(45) وفي المقطع الأخير تصبح "الشوارع "و"المصابيح"بكل إيحاءاتها السابقة ، وبكل أشباح الموت والانطفاء التي تحف بها مسرحًا حزينًا لمشهد حزين وهو مشهد الشاعر الضائع الوحيد،المتصبب حزنًا ، والذي يشهد مصرع حبه "قطرة ..قكرة" ويخرج من فراديس هذا الحب خاويًا ،عاريًا حتى من ورقة توت. وعلى الرغم من "الشوارع " و"المصابيح" في هذا المقطع الأخير لم تتشكل في أية صورة جديدة ، فإن إيحاءات الصور السابقة التي تشكلت فيها تنعكس عليها ، فنحسّ أن هذه الشوارع وهذه المصابيح التي يتخبط بينها الشاعر وحيدًا يتصبب بالحزن بين قميصه وجلده ليست أبدًا تلك الشوارع و"المصابيح" الواقعية ،وإنما هي الشوارع والمصابيح الأرامل والدموع ، والعنكبوت والفراشات ، والأفاعي ولمعان جلودها المسموم ،إنها ببساطة الشوارع والمصابيح الموت والانطفاء التي توحد بها الشاعر وأصبح الجميع صورًا متعددة لحقيقة واحدة هي الموت .. والانتهاء. هكذا استطاع الشاعر أن يتصرف ببراعة في هذه العناصر المكررة ،حيبث شكل منها في كل مرة شيئًا جديدًا مختلفًا ، وبهذا حقق لونًا من التنوع من خلال الوحدة ، وإن كانت التشكيلات كلها كما رأينا تدور حول محور شعوري واحد ، مما يحقق من جديد نوعًا من الوحدة ، من خلال التنوع ، أو بعبارة أخرى يرد التنوع إلى لون من الوحدة. ولعله اتضح من هذا مدى ثراء الإمكانات الإيحائية لصور التكرار المركب وهي إمكانات غير محدودة سواء في صيغها أو في طاقاتها الإيحائية. إلغاء أدوات الربط اللغوية: عرفنا كيف حرر الرمزيون ومن بعدهم السيرياليونلغتهم الشعرية من الروابط والصلات المنطقية التي تربط الجمل والألفاظ بعضها إلى بعض ، حتى إن بعض القصائد السيريالية النموذجية كانت تتألف من مجموعة من الجمل المتجاورة بدون ترابط ، أو حتى مجموعة من الألفاظ غير المترابطة وقد أسرف السيرياليون في هذا الاتجاه ، حيث كانوا يرون أن الجمل ينبغي أن تتوارد آليًا كما ترد في الذهن ،ودون أي تدخل من الفكر لتنظيمها أوالربط بينها.(43) ______________ (43) انظر :Andre Breton : Manifestes du Surrealisme.Gallimard,Paris 1967.p.37 |
(46) وقد تأثرت بمثل هذا الاتجاه القصيدة العربيةب الحديثة ، فشاع في الكثير من نماذجها توالي الجميل بدون أدوات ربط لغوي تصل ما بينها ، وبخاصة في تلك القصائد التي تتألف الرؤية الشعرية فيها من مجموعة من الأحاسيس والخواطر والهواجس المبعثرة المشتتة ، أوما أشبه ذلك من الرؤى الشعرية التي تلائمها مثل هذه الوسيلة. ومن النماذج الجيدة لاستخدام هذه الوسيلة قصيدة "مائدة الفرح الميت" للشاعر ممحد إبراهيم أبي سنـّة(44) التي تصور انفصام الروابط والوشائج بين حبيبين ، من خلال لقاء بينهما عقب انطفاء جذوة حبهما .يقول الشاعر في مطلع القصيدة : ينبت ظلي في مرآة الحائط ينبت ظلك في مرآة السقف نتواجه ..