العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة بـــوح الخــاطـــر > خيمة كتاب روائـع الخـواطر

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة فى مقال الزراعة المثالية ولعنــة الأدويــة الكيماويــة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: New death (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: قراءة في مقال البروباغاندا الهدوءُ والفتك (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى كتاب إرشاد الأخيار إلى منهجية تلقي الأخبار (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الميسر والقمار فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال لغز زانا الأم الوحشية لأبخازيا (آخر رد :رضا البطاوى)       :: Can queen of England? (آخر رد :عبداللطيف أحمد فؤاد)       :: المعية الإلهية فى القرآن (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نقد رسالة في جواب شريف بن الطاهر عن عصمة المعصوم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: عمليات مجاهدي المقاومة العراقية (آخر رد :اقبـال)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 07-12-2009, 01:16 PM   #1
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شقاء السعادة

(4)

قطع عكرمة برنامجه اليومي في اللعب مع أترابه في الحي، رغم أن الجو لا زال صحوا وبرده ليس بقارصٍ، وقفل راجعاً يركض بأقصى سرعته متجهاً نحو والده (أبو صابر)، الذي كان مستلقياً على ظهره وقد غطى أوسط بطنه بجزء من رداءه الثقيل، في حين كانت ركبته اليسرى أعلى من مستوى رأسه، كونه قد كف قدمه اليسرى باتجاهه، وأردف ساقه اليمنى فوق جزء من أعلى الفخذ الأيسر، لم يكن أحد تمارين (اليوغا) بل هي إحدى الطرق التي كان كبار السن يبتكرونها لتمضية أوقات فراغهم الكثيرة. كان أبو صابر يراقب أصابع قدمه اليمنى التي كان يحركها بالتناوب وكأنه يقوم بتفقد صلاحيتها.

كان عكرمة ابن العشر سنوات أو أكثر قليلاً، لا يزال يلهث من ركضه، يرتدي سروالا خارجياً من المخمل المضلع وقد زالت بعض نتوءات الأضلاع وزال منها لونها الزيتي، وتنافرت الخيوط بعض الشيء من جهة الركبتين، منذرة بانتهاء العمر فوق الافتراضي للسروال، وكانت رؤوس أصابع قدميه تنزف دماً قليلاً متخثراً من كثرة ما يصطدم بالحجارة التي في طريقه.

بادره والده (علامك؟) أي ما بك؟
أجاب الولد بصوت مرتبك: رأيت رجلاً أكبر منك يضع عصبة خضراء على رأسه، ويتزر بإزارٍ ثخين فوق ثوب سميك ويحمل عصا غليظة وطويلة أعلاها منحني نحو ساقها..
قاطعه والده: إنه أبو المَرَاشد .. ماذا فعل؟
ـ بعد أن تطلع بالسماء نحو الغرب، ضرب بعصاه الأرض عدة مرات وصاح: (كسبها .. كسبها .. كسبها من زرع عفير وبَدَرْ).
ومعنى ذلك الذي لم يفهمه الصبي، أنه أفلح من زرع أرضه مبكراً.

استند أبو صابر، وعدل من جلسته، وأخذ يُعالج الرماد الذي في الموقد، وطلب من ابنه أن ينادي أمه لتحضر بعض الوقود للموقد لتسخين القهوة.

(5)

كان أبو المراشد من الأشخاص الذين قليلاً ما يشتركوا بحديث مع الآخرين، وكان الناس ينظرون إليه بمشاعر ممزوجة بالحيرة والإعجاب والاحترام والعطف.

لم يكن درويشاً بمعنى الكلمة، ولكنه لم يقطع فرضاً واحداً في مسجد البلدة الوحيد، ولم يسمع عنه الناس أنه أثار مشكلة مع أحد، حتى جيرانه لم يسمعوا أن خلافاً حدث داخل بيته، رغم أنه كان متزوجاً من أربعة نساء، وله من الأولاد الذكور أربعة عشر ولداً، غير البنات الستة.

(6)

انشغلت أم صابر بتحضير العشاء، وانشغالها كان رتيباً، فالوجبة المعتادة للعشاء هي (جريش) القمح، الذي سبق سلقه وتم تنشيفه ليحمل اسما جديدا (البرغل)، وكان يُحفظ بعد جرشه في (كَوَايِرْ)، تنتصب في (بيت العِيلة)، حيث تحتفظ العائلة بمئونتها فيه، داخل كواير وجِرار وبعض الجلود التي تُخصص لحفظ السمن.

