عندما احتل صدام (حلبجة) الكردية سنة 1988
قبل عشرون عاما، أقدمت السلطات العراقية و حسب خطة مدروسة بقصف العديد من القرى و القصبات الکوردية بالغازات الکيمياوية إنتقاما للخسائر التي ألحقت بقواتها في جبهات القتال، مما أدى إلى سقوط الآلاف من المدنيين أطفالا و نساء و شيوخا، لا لذنب إقترفوه إنما لمجرد کونهم کوردا، و لم تنجوا من تلك الهجمات الکيماوية حتى الطيور و الحيوانات.
أشرس حملة قامت بها القوات العراقية هي قصف طائراتها لمدينة حلبجة بالغازات الکيماوية، حدث ذلك في مثل هذا اليوم قبل عشرين عاما. حلبجة هي وصمة عار على جبين الحکومة العراقية السابقة و من المنطقي أن تطالب الجماهير الکوردية أن تعتذر الحکومة الحالية للشعب الکوردي و أن تعوض عن الخسائر التي لحقت بالمواطنين الکورد.
في مدينة حلبجة قتل بالغازات الکيمياوية ما يقارب خمسة آلاف شخص ، منها عوائل کاملة، کما و جرح أکثر من عشرة آلاف شخص و شرد الآلاف الآخرين. و مع أن هناك الکثيرين من تعرضوا لهذه الغازات السامة ما زالوا على قيد الحياة إلا أنهم يعانون من أعراض تلك الغازات و هم في وضع صحي و نفسي سيئ للغاية، هم يتمنون الموت على حياة ملئها العذاب و المعاناة. إن الغازات السامة قد أثرت حتى على العوامل الوراثية لنساء المنطقة فهم يولدون أطفالا معوقين.
محمد عزيز، هو واحد من مرضى القصف الکيمياوي الذي تعرض له مدينة حلبجة، عدا هذا فإنه فقد 15 شخصا من أقرباءه، حالة محمد عزيز کان موضوعا لبحث نشر في مجلة طبية أمريکية بإسم: Journal of American Medical Association
يقول الباحث بأن محمد عزيز هو وثيقة حية لإثبات إستعمال أسلحة القتل الجماعي من قبل السلطات العراقية ضد المواطنين الکورد، و أعراض تلك الغازات واضحة، فقد تعرض قصباته الهوائية لأضرار بالغة و غير قابلة للعلاج، لذا فهو سيعاني بسبب ذلك طول حياته.
يقول الدکتور آرون ميلستون من Vanerbilt University Center و الباحثين الآخرين:
تعرض محمد عزيز إلى العمى نتيجة للغازات الکيمياوية، وهو يعاني من سعال شديد و ضيق في التنفس، لذا فهو يحتاج إلى رئتين جديدتين، لأنه رئتيه يعملان فقط بنسبة 25%. عندما کان محمد عزيز في سن 39 سنة تعرض للعمى لمدة شهر و لا يزال يعاني من السعال و ضيق التنفس، يقول الباحث بأن أکثر سکان تلك المنطقة سوف يعانون من نتائج القضف الکمياوي لمدة طويلة.
غاز الخردل الذي أستخدم في حلبجة هو نفس المکون الکمياوي الذي أستخدم في الحرب العالمية الثانية و تسبب في موت 5% من الذين إستنشقوه. حسب المرکز الأمريکي للسيطرة و الوقايةCDC فإن الأشخاص الذين تعرضوا لتلك الغازات قد يعانون من الأعراض التالية لمدة غير محددة:
ـ إحمرار الجلد و الحکة
ـ ألم و حرقة في العيون مع سيلان الدموع و الإصابة بالعمى بين فترة و أخرى.
ـ ضيق التنفس و نزيف الأنف مع العطس و سيلان الدموع.
إضافة لما أعلاه من الممکن أن يصاب الشخص إلى الأمراض التالية:
Chonic bronchitis, Airway hyperactivity, bronchitis
===============================================
في ليلة 13 14-3-1988 احتلت القوات الإيرانية حلبجة بعد معركة ضارية أدت إلى انكسار الجيش العراقي، وفي اليوم التالي أي 16-3-1988 وفي الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة صباحاً سُمع أزيز ثلاث طائرات مقاتلة من جهة جبال بالامبو بدأت بالقصف بشكل عشوائي مثيرةً الهلع والخوف في المدينة.. فجأة وخلال دقيقة ونصف تحولت سماء المدينة إلى دخان أسود من إثر انفجار القنابل من نوع (النابالم) والصواريخ الشديدة الانفجار، ترك القصف أثراً مدمراً وقتل مجموعة من الأبرياء، وخرج الناس وهم في حالة هلع شديد إلى الخارج ثم تغير الموقف سريعاً؛ إذ انتشر الخوف والفزع في كل مكان ومرت خمس عشرة دقيقة فقط حينها لم يكن دخان القصف الأول قد انتشر بعد، حتى بدأ القصف الثاني والثالث والرابع والخامس، وكانت كل مرة أشد من الأولى.