نجلس نقتسم الصمت ، وأقداح الشاي البارد تفصلنا مائدة الفرح الميت تتتحرك فينا أوراق خريف العام الماضي وهكذا تتوالى الجمبل بدون ترابط ، وبدون أن يستخدم الشاعر أدوات الوصل اللغوية في ربط بعضها ببعض ، فظلت كل جملة منعزلة عن أخواتها مما يناسب الجو النفسي الذي يوشح الأبيات ، فنحن نحسّ منذ الوهلة الأولى أن العزلة والانفصام والفرقة تفرض ظلالها الثقيلة على الموقف برمته ، فقد أصبح كل من الحبيبين بعيدًا عن الآخر ،تفصله عنه عزلة عاطفية وروحية قاسية-رغم المكان الواحد الذي يضمهمها- محتى ظل من منهما ينبت في اتجاه مخالف للاتجداه الذي ينبت فيه ظل الآخر ، فعلى حين ينبت ظله "في مرآة الحائط"ينبت ظلها في مرأة السقف ". إن برودة العزلة تلف الجو كله ، بعد أن خمدت جذوة الحب المتوهجة ، انطفأت حرارة العواطف وتلاشى دفئها ، وقد امتدات برودة الموقف حتى إلى الشاي فأصبح بدورهشايًا باردًا ، والحبيبان لم يعد لديهما ما يقتسمانه سوى "الصمت" وأقداح هذا "الشاي البارد"، ولم يعد يتحرك في داخلها إلا "أوراق خريف العام الماضي". إن كل ما في الموقف يوحي بتصرم الصلات وانبتات الروابط وتقطعها ، ومن ثم جاءت الجمل بدورها تعكس هذ االجو الثقيل ، بعدم ترابطها وانقطاع الصلات اللغوية بينها ، وتساعد – من ناحي أخرى-على الإيحاء بتشتت خواطر الشاعر وهواجسه وعدم ترابطها وتماسكها. هذه هي أهم الإإمكانات اللغوية الخالصة التي يستخدمها الشاعر استخدامًا إيحائيًا تعبيريًا ، والتي كان من الضروري أن نعرض لها في إطار دراستنا لللغة الشعر ، قبل الانتقال إلى دراسة الأدوات والوسائل الشعرية الأخرى التي تمثل اللغة مادتها الأولى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (44) ديوان "أجرس المساء" ص 17 |
(47) الفصل الثالث الصورة الشعرية الصروة الشعرية واحدة من الأدوات الأساسية التي يستتخدمها الشساعر الحديث في بناء قصيدته وتجسيد الأبعاد المختلفة لرؤيته الشعرية ، فبواسطة الصورة يشكل الشاعر أحاسيسه وأفكاره وخواطره في شكل فني محسوس ، وبواسطتها يصور رؤيته الخاصة للوجود وللعلاقات الخفية بين عناصره.وإذا كان الشاعر الحديث –بشكل عام- يستخدم إلى جانب الصورة الشعرية أدوات وتكنيكات شعرية أخرى ، فإن هناك من الاتجاهات الشعرية الحديثة ما يعتمد اعتمادًا أساسيًا على الصورة الشعرية ، كالسيريالية ، حيث "يكفي أن نفتحس كيفما اتفق أية مجموتعة شعرية سيريالية أو قريبة من السيريالية ، لندرك أن الصورة فيها هي المادة الأولى للغة الشعرية(45) "والسمات الخاصة للغة السيريالة تنجم مباشرة عن وظيلفة الصور ، فكل نص سيريالي يبدو كما لو كان سلسلة من الصور." (46 ). (45)Robert Brechon. Le SURREALISME. P.1661- الصورة في موروثنا الشعري والنقدي: إن الصورة الشعرية ليست اختراعًا شعريًا حديثًا ، وإنما هي أداة من الأدوالات الشعرية التي استخدمها الشاعر منذ أقدم عصور الشعر .وشعرنا العربي القديم حافل بالصور الشعرية البارعة التي استخدمها الشعراء في تجسيد أ؛اسئيسهم ومشاعرهم ، والتعبير عن رؤيتهم الخاصة للوجود ، وإن كان طبيعيًا أن تختلف الصورة في القصيدة القديم ةفي مفهومها ، وغايتها الفنية ،وطريقة تكشيلها ، وطبيع العلاقات بين عناصرها ، عمن الصورة في القصيدة الحديثة ، نتيجة لاختلاف طبيعة الخيال ،ولاختلاف مفهوم الشعر بشكل عم بينهما .حيث كانت العلاقات بين عناصر الصورة القديمة على قدر من الوضوح وقرب المتناول . ____________ (46)Ibid . p.175 |
