(35) القيمة الإيحائية للألفاظ : تمتلك الألفاظ المردة –ومن قبل أن توضع في بناء لغوي- طاقات إيحائية خاصة ، يمكن إذا ما فطن إليها الشاعر ونجح في اتسغلالها أن تقوى من إيحاء الوسائل والأدوات الشعرية الأخرى ،وتقريه ، وقد استطاع الشاعر العربي القديم بوحي من إدراكه الفطري العميق لطبيعة لغته وأسصرارها وبحاسته السعرية المرهفة أن يقع على الألفاظ الأكثر ملاءمة لطبيعة رؤيته الشعرية فحين يريد شاعر كامئ القيس أن يصور إأحساسه بثل الليل وبطء مروره ، فلإنه يختا من الألفاظ ما يشع بإيحاءات الثقل والبطء والجثوم ، ويعمق من إيحاء تلك الصورة البارعة التي جسد بها الليل في ذل كالبيت الرائع : قلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازًا وناء بكلكل فكلمات "تمطى" و"صلبه" و"أردف"و"أعجاز" و"ناء"و"كلكل" توحي كلها بمعاني البطء والثقل والامتداد ،الممتزجة لإيحاءات الجمود والصلابة ،فكلمة "تمطى" توحي بالامتداد والبطء الشديد ، لتأتي من بعدها كلمة "صلب"لتوحي بالجمود والصلابة ، ولهذا آثرها الشاعر على كلمة "ظهر"لأن في الأولى من إيحاءات الصلابة واىلجمود ما ليس في الثانية ، ثم تأتي من بعد ذلك كلمة "أردف"بما توحيه من دلالات التتابع والاستمرار لتقوي من إيحاء اللكمتين السابقتين بالبطء والثقل ، ويدعم هذا الإيحاء باستعمال كلمة "أعجاز" بصيغة الجمع تأكيدًا لنفس الإيحاءات السابقة ،ويأتي بع ذكل الفعل "ناء"بما يوجيه من معنى السقوط الثقيل اباهظ ، ليختم البيت بهذه الكلمة الثقيلة بأصوواتها ودلالتها "كلكل"التي آثرها بدورها على كلمة صدر ونجوها لأن فيها من إيحاءات الثقل والشدة ما ليس في أية كلمة أخرى تؤدي نفس المعنى .هكذا استطاع امرؤي القيس أن يدرك –بفطرته اللغوية- والشعرية المرهفة- هذه الإأيحاءات التي تمتلكها هذه الألفاظ واستغلها استغلالاً موفقًا في التعبير عن الإحساس بطول الليل وامتداده وثقله، وقد استطاع أن يحقق نوعًا من التفاعل النامي بين إيحاء هذه الكلمات في إطار تلك الصورة الفنية البارعة التي جسد بها الليل في صورة ذلك الحيوان الكابوسي الغريب الثقيل ،بحيث أخذت كل لفظة من إيحاء الأخريات وأعطتها من إيحائها . |
(36) وإذا كان امرؤ القيس وسواه من شعرائنا القدامى قد اهتدوا إلى القيمة الإيحائية للألفاظ بوحي من فطرتهم الشعرية المرهفة وسليقتهم اللغوية الخالصة كما اهتدوا إلى بعض الطاقات الإيحائية للأصوات بنفس الوسيلة ،فإن بعض الاتجاهات الشعرية الحديثة أولت هذا الجانب اهتمامًا خاصًا ، كما فعل الرمزيون والسيرياليون ،فقد كان الرمزيون "يتأنقون في اختيار الألفاظ المشعة المصورة بحيث توحكي اللفظة في موقعها وقرائنها بأجواء نفسية رحيبة تعبر عما يقصر التعبير عنه ،وتفيد ما لا تفيد في أصلها الوضعي النفعي ".(33) بل إن بعضهم بالغ في الاعتماد على الطاقات الخاصة للكلمات إلى حد الذهاب إلى تجريد السياق اللغوي من العلاقات التركيبية اللغوية المنطقية ،وترتيب الكلمات ولق منطق ذاتي شعوري خاص.(34) .