كانت (الكوارة) تُبنى على مراحل، من الطين المخمر الممزوج بالتبن، فبعد أن تحضر المرأة الطين، تختار ضلعاً من أضلاع الغرفة (بيت العيلة)، لتبني بجانبه الكواير، فبعد أن تصنع (دكة أو مصطبة) بارتفاع أقل من قدم قليلاً لتنصب فوقه الكواير، تقوم بعمل مربعات فوق المصطبة طول ضلع المربع حوالي ذراع، وتعين مكان فتحات استخراج المواد المخزونة من الأسفل، تقوم برص الطين بيديها الاثنتين بسماكة أصبعين تقريباً، وحتى لا تنحني تلك المواد تتركها لمدة يوم أو اثنين حتى تجف قليلاً، ثم تكمل بناء الكواير حتى يبلغ ارتفاعها ارتفاع رأس المرأة تقريباً، ثم تترك فتحتها العلوية دون بناء، بل يتم تغطيتها بطبق من القش المحبوك لمنع دخول الفئران.

لم تكن وجبة العشاء، سوى برغل وماء وملح، كانت توضع في قدر من النحاس، وتترك على فوهة (الفرن الطيني) لتنضج على مهل. وبعد صلاة المغرب، تقوم أم صابر بسكب الطعام في قصعة واسعة، وتضيف إليه بعض الدهون المسخنة والتي غالبا ما تكون من (سنام الجمل) أو زيت الزيتون المقلي به قليل من البصل.

(7)

لم يمض وقت كبير، حتى انهمر المطر بغزارة، فضحكت الأرض ومن عليها في البلدة استبشاراً للخير، وارتفع صوت أذان المغرب، من على أعلى المئذنة وبصوت أبي صابر نفسه، وكان صوتاً قوياً على غير العادة، ولم يكن هناك ضجيجٌ يمنع وصول الصوت الى مسافة تتعدى حدود البلدة.

عاد أبو صابر ولحيته يقطر الماء منها، وأسنانه الصناعية تضحك متوسطة لحيته البيضاء ووجهه النحاسي، تناول طعامه بنهم، هو وأفراد أسرته، وأمر صابر أن يذهب الى احمد الرشيد البقال في الحي ليحضر (الهريسة) ليتحلى هو وأفراد أسرته ومن سيأتي لقضاء السهرة القصيرة.

يتبع

__________________
ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 07-12-2009, 01:18 PM   #2
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شقاء السعادة



(8)

أثناء وبعد كل مناسبة أو حدث، يكثر الكلام لمن شاهدوا الحدث، حتى وإن كانوا أشخاصاً غير مؤثرين في تحديد مساره، فكل واحد سيروي أو يحلل ما شاهده من خلال شخصه الفاعل أو الذي يتمنى أن يكون فاعلاً.

بدا الانشراح على وجه أبي صابر، وهو يحدث من جاء يسهر عنده من أبناء عمومته والجيران. فبعد أن مسد على لحيته، تجول نظره في وجوه زواره، وإن كان لا يحدد ملامح وجوههم بشكل جيد. كانت تلك الحركة ضرورية ليجعلهم يتوقعون كلاما هاما وخطيراً.

يا جماعة، كنت في ليلة الصليب والزبيب، قد وضعت كومات الملح الخمسة كما هي العادة، وقد توقعت بناءً على ما شفت من ذوبان معظم كومات الملح أن هذا الموسم جيد بإذن الله، لكنني لم أكشف لكم ذلك في حينه، بعد أن مرت ثلاث سنوات دون أن ننعم بمثل تلك الأمطار الغزيرة. اسمعوا، اسمعوا صوت الرعد وارتطام حبات المطر على الأرض.

سأله أبو سعفان: وهل تعتقد أن هذا الموسم يبشر بالخير؟
أجابه أبو صابر (في ندرة من يفند آراءه): العلم عند الله، سيكون الموسم جيداً، فعندما تمر (الصفاري) ببرودة ليلها وصفاء سماءها ويبدأ تشرين الثاني/ نوفمبر ببرق (بانياسي)، فما أن ندخل ب (المربعانية) حتى تكون الأرض (ملقحة).