(48) ولعل علاقة المشابهة كانت هي اأكثر العلاقات بين عناصر الصورة شيوعًا في القصيدة العربية الموروثة ، ومن ثم فإن معظم جهود النقاد والبلاغيين العرب في دراسة الصورة الشعرية – وهو مصطلح لم يستخدم بمفهومه الحديث في البلاغة والنقد العربي القديم- دارت حول هذه الصورة التي تقوم على فكرة المشابهة ، حيث انصبت معظم جهودهم على دراسة "التشبيه" و"الاستعارة" –التي هي من وجهة نظر البلاغة العربية والنقد العربي القديم تشبيه حذف أحد طرفيه – وإن كانوا لم يغفلوا أنواعًا أخرى من الصور الفنية التي تقوم على علاقات أخرى بين عناصرها وأطرافها غير المشابهة ، ولكن اهتمامه بمثل هذه هذه الصور يكاد يجئ على هامش اهتمامهم الشديد بالتشبيه والاستعارة . بل إن اهتمامهم الشدبد هذا بعلاقة المشابهة قد قادهم إلى إدخال نوع من الصور الفنية التي تقوم على أساس تشخيص المجردات في صورة كائنات حية في إطار الصور التي تقوم على أساس علاقة التشابه ،حيث اعتبروها نوعًا من أنواع الاستعارة أطلقوا عليه اسم "الاستعارة المكنية" ومضوا من ثم يبحثون عن التشابه بين عناصر هذه الصوة. حيث لا تشابه في الواقع ،لأن "الاستعارة المكنية" عندهم أصلها تشبيه حذف منه المشبه به وكنى عنه بلازم من لوازمه أضيف إلى المشبه ، وكانوا بهذا الصنيع يخنقون ما في مثل هذه الصور من طاقات تعبيرية ، ويطفئون إشعاعاتها الإيحائية النافذة بحثًا عن علاقة حسية لا وجود لها ، فحين يقول امرؤ القيس مثلاً مصورًا إحساسه بطول الليل وامتداده وثقله: فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازًا وناء بكلكل يقول البلاغيون في تحليلهم لمثل هذه الصورة البارعة إنه شبه الليل بجمل أو نحوه ، ثم حذف المشبه به ، وهو الجمل وأثبت بعض لوازمه –وهو الصلبوالأعجاز والكلكل- لمشبه ، وهو الليل على سبيل االستعارة المكنية.(47) ـــــــــــــــــــــــــــ (47)انظر: د. علي عشري زايد :البلاغة العربية تاريخها.مصادرها .مناهجها .مكتبة الشباب .القاهرة 1977 ص84،85 |
(49) ولا شك أنه ليس ثمة تشابه بين الليل والجمل بل ليس في الصورة جمل أو أي حيوان مادي آخر من الأساس ، وإنما هناك ذلك الحيوان الكابوسي الغريب الثقيل الوطأة الذي هو الليل ، وهو حيوان لا وجود له إلا في خيال امرئ القيس ووعيه ، وهو حيوان شديد البطء ، جاثم على وجدان الشاعر لا يكاد يريم . وقد تأنق امرؤق القيس في تصوير بطئه وثقله ،فاستخدم أولاً ألفاظًا ومفردات تشع بإيحاءات البطء والثقل والتراخي ـ ثم اهتم برصد أدق التفاصيل للحركة البطيئة لهذا الحيوان الغريب الجاثم على أعماقه بكل ثقله ، فلم يكتف بالقول بأن هذا الحيوان قد جثم ، أو برك ، أو أناخ ،أو تمدد ، وإنما راح يتتبع في دأب كل تفاصيل هذه الحركة وجزئياتها ؛التمطي بالصلب ، ثم إرداف الأعجاز ، ثم السقوط بالكلكل ، مما يوحي بالامتداد والثقل والبطء الشديد ، ويعكس مدى المعاناة والضيق اللذين يكابدهما الشاعر من طول هذا الليل ، فصنيعه هنا أشبه ما يكون بعملية التصوير البطئ في السينما ، التي تعنى بإبراز التفصيلات