بدا الوضع صعباً للغاية وتعالت صيحات النساء وبكاء الأطفال وآهات الجرحى، بدأت عملية الهروب السريع من المدينة إلى ثلاث اتجاهات رئيسة: خروج على غير هدى من شدة الهلع، الكل يحمل على ظهره ما خف حمله وغلا ثمنه، وفجأة وفي الساعة الثانية والنصف وعند آخر هجوم للطائرات صاح الناس (كيماوي .. كيماوي) فقد بدأ القصف الكيماوي الرهيب. كانت كارثة عدد ضحاياها رهيباً كما وصف لنا شهود العيان، سقط العشرات خلال لحظة واحدة. هذا الموت الجماعي السريع كان مرعباً، حرق واختناق وعمى.. احتضار جماعي، الحركات الأخيرة قبل النفس الأخير أليمة للغاية، أناس يصرخون وآخرون يصيحون من شدة الألم والإصابة بالحرق، وصف لنا الناجون ذلك اليوم بأنه يشبه يوم القيامة، بعدها بلحظات هدأ كل شيء وانتهى، سكتت الأنفاس وخفتت فلم تعد تئن وتشكو، والأنفس التي بقي فيها رمق الحياة فقدت الكلام وحتى الآهات وبقيت أصوات خافتة حزينة تئن وتشكو في ظلام زوايا الملاجئ والغرف المظلمة وتطلب النجدة دون أمل، أطفال رضع سقطوا من هول بداية القصف، مئات منهم ومن النساء والشيوخ والشباب العزل قتلى في كل مكان.. جثث امتلأت بهم الشوارع والملاجئ وحدائق البيوت.. تشوهت الوجوه من الحرق الذي نتج عن الخردل والسيانيد والغازات الأخرى.. وأصيب آخرون بحركات جنونية بسبب عوامل الأعصاب.. بكاء وضحكات مختلطة.. ثم سقوط وحركات جنونية ثم موت أليم.... مشاهد متكررة في كل مكان.
استمر القصف الكيماوي المتقطع يومين كاملين، والضحايا كلهم من المدنيين فلم يقتل من العسكريين والمسلحين سوى عدد ضئيل يعد على الأصابع، لكن عدد القتلى من المدنيين كان رهيباً بحيث منع حركة السير في الشوارع العامة والطرق التي كانت تؤدي إلى قرية عنب حيث سقط أكثر الضحايا على هذا الطريق.
الخسائر والضحايا
تعتبر الخسائر البشرية هي الأكبر كمّاً ونوعاً للضربات الكيماوية ثم تأتي بعد ذلك الخسائر البيئية والتي يظهر أثرها على المديين البعيد والمتوسط ثم الخسائر في الممتلكات.
وتقدر الخسائر البشرية بحوالي خمسة آلاف قتيل وأكثر من عشرة آلاف جريح ومصاب، مات العشرات منهم متأثرين بإصاباتهم في مستشفيات طهران وبقية المدن الإيرانية، لكن جهة رسمية محلية لم تقم بإجراء إحصاء دقيق لعدد الضحايا، وإن كان البعض يقدر عدد القتلى بأكثر من هذا الرقم.... مع أن (جمعية عوائل الشهداء) أجرت إحصاءً دقيقاً، ثم قامت (جمعية إحياء مدينة حلبجة) بإحصاء آخر ولم تتمكن من الوصول إلى الرقم الصحيح وذلك لعدة أسباب منها:
1 أن المدينة إلى الآن تعيش وضعاً غير طبيعي من ناحية الخدمات والإدارة والرعاية فلا تملك جهازاً إدارياً متطوراً ولا مؤسسة إحصاء.
2 الصراعات الداخلية للفصائل الكردية أجهضت أكثر محاولات الإحصاء.
3 هناك عوائل قضت بكاملها فلم تعد تملك شخصاً يعطي معلومات دقيقة حول ضحاياها.
4 هناك30% من الضحايا مسجلون (أحياء) في الدوائر الرسمية والسجلات المعمول بها، وذلك بغية الاستفادة منها لغرض الحصول على التموين والمواد الغذائية.
5 هناك نسبة من عائلات الضحايا لا تعطي الأرقام الحقيقية لعدم ثقتهم بالمنظمات والجمعيات التي تقوم بذلك، لاعتقادها قيام هذه المنظمات المتاجرة بقضيتهم.
قامت (جمعية عوائل الشهداء) بالإحصاء التالية نتائجه:
1 الشهداء المسجلون والمعروفون في السجلات الرسمية (3050)
2 30% من القتلى أسماؤهم غير مسجلة في السجلات الرسمية.
3 الجرحى والمصابون: أكثر من 6 آلاف، مات ثلثهم في المستشفيات الإيرانية.
4 المفقودون: أكثر من 500 شخص.
5 أطفال مفقودون: أكثر من100 طفل كانوا مع ذويهم أيام القصف وقد عبروا الحدود مع أهاليهم إلى إيران لكن لم يرجع منهم سوى تسعة أطفال فقط.
عمليات "الأنفال"!
كانت الضربة الكيماوية تتويجاً لعمليات الأنفال التي شنت ضد المناطق الكردية والتي بدأت الحملة لها مع استعداداتها في مارس 1987 وانتهت في خريف 1988 قسمت الأنفال إلى: أنفال1 ... أنفال2 ... أنفال3 بقيادة ابن عم صدام حسين.. علي حسن المجيد.. شملت أنفال1 مناطق سركاو وحلبجة وضواحيهما، أما أنفال2 فكانت في منطقة دوكان وقرداغ والقرى والقصبات المحيطة بها، استهلت العملية بقصف الراجمات بصواريخ محملة بغاز الخردل وأعقبتها الطائرات والمدفعية الثقيلة وتم الإنزال بالطائرات على القرى المعزولة في قمم الجبال. وعلى أثر ذلك فر الناس إلى الوديان والمضايق الجبلية والكهوف فقامت القوات البعثية بعد ذلك بخداعهم، ووجهت إليهم نداءً زعمت فيه أن الحكومة بنت لهم مجمعات سكنية وأنهم سينقلون إليها بالسيارات وما إن خرج الناس من مخابئهم حتى ألقي القبض عليهم وتم ترحيلهم من السليمانية وجمجمال وكلار إلى معسكرات الموت التي حملت أسماء جهابذة الصحابة الكرام مثل خالد بن الوليد، وسعد بن أبى وقاص! مات في هذه المعسكرات عشرات الآلاف من التعذيب والجوع والبرد واغتصبت عشرات الألوف من الحرائر.
صور يحكيها الناجون
حاولنا أن نسمع لبعض ضحايا المجزرة في حلبجة وكانت الحصيلة مؤلمة ومرة وقاسية، بحيث نثقل على مشاعر القراء وأحاسيسهم ونحن ننقل هذه القصص.. ولكن لا بأس من أن ننقل لكم صورة واحدة وقصة من تلك القصص المؤلمة حتى نتصور حجم المعاناة ونتضامن مع إخواننا الكرد رغم فوات الأوان.
يقول الحاج محمد توفيق الرغزائي من أهالي قرية براوكل والذي فقد زوجته وعشرين من أبنائه وأحفاده ورجع وحيداً من المعتقل: حينما هاجمت قوات البعثيين المنطقة بالأسلحة الكيماوية جمعت أهلي وأقربائي وقلت لهم: يا قومي.. لنحفر قبورنا وندافع حتى الموت فإن قتلنا منهم فنحن أصحاب حق والمهاجم باغ وإن قتلنا متنا شهداء إلا أن القوم أحسنوا الظن بالحكومة وقالوا لا يمكن أن يقتل البعثيون آلاف الناس وفيهم النساء والأطفال.
وحين اقتربت الجيوش أعطونا العهود والمواثيق ومن ثم تم اعتقالنا ونقلنا إلى معسكرات الموت وكنا في المعتقل حوالي 80000 شخص وبعد أن تم جلب عشرات الآلاف من المناطق المختلفة جمعونا في ساحة كبيرة وفرقوا بين الشباب والمسنين والأمهات والأطفال، ثم أحيط الشباب بفوج من الجنود القساة بإمرة ثلة من الضباط وساقوهم إلى مكان مجهول.. كنا نراهم يضربونهم بالكابلات ومؤخرات الأسلحة والأمهات يصرخن وينتحبن ولم يعودوا بعدها أبداً، ثم أخلوا الشابات في أماكن خاصة ولم نعرف عنهن شيئاً، وأجبروا المسنين على الركوب في شاحنات كبيرة وكنت منهم، وتحركت الشاحنات المكتظة إلى مكان مجهول وسارت الشاحنات طوال الليل والنهار ولم نتناول أي طعام خلالها وأحلف بالله رأيت في الطريق خمساً من النسوة وضعن حملهن في الطريق في ذلك الازدحام وألقين بالمواليد من فتحة الشاحنة لأنهم لن يعيشوا في ذلك الزحام.. في الختام قال الحاج: اشتعلت النار في قلبي إثر فقد أولادي وأحفادي ولن تنطفئ النار ولو ملكت الدنيا وما فيها
|