليها ،حيث اخترع في كتابه الغريب "فصل في الجحيم Une Saison en Enfer” ما سماه كيمياء الكلمة Alchimiedu Verbe وقد اخترع من قبل ماسماه الأصوات المتحركة الملونة في قصيدة شهيرة له بعنوان "الحروف المتحركة “Voyesses أعطى فيها كل صوت من الأصوات المتحركة لونًا معينًا. وهو في القصيدة التي تحمل عنوان "كيمياء الكلمة" من كتاب "فصل في الجحيم" يذكر بكل هذا ويدل به ويحدد ملامح اللغة الشعرية الجديدة التي اخترعها. ـــــــــــــــــــــــــــــــ (25)تعرض الصديق الدكتور محمد فتوح أحمد بتوسع في دراسته الجادة عن "الرموز والرمزية في الشع رالمعاصر "التي نشرتها دار المعارف بمصر 1977 ،لجهود الرمزيين في سبيل اكتشاف لغة شعرية جديدة. (26)انظرClaude-Edmonde Magny :Arthur Rimbaud .Ed. Segher .Paris 1967-p.68. :من رسالته إلى بول دوميني |
(29) "لقد اخترعت ألوان الأصوات المتحركة .. ونظمت هيئة كل حرف وحركته. وبإيقاعات فطرية زينت لنفسي اختراع لغة شعرية ستكون يومًا ما في متناول كل الأحاسيس ..إن الابتذال له نصيب كبير في لغتي الكيميائية .لقد تعودت على الهذيان البسيط ؛كنت أرى في وضوح شديد معبدًا في مكان مصنع ومجموعة من ضاربي الطبول ،وعربات صغيرة تجرها الخيول تسير في طرقات السماء ، وغرفات استقبال في قاع البحيرة.. وعقب ذلك كنت أعبر عن ضلالاتي السحرية بهذيان من الكلمات"(27). وقد سار السيرياليون في الطريق الذي اختطه رامبو إلى مداه ،فتحرروا من كل منطق لغوي مألوف ،وأسقطوا الراوابط وأدوات الوصل اللغوية من معظم شعرهم ، كما أسقطوا علامات الترقبيم ،وبهذا أصبحت اللغة الشعرية السيريالية"لا يراعى فيها الخضوع لأي ترتيب أو الخضوع لأي نظام .والقصيدة السيريالية النموذجية تبدو كما لو كانت مجموعة من الجمل المتجاورة غير المترابطة التي تحتوي كل منها على صورة ، أو حتى مجموعة من الكلمات ..التي تبدو كما لو كانت في بناء لم يستخدم فيه ملاط أو أسمنت"(28)مما يقرب هذه اللغة كثيرًا من لغة الحلم ومن هذيان السكارى. كل هذه المحاولات كانت من أجل استعادة اللغة لقدراتها الأسطورية الأولى واتساعها لاستيعاب الرؤية الشعرية الحديثة بكل أبعادها الشعورية واللاشعورية التي تعجز الإمكانات العادية للغة عن استيعابها. _________________ (27)Arthur Rimbaud: Oeuvres Poetiques-Ed.Gamier Flammarion ,Paris 1964-p.p.130-132وانظر :د.محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث ،ص407،ود.محمد فتوح أحمد:الرمز والرمزية في الشعر الحديث ص81-83. (28)Robert Berchon: Le Surrialisme. Libr. Armand Colin.1971.p.p.176-177 |
(30) ولكن محاولات الشعراء المحدثين-فضلاً عن القدماء- في مجال تزويد اللغة بطاقات إيحائية جديدة لم تكن كلها لحسن الحظ على هذه الدرجة من التطرف التي كانت عليها محاولة رامبو والسيرياليين من بعده ، ولكنها سارب كلها في استغلال الإمكانات والوسائل اللغويوة وإغنائها بالطاقات التعبيرية التي تساعدها على استيعاب كل أبعاد الرؤية الشعرية الحديثة . وكان طبيعيًا أن تتأثري لغة القصيدة العربية الحديثة بكل هذه ال محاولات متطرفها ومعتدلها على السواء ، فضلاً عن المحاولات الموروثة في إطار التراث الشعري العربي. وإذا كانت "اللغة الشعرية" هي المادة الأولى أو الوعاء العام لكل الأساليب والأدوات الشعرية الأخرى ، بحيث يعد الحديث عن كل أداة من هذه الأدوات حديثًا في الوقت ذاته عن "اللغة الشعرية" ،فإن ثمة مجموعة من الإمكانات اللغوية الخالصة التي يوظفها الشاعر توظيفًا إيحائيًا ،والتي تنتمي إىل اللغة كلغة ولا تدخل في إطار أية أداة شعرية أخرى موروثة أو مستحدثة ، ومن ثم فمن الضروري أن نعرض هنا لأبرز هذه الإمكانات قبل أن ننتقل إلى الحديث عن الأدوات الشعرية الأخرى. القيمة الإيحائية للأصوات : فقد لا يكون لبعض الأصوات إيحاء خاص فلي بعض السياقات المعينة ؛فحروف المد مثلاً في سياقات معينة تقوي من إيحاء الكلمات والصور ، وقد اهتدى شعراؤنا القدامى بفطرتهم اللغوية الخالصة إلى بعض الإمكانات الإيحائية في هذه الأصوات ، ووظفوها توظيفًا تعبيريًا بارعًا ،كما فعل أبو العلاء المعري مثلاً في قصيدته التي قالها في مدح أحد العلويين يقول في مطلعها عللاني، فإن بيض الأماني فنيت والظلام ليس بفانِ |
(31) ففي هذا البيت يصور تلك المفارقة الأليمة بين قصر أوقات السعادة وسرعة انقضائها ، وطول أوقات التعاسة وبطء مرورها ، والمد في الكلمة الأولى من الشطر الأول يلائم نغعمة الشكوى إلى صديقيه ، على حين خلت كلمة "فنيت" في بداية الشطر الثاني من أصوات المد لتناسب في سرعة النطق بها سرعة فناء بيض الأماني ، بينما تكثر حروف المد في "الظلام" و"بفان" ليحدث نوع من التضاد في النطق بينها وبين كلمة "فنيت" ولتوحي بطولها وامتدادها بأن هذا الظلام ممتد لا نهاية له. ومن هذا القبيل أيضًا قول عباس العقاد حين نقل جثمان سعد زغلول إلى ضرحيه : اعبر القاهرة اليوم كما كنت تلقاها جموعًا ونظاما لحظة في أرضها عابرة بين آباد طوال تترامى فالشطرة الأولى من البيت الثاني التلي تصور قصر اللحظة التي يمر فيها نعش سعد بالنسبة لتاريخ مصر الطويل الممتد تقل فيها حروف المد ، مما يساعد على الإيحاء بقصر هذه اللاحظة على حين امتلأت الشطرة الثانية التي تصور امتداد تاريخ مصر وتراميه بحروف المد ، مما يقوي الإيحاء بالطول والامتداد في مقابل السرعة والقصر في الشطرة الأولى.(29) على أننا لا نستطيع أن نحكم بأن استغلال القيم الإيحائية للأصوات في هذه الأمثلة كان مقصودًا من هؤلاء الشعراء ،ولعلهم اهتدوا إليها بمحض فطرتهم اللغوية الشفيفة .ولكن بعض الشعراء والنقاد الغربينن له محاولات مدروسة في هذا المجال ،ولعل من أشهر هذه المحاولات ما فعله الشاعر الفرنسي الرمزي رامبو بالنسبة للأصوات الملونة ،حيث حاول أن يعطي كل صوت من أصوات المد لونًا خاصًا في قصيدته "أصوات المد :Voyelles” _______________ (29) انظر هذين المثالين وأمثلة أخرى في كتاب"النقد الأدبي الحديث"،ص382 |
(32) على أننا لا نستطيع أن نحكم بأن استغلال القيم الإيحائية للأصوات في هذه الأمثلة كان مقصودًا من هؤلاء الشعراء ،ولعلهم اهتدوا إليها بمحض فطرتهم اللغوية الشفيفة .ولكن بعض الشعراء والنقاد الغربينن له محاولات مدروسة في هذا المجال ،ولعل من أشهر هذه المحاولات ما فعله الشاعر الفرنسي الرمزي رامبو بالنسبة للأصوات الملونة ،حيث حاول أن يعطي كل صوت من أصوات المد لونًا خاصًا في قصيدته "أصوات المد :Voyelles” Aأسود .B أبيض . I أحمر . U أخضر Oأزرق . وقد ارتبط كل لون من ألوان هذه الأصوات بمجموعة من التداعيات ،فحرف I مثلاً تذكر حمرته بالأرجوان،والدم المبصوق وضحك الشفاه الجميلة خلال الغضب أو السكرة النادمة .(30) وعلى هذا النحو حاول رامبو أن يكسب الأصوات قيمة إيحائية ،وعلى ما في هذه المحاولة من تطرف وإسراف من ناحية ،وذاتية من ناحية أخرى فإنها تظل واحدة من المحاولات البارزة في مجال إعطاء قيم إيحائية للأصوات اللغوية. ولقد عرف شعرنا العربي الحديث بعض المحالولات في مجال إضفاء قيمة إيحائية على الأصوات اللغوية ،في مثل طموح محاولة رامبو ، ومثل جرأتها ، حيث جرب بعض الشعراء الشباب إضفاء قيمة موسيقية على بعض الأصوات ،ولعل بعضهم متأثر في تجربته بمحماولة رامبو في مجال إضفاء قيمة لونية على الأصوات ،ومجاولات سواه من الرمزيين في مجال استغلال القيم الموسيقية الخالصة للأصوات والكلمات. ومن أكثر هذه المحاولات جرأة وطموحًا تجربة الشاعر العراقبي اسين طبه حافظ في قصيدته التي سماها "تجربة في الموسيقى"(31) والتي حاول فيها أن يعطي بعض الأصوات دلالات موسيقية خالصة .وقد سارت هذه المحاولة في اتجاهين: أولهما : تحويل بعض الكلمات إلى مجموعة من الأصوات الموسيقية المؤلفة من نغما تالسلم الموسيقى (دو.ري .مي.فا .صو.لا.سي). ثانيهما :استغلال عنصر التكرار في إضفاء جو موسيقى خاص عن طريق الإكثار من تكرار حرف معين ،أو حرفين متشابهين. ________________ (30)A. Rimbaud:Oeuvres Poetiques p.75. وانظر د.محمد فتوح أحمد :الرمز والرمزية في الشعر المعاصر . ص82،128 (31)ياسين طه حافظ: قصائد الأعراف . منشورات وزارة الإعلام العراقية.بغداد 174،ص99 |
(33) والقصيدة عبارة عن حوار بين مجموعة من الآلات الموسيقية التي تتحاور منفردة ومجتمعة ،ويبدأ الحوار بصوت الأوبرا بصوت الأوبوا المنفرد الذي يحول الكلمات إلى أنغام السلم الموسيقي على النحو التالي: دوي الريح ميراثنا الفاجع في صورة الأوجه اللاجئات إلى بعضها من سيول تسافر الجبال. فقد احتوى هذا البيت على أنغام السلم الموسيقي (دو.ر. مي.فا.صو.لا.سي.) وقد كتب الشاعر البيت في الديوان بطريقة تبرز هذه الأنغام على النحور التالي دوي ال ري اح مي راثنا ال فاجع في صورة الأوجه اللاجئات إلى بعضها من سي ول تسافر بين الجبال. وفي موضع آخر من القصيدة يستغل الشاعر عنصر التكرار بالنسبة لصوت الطاء من ناحية ،وصوتي "الصاد"و"السين" من ناحية مجتمعين من ناحية أخرى ، وذلك في المقطع الذي نسمع فيه صوت فرقة الآلات مجتمعة : من طبول تدق ،طوفان رعب يطوق حيطاننا ، والطيور تساقط من طورها الأزرق في الطرقات الطويلة. تتصاحي أصواتها كالسياط على جسد الصمت ،تصرخ ساقطة ، السنونو المصابة في الجناح تسقط ، تعصر في الصدر صيحتها ،تتساقط من صدرها كسر من زجاج تناثر فوق صخور المسافة(32) فقد تكرر صوت "الطاء" في البيت الأول أكثر من عشر مرات ، كما تكرر صوت"السين"و"الصاد" المتشابهين في البيت الثاني أكثر من عشرين مرة. _____________ (32) تقوم بعض أبيات هذا النموذج والنماذج التالية على نظام "التدوير" الموسيقى ، وسوف نعرض لطبيعة هذا النظام عند الحديث عن "موسيقى القصيدة الحديثة". |
(34) وواضح أن هذه التجربة مغامرة مغرقة لفي الشكلية ، فيها كل ما في التجريب من إسراف وافتعال ، بحيث يكاد الإيحاء الصوتي فيها يكون هدفًا في ذاته ، ومنعزلاً عن عناصر البناء الشعري الأخرى ، بل إن الاهتمام بهذا الجانب الصوتي الموسيقى شغل الشاعر حتى عن الاهتمام بالقيمة الموسيقية الأساسية العاملة في الشعر من وزن وقافية ، فالوزن في القصيدة على قدر واضح من الاضطراب والخلل ،والقافية تكاد تختفي من القصيدة باستثناء الأبيات التي تعبر عن هذا صون الجلوكانترباص،والتي ولق الشاعر إلى حد كبير في إضفاء إيقاع بارز متميز عليها ، يلائم صوت هذه الآلة المتميز المنضبط الإيقاع ،وقد عبر الشاعر عن هذا الصوت بأبيات تكاد تكون منضبطة الطول ، وعلى قدر واضح من التقفية ، وفيما عدا ذلك يهمل التقفية تمامًا . إن الحصيلة النهائية التي يخرج بها القارئ من هذه القصيدة هي مغامرة في الشكل الخالص ، وفي عنصر واحد من عناصر الشكل على حساب العناصر الأخرى. وثمة محاولة أخرى في هذاالاتجاه قمت بحذفها لاحتوائها على سخرية بالقرآن الكريم لذا قررت الاستعاضة عنها بمثال آخر (هذا الكلام من وضعي وليس من وضع المؤلف) |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.