الدقيقة للحركة ، وتعطي إحساسًا بالبطء والامتداد. لم يهتم البلاغيون والنقاد العرب بكل هذه الإيحاءات ، وجمدوا مثل هذه الصورة الحية في ذلك القالب الجامد الذي سموه "الاستعارة المكنية" على أننا لم نعدم ان نجد ناقدًا وبلاغيًا واسع الأفق مرهف الحس كعبد القاهر الجرجاني لا يرتاج بالاً إلى نشدان التشابه في مثل هذه الصور التشخيصية ، ولا يميل إلى اعتارها تشبيهات حذف منه المشبه به وأضيفت بعض لوازمه للمشبه . فلقد عرض عبد القاهره لهذه الصورة في أكثر من موضع في كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" معبرًا عن عدم اطمئنانه إلى ما يذهب إليه البلاغيون في تحليلهم لها ، بل إنه اقترب كثيرًا من إدراك طبيعة التشخيص الفني للمجردات فيها ، وتجسيد هذه المجردات في صور مادية . |
(50) ففي تحليله لبيت تأبط شرًا الذي أورده أبو تمام في الحماسة : إذا هزه في عظم قرن تهللت نواجذ أغواه المنايا الضواحكِ يقول:"أنت الآن لا تستيطع أنه تزعم في بيت ال حماسة أن استعار لفظة النواجذ ولاغظ الأفواه لأن ذلك يوجب المحال، وهو أن يكون في المنايا شيء قد شبّه بالنواجذ ، وشيء قد شبه بالأفواه ، فليس إلا أن تقول إنه لما ادعى أن المنايا تسر وتستبشر إذا هو هز السيف ، وجعلها لسرورها بذلك تضحك ، أراد أن يبالغ في الأمر فجعلها في صورة من يضحك حتى تبدو نواجذه من شدة السرور"(48) إنه ببساطة يكاد يقول إنه لا سبيل إلى تحليل هذه الصورة وتذوقها إلا أن تقول أن الشاعر قد جسد المنايا وشخصها في صورة كائن حي ، بل إنه قال بالفعل شيئاكهذا في مكان آخر ، وذلك حين تحدث عن الوظائف الفنية للاستعارة في كتابه"أسرار البلاغة" حيث قال :"إنك لترى بها الجماد ناطقًا ، والأعجم فصيحًا ، والأجسام الخرس مبينة ، والمعاني الخفية بادية جلية ..إن شئت أرتك المعاني اللظيفة التي هي من خبايا العقل ، كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون ، وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها الظنون.(49) لكن نقادنا وبلاغيينا القدماء لم يكونواى كلهم في مثل رهافة حس عبد القاهر الجرجاني ووعيه الفني الناضج ، ومن ثم ظلوا منجذبين إلى علاقة المشابهة افي الصور الشعرية وبخاصة المشابهة الحسية الواضحة التي يسهل على الحواس التقاطها ، بل إن عبد القاهر نفسه – مع موقفه البارع من قضية الاستعارة المكنية – لم ينج من الانسياق في تيار الإعجاب بالصور التشبيهية التي تقوم على مشابهات حسية تدركها الحواس بسهولة ، ولعل هذا الاهتمام الشديد من نقادنا وبلاغيينا بمثل هذه الصور كان من بين العوامل التي ساعدت على شيوعها في موروثنا الشعري . (48) عبد القاهر الجرجاني :دلائل الإعجاز.ص 314 (49) عبد القاهر الجرجاني:أسرار البلاغة ،تصحيح الشيخين محمد عبده ومجمد الشنقيطي.دار المنار .الطبعة الثانية .ص33 ولمزيد من التفاصيل حول هذه القضية يراجع كتاب "البلاغة العربية"ص200-203 |