أراد صابر والذي أحضر الحلويات للاحتفال، أن يستفسر من والده عن المصطلحات التي وردت بحديثه، فسأله: ماذا تعني يا والدي بالصليب والزبيب؟ وماذا تعني بالصفاري؟ وماذا تعني بالبرق البانياسي والمربعانية والملقحة؟

أجاب أبو صابر (وقد رأى في تلك الأسئلة مجالا لتمضية السهرة): الصليب والزبيب: هو عندما يتساوى طول الليل بطول النهار ويكون ذلك ليلة منتصف شهر سبتمبر/أيلول، فتتصالب الأرض في مدارها، ويتوقف الناس عن النوم في ساحات بيوتهم أو على أسطحها، ويتهيأ أصحاب الكروم لصناعة الزبيب من العنب.

والصفاري، هي أيام الخريف حيث تصفر أوراق الأشجار، ويثور الغبار وتتسطح قشرة الأرض. والبرق البانياسي هو البرق الآتي من جهة بانياس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث يبشر بالأمطار بخلاف البرق الآتي من جهات أخرى. أما المربعانية، فأيام الشتاء تقسم لقسمين أول أربعين يوم منها تسمى المربعانية وهي أشد أيام السنة برداً، ويتبعها خمسين يوماً تقسم الى أربعة أقسام: (سعد ذابح) و (سعد ابلع) و(سعد السعود) و (سعد الخبايا).

كان عكرمة الذي يجلس في حضن والده ليتمتع بالدفء، يطل رأسه من أبط (الفروة) التي يضعها والده مغطياً بها جسمه المتربع، وكأنها فرخ حيوان (جرابي) يستمع للحديث، ويحس بغصة شديدة، فالموسم يبشر بالخير، وهذا يعني أن عطلة المدرسة الصيفية ستذهب في كد وتعب في الحصاد والدرس واستخراج الحبوب، إن ذلك يعني أن الأولاد سيحرمون من متعة العطلة الصيفية!

(9)

استنزفت السنون الثلاثة، التي حُبست فيها الأمطار، مُدخرات معظم الأسر الفقيرة، كما استنزفت تلك السنوات الرغبة في الحرص من توقع أمطارٍ غزيرة.

كانت (ذيبة) أرملة (ياسين الحاصود) من بين أولئك الناس الذين لم يهيئوا سطوح منازلهم الطينية، بإضافة طبقة جديدة من الطين الأملس، الذي يتكفل بمنع (الدلف).

وزعت ذيبة مجموعة من الأواني القديمة تحت مساقط قطرات الماء المخترقة للسقف، وفرشت لأولادها الثلاثة، في بقعة لا تنزل فوقها قطرات الماء، وغطتهم ببساط صوفي ثقيل، وبقيت شبه متيقظة.

كانت أصوات ارتطام قطرات الماء بتتابعها تشبه أصوات آلة موسيقية تستخدمها قبائل (آرابيش في غينيا بيساو)، وكان اختلاف نغماتها آتٍ من اختلاف أحجامها واختلاف معادن الأواني واختلاف عمق المياه في كل آنية، وكأن الطبيعة قد قامت بضبط (دوزان) آلة موسيقية.

(10)

في الحروب، والزلازل، والكوارث، هناك أفراد أو كائنات، تتأذى من تلك الظروف، كما أن هناك أفراد وكائنات تستفيد من تلك الظروف.

كانت الضباع والذئاب من بين تلك الكائنات، التي تحاول استثمار ثمان ساعات متواصلة من المطر المنسكب بغزارة ملفتة للنظر، فكانت تعرف أن هناك جدران أبنية وأسيجة ستنهار بفعل الماء المتدفق من على السطوح والأزقة.

تعالت أصوات الرجال والتي كانت استجابة لنباح كلاب الحراسة المذعورة. خرج أبو صابر ليتتبع تلك الجلبة فتيقن أنها صادرة من دار أبو سعفان، وأخوته الأربعة الذين يعيشون في دار كبيرة واحدة هم وأبنائهم وزوجاتهم.

كان أحدهم يحمل فانوساً ضعيف الإضاءة أما الباقون فكانوا يحملون عصياً وأدوات زراعة.

بعد أن قفز الذئب مذعورا من تلك الجاهزية التي أبداها أهل الدار، التفت من يحمل الفانوس الى الرجال، فوجد أنهم لا يخفون أجزائهم السفلى، فضحك بصوت مرتفع، ثم انتبه لنفسه فوجد أنه يشاركهم تلك الهيئة.