وقد بلغ هذا الاتجاه مداه لدى السرياليين بحيثب أصبح من الممكن عندهم أن تتألف القصيدة من مجموعة من الكلمات المفردة .وأن يتكئ الشاعر على الطاقات الإيحائية في هذه الكلمات للإيحاء بتلك المشاعر والأحاسيس المبهمة التي تتداعى في حرية.(35) وفي شعرنا العربي الحديث تأثر كثير من الشعراء بمثل هذه الاتجاهات في الشعر العاملي ،ومن الشعراء الذين تأثروا بها تأثرًا كبيرًا شعراء الرومانسية العربية أمثال أبي القاسم الشابي ،وعلي محمود طه،وسواهما من الشعراء الذين تأثروا –إلى جانب نزعتهم الرومانسية البارزة-بكثير من القيم الجمالية والفنية التي أرساها الشعراء الرمزيون ،فضلاً عن الشعراء الرمزيين العرب كبشر فارس وأديب مظهر ،وسعيد عقيل وصلاح لبكى وسواهم من شعراء الرمزية العرب . ____________________ (33) د.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث:ص427 (34)انظر:د.محمد فتوح أحمد :الرمز والرمزية في الشعر المعاصر .صفحات84،124-126. (35) انظر :R. Brechon : Le Surrelisme |
(37) ومن النماذج البارزة لاستغلال القيمة الإيحائية للكلمات قصيدة أبي القاسم الشابي المشهورة"صلوات في هيكل الحب" (36) التي يعتمد فيها اعتمادًا يكاد يكون أساسيًا على إيحاءات الألفاظ وإشعاعاتها النفسية الرحيبة ،يقول أبو القاسم الشابي في هذه القصيدة : عذبة انت كالطفولة ، كالأحلام ، كاللحن ،كالصباح الجديد كالسماء الضحوك ، كالليلة الحمراء،كالورد ، كابتسام الوليد فيك شب الشباب وشحه السحر ،وشدو الهوى ، وعطر الورود وتراءى الجمال يرقص رقصًا قدسيًا على أغاني الوجود وتهادت في أفق روحك أوزن الأغاني ورقة التغريد فتمايلت في الوجود كلحن عبقري الخيال ، حلو النشيد خطوات سكرانة بالأناشيد ، وصوت كرجع ناي بعيد فأبرز ما يجذب نظر القارئ وسمعه من هذه الأبيات –وهي نموذج لصنيع الشابي في قصيدته كلها –تلك الألفاظ المشعة الموحية التي تأنق الشاعر في اختيارها، بحيبث تشيع جوًا من الإحساس الرحيب بالجمال والطهر والنقاء والبراءة،تلك الأحاسيس التي ولع الشابي بإشاعتها في شعره ، وقد كثرت هذه الألفاظ في الأبيات إلى درجة التراكم ؛ففي بيتي المطلع وحدهما –علىل سبيل المثال –تتجمع كل هذه الألفاظ "العذوبة" "الطفولة" "الأحلام " "اللحن" "الصباح الجديد" "السماي الضحوك" "الليلة القمراء" "الورود" "ابتسام الوليد" وكلها تتوارد علىل الإحساس بالجمال البرئ الوديع الغض الذي لا تكاد تحده حدود مادية ملموسة ،إلى الحد الذي يمكن معه القول بان الشابي يتحدث عن محبوبة خيالية مجردة أكثر مما يتحدث عن إنسانة حية من لحم ودم. ــــــــــــــــــــ (36) أبو القاسم الشابي ،أغاني الحياة.دار الكتب الشرقية.القاهرة 1955.ص121 |