(51) 2- الصورة في القصيدة الحديثة والنقد الحديث : لم تعد المشابهة بين أطراف الصورة وعناصرها – وبخاصة المشابهة الحسية – هي العلاقة الأساسية بين هذه الأطراف والعناصر في القصيدة العربية الحديثة ، وفي الشعر الحديث بوجه عام ، فالصونرةر في هذا الشعر "إبداع خالص للروح ، وهي لا يمكن أن تتولد من التشابه ، وإنما من التقريب بين حقيقتين متاعدتين كثيرًا أو قليلاً ، وكلما كانت الصلات بين الحقيقتين اللتين يقرب بينهنما الشاعر بعيدة ودقيقة كانت الصورة أقوى ، وأقدر على الـتأثير ،وأغنى بالحقيقة الشعرية.(50) ومن ثم فإننا نجد أطراف الصورة في القصيدة ا لحديثة على قدر واضح من التباعد ، والشاعر هو الذي يثرب بينهنا ، لأنه يكتشف العلاقات بينها بروحه وخياله وليس بحواسه، ومن ثم فإنه يهتدي –بوحي من الروح والخيال –إلى هذه العلاقات الأكثر خفاء وعمقًا ، فحين نقرأ قول الشاعر إبراهيم ناجي من قصيدته "العودة"(51) متحدثًا عن بيت أجبائه المهجور: موطن الحسن ثوى فيه السأم وسرت أنفاسه في جوهن وأناخ الليل فيه وجثم وجرت أشباحه في بهوه والبلى أبصرته رأي العيان ويداه تنسجان العنكبوت قلت يا ويحك تبدو في مكان كل شيء فيه حي لا يموت كل شيء من سرور وحزن والليالي من بهيج وشجِ وأنا أسمع أقدام الزمن وخطا الوحشة فوق الدرجِ ــــــــــــــــــــــــــــ (50) الكلمات للشاعر ببير ريفردي . انظر : A.Bertoon; Manifestes du surrealism.p.31 (51) إبراهيم ناجي ، وراء الغمام ، طبعة دار العودة.بيروت 1973 ص20 |
(53) نجد مجموعة من الصور التي تتباعد أطرافها وعناصرها في الحسن إلى أقصى مدى ممكن من التباعد، ولكن الشاعر استطاع أن يقرب بينها وأن يكتشف علاقاتها الكامنة التي تتجاوز الحواس ، فيجمع بين "السأم" مثلاً –وهو معنى حسي مجرد- وبين حركة الثواء والإقامة المحسوسة الملموسة ،ثم بينه وبين "الأنفاس"- التي هي من خواص الكائنات الحية-وعن طريق هذا التقريب يشخص هذا السأم في صورة كائن حي يكاد يلمسه القارئ بحواسه ، ويفعل نحو ذلك بالليل الذي هو بدورنه معنى تجريدي- فيقرت بينه وبين حركة الجثوم- التي هي أيضًا من خواص الكائنات الحية-فيجسده ويجعل له أشباحًا تجري في أبهاء الصورة المهجورة ، وهكذا يمضي الشاعر على هذا النحو يجسد كل المعاني والمشاعر والخواطر المجردة التي يحسها في صورة حية مشخصة ، مما يعطي إحساسًا عميقًا لدى المتلقي بمدى قوة إحساس الشاعر بهذه المشاعر والأحاسيس حتى ليكاد يلمسها بيديه ، ويحس بأنفاسها تلفح في وجهه ، وهكذا يصبح البيت المهجور بفضل هذا التشخيص مسرحًا عجيبًا تجوس في أنحائه كل معاني الوحشة والخراب ،فالسأم ثاوٍ فيه يتردد صوت أنفاسه في أجوائه ،والليل منيخ جاثم –بكل ما يوحي به الفعلان من "أناخ" و"جثم" من رسوخ ثقيل –وأشباحه تعبث طليقة في الأبهاء،والبلى ذاته يتجسد حقيقة شاخصة أليمة ، بحيث نكاد نراه بأعيننا مع الشاعر ويداه تنسجان الخيوط العنكبوتية المقبضة ،والزمن أيضًا نكاد نسمع مع الشاعر وقع أقدامه الثقيلة في الممرات والوحشة خطاها الثقيلة تدب فوق السلم. لقد استطاع الشاعر بهذا التجسيد البارع لهذه المعاني والأحاسيس التجريدية أن يجعلها شاخصة أمام الأبصار ،وأن يقوي في الوقت ذاته من فداحة الإحساس بالمفارقة الأليمة بين هذه الحال الكئيبة التي وصل إليها البيت وبين ما كان عليه قديمًا يوم كان عامرًا بالأحباء ويوم كانت أضواؤه تستقبل الشاعر محتفة باشة وتضحك له من بعيد. |