حاول صابر أن يجد لتلك الظاهرة تحليلاً، فلم يتذكر سوى أنه في حالة ندرة الغذاء فإن القوارض تمتنع عن التزاوج رحمة بأبنائها، ولكنها تعاود لتلك العملية الأيضية بمجرد شعورها باقتراب توفر الغذاء.

يتبع

__________________
ابن حوران

__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 24-12-2009, 11:32 PM   #3
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شقاء السعادة


11)

أكملت أم صابر إحماء الفرن لتبدأ بالخَبْز، بعد أن ألقمته كميات كافية من العيدان الجافة، وبعض أقراص (الجلة)، وهي تعلم أن بعض النسوة من الجارات ستأتي لصنع الخبز، كونهن لم يبق عندهن من (وقيد) وقدرة كافية لاستمرار ودوام تجهيزهن لمثل تلك الأفران.


لم تكن متعة النسوة في تجهيز الخبز فقط، بل كانت لتتبادل الأخبار الطازجة، فكل جارة لها جارة والجارة الأخرى جارة، وكل جارة لديها خبر، فتتصل الأخبار ببعضها كاتصال (روجات) ماء في بركة أُسقط بها أحجار في أمكنة متباعدة منها.

سياج دار (أبي صالح) تهدم (كَرَع) من أثر الأمطار.
عجلة أم ابراهيم نفقت.
سُرِق ثلاثة أزواج من أفراخ الحمام من دار بهلول.
تخاصم أولاد بركات على توجيه مياه الأمطار لآبارهم.
تسمم عائلة (عوفة) بعد أن تناولوا طعاماً كان محفوظاً بإناء نحاسي غير (مُبيض).
أصبح الشيخ عليان مصاباً بإسهالٍ وحمى شديدة... (شكله مَوَات).

دخل عكرمة الى غرفة الفرن، وجلس الى جانب أمه، وكانت تعرف ماذا يريد، فكان يأتي ليأكل رغيف (كماج) ساخن وعليه قطعة من زبد البقر وترش فوق الزبد قليلاً من السكر، فبادرت لصنع رغيفه، وناولته إياه، فجلس ينعم بدفء المكان ولذة طعام الإفطار.

(12)

التقى صابر أستاذ التاريخ في مدرسة البلدة، في دكان احمد الرشيد، حيث كان يقضي الرجال معظم أوقاتهم بعد العصر في الدكاكين أو على قارعات الطرق، فوق أحجارٍ ثبتت لذلك الغرض.

كانت دكان أحمد الرشيد رغم مساحتها الضيقة التي لا يزيد طول ضلع مربعها عن أربع خطوات، مقسمة الى قسمين يفصلهما حاجز خشبي منتصب في الوسط، وضع عليه ميزانٌ ذو كفتين، وبعض أوعية الحلويات الشعبية، ونصفه الداخلي تم نصب رفوف من الخشب وضع فوقها أوعية زجاجية تحوي حاجات أهالي البلدة التي بَخنها جيداً احمد الرشيد.

أما النصف الخارجي من جهة الباب، فكان به بعض الأكياس التي يوضع بها الشعير والقمح والعدس، ليس كسلعٍ للبيع بالدرجة الأولى، بل كمكان لوضع أثمان المبيعات، فقد اعتاد الأهالي أن يشتروا بضائعهم بالحبوب أو بالبيض، ونادرا ما يستعملون النقود لأداء الأثمان.

وكان في أحد جوانب الجزء الخارجي (دكة) أو (مصطبة)، يتمدد فوقها صاحب الدكان عندما لا يكون لديه عمل أو زوار، وعندما يأتي الزوار يجلسون فوق المصطبة، لا يتحرجون من شيء، طالما أنها عادة!

على جانبي باب الدكان ثُبت بعض الأوتاد لتعليق المكانس والغرابيل وأدوات نخل الطحين، وقلائد (الدنيدلة: نبات يجمع بالربيع ويجفف ليستخدم في الطبخ)، وبعض ربطات الثوم، ولجامات الخيول وبعض الحبال. أما في أوسط الدكان فكان يتدلى شريط لاصق للإمساك بالذباب الذي كان يحوم فوق أواني الحلوى.

