(185) وكان يعبر الطريق عابسًا مضطربًا مرتديًا عباءة خضراء ، سيفه المدلى يثير دهشة الرجال والنساء حين يمر في عيونهم مغتربا لمحته في موقف الترام ، في زحام الناس ، حينما تهل مركبه يزاحمونه ويدهمون جسمه النحيل .. .. ويترك الشاعر جوهرًا في حيرته وضيقه في موقف الترام ليعرض لنا ملمحًا من ملامح العنصر الآخر ، فتاة تودع حبيبها المقاتل المسافر ، وأصداء صوت أمها تتردد قاسية في سمعها : لا تعلقي بحبه ، فربما يجيء نعيه غدا ولتعشقي إن شئت يا صغيرتي أميرا يجيء في ثيابه المعطره على جواد النفط ، يغزل القصور ، ينسج المنى حريرا وينتقل بنا الشاعر مرة أخرى إلى جوهر في موقف الترام وهو : .. .. لم يزل مرتقبًا وصول مركبة ثم يعود بنا مرة ثانية إلى العنصر الموازي فيقدم لنا ملمحًا آخر ، أو لقطة أخرى متمثلة في امرأة تزاحم الراكب لتحتل مقعدًا من مقاعد المركبة المزدحمة باسمة :وحينما أتت تدافعت ألسنة النيران تزحم الأبواب والمقاعدا وكان صامتًا يجفف الجبين والعرق الناري وابتسامة حزينة ثم انثنت بنظرة أنيقة للسلم الخلفي (خلفت عليه خادمة تضم طفلها وما اشترت من البضائع الثمينة .. ) ويعود بنا مرة ثالثة إلى جوهر وهو : .. ..لم يزل مضطربامددت من حروفي الخضراء نحوه يدا خير لنا أن نقطع الطريق وبرهة تجمدا وعاد من ذهوله ، تدفقت على طريقنا الخطى وهنا فقط نكتشف حقيقة جوهر –والذي لم نكن نعرفه حتى الآن – حيث يكشف للشاعر شخصيته بعد أن أنس إليه : وحينما تصافح القلبنا في حدثينا المرتجل المسلي فاجأني : "إذن فقد عرفتني " . وأبرز الهوية وكان جوهر الصقلي وها فقط –أيضًا – يبدأ الحدثان المتوازيان في الامتزاج والاندماج –شأن المونتاج السينيمائي- القائم على أساس التوازي – حيث يمتزج جوهر ومعه الشاعر بمظاهر الحياة في القاهرة الحديثة ، معلنًا إنكاره لكل ما يراه وغضبه منه ، وينمو بناء القصيدة بعد ذلك من خلال مجموعة من التكنيكات الشعرية البارعة التي تمثل في مجموعها مفارقة فادحة بين ما بنى جوهر القاهرة لأجله وما آل إليه أمرها ، لتنتهي القصيدة بجوهر مقبوضًا عليه : راحلاً ، والقيد في المعصم كاللص ، وفي عينيه أفكار سجينه ربما يلعنه الناس ، وتجري خلفه الصبية في هذه المدينه ربما تحدوه ألفاظ الدعاء المستكينه من عيون خلف ثقب الباب ترنو .. في الجسوم –القوقعه ربما لو زرته أعرض عني .. ربما الحراس ألقوني معه كشريك في الجريمه ربما كنت شريكًا في الجريمه |
(186) السيناريو : والسيناريو السينيمائي هو عملية إعداد القصة لتصبح فيلمًا ، وتحويلها إلى مناظر ، ولقطات ، وتحديد التفاصيل بكل لقطة من ديكورات ، وتوقيت وغير ذلك مما تستلزمه من عملية تحويل القصة من عمل مقروء إلى عمل مشاهد . وكثيرًا ما يلجأ الشاعر المعاصر إلى أسلوب السيناريو السينيمائي في قصيدته الشعرية ، حيث يحولها إلى مجموعة من المشاهد واللقطات أو اللوحات بحيث يمكن تحويلها إلى سيناريو سينيمائي ، بل إن ثمة قصائد حاولت بالفعل أن تستعير حتى الشكل السينيمائي ذاته كما في قصيدة "حلم في أربع لقطات " (160) للشاعر بلند الحيدري ، التي يستخدم فيها حتى المصطلحات السينيمائية ، والقصيدة أشبه ما تكون بسيناريو سينيمائي قصير في أربع لقطات ، وتقدم اللقطة الأولى منها بسمة إنسانية قريرة تنثر البهجة والاخضرار في كل مكان ؛ حيث : __________________ (160):بلند الحيدري : ديوان "أغاني الحارس المتعب". دار العودة .بيروت 1947 |
(187) تفترش الشاشة عينان انفجرت شفتان ابتسمت .. لمعت عدة أسنان ويغور اللون الأخضر في كل مكان أما اللقطة الثانية فتقتدم لنا مصرع هذه البسمة الإنسانية الوادعة القريرة ؛ حيث : رجلان تجوسان الليل بلا صوت الظلمة توحي بالموت .. .. .. .. .. .. .. لا شيء سوى قطرة دم ويغور اللون الأحمر في كل مكان وتكشف لنا اللقطة الثالثة عن حقيقة القاتل والمقتول ، بل عن حقيقة كل أبطال الفيلم وصانعيه : المخرج ، والمنتج ،والمتفرج ، إنهم جميعًا شخص واحد ، أو عدة أشخاص في شخص : هو الإنسان ؛ فالمخرج ، والمنتج ، والمتفرج "أنت .. أنا .. هم " أما القاتل والمقتول فليسا سوى الشاعر نفسه . وتأتي اللقطة الرابعة –وهي تصوير من الخارج كما يسميها الشاعر – لتصور لنا سقوط الفيلم ، وفرار المخرج من الباب الخلفي ، وبصق المتفرج في كف الشاعر –الذي هو المخرج والمتفرج والمنتج – وإصراره على البقاء انتظارًا للدور الثاني . وتنتهي القصيدة و "الصالة خالية إلا من رجل نائم " تعبيرًا عن إصراره على الإبداع مهما صادف من فشل وإحباط . وبعد : فهكذا يلجأ الشاعر المعاصر إلى كل الأساليب والتكتيكات التي يحس أنها قادرة على مساعدته في توصيل رؤيته الشعرية –بكل أبعادها- إلى المتلقي . وهكذا تتعانق في إطار "القصيدة الحديثة" كل الفنون الجميلة ، وتضيق المسافة بين الشعر وبين كل هذه الفنون . وآمل أن يكون هذا الكتاب قد نجح في تحقيق بعض ما استهدفته من كتابته ، وآمل أن يكون الجهد المخلص الذي بذل فيه قد نجح في أن يمد جسرًا من الجسور بين القارئ والقصيدة الحديثة ، أو أن يكون قد نجح في تضييق الهوة الواسعة الممتدة بينهما ، والتي تحتاج إلى كثير من الجهود المتضافرة لإزالتها ، ومساعدة القارئ العربي على ولوج عالم القصيدة الحديثة بنوع من الاطمئنان والثقة ، ومساعدة الشاعر الحديث ذاته –وهذا شديد الأهمية – على ألا يزيد بشطحاته غير الواعية ، وغير المسؤولة ، من عمق هذه الهوة واتساعها . والحمد لله أولاً وأخيرًا |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.