العودة   حوار الخيمة العربية > القسم العام > الخيمة الفـكـــريـة

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية على المريخ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في بحث العقد النفسية ورعب الحياة الواقعية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: خوارزمية القرآن وخوارزمية النبوة يكشفان كذب القرآنيين (آيتان من القرآن وحديث للنبي ص (آخر رد :محمد محمد البقاش)       :: نظرات في مقال السؤال الملغوم .. أشهر المغالطات المنطقيّة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال البشر والحضارة ... كيف وصلنا إلى هنا؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال التسونامي والبراكين والزلازل أسلحة الطبيعة المدمرة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال الساعة ونهاية العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: عمليات مجاهدي المقاومة العراقية (آخر رد :اقبـال)       :: نظرات في مقال معلومات قد لا تعرفها عن الموت (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 05-11-2014, 04:11 PM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي الجمهور العربي والنهج الاقتصادي في الحكم

الجمهور العربي والنهج الاقتصادي في الحكم


الجمهور في اللغة آتٍ من الجذر الرباعي (جمهر) وفي الحديث (جَمْهِروا قبره) أي ضعوا التراب فوقه دون ماء، والجمهورة هي الرمال المُنقادة التي تسفيها الرياح فتتجه مع الريح، والجمهور هو تكتل الناس..*1

والنهج والمنهاج هو الطريق البيِّن الواضح وفي حديث العباس رضوان الله عليه: (لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ترككم على طريقٍ ناهجة، أي بينة وواضحة.

عندما حاذينا العنوان بالاقتصادي، أردنا تمييزه عن السياسي الذي يختص بطبيعة نظام الحكم (ملكي، جمهوري، برلماني، رئاسي الخ)، لنميز السمة الاقتصادية فيه: اشتراكية، رأسمالية، مختلطة الخ.

يصبح العنوان معنياً بالموقف الذي يتخذه عموم الشعب والجمهور إزاء الطريقة الاقتصادية التي تُدار بها البلاد، تمييزاً عن آراء ومواقف الفلاسفة والمفكرين الاقتصاديين والسياسيين.

(1)

لكل شيء جمهور، في الملاعب نجد جماهير، وفي صالات الغناء والمسارح نجد جماهير، وعند أصحاب الزوايا والمجالس الدينية نجد جماهير، وللقادة السياسيين جماهير، بعضها حقيقي والكثير منها مُصطنع خصوصاً عندما يتعلق الأمر بنظام حُكمٍ قائمٍ بعينه.

يسعى الكثير من المعنيين في مختلف الأمور أن يكون لهم جمهور، ويبدوا أن الجمهور يكون له مفعولٌ عجيب في أداء المقرئين للقرآن واللاعبين والممثلين والوعاظ والخطباء والمغنين، ولا تنسى محطات الإذاعة أن تبين في تقديمها لمقرئ للقرآن الكريم أن تلك القراءة سُجلت من المسجد الفلاني وتجد بعد كل آية أو وصلة صيحات الإعجاب (الله ينوّر عليك يا شيخ)، والشيخ يُصعّد من أداءه، وهذا يحدث أيضاً مع المطربين عندما يصيح الجمهور (أعِد.. أعِد).

وقد يكون لغياب الجمهور أو الجمهور المُضاد أثرٌ في نتائج مباريات كرة القدم، فيُقال (لعبوا أمام جمهورهم).

وتكون الفوائد المرجوة من الجمهور حاسمة في صعود نجوم معينين، من خلال العائد المالي أو حتى إرسال رسائل تلفونية و (sms) ليصبح فلان المتسابق بطلا في مسابقات معينة..

وإذا كانت شبابيك السينما والمسرح تزيد في دخل الممثلين والمطربين، فماذا يستفيد الجمهور بالتالي؟ ومن الغرابة أن تبيع مثلاً محطات بطاقات ذكية لنقل مباريات أجنبية، وتجني تلك المحطات أرباحا خيالية من وراء ذلك.

(2)

لا تُشكل المواضيع السياسية أو الاقتصادية مادة (مهمازية) تُحرك الجماهير العربية، فقد يقوم بالتثاؤب أكثر الجالسين في جلسة ود (عائلية، أو جلسة أصدقاء) وهذا طلب واضح للمتكلم بموضوع اقتصادي أو سياسي، أن يختصر أو حتى يتوقف عن الكلام، لكن أي حديث يتناول أسرار العائلات أو يكون ملفوفاً بطابع السخرية والمرح، فإن كل الموجودين سيشاركون فيه.

لكن، يقوم الجمهور بالسباب واللعن إذا ارتفع سعر سلعة معينة، ويكون رد فعله، تماماً كما يلعن العرب حكاما وشعوباً، إذا شاهد جريمة صهيونية ضد المقدسات الإسلامية في فلسطين..

إن اللعان والشتائم قد تُغرر بأصحابها بأنهم قاموا بالواجب المطلوب منهم، فيسقط بذلك عنهم (فرض، أو سنة ) الانتقاد!

وبالمقابل، فإن الأنظمة العربية تفرح كثيراً عندما تبقى ردة أفعال الجماهير عند هذا الحد..


