الديمقراطية التوافقية في السودان
يتصف السودان بأنه بلد متنوع التعدد، حيث يقال أن فيه 500 قبيلة و50 لغة محلية، ويعتقد الكثير من مثقفي القطر السوداني أن هذه الحالة هي من أكبر المعوقات لتحقيق الديمقراطية، وبالمقابل فإن هناك من المثقفين من يعتقدون أن تلك الحالة (التنوع والكثرة بالقبائل واللغات) هي من صالح من يريدون تطبيق الديمقراطية التوافقية.
وأراني ممن يميلون الى اعتبار هذه الحالة عاملا إيجابيا في تحقيق الديمقراطية التوافقية. وإن جاء السؤال لماذا؟ فيكون الجواب: أن حالة العالم بقطبه الوحيد الآن هي من أكثر معوقات تحقيق العدالة وتطبيق القانون الدولي، في حين أنه بحالة تعدد الأقطاب في العالم فإن التوافق سيكون سيد الموقف في تقريب وجهات النظر للخروج بصيغ تتماشى مع نظرات كل طرف.. وهذه الحالة نراها أيضا في البرلمانات التي لا يكون فيها حزب له أغلبية عظمى ليشكل الحكومة وحده، فبرامج الحكومات التوافقية أكثر قبولا من حكومات الحزب الواحد .. هذا في حالة أن تسلم القوى السياسية المحلية من أثر التدخلات الخارجية ..
أوهام الهوية والتحدي الديمقراطي
كغيرهم، السودانيون الذين عايشوا تطور الحضارة العربية الإسلامية، لم يكتفوا باستلهام ما فيها من قوة بل كانوا يتحينوا الفرص للانقضاض عليها، لم ينفردوا بتلك الظاهرة فقد سبقهم إليها الأوروبيون عندما استفادوا من فلسفة ابن رشد واستخدموها في الهجوم على الحضارة العربية الإسلامية *1. كما أن الإيرانيين قد عبروا عنها تعبيرا كاملا في أبيات قصيدة لمهيار الديلمي
قومي استولوا على الدهر فتىً .... ومشوا فوق رؤوس الحقبِ
عمموا بالشمس هاماتهمو ..... وبنوا أبياتهم بالشهبِ
وأبي كسرى على إيوانه ..... أين في الناس أبٌ مثل أبي؟
قد قبست المجد عن خير أب .... وقبست الدين عن خير نبي
فضممت المجد من أطرافه .... سؤدد الفرس ودين العربِ!
على أن مهيار الديلمي الذي يعترف هنا بفضل العرب ودينهم أقل شططا وتطرفا ـ هنا ـ من بعض الشعوبيين الذين تحاملوا دون تحفظ على العرب، مثل الماجن أبي نواس في قوله:
ليس الأعاريب عند الله من أحد! *2
حالات المعاداة للعرق العربي، وبروز قضية الهوية العرقية، وسحب ذلك على الوضع السياسي، وجدناها في الكثير من الأنشطة التي انتشرت في العراق و الأقطار المغاربية ولبنان، إضافة الى السودان، موضوع بحثنا، وإن وراء ذلك أطماع سياسية وأصابع صهيونية وإمبريالية، استغلت حالة التخلف العربي الراهنة وسوء الإدارات الحكومية وتدني المناقشة الثقافية للحركات السياسية العربية للقضايا الإثنية. وإن كانت الحركات في الأقطار العربية تشترك في أغلب الأحيان مع العرب بالديانة الإسلامية، فإنها بالسودان لا تشترك معهم فيها.
مسألة الهوية في السودان
عندما اطلعت على ما كتب (عبد العزيز حسين الصاوي) في أواخر تسعينات القرن الماضي عن العلاقة بين مسألة الهوية في السودان وتحقيق الوحدة الوطنية، تذكرت ما كنت شاهدته في أحد مؤتمرات (رابطة الطلبة السودانيين في الموصل) قبل اطلاعي على كتاب الصاوي بعشرين عاما. لقد استمر النقاش حول شعار المؤتمر الذي كان (نحو سودان عربي ديمقراطي موحد) أكثر من ثلاثين ساعة متواصلة(تقريبا). لقد كان حجم النقاش الذي دار حول الشعار منبها ثانيا للضيوف العرب الذين كانوا مدعوين للمؤتمر، أن هناك إشكالية هويات في الوطن العربي، بعد المشكلة الكردية التي كانت ماثلة في شمال العراق.. وعندما كان يحاول أحد الضيوف العرب التدخل بالنقاش، يفتح جولة جديدة من الاعتراض من قبل بعض الطلبة السودانيين (وبالذات أبناء جنوب السودان)، كان ملخصها : (أنظروا الى بشرتكم وانظروا الى بشرتنا .. ما الذي يربطنا بكم؟).
لقد حدد الكاتب (عبد العزيز الصاوي)*3 في كتابه دراستين تضمنت عناوين فرعية (تمهيد، دولة الفونج، المرحلة المهدوية، المسألة القومية، والوحدة الوطنية والديمقراطية) والدراسة الأولى المعنونة " العروبة السودانية والوحدة الوطنية والديمقراطية" والدراسة الثانية تحت عنوان: " نقد السودانية الشكلية" وكان في الثانية يعتمد شكل الرد والحوار مع أكاديمي جنوبي يدعى " والتر كونيجوك" الذي كان من أبرز ما ادعاه (أن الإنجليز تآمروا مع العرب لإعطائهم السيطرة على السودان) .. فيرد الصاوي على هذا الادعاء بأن معظم قوانين الإنجليز كانت تحرص على عزل منطقة الجنوب وعدم احتكاك الجنوب بالشمال ثقافيا، لتسهيل السيطرة على السودان المتناحر (فرق تسد) ..
وقد بين المؤلف بالتفصيل معنى التبلور القومي العربي ومداه في مرحلتي الفونج (1504ـ 1822م) والمهدية (1881ـ 1898م) الحاسمتين في تشكيل ملامح السودان الراهن. يحس القارئ إذا ما أراد التجرد وعدم الانحياز، بأن الكاتب ينحاز (بالإيحاء) الى تغليب القومية العربية على باقي القوميات، لكن إذا ما اطلع القارئ على الورقة التي قدمها الأكاديمي والقيادي الجنوبي والتي كان عنوانها (قوميات القومية السودانية The Nationalities of Sudanese Nationalism) والتي يجعل من أثر القومية العربية في الحياة السودانية من حيث عدد العرب أو تأثيرهم الحضاري الإسلامي في السودان بشكله القليل الذي ادعاه الأكاديمي الجنوبي مسفها لدور العرب، عندها سيتفهم القارئ ما رمى إليه الصاوي وسيجده أكثر تسامحا من أولئك المهاجمين للعرق العربي في السودان.
يقول الكاتب السوداني (حيدر ابراهيم علي) : (البداية في قضايا الأقليات في الوطن العربي هي الإقرار بوجودها أصلا، وعدم إنكار حقائق تاريخية لا يمكن تجاهلها، ثم البحث عن الأسباب الحقيقية وليست المصطنعة للنزاع لمعالجتها. ولا يكفي اللجوء الى نظرية التآمر الاستعماري .. الذي رحل منذ عقود)*4
أين وصلت الجهود في السودان لتحقيق الديمقراطية التوافقية؟
(يتوهم غالبية المتعلمين السودانيين أن تجربة الديمقراطية قد فشلت في شق طريقها في بلادهم)*5.. ويتدرج الباحث في بحثه شيئا فشيئا، مارا بكل المراحل التي مر بها السودان من عهود (ابراهيم عبود واسماعيل الأزهري) مرورا بحكم النميري و ما آل إليه تنازل (عبد الرحمن سوار الذهب) لتأسيس دولة ديمقراطية مدنية، وانتهاء بدولة (الإنقاذ الحالية) .. وخلص الى نتيجة مفادها أن الجنوبيين والشماليين وصلوا الى حقيقة أنه لا يمكن لأحدهم الانتصار على الآخر عسكريا وبشكل حاسم وقاطع، وأن سلسلة الاتفاقات التي تمت تصب كلها في تطوير الديمقراطية التوافقية في السودان ..
وإن كان تربص القوى الاستعمارية في السودان لتفتيته وجعله دولا صغيرة يسهل امتصاص خيراتها وإلغاء شخصياتها الوطنية، فإن الاهتداء للنسب التي ترضي الأطراف المتضادة وصياغة مناهج لتناقل السلطة بشكل غير مقنن ومتاح لكل الأطراف، سيجعل من الديمقراطية التوافقية في السودان أمرا قابلا للتحقيق.
هوامش
ـــ
*1ـ أوهام الهوية/ داريوش شايغان/ ترجمة: محمد علي مقلد/ دار الساقي/ بيروت/ط1 /1993
*2ـ مقالة إيران بين المجوسية والإسلام / للكاتب: عبد الحق فاضل /مجلة آفاق عربية/ العدد التاسع/ للسنة السابعة 1982/ بغداد
*3ـ العلاقة بين مسألة الهوية في السودان وتحقيق الوحدة الوطنية: وجهة نظر مختلفة/ عبد العزيز حسين الصاوي/ القاهرة: مركز الدراسات السودانية 1994 .
*4ـ أزمة الأقليات في الوطن العربي/ حيدر ابراهيم علي وميلاد حنا/ بيروت/ دار الفكر المعاصر 2002/ ص 112
*5ـ هكذا يبدأ أحمد الشاهي (باحث في جامعة سان أنتوني/ أكسفورد) حديثه في مقالة(الديمقراطية التوافقية في السودان)/ مجلة المستقبل العربي/ مركز دراسات الوحدة العربية/ العدد 334 السنة التاسعة والعشرون/12/2006/ ص 115.