(38) وقد قامت الألفاظ بطاقتها الإيحائية الخاصة – في البيتين وفي القصيدة كلها بالدرو الأول في الإيحاء بهذه الأجواء الرحيبة من الشفافية ،والجمال الناصع ، أما بقية الأدوات فإن دورها يكادء يتوارى وراء إيحاءات الألفاظ ووقعها النفسي ؛ فوسيلة التصوير الأولى في القصيدة هي التشبيه ، التشبيه البسيط الواضح الأركان والعناصر ،بالإضافة إلى بعض الصور الشعرية القائمة على استعارات لا تتجاوز كثيرًا-من حيث بساطة تكوينها –تشبيهات الشاعر في القصيدة من مثل رقص الجمال ، وتهادي أوزان الأغاني في أفق روح المحبوبة ، والحقيقة أن معجم الشابي الشعري غني بمثل هذه الألفاظ ذات الإشعاعات الخاصة. أسلوب الحذف والإضمار : إن الإيحاء الذي يهدف إليه بناء القصيدة الحديثة يتطلب من الشاعر ألا يصرح بكل شيء ، بل إنه يلجأ أحيانًا إلى إسقاط بعض عناصر البناء اللغوي مما يثري الإيحاء ويقويه من ناحية وينشط خيال المتلقي من ناحية أخرى لتأويل هذه الجوانب المضمرة ، وبهذا يحقق الحذف والإضمار هذا الهدف المزدوج. ولقد كان الحذف والإضمار من الوسائل الإيحائية التي اهتم بها شعرنا العربي القديم ونقدنا العربي على السواء ،ووصل نقادنا إلى آراء ذات شأن في هذا المجال ،وفطنوا إلى قيمته الإيحائية ،وكيف أنه كثيرًا ما يكون أبلغ من الذكر والإفصاح ، حتى قال عنه الناقد والبلاغي الكبير عبد القاهر الجرجاني إنه "باب دقيق المسلك ،لطيف المأخذ ،عجيب الأمر،شبيه بالسحر ،فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر ،والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ،وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تبن" .(37)وقد له فصلاً طويلاً في كتابه "دلائل الإعجاز". ____________________ (37) عبد القاهر الجرجاني :دلائل الإعجاز. تحقيق الشيخ محمد عبده والشيخ محمد الشنقيطي.طبعة المنار،القاهرة ص105،107 |
(39) أما شعرنا العربي القديم ، فقد عرف نماذج جيدة من توظيف أسلوب الحذف والإضمار توظيفًا إيحائيًا موفقًا من مثل قل النابغة في رثاء حصن بن حذيفة.(38) يقولون حصن .. ثم تأبى نفوسهم وكيف بحصن والجبال جنوح ولم تنفض الموتى القبور ولم تزل نجوم السماء والأديم صحيح! فعما قليل،ثم جاء نعيــــــــــــــــه فظل ندى القوم وهو ينــــوح فقد استغل الشاعر أسلوب الحذف استغلالاً بارعًا في البيت الأول ،حيث يثير هذا الحذف من المشاعر والأحاسيس العميقة ما لم يكن ذكر الخبر المحذوف ليثير شيئًا منه ،فالحذف يوحي باستفظاع الناعي لهذا الخبر الفاجع الذي يحمله ، ومن ثم فإنه ينكص عن الإفضاء به ،بل إن الأمر يتجاوز النكوص إلى التشكيك في أن ما حدث قد حدث أو يمكن أن يحجث ، وكيف يكون حصن قد مات وما زال الوجود كما هو لم تتغير معالمه ؟ فالجبال لا تزال ماثلةل والموتى لا ينزالون في قبورهنم لم يُبعثوا ،ونجوم السماء وأديم الأرض ..كل شيء باق على حاله ، وهكذا تتضاعف الإيحاءات وتنمو بسبب حذف خبر المبتدأ "حصن".. وأمثلة الحذف في شعرنا القديم غير قليلة. وكان طبيعيًا في الشعر الحديث ،وبعد أن أصبح لأسلوب الحذف والإضمار فلسفته الجمالية ، وغاياته الفنية في الاتجاهات الشعرية والنقدية الحديثة ،أن يحتل أسلوب الحذف والإضمار دوره البارز بين أدوات الإيحاء الشعرية في القصيدة العربية الحديثة ، بحيث لا تكاد قصيدة حديثة تخلو من استخدام هذا الأسلوب على نحو أو آخر .فحين يقول شاعر كمحمد إبراهيم أبو سنة في قصيدته أغنية حب(39) : __________________ (38) المبرد (محمد بن يزيد) : الكامل في اللغة والأدب .تعليق محمد أبو الفضل إبراهيم .مكتبة نهضة مصر 3\129 (39) محمد إبراهيم أبو سنة : ديوان"أجراس السماء"الهيئة العامة المصرية للكتاب1975.ص4. |
(40) فحين يقول شاعر كمحمد إبراهيم أبو سنة في قصيدته أغنية حب: أفيقي ، فما زال يمكن ألا تكوني وسامًا وقبرًا وما زال يمكن أن يتوقف هذا النزيف ويبقى جمالك عصرًا ..وعصرًا وما زال يمكن ..ما زال يمكن .. ما زال يمكن.. ما .. أفيقي أحبك التي يخاطب يها مصر التي أحبها وتغذى بحبها مع لبن أمه ، وورث هذا الحب عن أبيه وجده ، وظل يعشقها رغم استكانتها أمام استباحة الطغاة والطامعين ، ورغم سخريات الآخرين منه ومن حبه لها ، إنه ما زال يؤمن بأنها قادرة على استرداد كل ما فقدته من نصاعتها وجلالها وألقها ، وبأن أمامها إمكانات غير متناهية لوقف هذا النزيف الأليم ، وللاحتفاظ ببهائها إلى الأبد. ويحس الشاعر بأن الألفاظ قاصرة عن الإحاطة بما يمكن لمصر أن تكونه ، فيلجأ إلى أسلوب الحذف والإضمار ،حيث يحذف فاعل الفعل "يمكن" بعد أن صرح به مرتين من قبل ، إيحاء بلا محدودية الإمكانات المتاحة أمام المحبوبة صر ، وأن ما يمكن أن تكونه لا يستطيع أن يحيط به تحديد. ولا يكتفي بالحذف في عبارة واحدة ، وإنما يكرر العبارة ،"وما زال يمكن.." أكثر من مرة ليضاعف من الإيحاء بكثرة الإمكانات وعدم تناهيها ، وفي المرة الأخيرة لا يبقي من العبارة إلا عىل كلمة "ما" ويحذف ما عداها ، وهنا تزداد القيمة الإيحائية للحذف ، فتتضاعف إيحاءاته ولا ندري إذا ما كان هذا الحذف استمرارًا لنفس الاتجاه في الإيحاء بعدم التناهي ما يمكن لمصر أن تكونه، أم هو تعبير عن يأس الشاعر من تحقيق هذه الإمكانات ، أم هو إحساس منه بأنه انساق وراء الأماني والأحلام أكثر مما ينبغي ، ومن ثم فإنه يبتر هذا الانسياق بهذا الأمر الصارم "أفيقي".. ليختم القصيدة عقب ذلك بهذا القرار الحاسم "أحبك".. فمهما أحاط الشك والغموض بأشياء كثيرة في رؤيا الشاعر فإن هناك يقينًا واحدًا واضحًا فوق أي شك وهو حبه لمصر ، ولذلك فإنه يعبر عن هذا الحب بهذه الصيغة التقريرية الحاسمة "أحبك". |
(41) لقد قام الحذف في هذا الجزء من القصيدة بدور إيحائي بارع ، بل لعله كان أهم عناصر الإيحاء التي استخدمها الشاعر هنا.ولعل في هذا القدر ما يوضح لنا القيمة الإيحائية لأسلوب الحذف والإضمار في القصيدة الحديثة. التكرار: التكرار من الوسائل اللغوية التي يمكن أن تؤدي في القصيدة العربية دورًا تعبيريًا واضحًا ، فتكرار لفظة ما ،أو عتبارة ما ، يوحي بشكل أولي بسيطرة هذا العنصر المكرر وإلحاحه على فكر الشاعر أو شعورة أو لا شعوره ، ومن ثم فهو لا يفتأ ينبثق في أفق رؤياه من لحظة لأخرى ، وقد عرفت القصدية العربية منذ أقدم عصورها هذه الوسيلة الإيحائية ؛فحين يقول شاعر كالصمة بن عبد الله القشيري.(40) ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة إليّ فهلا نفس ليلى شفيعها؟ أأكرم من ليل عليّ..فتبتغي به الجاه؟ أم كنت امراً لا أطعيها ؟ نحسّ بمدى سيطرة ليلى على وجدانه وفكره حتى ليكرر اسمها ثلاث مرات في البيتين لأنه يشعر بمتعة خاصة في ذكر هذا الاسم وتكراره ، وقد ساهم التكرار هنا مساهمة أساسية في التعبير عن ذلك العتاب الودود الذي يسروقه الشاعر إلى ليلى ، ليلى التي تتشفع إليه بسواها وهي أقرب الشفعاء إلى قلبه وأقواهم تأثيرًا على نفسه،وحتى اسمها هو أعذب الأسماء وأخفها على لسانه وسمعه ومن ثم فهو لا يسأم تكراره ، وقد تآزر هذا التكرار مع ذلك التساؤل العاتب في "أاكرم من ليلى عليّ؟" و"أم كنت امرأ لا أطيعها؟" على الإيحاءات بذلك العتاب الودود . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (40) انظر المرزوقي (أبو علي أحمد بن محمد):شرح ديوان الحماسة.نشر الأستاذين أحمد أمين وعبد السلام هارون.لجنة التأليف والترجمة والنشر.القاهرة 1952 القسم الثالث ص122. والبيتان في الكتاب بدون نسبة ، وقد نسبهما المحققان إلى الصمة أو ابن الدمينة |
(42) ويقوم التكرار في القصيدة العربية الحديثة بوظيفة إيحائية بارزة، وتتعدد أشكاله وصوره بتعدد الهدف الإيحائي الذين ينوطه الشاعر به، وتتراوح هذه الأشكال ما بين التكرار البسيط الذي لا يتجاوز تكرار لفظة معينة أو عبارة معينة بدون تغيير ، وبين أشكال أخرى أكثر تركيبًا وتعقيدًا يتصرف فيها الشاعر في العنصر المكرر بحيبث تغعدو أقوى إيحاء . وصور التكرار البسيط في القصيدة الحديثة كثيرة ، ومن نماذجها قول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في قصيدته "غريب على الخليج"(41) التي يعبر فيها عن حنينه الغلاب إلى العراق عندما اطضر إلى تركه إلى دول الخليج بحثًا عن لقمة العيش : أعلى من العباب يهدر صوته ن ومن الضجيج صوت تفجر في قرارة نفسي الكثلى :عراق كالمد يصعد ، كالسحابة ،كالدموع إلى العيون الريح تصرخ بي :عراق والموج يعول بي : عارق ، عراق ،ليس سوى عراق فتكرار كلمة "عراق" في الأبيات يوحي بمدى سيطرة العراق على رؤيا الشاعر وعلى مشاعره ،إنه يملأ ألفق هذه الرؤيا ،ويواجهه أينما اتجه ، وهو صوت يعلو على كل الأصوات بحييث لم يعد يسمع سواه أو يرى سواه والتكرار هنا هو الوسيلة الأساسية في الإيحاء بمدى ارتباط الشاعر بالعرابق وحنينه إليه وكل الأدوات الأخرى تأتي على هامشه. أما الأشكال الأكثر تعقيدًا من التكرار فهي التي تجلى فيها براعة الشاعر وعبقريته.وقد يكتفي الشاعر في تركيب التكرار بالمزج بينه وبين الوسائل اللغوية الإيحائية الأخرى بحيث تندمج أداتان أو أكثر تتآزران على تقوية الإيحاء المطلوب كما فعل الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة في النموذج السابق الذي مزج فيه بين التكرار وأسولب الحذف والإضمار على نحو تآزرت فيه الأداتان على الإيحاء بلا محدودية ما يمكن أن تكون مصر وأن تحققه . ______________________ (41)ديوان "أنشودة المطر " ص 11 |
(43) وقد يتصرف الشاعر في طريقة التكرار ذاتها بالتدخل في العنصر المكرر والتصرف في صياغته بحيبث لا يأتي بصورة واحدة في كل مرة ، ومن النماذج البارعة لهذه الصورة من صور التكرار المركب "الإصحاح العاشر " من قصيدة "سفر ألف دال" للشاعر أمل دنقل (42) الشوارع في آخر الليل ، آه، أرامل متشحات ينهنهن في عتبات القبور البيوت قطرة .. قطرة تساقط أدمعهن مصابيح ذابلة ،تتشبث في وجنة الليل ، ثم تموت *** الشوارع في آخر الليل ، آه ، خيوط من العنكبوت والمصابيح تلك الفراشات عالقة في مخالبها ، تتلوى ..فتعصرها ، ثم تنحّ شيئًا فشيئًا ، فتمتص من دمها قطرة ..قطرة ، فالمصابيح قوت *** الشوارع في آخر الليل ،آه ، أفاع تنام على راحة القمر الأدبي الصموت لمعان الجلود المفضضة المستطيلة يغدو مصابيح مسمومة الضوء،يغفو بداخلها الموت ، حتى إذا غرب القمر انطفأت ،وعلى في شرايينها السم تنزفه قطرة .. قطرة في السكون المميت *** وأنا كنت بين الشوارع وحدي،وبين المصابيح وحدي أتصبب بالحزن بين قميصي وجلدي قطرة ..قطرة كان حبي يموت وأنا خارج من فراديسه دون ورقة توت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ (42):ديوان العهد الآتي ، ص 60 |
(44) إن لدينا هنا مجموعة من العناصر التي تتكرر عدة مرات ، ولكن الشاعر يشكلها في كل مرة تشكيلاً جديدًا ،ويؤلف بينها تأليفًا جيدًا ، بحيث تأتي في صورة جديدة تمامًا. إن لدينا في الأبيات "شوارع طين" و"مصابيح" ووقت معين هو "آخر الليل" وآهة تتكرر ، ولدينا أخيرًا أشياء تتساقط أو تذوب ،أو تفنى ، "قطرة ..قطرة". هذه هي العناصر التي تتكرر في المقاطع الأربعة ، وتتشكل في كل مقطع بصورة جديدة ولكن الصور كلها تدور في النهاية حول محور واحد نو الشعور بالموت والذبول والانطفاء. في المقطع الأول ترى "الشوارع" في "آخر الليل" وقد تجسدت في صورة أرامل ثاكلات يبكين بحرقة في عتبات بيوتهن-القبور ، وتغدو" المصابيح" هي الدموع المتساقطة"فطرة ..قطرة" من عيون أنلئك الأرامل الثكالى ،والتي تحاول سدى أن تتشبث في وجنه الليل قبل أن تموت.وهكذا يلف الموت والانطفاءالصورة بكل عناصرها. وفي المقطع الثاني تتحول "الشوارع "في" آخر الليل" إلى خيوط عنكبوت ، وتصبح "المصابيح"هي الفراشات الضحايا التي تتلوى في قبضة الخيوط قبل أن تتحلل في مخالب الشوارع العنكبوت ، لتمتص دمها "قطرة ..قطرة " مرة أخرى يطالعنا الموت والانطفاء بصورة أخرى وشكل جديد ، وإن كان قد تكون من نفس العناصر. وفي المقطع الثالث تتحول "الشوارع" في "آخر الليل": مرة أخرى إلى أفاع تنام على راحة القمر ، أما "المصابيح" فهي لمعان جلود هذه الأفاعي ومن ثم فإن ضياءها ضياء مسموم ،لا يلبث-إذا انطفأ القمر –أن ينزف سمه "قطرة قطرة" في السكون المميت ، وهكذا تتشكل نفس العناصر المكررة للمرة الثالثة في صورة جديدة لحمتها وسداها الموت الانطفاء والفناء. |
Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.