يتبع





هوامش
*1ـ أنظر لسان العرب
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 11-11-2014, 11:28 PM   #2
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الخصائص الفكرية للنخبة العربية القديمة وأثرها على الاقتصاد

أصبح معروفاً أن الأعراق البشرية تختلف في أرضيات فهمها للحياة، ولكنها في النهاية تتواصل حضارياً وتجعل من المقتربات فيما بينها أمراً وارداً ومتاحاً*1

حتى في المجتمع الواحد، فإن تَسَيُّد لون من الفكر الاقتصادي يكون مقترناً بدور من هم أصحاب الأفكار ومدى تحويل أفكارهم لإجراء أو نهجٍ يُمد الأعراف وقواعد التحكيم بفقهٍ مقبول ضمناً ولا يكون مثار جدل. فالاشتراكيون عندما يحكمون يضعون مبادئهم قيد التنفيذ ـ بما أمكن ـ والرأسماليون كذلك.

نحن هنا ننوي مواضعة هذا الكلام على قُريش قبل الإسلام، وكيف كانت تتعامل مع المسألة الاقتصادية ببساطة مع رؤية أخلاقية واجتماعية تتلاءم مع خصوصية المجتمع في مكة آنذاك. وكيف أن تلك المسألة تركت مساحات واسعة في المادة الإسلامية من خلال القرآن الكريم، ومن خلال الأحاديث النبوية الشريفة، وكيف أنها احتلت مساحة هامة في التعاطي الاقتصادي للدولة الإسلامية حتى انهيار الدولة العثمانية.


(1)


عندما انتصر (قُصي بن كلاب) مؤسس دولة مكة قبل الإسلام، حيث استطاع أن يدخل مكة بجماعته قريش التي كانت تسكن في أطراف مكة، فبعد أن تزوج قصي من (حُبّى) ابنة حليل ابن حبشية الخُزاعي الذي كان مسئولاً عن الكعبة والذي كان أمر مكة كلها بيده، فولدت (حبى) لقصي أولاداً كُثر، وصدف أن ورد مكة للحج تاجر (جلود) معه مالاً كثيراً، فتوفي أثناء الحج فوهب ماله كله لقصي.

وعندما مات (حليل)، أوصى بمفاتيح الكعبة لابنته (حبى)، فقالت لا أستطيع حمل وفتح الأبواب، فتولى الأمر أخوها (أبو غبشان: واسمه المحترش ابن حليل) وكان في عقله خلل، فاشترى قصي منه المفاتيح بزق خمر، وكان ذلك من أسباب نشوب الحرب بين (خُزاعة) و(قريش)، فاستعان قصي بأخٍ له من أمه اسمه (رزّاح) بن ربيعة من قبيلة ضبة فانتصرت قريش على خزاعة وبدأ قصي بتأسيس دولة مكة وتقسيم الأدوار فيها*2

لقد كان للملأ الأعلى الذي يحكم دولة مكة الدور الأكبر في تأسيس ثقافة تُنتج القواعد والقوانين وعقد (الأحلاف)، بقيت مؤثرة في طبيعة الدولة حتى الصدر الأول من الدولة العباسية، مروراً بدولة الخلفاء الراشدين ودولة الأمويين وانتهاءً بعهد الأمين ابن هرون الرشيد. كانت تتصارع مع تعاليم الإسلام بنبذ العشائرية وإحلال العدالة، تتغلب عليه أحياناً ويتغلب عليها أحياناً أخرى، وقد ظهر جلياً تغلب الإسلام على ثقافة قريش في عهد الرسول صلوات الله عليه، وفي جانبٍ كبير من عهود الخلفاء الراشدين وعهد عمر ابن عبد العزيز (الأموي)، ولكنها لم تختفِ حتى يومنا هذا.

لقد كان اقتسام الأدوار في دولة مكة قبل الإسلام، الأثر الهام في ديمومة الدولة في العصر الجاهلي، فأصبح الى جانب الكعبة ، دار الندوة يديرها (الملأ) ، الذي كان أشبه بمجلس الشيوخ ، لا يدخله من لم يبلغ الأربعين عاما .

وكانت الصفوة المتزعمة (حكومة العشرة) التي كانت تمثل بطون قريش ، وتوزعت مهماتهم على النحو التالي:*3

1ـ بنو هاشم ـ سقاية الحج(وزارة الري) ويمثلهم العباس ابن عبد المطلب .
2ـ بنو أمية ـ الراية ( الحرب) ويمثلهم أبو سفيان .
3ـ بني نوفل ـ الرفادة(التموين) يمثلهم الحارث بن عامر .
4ـ بنو عبد الدار ـ السدانة والندوة يمثلهم عثمان بن طلحة .
5ـ بنو أسد ـ المشورة العليا (المحكمة) يمثلهم يزيد بن زمعة الأسود.
6ـ بنو تميم ـ الرايات والغرم (العدل) ويمثلهم أبو بكر الصديق .
7ـ بنو مخزوم ـ القبة و الأعنة (الجيش) ويمثلهم خالد بن الوليد .
8ـ بنو عدي ـ السفارة (الخارجية) ويمثلهم عمر ابن الخطاب .
9ـ بنو جمح ـ الأيسار (الكهانة) ويمثلهم صفوان بن أمية .
10ـ بنو سهم ـ الأموال الموقوفة (الأوقاف) الحارث ابن قيس .

(2)

ومن المسائل الأخلاقية التي تركت أثرها في نفوس العرب ما كان سائداً من انتحار جماعي والذي كان يُسمى (الاعتفاد)، فعندما كانت عائلة تجوع ولم تجد ما تأكله يقوم رب الأسرة بإغلاق الأبواب على العائلة، والجلوس صامتين حتى الموت!