(13)

سأل صابر، أستاذَ التاريخ عن الأشياء التي سألها لوالده، والتي لم يُجب عنها كلها، فأراد مطابقة المعرفة الشعبية بالمعرفة العلمية المدونة.

تطابقت الأجوبة العلمية مع الشعبية فيما يخص الصليب والزبيب والمربعانية، والصفاري والبرق البانياسي، لكن فيما يخص (أُلقحت الأرض)، التي لم يجب عنها أبو صابر، قال أستاذ التاريخ: أن معارف أهل تلك المنطقة موغلة في القدم، ومن تلك المعارف ما لم يتم تدوينه، بل انتقل من جيل الى جيل بالمشافهة.

فقد كان السومريون والبابليون يعتقدون أن السماء ذكر والأرض أنثى، وكان المطر هو من يلقح الأرض ويخصبها لتعطي ثمارها.

استوقفه صابر: وهل أهل تلك البلدة على دراية بما كان يعتقد السومريون والشعوب القديمة؟
ـ نعم ليس السومريون وحدهم، بل والفراعنة والكنعانيين والحثيين.
ـ معقول هذا؟ وكيف؟
ـ لو تأملت الأمثال التي يرددها الفلاحون في تلك المناطق لتيقنت مما أقول.
ـ كيف؟ أي أمثال؟
ـ هناك مثلٌ يقول: (في مشير يتساوى اللوكسي والعفير)، فالعفير هو ما يزرع مبكرا، واللوكسي هو ما يزرع متأخراً، ومشير عند الفراعنة هو آذار/مارس عند سكان بلاد الشام، ومع ذلك لا زال المثل يقال كما كان في الأصل. ويعني المثل ما تمت زراعته مبكراً أو متأخراً سيتساوى في نموه في مشير.
ـ والكنعانيون، أين آثارهم بما نحن في صدده؟
ـ الزراعة البعلية أي المطرية، فكان الكنعانيون، والحثيون، يعتقدون أن بعل هو إله المطر وهو المسئول عن نجاح أو فشل الزراعة، في حين تُسمى تلك النوع من الزراعة التي لا تعتمد على جر المياه بالسواقي، في العراق بالديمية نسبة الى أديم إله المطر في بلاد ما بين الرافدين.

جاء عكرمة لينادي على أخيه صابر ليذهب للدار حيث أمره أبوه بذلك.

__________________
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 24-12-2009, 11:34 PM   #4
إيناس
مشرفة بوح الخاطر
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
المشاركات: 3,262
إفتراضي

شقاء السعادة



(14)

بعد مرور ستة أيام على انهمار الأمطار بتواصل شبه مستمر، بلغ مدير المدرسة المعلمين بأن ينهوا تساهلهم وتسامحهم مع التلاميذ المتغيبين في البلدة، وكانت تلك الصلاحيات تُعطى لمدراء المدارس في المناطق الريفية كونهم أكثر قدرة على التعامل مع الظروف المحيطة.

لم تكن طرقات البلدة مستقيمة، ولا مُعبدة، بل تتعرج مع تعرج جدران المنازل التي كان يتم إكمالها على مراحل لتكون طرقات ملتوية يصعب على المساحين رسمها دون الاستعانة بتصوير جوي!

كانت حوافر حيوانات العمل وأقدام المواشي تفعل فعلها في خلط المياه مع الطين ومخلفاتها، فتصبح الطرقات معها وكأنها نماذج مصغرة لمستنقعات في بلاد مطيرة، ولم ينقصها سوى نماذج مصغرة عن تماسيح.

لم يكن باستطاعة عكرمة أن يسير بمحاذاة أترابه في الحي في الذهاب للمدرسة، كما اعتادوا في الأيام الخالية. كان عليهم أن يسيروا كأفراد قطعان النو التي تقطع الأنهر في إفريقيا في رحلاتها، فيتقدم تلميذٌ شجاع في القفز أمام أصحابه واضعا إحدى قدميه على جزء لم تطأه أقدام الحيوانات، ثم ينتقل بخطوة أوسع نحو حجر مرتفع ليقي ثيابه من بلل الطرقات، ويتبعه التلاميذ الآخرون، إن رأوه قد نجح في مسيره، وفي بعض الحالات كانت إحدى قدمي التلميذ المقدام تنزلق فيسقط التلميذ على جانبه لتنطلي ملابسه بطين بلون التراب والسماد والماء، فيعود لبيته لاغياً يومه الدراسي.