(54) واضح أن هذه الصور في مجملها لا تقوم على التشابه بين طرفيها –أو أطرافها – وحتى ما قام منها على أساس هذه العقلاقات فإن الصلات بين طرفيها لا تقف عند مجرد التشابه الحسي الملموس ، وإنما تتجاوزه إلى العلاقات الدقيقة العميقة المتمثلة في تشابه الوقع النفسي والشعوري للطرفين المتشابهين. ومن ثم فإن الصور التي تكتفي برصد التشابه الحسي بينأطرافها وتسجيله ليس لها كبير اعتابر في ضوء المفهوم الحديث للصورة الشعرية ووظيفتها ، فوظيفة الصورة في إطار هذا المفهوم هي تجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية التي يريد الشاعر أنيعبر عنها . ومن ثم فإن هذه الصور الحسية الخالصة التي شاعت في شعر بعض شعرائنا أمثل عبد الله بن المعتز وسواه ليس لها كبير وزن في ضوء المقاييس الحديثة لتقويم الصورة الشعرية .فحين يقول ابن المعتز مثلاً : كأن عيون النرجس الغض حولها مداهن دار حشوهن عقيق أو يقول : وأرى الثريا في السماء كأنها قدم تبدت من ثياب حدادِ أو حين يقول الصنوبري : كأن في غدرانها حواجبا ظللت تُمطّ (52) فإننا نجد الشاعر يوجه كل همه إلى رصد الصلات الحسية الملموسة بين عناصر الصورة وتسجيلها أو بعبارةر أخرى يوجهه إلى البحث لأحد طرفي الصورة –وهو المشبه – عن طرف آخر مماثل له في الصورة أو الشكل أو اللون ،بصرف النظر عن مدى مماثلته له في الواقع النفسي والشعوري . ------------------------ (52)الأمثلة من كتاب "أسرار البلاغة" لعبد القاهر الجرجاني 75،158 وفي الكتاب أمثلة كثيرة لهذا اللون من الصور |
(55) وبصرف النظر عما إذا كان ضم كل من الطرفين إلى الآخر يعبر عن حقيقة نفسية أو فكرية ذات شأن أو لا يعبر ،؛ففي الصورة الأولى مثلاً يبحثب الشاعر لزهرة النرجس النضيرة عن شبيه فلا يجد سوى مداهن الدر المحشوة بالعقيق ، فلا نحسّ أن ثمة رابطًا بين الطرفي نسوى الشكل واللون ، أي أن الصورة ببساطة لا تخاطب أبعد من حواسنا ، وأنها لا تحمل من الرصيد الشعوري والنفسي قدر ما تحمل من التشابه الحسي ، فإذا تركنا الصورة الأولى إلى الثانية وجدنا الخطب فيها أفدح حيث قادت الشاعر نزعته إلى البحث عن التشابه الحسي إلى هذه الصورة التي تنم عن ذوق سقيم ، والتي جمع فيها بين أكثر الأشياء تنافرًا وتباعدًا من ناحية الوقع النفسي لمجرد تشابهها في الشكل أو في اللون والشكل –وليس ثمة ما يجمع السماء المظلمة والثياب السوداء سوى اللون الأسود ، وكذلك ليس ثمة ما يجمع بين الثريا المتلألئة والقدم سوى الشكل واللون الأبيض. والأمر في الصورة الثالثة ليس أقل سقمًا .فالجمع بين التموجات المقوسة التي تحدثها الريح على وجه مياه الغدران من ناحية ، والحواجب التي تمتد وتمط من ناحية أخرى لمجرد تشابههما في الشكل قد أنتج هذه الصورة المضحكة الغريبة. في هذه الصور الثلاث لا نحس أن وراء التشابه الحسي بين أطرافها أي رصيد شعوري أو نفسي ، وهو ما ينبغي أن يكون غاية كل صورة شعرية. |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.