كان هذا اللفظ معروفا ومتداولا بينهم حتى الأطفال يعرفوه . فيحكى أن عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ، كان له طفلا يدعى أسد وكان لأسد تربا أي صديقا يلعب معه ، وقد أخبره تربه ذات يوم أنه في الغد لن يحضر للعب ، لأن أسرته ستكون في حالة إعتفاد ، فتكدر أسد وذهب الى أمه باكيا ، فأعطته بعض الدقيق وشحم السنام ، فأرسلها الى بيت صديقه ، أكلوها في عدة أيام ، ثم عاد صديقه ليخبره بأنه لن يحضر للعب في الغد لأنهم في حالة إعتفاد.*4


وعندما أخبر أسد والده عمرو بن عبد مناف ، وكان سيدا في قومه ، جمعهم فقام خطيباً في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثاً تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الإعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الإعتفاد، ففعلوا. ثم انه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسميّ هاشماً. وفيه قال الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

تم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارة، فما ربح الغني قسّمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:

والخالطون فقيرهم بغنيهّـم... حتى يصير فقيرهم كالكافي
وهذه أول إشارة عربية قديمة للعدالة الاجتماعية

هوامش
*1ـ العرق والتاريخ/ كلود ليفي شتراوس/ نشرته اليونسكو عام 1952، وترجمه للعربية: سليم حداد، وصدرت الترجمة حديثاً عن دار المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
*2ـ قُريش: من القبيلة الى الدولة المركزية/خليل عبد الكريم/ القاهرة: سينا للنشر ط2 سنة 1997 صفحة 36
*3ـ مقدمة في دراسة المجتمع العربي/ الياس فرح/ بيروت: دار الطليعة ط
سنة 1980 صفحة 48
*4ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ بيروت: دار العلم للملايين.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 16-11-2014, 01:27 PM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

محيط مكة عشية ظهور الإسلام

يتساءل أعداؤنا لماذا نزلت رسالة الإسلام في مكة وعند العرب؟ ولم يكن لديهم إلا الجهل، فسمى مؤرخوهم (أي العرب: والكلام للمتسائلين) العصر الذي سبق الإسلام بالعصر الجاهلي؟

من جانب آخر، فإن المنحازين للعرق العربي، يفسرون الآية {كنتم خير أمة أُخرجت للناس} بأن هذا تصريح من رب العالمين بأن هذه الأمة مؤهلة لتلقي الرسالة السماوية ونشرها. ولن ندخل في تفصيلات التفسير لتلك الآية والمواقف المختلفة منها، ولكن أوردنا ذلك لتبيان الرأيين للتأسيس عليهما.

لقد اكتفت الأيديولوجية الماركسية بالتركيز على الجانب المادي والاقتصادي في نظرتها للإسلام، فلم تجد في الجاهلية غير مجتمع الصحراء والعلاقات الاجتماعية القائمة على المشاعية والعبودية والاستغلال الطبقي لكبار التجّار. ولم تجد في الإسلام غير (دين) الصحراء الذي نشأ في (وادٍ غير ذي زرع). ولم تنفذ الى جوهر العلاقة بين المراحل التاريخية، ولم تتبين الدور الحقيقي للإسلام في حياة العرب.

لم يكن عرب الجزيرة معزولين عن محيطهم ثقافياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً، بل كانوا متواصلين معهم يعرفون كل التفاصيل عن ذلك المحيط، من فرس وروم وأحباش وأقباط، ومسيحيين ويهود وأحناف وعبدة النار وعبدة الأصنام. وقد مَنّ الله في كتابه الكريم عليهم بذلك عندما قال {لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}. وقد ذهب بعض المفسرين لكلمة (إيلاف) بأن قريش كانت مُحاطة بثلاث قوى كبرى (في وقتها) (الفرس والروم والأحباش)، وسكوتهم عن قريش هو الإيلاف الذي آمنهم من خوف.

(1)

في المجتمعات البدائية، يكون المجتمع امتداد للطبيعة، يغلب عليه السكون، وظاهرة تقسيم العمل مفقودة، وهو في مرحلة غياب الوعي الاجتماعي وغياب المنطق وغياب فكرة الزمن وهيمنة القيم السحرية وضعف الشعور بالمكان، ولا يوجد شعور جمعي.

في المجتمع البدوي، يكون المجتمع صحراوي قائم على تحدي الطبيعة ومتحرك قائم على التنقل والصراع ويبدأ ظهور تقسيم العمل وبذرات الصراع الطبقي، ومرحلة المنطق الحسي، وبدايات الوعي برباط اجتماعي ضيق(قَبَلي)، والتعامل مع الزمن في بُعده (الحاضر)، وبروز قِيم خُلقية وجمعية.

إذا أردنا أن نمر على بعض صفات المجتمع الجاهلي ونتلمس الجيد منها، فلنتتبع ذلك بالقرآن الكريم وما يذكره في النهي عن بعض الصفات ومحاكمة ذلك المجتمع من خلالها:

وأد البنات: {وإذا الموؤودة سُئلت بأي ذنب قُتلت}، وكان ذلك خوفاً من أن تضطر العائلة لزواج البنت من عائلة غير كريمة، أو يضطرها الفقر الى دفعها للبغاء، {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا}، فالدوافع وجيهة وإن كان الإجراء مكروهاً وسيئاً.

قتل الأولاد أو حتى الأسرة بالكامل {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم}؛ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} وقد مررنا على ذلك في ظاهرة (الاعتفاد).

أكل الميتة والدم: كانت بعض الأسر تنقع بعض الجلود بما تبقى بها من لحم ناشف من (سخلة) ميتة منذ مدة لتأكلها من شدة الجوع، وكان الفقير إذا جاءه ضيفٌ يذهب الى راحلته الوحيدة ويستخلص دماً من أسفل ركبة الجمل ويضعه في (جفنة) ويقربه من النار ليتخثر ويخلطه بالتمر، وذلك ليقوم بواجب الضيافة،*1 وقد جاء في التنزيل تحريم الدم والميتة.

(2)


لقد كان لمكة في عصر ما قبل الإسلام دورٌ مركزي احترمته شعوب المنطقة المحيطة بالجزيرة العربية، وذلك الدور لم يكن يتم بالانتخاب أو بالفرض القسري، ولكنه على ما يبدو كان اعترافاً ضمنياً بأن تلك الشعوب المحيطة منشأها الأصلي من تلك البقعة أو محيطها القريب.

إن باحثاً، كالعالم الإيطالي كايتاني L. Caetani يعتقد بأن (جنة عدن) المذكورة في كتب التاريخ القديم، كانت حقاً في جزيرة العرب، وأن بلاد العرب كانت جنة حقيقية وبقيت محافظة على بهجتها حتى الألف الخامس أو الرابع قبل الميلاد، وأن موجات الهجرة المتتالية وصلت بأبناء الجزيرة حتى سواحل المحيط الأطلسي (المغرب وموريتانيا وحتى السنغال)، فانصهر العرق العربي مع الأعراق الأخرى، وأوجد نوعاً من التلاقح الروحي بقي حتى يومنا هذا*2

وما يؤكد هذا الرأي أن منطقة المغرب العربي الكبير قد كانت تحت الحكم الروماني لأكثر من سبعة قرون، لم يستطع خلالها الرومان تنصير أهلها، في حين ما أن دخلت موجات الفتح الإسلامي تلك المنطقة سرعان ما انخرط أبناؤها بالدين الجديد واشتركوا بسرعة فائقة في الفتوحات والتي وصلت أطراف أوروبا الجنوبية (إيبيريا: الأندلس وما حولها)، ولأن تلك المنطقة الأوروبية ليس بها من خاصية التلاقح الروحي لم يبق الإسلام فيها كما هي الحال في شمال إفريقيا، رغم أن مدة حكم العرب لها تفوق مدة حكم الرومان لشمال إفريقيا.

(3)

عندما أراد الخليل بن أحمد الفراهيدي والنصر بن سيّار تدوين الكلام العربي، وضعوا جذوراً لأكثر من مليون ونصف كلمة*3، يتعامل بها أبناء اللغة العربية بيسر حتى اليوم. في حين لا يستطيع أبناء بريطانيا قراءة شكسبير دون الاستعانة بقواميس وهو لم يمض على وفاته خمسة قرون.

لقد عَدَّ المفكر الألماني (هردر Herder 1744ـ1803) أن اللغة ليست مجرد أداة للفكر، بل هي أيضاً القالب الذي يتشكل فيه الفكر، ولا نظن أن هناك من يجادل في كون الطفل الصغير يتعلم التفكير بواسطة الكلمات التي تقدمها له لغة المجتمع الذي ينشأ فيه.

كانت مركزية مكة تُدعم بالنشاط الثقافي وحتى الفكري السياسي من خلال تجمع ما يشبه المهرجان السنوي في سوق (عكاظ) ليتبارى فيه الشعراء، الذين ينشدون الشهرة في محيط أرحب من محيطهم الذي أتوا منه.

فلنتأمل هذا الشعر لزهير بن أبي سلمى:

ومن يك ذا فضـل فيبخـل بفضلـه .. على قومـه يستغنـى عنـه ويذمـم

ومن هـاب أسبـاب المنايـا ينلنـه .. وإن يـرق أسبـاب السمـاء بسلـم

ومن يجعل المعروف في غير أهلـه .. يكـن حمـده ذمـا عليـه ويـنـدم

إنها حِكم من معلقة طويلة تلخص القواعد الخلقية وأسباب الحروب الخ.

أو لنتأمل هذه الأبيات للأفوه الأودي:

والبيـتُ لا يُبْتَنَـى إلا لـهُ عَمَـدٌ......ولا عِمـادَ إذا لـمْ تُـرْسَ أَوْتـادُ
فـإنْ تجمـعَ أَوتــادٌ وأَعـمـدَةٌ........وساكنُ بلغوا الأمرَ الـذي كـادوا
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لَهُمْ..........ولا سَـراةَ إذا جُهالُهُـمْ ســادُوا

لقد شبه الشاعر الدولة ببيت البدو، الذي لا يقوم إلا على أعمدة، ولن تنفع الأعمدة إذا لم تثبت حبال الشد أوتاد.. الخ

كانت لغة قريش، والتي هي تشبه لحد كبير لغة بني إياد (عرب العراق) هي بمثابة اللغة الرسمية التي يتوجب على التجار والشعراء الإلمام بها، وهي اللغة أو اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم، والتي يتعامل بها عرب اليوم.