يتغيب بعض التلاميذ عن الدراسة في مثل تلك الأيام، ليس بسبب كراهيتهم للدراسة، بل بسبب عدم توفر ما ينتعلونه من أحذية يستطيعون التغلب فيها على مصاعب الطرقات. ولم يكن حظ عكرمة أفضل كثيراً من حظوظ أترابه، بل كان لديه (جزمة) من (الكاوشوك) تم شرائها قبل سنتين، حيث كان الآباء يشترون لأطفالهم مثل تلك الأحذية لتخدمهم سنتين أو ثلاثة، فيشترونها بأحجام كبيرة لتستوعب أقدام الأطفال التي كانت تنمو بمعدلات تفوق نمو أجسامهم، كونها حافية راكضة في أغلب الأحيان.

ولأن عمر الحذاء طويل وسعته أكبر من القدم، فكان ينشق شقاً طولياً من الجهة السفلى الخلفية للقدم وبطول إصبع، فإن لم ينتبه الطفل في سيره فإن سيعاني من برودة الماء والطين التي ستنفذ من خلال الشق وتستقر أسفل القدم العارية (دون جوارب) طيلة اليوم، ومن هنا كان انتباههم.

(15)

وقف التلاميذ في ساحة المدرسة لينشدوا نشيد الصباح، ثم يدخلوا لصفوف الدراسة، وكان يسهل على رسام مبتدئ أن يرسم لوحة لأولئك التلاميذ، حيث كانت ملابسهم بألوان لونها الزمن، فلم يكن أي لون منها مصنفاً تحت ألوان الطيف الشمسي، بل مزيجا منها مع اكتساب ألوان الدخان واختلاط مياه غسيل الملابس، وأحجامها تزيد عن أحجامهم بنمرتين أو ثلاثة وأحياناً خمسة، فملابس الشتاء كانت تُشترى بالجملة من سوق الملابس المستعملة ودون حضور الأطفال، أو أنها تكون لأخوة قد ضاقت عليهم أو لآباء الأطفال.

كان من السهل على أستاذ العلوم معرفة آثار سوء التغذية على وجوه التلاميذ الذين يجلسون متقاربين على مقاعد الدراسة طلباً للدفء من بعضهم واستجابة لزيادة أحجامهم بفعل ملابسهم السميكة والمرقعة. فكان (الحزاز) يبقع وجوههم وكانت السوائل تتماطى للخروج من فتحات أنوفهم. والأستاذ يتهيأ لشرح قاعدة (إرخميدس).

لكن الأستاذ لم يشرع في ذلك، بل عرج للحديث عن استبسال المقاومة في الجزائر، وضرورة الدعاء لأهل الجزائر والتبرع للثوار من أجل التخلص من الاستعمار الفرنسي، ولو كان ذلك التبرع بعشرة قروش!

كيف سيبلغ عكرمة والده بضرورة إعطاءه عشرة قروش، وهو لا يستطيع الحصول على نصف قرش كمصروف يومي؟

(16)

خرج الطلاب لساحة المدرسة، بعد أن انتهوا من ثلاث حصص، ليقوموا بشراء الحمص المسلوق والمملح، من بائع يضع وعاء على منصب خشبي يقف على ثلاثة أرجل.

ولكن عكرمة قرر ألا يشتري شيئاً، فإن لم يفلح في جعل أمه تقنع والده بإعطائه عشرة قروش للتبرع بها لثورة الجزائر، فإنه سيقوم بتجميع ذلك المبلغ أو نصفه من مصروفه اليومي.

أخذ عكرمة ينقل قدميه بجزمته التي مُسح نقش أسفلها بفعل الزمن، من مكان الى آخر، ويرفعها ليراقب كيف تترك أثرا على الأرض المبللة وطينها الرخو، فكانت بشكل أشجار مرسومة بخفة على الأرض، وكل نقلة تكون مختلفة عن الأخرى، لقد استلهم تلك الفكرة من أستاذ الفن الذي طلب منهم ذات يوم بشق رأس (البطاطس) ووضعه على سائل ملون ثم طبعها على ورقة بيضاء، لينتج عن ذلك رسم بديع!

مضى وقت تلهية عكرمة، حتى قرع الجرس ودخل التلاميذ الى غرف الصفوف.

__________________
ابن حوران
__________________

Just me

إيناس غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .