حبيب راشدين .. كاتب جزائري له يد طولى فيما يكتبه ..
لم يشهد التاريخ الحديث إجماعا كالذي حصل بين حكومات العالم، من العالم الحديث والعالم المتخلف، المسلم منه والمسيحي، والبوذي والهندوسي وعبدة الشمس ومن لهم حنين إلى عبادة النار، إجماع على كراهية واستعداء فئة قليلة من مثل القاعدة.
لقد سبق القاعدة في التاريخ الحديث جماعات مماثلة حاولت الخروج على النظام المنظم الذي تفرضه القوى الغالبة في كل زمان ومكان، فقد كانت نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين حقبة راجت فيها الجماعات المتطرفة العدمية مثل الجماعات الفوضوية، وتلتها جماعات متطرفة من اليسار الشيوعي، وظهرت حركات يمينية وشيوعية فاشية، لكنها جميعها كانت تجد قدرا من التفهم والقبول عند أطراف من النظام الرسمي أو القوى السياسية والحركات الفكرية الموالية أو المعارضة.
وفي كل الأحوال لم يحدث في التاريخ أن تداعت الإمبراطوريات والقوى العظمى فيما بينها إلى حلف مقدس لمحاربة هذا التنظيم أو ذاك كما حدث مع القاعدة. شئ ما في هذا التنظيم، في عقيدته أو خططه أو أهدافه أو في سلوكه القتالي يكون قد شكل نقيضا فيه مقتل للنظام العالمي، تجاوزت بشأنه الدول والحركات الفكرية والسياسية السائدة تناقضاتها لتجمع على ضرورة المجازفة بهيبتها، وقواها الناعمة والصلبة في حرب كونية ضد جماعة لا يزيد عددها على عديد كتيبة.
قد ننساق بسهولة خلف التحليل الذي يقول بلجوء الولايات المتحدة إلى تضخيم التهديد الذي تشكله القاعدة خدمة لأجندتها الإمبراطورية واستعدائها للمسلمين، لكن ذلك لا يفسّر عداوة الروس والهندوس، والإمبراطورية الحمراء، والكنائس المسيحية، والمرجعيات العليا للشيعة والأقطاب من مشايخ السنة، ويلتقي اليمين واليسار والوسط من هذه الزمر التي تقود البشرية الحديثة كما يقود الراعي قطيع الأغنام.
حتى حزب الله الذي خلق قدرا من الإزعاج للمشروع الصليبي الصهيوني، وصنف في خانة الإرهاب، يمقت القاعدة، ولم نسمع من فصيل فلسطيني واحد كلمة خير تشد من أزر القاعدة. القاعدة وحدت حولها وحول الحرب عليها الصهاينة وأعداء الصهيونية، المسيحيين الجدد، ونصارى أوروبا العجوز، الشيعة المقاومين والشيعة العملاء، السنة من الحكام، والسنة مما يريد قطع رؤوسهم.
ما فعلته القاعدة بحادث واحد هو حادث 11 سبتمبر، لم يسبق لأي قوة في العالم أن أنجزته بهذا العدد القليل من المقاتلين، وتلك الوسائل البدائية، والجرأة التي لا حدود لها، وبكلفة لم تزد على 200 ألف دولار، خلفت دمارا في البنى الاقتصادية والمالية تقدر بملايين الدولارات، وتدميرا غير مسبوق للقوة الناعمة للغرب، وخرابا في منظمته الأخلاقية التي أعادته بخمسة قرون إلى الوراء.
ولعل الفارق بين نظرة النظام المنظم العالمي لتشكيلات صنفها في خانة الإرهاب، مثل حزب الله والفصائل الفلسطينية، أنها تستطيع في أية لحظة أن تفتح معها قنوات اتصال، وجسورا سرية قد تقود إلى تفاهمات وعقد صفقات، وسقف طلباتها محدود ومعلوم يستطيع النظام العالمي الاستجابة له بسهولة وبأقل كلفة، كما بإمكانه أن يحاصر تجربة حزب الله، ويصفي الفصائل الفلسطينية بالقوة والحصار.
غير أن ما بينه وبين القاعدة هوة واسعة وعميقة لا يمكن حسرها، وسقف أهداف ومطالب القاعدة فوق ما يسمح به النظام العالمي: فالقاعدة لا تطالب بتعديل حدود أو تحرير قطعة أرض، بل تريد انتزاع ثلث المعمورة من قبضة الغرب وجلاء العلوج عنها، وتريد للمسلم حيثما كانت جغرافيته يتمتع بكامل السيادة، وكيانا يحميه من عبث الأقوياء، وكرامة مصانة له حيثما حل، وتريد أن يعترف للمسلم بحقه الشرعي في التدافع لنصرة أخيه المسلم حيثما وجد.
هذا السقف العالي من الأهداف والطموحات هو بالتأكيد فوق ما يتحمله النظام العالمي، بل وما تطيقه النظم والنخب الإسلامية التي ارتضت جغرافية سياسية صنعها لها الآخرون. وفوق هذا وذاك فإنهم لم يبتكروا بعد لا السلاح ولا السياسة التي تكسبهم حزبا ضد حلم يختزنه مليار وثلث مليار مسلم.
الرابط