الفصل السادس عشر: الإعادة وتاريخ التكنولوجيا
تقديم: يوشيدا ميتسوكوني/ جامعة كيوتو/ اليابان
(1)
أدرك اليابانيون أن الجسم البشري في العالم مُتصلٌ، لا تفصله مسافة، وما على مَن يُريد النهوض إلا أن يتابع ما يجري في العالم من بحوث وآداب وغيره. وقد ضرب اليابانيون مثلاً، عندما ذكروا فضل العرب على العالم في القرن الثاني عشر الميلادي، عندما أقبل الأوروبيون على ترجمة علوم العرب، التي هي أصلاً مُترجمة عن غيرهم، ومبذول من جهد العرب عليها للإضافة والتعديل والتطوير.
من هذا الفهم، أقبل اليابانيون على ترجمة أعمال الأوروبيين العلمية والعسكرية وغيرها من العلوم. فقد تم ترجمة (467) كتاباً من أهم الكُتب التي كتبها الأوروبيون، في فترة ما بين (1720 و 1867). وقد تصدرت الكُتب الطبية قائمة الكُتب المترجمة حيث بلغ عددها (108) كتب، تلتها الكتب العسكرية (103) كتاب، وكتب اللغة (54) كتاب، والجغرافيا والمسح (35) كتاب، ثم الرياضيات والسياسة والاقتصاد الخ.
لاحظ اليابانيون أن اعتماد الطب الحديث (في وقته) أكثر نجاحاً من الطب القديم. أما تركيزهم على العلوم العسكرية، فكان دافعه ما جرى عند الجارة الكبيرة (الصين)، في حرب الأفيون، حيث تفوقت السُفن الحربية الغازية (الأوروبية) والمدافع المنصوبة عليها، على ما لدى الصين من إمكانيات عسكرية متواضعة.
كان لا بُد لليابانيين حتى يذودوا عن بلادهم، أن يُمكنوا أن أنفسهم من الحصول على أفضل التقنيات التي تجعلهم يعتمدون على ذاتهم في ردع أي هجوم.
(2)
مما يثير الغرابة، أن الشعور في ردع الأجنبي كان منتشراً في جميع مقاطعات اليابان وحكوماته المحلية، رغم هشاشة الدولة المركزية، ورغم قلة أو انعدام التنسيق في ما بين تلك المقاطعات، فقد تشابه السلوك لحكامها في هذا الشأن.
كانت خمس مقاطعات هي (ساغا، وساتسوما، وميتو، ونيراما، وشوغونة) تطبق ما جاء في كتاب ألفه هولندي يُدعى (أولريخ هوغنين) عام 1826، عن طريقة صب المدافع الحديدية، وجاء في الكتاب رسومات تفصيلية عن بناء وتشغيل الأفران العالية الحرارة والأفران العاكسة لصهر الحديد بالإضافة الى طرق سبك وتجويف هياكل المدافع. وقد ترجم هذا الكتاب عدة ترجمات الى اليابانية. استطاعت عدة مقاطعات تصنيع (346) مدفع من الطراز الغربي، بعد نماذج فاشلة. كما استطاعت عدة مقاطعات من إنتاج ما بين 250 الى 300 طن من الحديد المصبوب سنوياً.
ثم اتجه اليابانيون، لتطوير صناعة السفن البخارية، معتمدين على ترجمة (دليل أوروبي) يبين تلك الصناعة. ثم تم تطوير مصانع الغزل والنسيج مستخدمين معدات تدار بالطاقة المائية. وتم تشييد مصانع للسيراميك والخزف والجلود والدهان. وقد أعرب الطبيب الهولندي (بومبي فان ميرديرفونت 1829ـ 1908) عن دهشته لازدهار تلك الصناعات، وكان يتردد على زيارة اليابان، وفي كل مرة يلاحظ التطور الكبير عن سابقتها.
(3)
لم يرضَ القائمون على تلك التطورات عن أنفسهم، فلاحظوا بطء الحركة والتطور، وزيادة كلفة الوحدة الإنتاجية، فكلفة إنتاج مدفع وزنه ربع طن كانت تصل الى (500) ريو، وهذه الكلفة أعلى مما لو تم استيراده من الولايات المتحدة، ففكروا بتقليل الكلفة وتقليل الوقت.
انجذب التجار ورجال الصناعة الأجانب لجدية اليابانيين، ففكروا بالاستثمار المشترك والتبادل التقني والتجاري، وعرض علماء وباحثون أجانب خدماتهم للعمل في اليابان. فازدهرت الصناعات وتحسنت نوعيتها وقلت كلفها ومدد إنجازها. وقامت أحواض بناء السفن. وانتصبت مصانع الصلب والحديد.
وفي عام 1855 وصل طاقم هولندي من الجيش مع هدية (سفينة بمحرك قوته 150 حصان)، فكسبت بذلك فرص تدريب الجيش الياباني والتعامل التجاري لبيع الذخيرة والأسلحة الهولندية (هولندا كانت تنافس الدول الاستعمارية في إندونيسيا وغيرها).
كانت البعثات الهولندية أكبر البعثات الصناعية والتجارية والعسكرية. وقد استغل اليابانيون اندفاع الهولنديين، فاستفادوا من المعلومات الاستخبارية عن أعداد وخطط الدول الأخرى.
(4)
في عام 1870 تأسست وزارة الأشغال اليابانية، ومن أهدافها القيام بأبحاث هندسية، وتشجيع التصنيع، وتأميم المناجم وإدارتها، وصنع السفن وتجهيزها وإصلاحها وبناء وتشغيل السكك الحديدية والشبكات التلغرافية.
كانت اليابان بالنسبة الى رجال العلم والبحث الأوروبيين (دولة ـ مختبر)، وكان الذين يزورونها أو يعملون بها من أكثر علماء أوروبا خبرة وكفاءة، وقد وُصفت في وقتها بأنها بلاد فريدة لها نظام ثقافي متكامل. فشهرة وتقدم الباحث الأوروبي الطموح تتحقق فيها أكثر من دول حتى لو كانت أوروبية.
في عام 1877، نظمت وزارة الداخلية اليابانية أول معرض وطني ياباني شامل في (طوكيو) متخذة من معرضي باريس وفينا نموذجين لها. وقد عُرض فيه 80 ألف سلعة يابانية تمثل 16 ألف عارض (بمعدل 5 سلع لكل عارض). وقد أَمَّ المعرض 400 ألف زائر.
__________________
ابن حوران
|