هوامش
*1ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ بيروت: دار العلم للملايين.
*2ـ مقدمة في دراسة المجتمع العربي/ الياس فرح/ بيروت: دار الطليعة ط2
سنة 1980 صفحة 39
*3ـ تكوين العقل العربي/ محمد عابد الجابري/ بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الخامسة 1991؛ صفحات 75 وما بعدها.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 21-11-2014, 02:45 PM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

غنائم وهزائم

لم يُعثر في صفحات التاريخ أن أجمع كُل الناس على الثناء على أي دولة أو نظام سياسي بشكل كامل، كما لم نجد في تاريخ الرُسل والأنبياء أن كانت الطاعة والموالاة والإتباع لأي منهم دون ظهور أعداء، إلا في حالة (إدريس) عليه السلام، والذي يظهر في التاريخ الإنساني باسم (هرمس).

الأفراد لا يقومون بإطاعة السلطة من أجل الطاعة ذاتها، وإنما يطيعونها من أجل أهداف يعتقدون أنها ستتحقق عندما تؤدي هذه السلطة عملها.*1 وإن لم تؤدي السلطة عملها تظهر القلاقل.

تعتمد مسألة تحقيق الأهداف، على قدسية ونزاهة الأهداف، وعلى قوة القائمين على سير تنفيذها وِفق مجموعة من الضوابط التي تتماها مع تلك القدسية، حيث ينتشر العدل والمساواة وعدم المحاباة وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء.

في الحالة الإسلامية الأولى، كان التشريع من الله رب العالمين والتنفيذ من رسوله المعصوم صلوات الله عليه، ومن بعده صحابة كانوا يتصفون بالزهد واليقين والخوف من الله، فكان سلوكهم مُطابقٌ لدرجة شبه كاملة مع ما يُفترض أن يكون ممثلاً لأوامر الله ونواهيه.

(1)

في معركة (بلاط الشهداء) انكسر المسلمون بعد معارك طاحنة استمرت سبعة أيام، واستشهد منهم الكثير وعلى رأس من استشهد القائد عبد الرحمن الغافقي، الذي أراد الثأر للقائد (السمح بن مالك الخولاني) الذي استشهد في معارك قبله وجهه إليها والي الأندلس الجديد (عنبسة بن سحيم الكلبي) الذي خلف موسى بن نصير، وقد انكسروا بسبب ما كانوا يحملونه من غنائم حصلوا عليها في طريقهم الطويل الذي انتصروا في كل معاركه، والممتد من (قرطبة) الى ما بين بلدتي (تورو) و (بواتيه) قرب باريس، فقد أثقلت تلك الغنائم ظهور الركائب والمشاة، كما أنها احتاجت الى حامية قوية تحميها، وفهم الإفرنج تلك الخاصية عند جيش المسلمين، فأتوا من الخلف وهزموا المسلمين*2.

وأينما وجدت في تاريخ العرب والمسلمين هزيمة، فابحث عن الغنائم، ففي حصار روما في القرن الثالث الميلادي على يد (زنوبيا) ملكة تدمر وحلفائها من العرب والأرمن، وبعد أن تغير خلال أسبوع سبعة قياصرة لروما، وكان دخول روما قاب قوسين، كانت قضية الغنائم وراء هزيمة (زنوبيا) وفرار جيشها الذي استولى على ممتلكات الجيش نفسه.

وفي معركة أحد كاد المسلمون أن ينتصروا لو التزموا بأمر رسول الله المعصوم صلوات الله عليه، لكن الرماة المكلفون بالمكوث على الجبل نزلوا لينالهم بعض الغنائم فانهزموا في أحد!

(2)

لم تكن مسألة الغنائم مقتصرة على ما يتم نيله في الحروب، ولكنها امتدت لأكثر من شأن، وعلى رأس تلك الشؤون السلطة السياسية نفسها، ولن نناقش مسألة الورع وتفاوت عُلية القوم بمستوياتهم فيه، بل ما نهتم به كان الخلافات السياسية الشديدة التي حدثت بين الصحابة ومن بعدهم التابعين، حتى انتهت الى الاستعانة بغير العرب أو حتى غير المسلمين.

فالفتنة التي حدثت في عصر الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضوان الله عليه كان وراءها تعيين ستة من الولاة من أقاربه، ومنهم عُبيد الله بن أبي السرح والي مصر أخ عثمان من أمه، والذي أفسد في البلاد وجاء أهل مصر للمدينة المنورة طالبين تغييره، وعندما تم استبداله ب (محمد بن أبي بكر)، قام مروان بن الحكم بتزييف كتاب بعثه لابن أبي السرح بضرب عنقه، وختمه بخاتم الخليفة عثمان، وحدث ما حدث والقصة معروفة*3

ما تركته تلك الفتنة بقيت آثاره حتى اليوم، صراع على السلطة، زعم بأن كل طرف هو صاحب الحق المطلق! وأن الطرف أو الأطراف الأخرى، خارجة عن الملة كافرة، والحقيقة أن ذلك الصراع يترك آثاره الوخيمة على الجمهور الذي يفتقر الى القوة، فينجر أحياناً وراء طرف ضد طرف.

(3)

سيقول قائل: هل قضية الغنائم هي وِقفٌ على العرب أو المسلمين دون غيرهم؟ ألم تكن قبائل التتار والمغول والقبائل الإسكندنافية وقبائل الجرمان وغيرها تهاجم من أجل الغنائم؟ ألم تكن الاستكشافات لأمريكا وأستراليا، تتم بنفس الدوافع؟ ألم تكن الحروب الحديثة تتحرك بنفس الدوافع؟

نقول: نعم، ولكن تلك الشعوب والغزوات وغيرها ما تمسك منها بالقبلية قد فني وآل مآله الى السقوط والاندثار، فأين القبائل التي أتت من اسكندنافيا وأين التي أتت من الهضبة الصينية والمنغولية، وحتى تلك التي كانت تزعم أنها تحمي الدين (أمويون؛ عباسيون؛ عثمانيون؛ الخ)، ليس هناك فكر اقتصادي منسوب لعشيرة أو قبيلة!

إن الأفكار الاقتصادية التي صمدت وتطورت، تطورت بالمحاذاة مع الإبداع وروح التوافق والقبول لكل الأطراف المنتجة والمبدعة، وهذا ما يفسر صمود الأمريكان الغزاة لقارة أخرى، مع التحفظ على وحشيتهم في تصفية السكان الأصليين، وهكذا فعل الأوروبيون في بلادهم، بعد حروب طاحنة تكللت بحربين كونيتين، فلم يستطع أي منا تحديد عشيرة الرئيس الفرنسي أو رئيس وزراء الدنمرك مثلاً.

من جانب آخر، بقي حكام العرب يبحثون عن كاريزمية دينية، ليلوذوا وراء ساترٍ يحاولون من وراءه حصد المكتسبات على حساب الجمهور العريض.




هوامش
*1ـ الدولة نظرياً وعملياً/ هارولد لاسكي/ إعداد: سعيد شحاتة/ الهيئة العامة لقصور الثقافة الطبعة الثانية (2012) صفحة 14
*2ـ دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية/ عبد الحليم عويس/ مكتبة المصطفى الإلكترونية.
*3ـ العقد الفريد/ العسجدة الثانية/ ابن عبد ربه الأندلسي/تحقيق: محمد سعيد العريان/ المكتبة التجارية الكبرى 1953
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-11-2014, 10:48 PM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

المبالغة في تكييف النصوص الدينية بما يخدم نظام الحكم


علينا أن لا نتوهم بأننا أصحاب فكرٍ وحيد في العالم وعلى مر التاريخ يُنادي بالعدالة الاجتماعية، هذا الهاجس الذي أشغل البشرية منذ نشأتها، ولا يزال يشغلها حتى يومنا هذا. ففي الشرق ظهرت ديانات وثنية ك (الطاوية، والكونفوشيوسية) تحمل دعوات للعدالة الاجتماعية عن طريق المناداة بمشاعة الثروة؛ وفي إيران القديمة ظهرت (المزدكية) التي أعلنت صراحة الى تحطيم الطبقات المنغلقة الذي ركز الثروة في أيدي الأكاسرة والطبقات المحيطة بهم لحمايتهم.

ونحن إذ نعترف بذلك، لا يمنعنا ذلك من أن نتفاخر بأن دين الإسلام قد كَثَّف كل ما هو خَيّر من الديانات والأعراف والتقاليد التي سبقت الإسلام، ووضع لها ضوابطها وفقهها الخاص وطرائق حمايتها من العبث، حتى غدت قواعد تحمل بذور ديمومتها وبقائها الى قيام الساعة فيما لو وجدت من ينفذها بأمانة وإيمان.

في جميع الأحوال، حيث تصدر تعليمات، سماوية كانت، أم وضعية، فإنها لن تكتسب قيمتها الحقيقية إلا في التنفيذ والتطبيق. وقد أورد عالم الاجتماع (علي الوردي) طرفة تؤدي لنفس المعنى والاستنتاج، حيث قال: دخل إعرابي على سوق الوراقين (حيث تُباع الكُتب) في إحدى المدن العراقية القديمة وقال: أراهنكم أنني أعرف ما تحتويه كل هذه الكُتب! فاستغرب الحضور من قوله وهو رجلٌ أمي فسألوه: كيف ذلك يا ابن العرب؟ فقال: كلها تقول (يا هذا صير خوش آدمي: أي أنها تدعو الى الفضيلة).

(1)

لو أخذنا مسألة واحدة أتت في النصوص القرآنية وركزنا على كيفية التعامل معها على مر العصور الإسلامية، وكيف قام المؤولون بتأويلها وِفق الحالة السياسية القائمة، لوجدنا أن إمكانية التكييف تتم بما يلاءم الوضع السائد وعلى حساب روحية النص.

المؤلفة قلوبهم: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }[التوبة 60]، وهؤلاء عدة أصناف منهم الشريف ومسموع الكلمة بين قومه، كأبي سفيان وابنه معاوية وعيينة بن حصن وعباس ابن مرداس، وقد جاء في الأثر أن الرسول صلوات الله عليه، كان يعطيهم سدس حصته من الغنائم.

عندما توفي رسول الله صلوات الله عليه، جاء هؤلاء الى أبي بكر فأعطاهم كتاباً الى عمر ابن الخطاب رضوان الله عليهما، من أجل أن يعطيهم، فمزقه وقال: لا حاجة لنا بكم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلا السيف بيننا وبينكم فرجعوا الى أبي بكر وسألوا: أأنت الخليفة أم هو؟ فأجاب: بل هو، ونفذ رأي عمر..*1

لا نريد أن نستجوب ذلك الموقف من زاوية دينية، فقد اعترض عليه كثيرون على مر التاريخ كونه (نص) بين واضح لا يجوز التحايل عليه، كما أيده الكثيرون أيضاً، بحجة أن الظروف قد تغيرت، وقد تكون هذه الآيات ملائمة لظرف نزولها، كما كانت آية (الجمع بين الأختين)، [النساء 23]، فمنذ نزول الآية حتى يومنا هذا لم يجمع أي مسلم بين الأختين.


إن العلاقة بين الصحابيين الجليلين (أبو بكر وعمر)، هي علاقة صحابة تتلمذوا على يد رسول الله صلوات الله عليه، فالهم الأول عندهم هو إحقاق الحق، وقد يتبادل الصحابيان الأدوار، فيكون أبو بكر حازماً وعمر ليناً، ففي حروب الردة، اعترض عمر لدى أبي بكر على محاربة مانعي الزكاة، مستنداً الى أنهم شهدوا أن (لا إله إلا الله؛ محمداً رسول الله)، فلو أمهلوا وأعطيت لهم حصة المؤلفة قلوبهم، لقوي إسلامهم. رد أبو بكر: أجبارٌ في الجاهلية، خوارٌ في الإسلام؟

(2)

ما إن استتب الأمن وتوسعت دولة المسلمين، حتى أخذ حب الدنيا يتصارع مع حب الآخرة، وعندما يكون هناك رقيبٌ من المسلمين يضرب على أيدي العابثين بقوة فإنهم سيحسبون ألف حساب.

عندما عاد أبو هريرة من البحرين وكان عاملا عليها، أحضر معه مالا كثيراً، فقام عمر بإحصاء المال وقال له: (استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف وستمائة دينار، فقال: هي أفراسي تناتجت عندي فقال له: حسبنا لك كل شيء فضربه بالدرة حتى أدمى ظهره،فرد المال الى بيت المال، فقال: سأردها واحتسبها عند الله، فقال له عمر: هذا لو كانت من حلال مالك.*2


(3)

ونحن نتأمل بالقصة السابقة، فإننا نجد أن عاملا كأبي هريرة، نُقل عنه الحديث، وهو بتلك المآخذ الدنيوية التي كشفها عمر، وقد يكون الاثنان بنفس الدرجة من التقوى والورع، ومن حولهم لا زال معظمهم قد استمع الى رسول الله صلوات الله عليه. كيف لنا في هذه الأيام أن نجد مثل نقاوة ذلك السلف الصالح؟. ولنحذر طبعاً من اتخاذ موقف سلبي من صحابة رسول الله، فهم من ساهم في تأسيس مجتمع إسلامي، وتمشياً مع الحديث القائل ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة)).

والضعف في المسألة آتٍ من الطبيعة الإنسانية، الممزوجة بالضعف والطمع وحب السلطة، وعدم توصل المسلمين لحد اليوم في إيجاد ضابط لتناقل السلطة ولجم من يريد أن يستقوي على المسلمين.

لقد تم تكييف لفظ (المؤلفة قلوبهم) في العهد الأموي بصورة يخجل المنتمون لهذه الأمة وبهم ذرة إيمان منها.

ستسوق أحداث الأمويين واعتبارهم سادة على البلاد المفتوحة، حتى يظهر فكرٌ يعادي مثل تلك الأنظمة، ولكن مؤرخو السلاطين يتهموا هؤلاء بالمروق من الدين وإشاعة طقوس غريبة!*3

وقد ساهم علماء الدين، في حماية الأنظمة، ولا يزالوا، وفي العهد الحديث كنا رأينا كيف أن شيخ الأزهر عبد الحليم محمود في عهد الرئيس جمال عبد الناصر قد أفتى أن الاشتراكية هي أساس الاقتصاد الإسلامي، ولكنه في عهد السادات قال إن الدين الإسلامي هو دين الرأسمالية، واستشهد بعشرات الأغنياء من المسلمين الذين أمدوا الدعوة بالمال*4


(4)

لقد أصبحت فكرة المؤلفة قلوبهم، وكأنها عباءة ممزقة يخرج المفتي يده من أي خرق، حتى أن الغرب اكتشف ذلك عندنا، فابتدع المساعدات الشخصية للملوك والرؤساء، ولدولهم، ولجمعياتهم الخيرية، وذلك للنفاذ الى قلب الأمة.

لم يعد هناك مانع من تعيين ثلاث رؤساء وزراء من بيت واحد، ولا وزراء ولا أصحاب رتب الجيش العليا، إنهم يُعينوا تحت فقه المؤلفة قلوبهم وهو في الحقيقة غير ذلك، إنهم أنظمة غير شعبية لا تسأل عن الشعب ولا تثق فيه، فتخترع بؤراً لتفريخ المناصب العليا بحجة أمن النظام الذي يُستبدل بالمؤلفة قلوبهم.





هوامش
*1ـ السيوطي/ الدر المنثور/ ج3 صفحة 251
*2ـ أبو ذر الغفاري/ عبد الحميد جودة السحار/ القاهرة 1943 صفحة 156.
*3ـ النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية/ حسين مروة /بيروت 1978 الجزء الثاني يتكلم عن مثل تلك النماذج.
*4ـ المهمشون في التاريخ الأوروبي/محمود إسماعيل/ القاهرة: رؤية للنشر 2009 صفحة 17.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 01-12-2014, 02:54 PM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

وجبة حافظة


في علوم تغذية الحيوان، هناك عدة أسماء لعلائق التغذية، إنتاجية حيث تنتج الحليب أو اللحم أو العمل، وأخرى لرعاية الجنين، وهناك عليقة حافظة أي تبقي الحيوان على ما هو لا يُرادُ منه حليباً ولا لحماً ولا يُراد له أن يموت! وبالطبع فإن حساب عليقة بقرة تحلب عشرين لتراً من الحليب وفي بطنها جنين عمره خمسة أشهر، فعلى حاسب برنامج التغذية أن يبدأ بالعليقة الحافظة ثم في احتياج البقرة من الغذاء لإنتاج الحليب ثم حاجة الجنين فيقدمها جميعا.

قد تكون الفروق بين تغذية الحيوان وتغذية الإنسان تميل لصالح الحيوان على الإنسان، وليس السبب هو دوافع (الرفق بالحيوان)، بل لأن المصلحة واضحة وضوح الشمس، فإذا كانت وحدة العلف ثمنها دولار واحد، فإذا أعطي عشر وحدات منها أعطت حليبا بخمسة عشر دولارا، فلماذا يتردد المُربي في تقديم مثل ذلك العلف؟

لكن أين وضوح المصلحة في حالة الإنسان؟ دعنا من شعارات الاستهلاك الإعلامي: الإنسان أغلى ما نملك! وحقوق الإنسان! وغيرها من الكاليشهات الصماء، فكل الإشارات المحلية والعربية والعالمية تدلل على أن العالم يمارس ضد هذه الشعارات ويسعى لتعميق تلك (الضدية).

(1)

في المطاعم الفخمة، يستمع الزبون (الفخم) لموسيقى مبتكرة لتلاءم الأجواء، وينحني النادل مقدما قائمة مطوية في حافظة جلدية أنيقة، تُعلن عن الموجودات في المطعم (غب الطلب)، ولكن إذا أراد الزبون (الفخم) (حليب العصافير)، فإن عليه أن يهمس بإذن النادل لينحني النادل مرة أخرى ويقول: نعم سيدي، هذا ممكن!

في المعتقلات السياسية والسجون بشكل عام، فإن اللحم المقدم يحمل من اللحم فكرته، ولا أحد يدري متى ذُبح الحيوان المقدم لحمه، هل كان ذلك قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية أم بعدها؟ وما هو الحيوان المذبوح أصلاً، هل هو عجل أم كركدن أم ماذا؟ لقد وقعت عيني ذاك يوم عندما اضطر المعتقلون إدخالنا من باب خلفي (يمر على المطبخ)، على فخذ قطره يفوق سعة بطن أي ثور رأيته في حياتي.

إذا كانت تغذية الحيوانات تحكمها المصلحة، وتغذية المعتقلين تحكمها معايير مختلفة، لكنها ليست بعيدة في أي حال عن مصلحة النظام، فتغذية الشعب ماذا يحكمها من معايير؟

(2)

لا يقوم السجين السياسي أو غيره بتسديد أثمان الوجبات المقدمة إليه مهما كانت نوعيتها، إلا في حالات المساجين الاستثنائيين، ولا تقوم البقرة بتسديد ثمن العليقة العلفية، حتى لو نفقت (ماتت)، قبل أن تعطي لترا واحدا من الحليب، ولن يُسجل ذلك على ورثتها!


المواطن أحد أفراد (الجمهور)، ليس ذلك الذي يذهب الى المطاعم الفخمة، وليس هو بالمعتقل السياسي، ولم يعترف أحدٌ به أن له دور يفوق دور البقرة الحلوب، هو الوحيد (فائن الحظ، قليل البخت) الذي يعاني معاناة شديدة، فحتى الحد الأدنى لا يمكنه الحصول عليه، هو يعرف الحد الأدنى وحتى الحد الأعلى فالتلفزيونات ولوحات الدعاية في الشوارع والمجلات الموضوعة على مناضد الحلاقين وأطباء الأسنان، أطلعته على مكونات الحد الأعلى!

هو يحلم، باقتناء بعض ما عرفه أو رآه أو سمع عنه، أو أنه يحلم بأن يتذوقه يوما ما، لكن أحلامه تلك، كمن وجد صندوقاً به مائة كتاب عن الطبخ الصيني، وعندما أراد تطبيقها في مطبخه، لم يجد إلا بعض كسرات خبز وبصلة وقليل من الملح، فلم تشفع له الكتب شيئاً.

(3)

لن يموتوا جوعاً! سيقول ذلك أحد المسئولين، أو أحد الذين يكرهون مثل تلك الأحاديث، وإن حاصرته بالأسئلة: كيف سيدبرون أمورهم ولا رواتب مستقرة لهم؟ وحتى لو كانت لهم رواتب، ألا ترى كيف سيعلمون أبنائهم وكيف سيرعون صحتهم وكيف سيدفعون أجور بيوتهم ومئات الكيف؟

سيجيبك: ومن قال لهم أن يتزوجوا؟ ومن قال لهم أن يتكاثروا بتلك الكيفية؟ ومن قال لك أنه من الضروري تعليم أولادهم وعلاجهم! ثم إنهم يسرقون ويمارسون عادات سيئة ويدبرون أمورهم! سيجدون وجبة حافظة (هو لا يريد أن يقول عليقة حافظة، لأسباب إنسانية!).

إن الثلة القليلة التي تُشرع للأغلبية الساحقة، كانت لفترة واثقة من نفاذ سيادتها الأزلية على مقدرات الأغلبية الساحقة، ولكنها على ما يبدو ليست متأكدة من ذلك في هذه الأيام في كل بقاع العالم.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .