العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الاسلامي > الخيمة الاسلامية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية على المريخ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في بحث العقد النفسية ورعب الحياة الواقعية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: خوارزمية القرآن وخوارزمية النبوة يكشفان كذب القرآنيين (آيتان من القرآن وحديث للنبي ص (آخر رد :محمد محمد البقاش)       :: نظرات في مقال السؤال الملغوم .. أشهر المغالطات المنطقيّة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال البشر والحضارة ... كيف وصلنا إلى هنا؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال التسونامي والبراكين والزلازل أسلحة الطبيعة المدمرة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال الساعة ونهاية العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: عمليات مجاهدي المقاومة العراقية (آخر رد :اقبـال)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 02-03-2010, 07:07 AM   #61
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

إلى الرئاسة من جديد

واتجه القوتلي إلى الإصلاح الداخلي في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعمرانية.

وفي [29 من جمادى الأولى 1368 هـ= 29 من مارس 1949م] فوجئ السوريون بأنباء الانقلاب الذي قام به رئيس الأركان "حسني الزعيم"، واُعتقل على إثره القوتلي ووزراؤه في السجن "المنزه"، وانهالت برقيات الاحتجاج على اعتقال القوتلي من كل مكان، ولكن القوتلي قرر أن يستقيل، فأُطلق سراحه بعد شهر من سجنه، وفُرضت عليه إقامة جبرية في بيته، حتى سافر إلى مصر.

وارتفعت الأصوات في "سوريا" تطالب بعودة القوتلي وذهب إليه وفد كبير ضم عددًا من الشخصيات السياسية في سوريا يرجونه العودة إلى وطنه.

وعاد القوتلي إلى سوريا، وطلب منه أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية، لكنه اعتذر للشعب، وقال: إنه لا يرغب في الرئاسة، ولكن النواب تمسكوا بترشيحه، وتم اقتراع سري على منصب رئيس الجمهورية في مجلس النواب فاز فيه القوتلي بنحو ثلثي الأصوات.

وعاد القوتلي ليتسلم صلاحيات رئيس الجمهورية مرة أخرى في [صفر 1375 هـ= سبتمبر 1955م]، وكان حلم الوحدة العربية لا يزال يداعب خياله ويراود عقله، حتى تحقق ذلك أخيرًا حينما أُعلن عن قيام الوحدة بين (مصر وسوريا) ومولد "الجمهورية العربية المتحدة" وتنازل القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر عن الرئاسة، واستقبلت جماهير الشعبين في مصر وسوريا نبأ الوحدة بالفرحة الغامرة والترحاب الشديد، ولكن هذه الوحدة لم تستمر كثيرًا فقد انفصلت الدولتان في [ربيع الآخر 1381 هـ= سبتمبر 1961م].




القوتلي مع عبد الناصر

وكان لفشل التجربة الوحدة أسوأ الأثر في حياة القوتلي فقد بدأت صحته تعتل، وأصيب بالقرحة، واستقر في بيروت حيث كان يعالج بها، فعاش فيها حتى تُوفي عام [1387 هـ= 1967م] ودُفن في دمشق تلك المدينة التي أحبها وعاش يناضل من أجلها.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 02-03-2010, 10:18 AM   #62
العطار
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2008
الإقامة: الاردن
المشاركات: 242
إرسال رسالة عبر بريد الياهو إلى العطار
إفتراضي

السلام عليكم ورحمة الله
ما أحوج اجيال امتنا الصاعدة لربطها بفاعدتها التاريخية الاسلامية العريقة التي نشرت نور حضارة الاسلام السمحة حتى وصلت اعماق دهاليز احبار وحاخامات اعداء امة الاسلام لتنيرها وتحرق ماتكدس من مخطوطات الظلم والجور والتحريف في كلام الله تعالى بكتبهم واناجيل النصارى وتخطيط لقيادة البشرية لعقود وعقود من الظلم والفقر للشعوب وارضاء لشيطانهم القائد

مع احترامي وتقديري لكل جهد بناء
العطار غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-03-2010, 06:48 AM   #63
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

كل شعب يجر في وقته الراهن آلاف السنين بما تحمل من تراث وأحداث منها ما يجلب الفخر والاعتزاز
ومنها ما يحتاج لوقفات تأمل يبحث فيه المتأمل ما كان سبباً في ترهل أداء الشعب .. هذا الربط
يحفظ شخصية الأمة ويمد أبنائها بما يحتاجون من دواعي لتطوير أدائهم..

أشكر مواظبتكم على المتابعة مع تقديري واحترامي لشخصكم الكريم
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 03-03-2010, 06:52 AM   #64
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

المعتصم بالله وملحمة عمُّوريّة

(في ذكرى وفاته: 18 ربيع الأول 227هـ)


آلت دولة الخلافة العباسية إلى المعتصم بالله بعد أن استقرت أحوالها، وامتدت أطرافها، وانتعشت الحياة الاقتصادية بها، وازدهرت الزراعة، فنمت غلتها، ورخصت أسعارها، وتقدمت الصناعة، واستُخرجت الثروات المعدنية من باطن الأرض، وانتعشت التجارة على نحو لم تعرفه الدولة الإسلامية من قبل بسبب الطرق الآمنة، وسهولة الانتقال من شرق البلاد إلى غربها دون عوائق تذكر.

وكان من أثر تلك النهضة الاقتصادية أن نمت موارد الخلافة، وزادت إيرادات بيت المال؛ الأمر الذي جعل الدولة تعمل على تحسين المرافق العامة وتيسير الحياة على الناس، وتأمين حدود الدولة المترامية، وتشجيع العلم ومكافأة أهله والعناية بالترجمة، وبناء المؤسسات العلمية، وإنشاء المكتبات.

ولاية المعتصم بالله

مرض الخليفة المأمون في طرسوس، ولم يكن قد عقد لأحد بعده بولاية العهد، فاستدعى أخاه المعتصم وعهد إليه بالخلافة من بعده، دون ابنه العباس الذي كان موجودا معه في طرسوس للقيام بغزو الدولة البيزنطية، ورد هجماتها، لكن مرضه حال دون إتمام ذلك.

ولعل الذي جعل المأمون يؤثر أخاه بالحكم دون ابنه أن الخلافة العباسية كانت تتهددها الأخطار من الداخل والخارج في ثورة بابك الخرمي في فارس، وهجمات البيزنطيين، وكان المعتصم بطلا شجاعا متمرسا بالحرب خبيرا بشئونها، فآثر المأمون المصلحة العليا للخلافة بتولية من يصلح لهذه الفترة، وتمت البيعة بعد وفاته في (19 من رجب 218هـ= 10 من أغسطس 833م).

وكان المعتصم يتميز بقوته الجسدية وشدته في الحرب، حتى قيل عنه إنه كان يصارع الأسود ويحمل ألف رطل، ويمشي بها خطوات، غير أنه لم يكن معنيًا بالعلوم والآداب كأخويه الأمين والمأمون.

وبالغ بعض المؤرخين فذكر أنه كان أميًا لا يكتب، أو أنه كان ضعيف الكتابة على قول ابن خلّكان، وابن كثير، لكن ذلك لم يكن له أدنى تأثير في الحركة الفكرية والعلمية التي عمّت الخلافة فقد كانت البلاد مدفوعة بطاقة عارمة نحو الرقي والتقدم.

القضاء على الفتن والثورات

كانت وصية المأمون لأخيه المعتصم أن يقضي على فتنة بابك الخرمي، وكان زعيم طائفة ضالة، يعتقد أصحابها بالحلول والتناسخ، ويدعون إلى الإباحية الجنسية، وبدأت تلك الفتنة في أذربيجان ثم اتسع نطاقها إلى همدان وأصبهان وبلاد الأكراد، وجرجان، وأصبحت خطرا يحدق بالدولة العباسية، ووجدت عونًا ومساندة من الروم.

وحاول المأمون أن يقضي على تلك الفتنة التي اشتعل أوارها، وأرسل إليها الحملات العسكرية، لكنها لم تستطع القضاء على تلك الفتنة، وتوفي المأمون دون أن يتحقق أمله، وحمل المعتصم مهمة القضاء على هذه الحركة، فنجح في ذلك على الرغم من مهارة بابك الخرمي العسكرية، وقدرته على وضع الخطط العسكرية، مستغلا معرفته بطبيعة الإقليم الذي يتحصن فيه، من جبال ومضايق ووديان.

وامتدت الحرب أربع سنوات، حتى تمكن "الأفشين" أبرع قادة المعتصم من إخماد الفتنة، والقبض على بابك الخرمي في (10 من شوال 222هـ= 16 من سبتمبر 837م)، وكانت هذه الفتنة من أعظم الفتن التي تعرضت لها الدولة العباسية، شغلت الخلافة أكثر من عشرين سنة، وقُتل من أجل القضاء عليها آلاف المسلمين، قدّرهم الطبري المؤرخ بنحو مائتين وخمسين ألف مسلم، وأنفقت الدولة العباسية من أجلها ملايين الدراهم والدنانير.

ولم يكد المعتصم يستريح من فتنة بابك الخرمي حتى شبّت فتنة أخرى في إقليم طبرستان، حيث قام وليها "المازيار" بشق عصا الطاعة، ومحاولة الاستقلال بالإقليم بعيدا عن سلطة الدولة العباسية، ولم تفلح المحاولات التي بذلها المعتصم لحل المشكلة سلمًا مع المازيار الذي تمادى في غيه، فلجأ المعتصم إلى السيف، حتى تمكن من القضاء عليه في سنة (224هـ= 839م).

بناء سامرّاء



لم يكن قد انقضى على بناء بغداد قرن واحد حتى عرضت للمعتصم فكرة بناء عاصمة جديدة، بعدما ضاقت بغداد بجنده الأتراك الذين أكثر من استخدامهم في الجيش، ولم تسلم العاصمة من مضايقاتهم، حتى أكثر الناس الشكوى من سلوكهم.

واختار المعتصم لعاصمته الجديدة مكانا يبعد 130 كم رأسا من شمال بغداد، شرقي نهر دجلة، وشرع في تخطيط عاصمته سنة (221هـ= 836م) وبعث إليها بالمهندسين والبنّاءين وأهل المهن من الحدادين والنجارين وغيرهم، وحمل إليها الأخشاب والرخام وكل ما يحتاج إليه البناء.

وعُني الخليفة بتخطيط المدينة وتقسيمها باعتبارها مركزا حضاريا ومعسكرا لجيشه، ففصل الجيش ودواوين الدولة عن السكان، واهتم بفصل فرق الجيش بعضها عن بعض، وامتدت المدينة على ضفة دجلة الغربية نحو 19 كم، وكان تخطيط المدينة رائعا، يتجلى في شق عدة شوارع متوازية على طول النهر، يتصل بعضها ببعض عن طريق دروب عدة، وكان أهم شوارع المدينة بعد شارع "الخليج" الذي على دجلة "الشارع الأعظم"، وكان يمتد في عهد المعتصم 19 كم من الجنوب إلى الشمال بعرض مائة متر تقريبا.

وعُنِي المعتصم بزراعة القسم الغربي من دجلة تجاه المدينة، وشجع قادته على المساهمة في الزراعة، وحرص أن تكون عاصمته الجديدة مجمعا للصناعات المعروفة في عهده، واهتم ببناء الأسواق، وجعل كل تجارة منفردة مثلما هو الحال في أسواق بغداد، وجعل شارع الخليج الذي على دجلة رصيفًا ومرسى لسفن التجارة.

وكانت المدينة الجديدة جميلة بقصورها الضخمة ومبانيها الرائعة وشوارعها المتسعة، ومسجدها الجامع وغيره من المساجد، فدعيت بـ"سُرّ مَن رأى"، وزاد إقبال الناس على السكنى بها.

وتكشف الآثار الباقية من سامراء عن مدى التقدم العمراني والحضاري الذي كانت عليه الخلافة العباسية في القرن الثالث الهجري.

وامعتصماه.. فتحت عمورية




استغل الروم انشغال الخليفة المعتصم في القضاء على فتنة بابك الخرمي، وجهزوا جيشا ضخما قاده ملك الروم، بلغ أكثر من مائة ألف جندي، هاجم شمال الشام والجزيرة، ودخل مدينة "زِبَطْرة" التي تقع على الثغور، وكانت تخرج منها الغزوات ضد الروم، وقتل الجيش الرومي من بداخل حصون المدينة من الرجال، وانتقل إلى "ملطية" المجاورة فأغار عليها، وعلى كثير من الحصون، ومثّل بمن صار في يده من المسلمين، وسَمَلَ أعينهم، وقطع آذانهم وأنوفهم، وسبى من المسلمات فيما قيل أكثر من ألف امرأة.

وصلت هذه الأبناء المروعة إلى أسماع الخليفة، وحكى الهاربون الفظائع التي ارتكبها الروم مع السكان العزل؛ فتحرك على الفور، وأمر بعمامة الغزاة فاعتم بها ونادى لساعته بالنفير والاستعداد للحرب.

ويذكر بعض الرواة أن امرأة ممن وقعت في أسر الروم قالت: وامعتصماه، فنُقل إليه ذلك الحديث، وفي يده قَدَح يريد أن يشرب ما فيه، فوضعه، ونادى بالاستعداد للحرب.

وهذا ما عناه أبو تمام في قوله مادحا للخليفة بعدما حقق نصر:

لبيّت صوتًا زِبَطريًا هَرَقْتَ لَهُ
.................كَأْسَ الْكَرَى وَرُضَابَ الْخُرّدِ الْعُرُبِ


وخرج المعتصم على رأس جيش كبير، وجهّزه بما لم يعدّه أحد من قبله من السلاح والمؤن وآلات الحرب والحصار، حتى وصل إلى منطقة الثغور، ودمّرت جيوشه مدينة أنقرة ثم اتجهت إلى عمورية في (جمادى الأولى 223هـ= أبريل 838م) وضربت حصارا على المدينة المنيعة دام نصف عام تقريبا، ذاقت خلاله الأهوال حتى استسلمت المدينة، ودخلها المسلمون في (17 من رمضان سنة 223هـ= 13 من أغسطس 838م) بعد أن قُتل من أهلها ثلاثون ألفا، وغنم المسلمون غنائم عظيمة، وأمر الخليفة المعتصم بهدم أسوار المدينة المنيعة وأبوابها وكان لهذا الانتصار الكبير صداه في بلاد المسلمين، وخصّه كبار الشعراء بقصائد المدح، ويأتي في مقدمة ذلك، بائية أبي تمام الخالدة التي منها قوله:

فتْحٌ الفتوح تعالى أن يحيط به
.............. نظمٌ من الشعراء أو نثرٌ من الخُطَبِ

فتْحٌ تفتّح أبواب السماء له
................وتبرز الأرض في أثوابها القُشُب

يا يومَ وقعةِ عمّوريّة انصرفت
................. منك المُنى حُفّلاً معسولة الحَلَب

أبقيت جد بني الإسلام في صَعَد
...........والمشركين ودار الشرك في صَبَب


وفاة المعتصم

ظل المعتصم يواصل فتوحاته وغزواته، ففُتحت بعض مدن صقلية، وغزت جنوده "قِلّورية" وتقع في جنوب إيطاليا، وتسمى الآن "كاليريا"، وكذلك جزيرة "مالطة" ولم تكن غُزيت من قبل.

وفي يوم الخميس الموافق (18 من ربيع الأول 227هـ= 5 من يناير 842م) وافاه الأجل المحتوم، بعد أن أصبح اسمه نموذجاه دائما للمروءة والدفاع عن الدين والوطن.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 04-03-2010, 07:19 AM   #65
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

هولاكو.. إعصار من الشرق

(في ذكرى وفاته: 19 ربيع الأول 663هـ)



بعد سلسلة من الصراعات على تولي السلطة بين أمراء البيت الحاكم، تولى "منكوقا آن بن تولوي بن جنكيز خان" عرش المغول في (ذي الحجة 648هـ = إبريل 1250م)، وعمل على إقرار الأمن وإعادة الاستقرار وإقامة الإصلاحات والنظم الإدارية، واختيار القادة الأكْفَاء لإدارة شئون ولاياتهم.

وبعد أن نجح في أن يقرّ الأحوال الداخلية وتخلص من مناوئيه اتجه نحو الفتح والغزو وتوسيع رقعة بلاده؛ فجهز حملتين كبيرتين لهذا الغرض، فأرسل أخاه الأوسط "قوبيلاي" على رأس حملة لفتح أقاليم الصين الجنوبية، ونصّب أخاه الأصغر على رأس حملة لغزو إيران والقضاء على الطائفة الإسماعيلية وإخضاع الخلافة العباسية.

حملة هولاكو على إيران

لم يكن هولاكو قد جاوز السادسة والثلاثين من عمره حين عهد إليه أخوه "منكوقا آن" بهذه المهمة فخرج على رأس جيش هائل قُدّر بنحو 120 ألف جندي من خيرة جنود المغول، بالإضافة إلى كبار القادة والفرسان، وحرص الخان الأكبر أن يوصي أخاه قبل التحرك بأن يلتزم بالعادات والتقاليد ويطبّق قوانين جده جنكيز خان، وأن يكون هدفه هو إدخال البلاد من ضفاف نهر "جيحون" حتى مصر في دولة المغول، وأن يعامل من يخضع لسلطانه معاملة طيبة، ويذيق الذل من يبدي المقاومة حتى ولو كان الخليفة العباسي نفسه، فعليه أن يزيحه ويقضي عليه إذا ما اعترض طريقه.

وحقق هولاكو هدفه الأول بالاستيلاء على قلاع طائفة الإسماعيلية سنة (654هـ = 1256م) بعد معارك عديدة واستماتة بذلها أفراد الطائفة في الدفاع عن حصونهم وقلاعهم، لكنها لم تُجدِ نفعا إزاء قوة الجيش المغولي، وكان لقضاء المغول على هذه الطائفة المنحرفة وقع حسن وأثر طيب في نفوس العالم الإسلامي، وعمّه الفرح على الرغم مما كان يعانيه من وحشية المغول وسفكهم للدماء؛ وذلك لأن الإسماعيلية كانت تبث الهلع والفزع في النفوس، وتشيع المفاسد والمنكرات والأفكار المنحرفة.

هولاكو في بغداد

مضى هولاكو في تحقيق هدفه الآخر بالاستيلاء على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية؛ فأرسل إلى الخليفة المستعصم بالله يتهدده ويتوعده، ويطلب منه الدخول في طاعته وتسليم العاصمة، ونصحه بأن يسرع في الاستجابة لمطالبه؛ حتى يحفظ لنفسه كرامتها ولدولته أمنها واستقرارها، لكن الخليفة رفض هذا الوعيد وقرر أن يقاوم، على الرغم من ضعف قواته وما كان عليه قادته من خلاف وعداء، فضرب هولاكو حصاره على المدينة المنكوبة التي لم تكن تملك شيئا يدفع عنها قدَرَها المحتوم، فدخل المغول بغداد سنة (656هـ = 1258م) وارتكب هولاكو وجنوده من الفظائع ما تقشعر لهوله الأبدان.

اهتز العالم الإسلامي لسقوط الخلافة العباسية التي أظلّت العالم الإسلامي أكثر من خمسة قرون، وبلغ الحزن الذي ملأ قلوب المسلمين مداه حتى إنهم ظنوا أن العالم على وشك الانتهاء، وأن الساعة آتية عما قريب لهول المصيبة التي حلّت بهم، وإحساسهم بأنهم أصبحوا بدون خليفة، وهو أمر لم يعتادوه منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).

هولاكو يجتاح الشام

شرع هولاكو بعد سقوط بغداد في الاستعداد للاستيلاء على بلاد الشام ومصر، وفق الخطة المرسومة التي وضعها له أخوه "منكوقا آن" فخرج من أذربيجان في رمضان (657هـ = 1259م) متجها إلى الشام، ونجح بالتعاون مع حلفائه المسيحيين في الاستيلاء على "ميافارقين" بديار حلب، وهي أول مدينة تبتدئ بها الحملة المغولية، ولم تسقط إلا بعد عامين من الحصار، نفدت خلالها المؤن، وهلك معظم سكان المدينة، وبعد سقوط "ميافارقين" واصل هولاكو زحفه نحو "ماردين" فسقطت بعد ثمانية أشهر، وفي أثناء حصار "ميافارقين" كانت قوات من جيش هولاكو تغزو المناطق المحاورة فاستولت على "نصيبين" و"حران" و"الرها" و"البيرة".

بعد ذلك تقدم هولاكو على رأس قواته لمحاصرة حلب، ونصب المغول عشرين منجنيقا حول المدنية وصاروا يمطرونها بوابل من القذائف حتى استسلمت في (التاسع من صفر 658هـ= الحادي والثلاثون من يناير 1260م) وبعد حلب سقطت قلعة "حارم" و"حمص" و"المعرة"، وأصبح طريق الحملة مفتوحا إلى دمشق.

ولما وصلت الأنباء باقتراب المغول من دمشق فرَّ الملك "الناصر يوسف الأيوبي" مع قواته، تاركا مدينته لمصيرها المحتوم، ولم يكن أمام أهالي دمشق بعدما عرفوا ما حل بحلب بعد مقاومتها لهولاكو سوى تسليم مدينتهم، حتى لا تلقى مصير حلب، فسارع عدد من أعيانها إلى زعيم المغول يقدمون الهدايا ويطلبون منه الأمان، في مقابل تسليم مدينتهم فقبل هولاكو ذلك، ودخل المغول المدينة في (السابع عشر من صفر 658هـ= 2 من فبراير 1260م).

رحيل هولاكو المفاجئ إلى إيران

أدى تحقيق الانتصارات المتتالية للمغول إلى الاعتقاد بأنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تتصدى لهم، وأن هؤلاء بلاء من الله سلطه على المسلمين الذين ركنوا إلى الراحة وأهملوا قرآنهم وسُنّة نبيهم وخارت عزائمهم.. وفي وسط هذه الحيرة جاءت الأنباء إلى هولاكو بوفاة أخيه "منكوقا آن خان" في (شعبان 657هـ= أغسطس 1259م) وكان عليه أن يكون قريبا من عملية اختيار خان جديد للمغول، ويساند ترشيح أخيه الأوسط "قوبيلاي" لهذا المنصب، فاضطر إلى العودة إلى إيران وكان في نيته أن يكتفي بما حققه، ولكنه عدل عن ذلك بسبب إلحاح القوات المسيحية التي كانت معه على الاستمرار في الغزو واستعادة بيت المقدس من المسلمين، فأبقى قوة من عساكره تحت إمرة أمهر قواده كيتوبوما (كتبغا) لإتمام عملية الغزو.

انتهاء أسطورة المغول في عين جالوت


الدولة الإيلخانية (باللون الأصفر)


وقبل أن يغادر هولاكو الشام (سنة 658هـ = 1260م) أرسل إلى قطز رسالة كلها وعيد وتهديد، يدعوه فيها إلى الاستسلام وإلقاء السلاح، وأنه لا جدوى من المقاومة أمام قوة كُتب النصر لها دائما، غير أن السلطان قطز لم يهتز لكلمات هولاكو، أو يتملكه الخوف والفزع كما تملك غيره من قادة الشام فآثروا الهوان على العزة والكرامة، والحياة تحت سلطان وثني على الموت والاستشهاد دفاعا عن الدين والوطن.

وكان قطز على قدر الحدث العظيم والخطب الجلل، فقتل رُسل هولاكو، وخرج للقتال ولم ينتظر قدوم المغول، والتقى الفريقان في (15 من رمضان 658هـ = 24 من أغسطس 1260م) في موقعه "عين جالوت" بفلسطين، وحمل المسلمون على المغول الذين كانوا تحت قيادة كتبغا حملة صادقة، وقاتلوهم باستبسال وشجاعة من الفجر حتى منتصف النهار، فكتب الله لهم النصر، وهُزِم المغول هزيمة منكرة لأول مرة في تاريخهم، بعد أن كانت القلوب قد يئست من النصر عليهم.

وكان لهذا النصر أثره العظيم في تاريخ المنطقة العربية والعالم الإسلامي، بل في تاريخ العالم بأسره؛ حيث احتفظت مصر بما لها من حضارة ومدنية، وطردت المغول من دمشق، وأصبحت بلاد الشام حتى نهر الفرات تحت حكم المماليك، وخلّصت أوربا من شر عظيم لم يكن لأحد من ملوكها قدرة على دفعه ومقاومته.

هولاكو بعد الهزيمة

حاول هولاكو أن يثأر لهزيمة جيشه في عين جالوت، ويعيد للمغول هيبتهم في النفوس؛ فأرسل جيشا إلى حلب فأغار عليها ونهبها، ولكنه تعرّض للهزيمة بالقرب من حمص في المحرم (659هـ = ديسمبر 1260م) فارتد إلى ما وراء نهر الفرات.

ولم تساعد الأحوال السياسية المغولية في أن يعيد هولاكو غزواته على الشام ويستكمل ما بدأه، فبعد موت "منكوقا آن" تنازع أمراء البيت الحاكم السلطة وانقسمت الإمبراطورية المغولية إلى ثلاث خانات مستقلة، استقل هولاكو بواحدة منها هي خانية فارس، ثم دخل هولاكو في صراع مع "بركة خان" القبيلة الذهبية، مغول القبجاق (جنوب روسيا) واشتعلت الحرب بينهما.

وكان هولاكو يعد نفسه نصيرًا وحاميًا للمسيحية بتأثير زوجته "طقز خاتون" في الوقت الذي أسلم فيه بركة خان ومال إلى نصرة المسلمين، وأدى هذا الصراع إلى تعطل النشاط الحربي لهولاكو في الشام، ثم ما لبث أن أدى نشوب الحروب الداخلية بين أمراء المغول إلى توقف عمليات الغزو والتوسع تماما.

هولاكو يشجع العلماء


وعلى الرغم مما اشتهر به هولاكو من قوة وغلظة وإسراف في القتل وسفك الدماء، فإنه لم يغفل تشجيع رجال الأدب والعلم، فحظي "الجويني" المؤرخ الفارسي المعروف بتقدير هولاكو، ونجح في إقناع هولاكو بألا يحرق مكتبة الإسماعيلية، وكان من نتيجة ارتحاله إلى منغوليا ووقوفه على الأحوال هناك أن ألّف كتاب "تاريخ جنكيز خان وأخلافه". ويؤثر عنه أنه كلف العالم الرياضي "نصير الدين الطوسي" ببناء مرصد في مدينة "مراغة" زوده بأدق الأجهزة المعروفة في زمانه، ويقال بأن المكتبة التي أنشأها الطوسي وألحقها بالمرصد كانت تحوي ما يزيد على 400 ألف مجلد.

وفاة هولاكو

وفي (19 من ربيع الأول 663هـ 9 من يناير 1265م) توفي هولاكو بالقرب من مراغة وهو في الثامنة والأربعين من عمره، تاركا لأبنائه وأحفاده مملكة فسيحة عرفت بإيلخانية فارس، ولم تلبث زوجته "طقز خاتون" أن لحقت به، وحزن لوفاتهما المسيحيون بالشرق، وعدّوهما من القديسين.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 06-03-2010, 07:29 AM   #66
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

دولة المماليك تلفظ أنفاسها الأخيرة

(في ذكرى مقتل طومان باي: 21 ربيع الأول 923هـ)




دولة المماليك باللون الأحمر

شهدت مدينة المنصورة بمصر صرخة ميلاد دولة المماليك سنة 647هـ= 1250م، حيث أبلى فرسانها في جهادهم ضد حملة لويس التاسع بلاء حسنا، وضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والفداء، حتى مُنيت الحملة بالفشل ولحق بها عار الهزيمة، وترتب على هذا النصر المبين أن علت مكانة فرسان المماليك، وارتفع شأنهم باعتبارهم القوة التي هيأت لها الأقدار أن تنهض بمهمة الدفاع عن العالم الإسلامي الذي كانت تتناوشه قوتان: إعصار المغول القادم من الشرق، وخطر الصليبيين القابع في بلاد الشام.

وقد نجح المماليك بعد قيام دولتهم في التصدي لهذين الخطرين؛ حيث انتصر "قطز" في عين جالوت بفلسطين على المغول في سابقة لم تحدث من قبل، في الوقت الذي عجز فيه الأيوبيون حكام الشام في التصدي للمغول بتخاذلهم عن المواجهة والقتال، ثم تابع خليفته "الظاهر بيبرس" استكمال المسيرة الظافرة في الجبهتين معا، فحارب المغول والصليبيين، وألحق بهما هزائم فداحة.

واكتسب المماليك شرعيتهم في الحكم وتقدير الناس لهم باعتبارهم حماة الإسلام والمدافعين عن أهله وأرضه، وظلت دولتهم تقوم بهذا الدور في الفترة الأولى من عهدها المعروفة باسم دولة المماليك البحرية حتى كان لهم شرف إخراج الوجود الصليبي من الشام، والقضاء على خطر المغول، ثم تابع السلاطين المماليك في الفترة الثانية المعروفة باسم دولة المماليك البرجية القيام بهذا الدور في الدفاع عن أرض الإسلام ضد هجمات الصليبين الذين نقلوا نشاطهم العسكري إلى البحر المتوسط واتخذوا من قبرص ورودس مركزًا لنشاطهم.

ثم أصاب دولة المماليك ما يصيب الدول في أواخر عهدها من ضعف ووهن، فلم تعد قادرة على أن تقوم بدورها الفعال كما كانت تقوم به من قبل، وتهددها خطر البرتغاليين في الخليج العربي بعد أن تنامت قوتهم بعد اكتشافهم طريق "الرجاء الصالح"، وكثرت فيها المنازعات بين قادتها وأمرائها.

هذا، في الوقت الذي تصاعدت فيه قوة الدولة العثمانية الفتية، وتطلعت إلى المشرق الإسلامي لتضمه إلى سلطانها بعد أن نجحت في بسط نفوذها، وتوسيع دولتها في أوروبا، ولم تكن دولة المماليك وهي في هذه الحالة تستطيع أن تدفع قدرها المحتوم وترد الخطر الداهم الذي أحدق بها من كل جانب، ولكنها حاولت في صحوة تشبه صحوة الموت أن تسترد عافيتها، فلم تفلح فأفسحت مكانها لمن يستكمل المهمة، ويقود المسيرة.

هزيمة الغوري في مرج دابق


ساءت العلاقة بين العثمانيين والمماليك، وفشلت محاولات الغوري في عقد الصلح مع السلطان العثماني "سليم الأول" وإبرام المعاهدة للسلام، فاحتكما إلى السيف، والتقى الفريقان عند "مرج دابق" بالقرب من حلب في (25 من رجب 922هـ = 24 من أغسطس 1516م).

وأبدى المماليك في هذه المعركة ضروبا من الشجاعة والبسالة، وقاموا بهجوم خاطف زلزل أقدام العثمانيين، وأنزل بهم خسائر فادحة، حتى فكّر سليم الأول في التقهقر، وطلب الأمان، غير أن هذا النجاح في القتال لم يدم طويلا فسرعان ما دب الخلاف بين فرق المماليك المحاربة، وانحاز بعضها إلى الجيش العثماني بقيادة "خايربك".

وسرت إشاعة في جيش المماليك أن الغوري سقط قتيلا، فخارت عزائمهم ووهنت قواتهم، وفرّوا لا يلوون على شيء، وضاع في زحام المعركة وفوضى الهزيمة والفرار، نداء الغوري وصيحته في جنوده بالثبات والصمود وسقط عن فرسه جثة هامدة من هول الهزيمة، وتحقق للعثمانيين النصر الذي كان بداية لأن يستكمل سليم الأول فتوحاته في الشام وأن يستولي على مدنه واحدة بعد أخرى، بعدها سلَّم معظمها له بالأمان دون قتال.

طومان باي سلطانا


طومان باي
اتفقت كلمة الأمراء في مصر على اختيار "طومان باي" للسلطنة، فأخذ يستعد لمقاومة العثمانيين وعزم للخروج لقتالهم ولا ينتظر مجيئهم، ولكنه اصطدم بتخاذل المماليك، واستهانتهم بخطورة الموقف، وعدم تقديرهم للمسئولية في الوقت الذي أرسل فيه السلطان سليم الأول رسالة إلى طومان باي يعرض عليه الصلح ويبقيه على حكم مصر في مقابل أن يقر بتبعيته للدولة العثمانية، غير أن هذه المساعي السلمية لم تكلل بالنجاح.

واضطر طومان باي إلى مواصلة الاستعداد للقتال، فخرج إلى "الريدانية" وتحصّن بها فحفر خندقا على طول الخطوط الأمامية، ووضع مدافعه الكبيرة وأعد أسلحته وبنادقه وحاول شحذ همة مماليكه وقواته ولكن دون جدوى؛ فقد جبن كثير منهم عن اللقاء حتى كان بعضهم لا يقيم بالريدانية إلا في خلال النهار حتى يراهم السلطان، وفي المساء يعودون إلى القاهرة للمبيت في منازلهم.

ولم يكن من شأن جيش كهذا أن يثبت في معركة أو يصمد للقاء أو يتحقق له النصر، فحين علم طومان باي وهو في الريدانية بتوغل العثمانيين في البلاد المصرية حاول جاهدا أن يقنع أمراءه بمباغتة العثمانيين عند الصالحية، وهم في حالة تعب وإعياء بعد عبورهم الصحراء، لكنهم رفضوا، معتقدين أن الخندق الذي حفروه بالريدانية كفيل بحمايتهم ودفع الخطر عنهم، لكنه لم يغن عنهم شيئا، فقد تحاشت قوات العثمانيين التي تدفقت كالسيل مواجهة المماليك عند الريدانية عندما علمت تحصيناتها، وتحولت عنها، واتجهت صوب القاهرة، فلحق بهم طومان باي.

والتحم الفريقان في معركة هائلة في (29 من ذي الحجة 922هـ = 23 من يناير 1517م)، وأبلى طومان باي في المعركة بلاء حسنا، وقتل "سنان باشا الخادم" الصدر الأعظم بيده، وكثر القتلى بين الفريقين، غير أن العثمانيين حملوا على المماليك حملة صادقة زلزلت الأرض من تحتهم، فضاقت عليهم بما رحبت، وانسحب طومان باي ومن بقي معه إلى نواحي الفسطاط، ودخلت طلائع الجيش العثماني مدينة القاهرة، وأخذوا يتعقبون جنود المماليك في كل مكان.

سليم الأول في القاهرة


سليم الأول

وفي يوم الإثنين الموافق (3 من المحرم 923هـ = 26 من يناير 1517م) دخل سليم الأول مدينة القاهرة في موكب حافل، يتقدمه الخليفة العباسي والقضاة، وقد أحاطت به جنوده الذين امتلأت بهم شوارع القاهرة، يحملون الرايات الحمراء شعار الدولة العثمانية، وكتب على بعضها "إنا فتحنا لك فتحا مبينا"، وفي بعضها "نصر من الله وفتح قريب".

ولم يكد يهنأ سليم الأول بهذا الفتح حتى باغته طومان باي في "بولاق"؛ وذلك في اليوم الخامس من المحرم، واشترك معه المصريون في هذه الحملة المفاجئة، وأشعلوا في معسكر سليم الأول النيران، وظن الناس أن النصر آت لا محالة، واستمرت مقاومة المماليك أربعة أيام وليال، وظهروا فيها على العثمانيين، حتى إنه خطب لطومان باي في القاهرة في يوم الجمعة، وكان قد دعي لسليم الأول في الجمعة التي سبقتها، غير أن هذا الفوز لم يحسم المعركة لصالح طومان باي؛ إذ سرعان ما لجأ الجنود العثمانيون إلى سلاح البنادق، وأمطروا به من فوق المآذن الأهالي والمماليك، فأجبروهم على الفرار، وفرَّ طومان باي إلى "البهنا" التي تقع غربي النيل في جنوب القاهرة.

استمرار المقاومة

ظل طومان باي يعمل على المقاومة بما تيسر له من وسائل، واجتمع حوله كثير من الجنود وأبناء الصعيد حتى قويت شوكته، غير أنه أدرك أن هذا غير كاف لتحقيق النصر، فأرسل إلى سليم الأول يفاوضه في الصلح، فاستجاب له السلطان العثماني، وكتب له كتابا بهذا، وبعث به مع وفد من عنده إلى طومان باي، لكن الوفد تعرض لهجوم من بعض المماليك وقتل بعض رجاله؛ فحنق السلطان سليم الأول وخرج لقتال طومان باي بنفسه، والتقى الجيشان قرب قرية "الوردان" بالجيزة في (9 من ربيع الأول 923 هـ =1 من إبريل 1517م)؛ حيث دارت معركة حامية استمرت يومين وانتهت بهزيمة طومان باي وفراره إلى البحيرة.

على باب زويلة

لجأ طومان باي إلى أحد رؤساء الأعراب بإقليم البحيرة طالبا منه العون والحماية فأحسن استقباله في بادئ الأمر، ثم وشي به إلى السلطان سليم الأول، فسارع بإرسال قوة للقبض عليه فأتت به إليه، وأخذ السلطان يتأمله معجبا بشجاعته وفروسيته، ثم عاتبه واتهمه بقتل رسله الذين أرسلهم لمفاوضته في الصلح، فنفى طومان باي التهمة عن نفسه، وبرر استمراره في القتال بأن الواجب يحتم عليه هذا، وكاد السلطان العثماني من إعجابه بشجاعة طومان باي أن يعفو عنه، ولكنه لم يفعل تحت تأثير الوشاة الذين حرّضوا السلطان على قتله بحجة أن لا بقاء لملكه في مصر ما دام طومان باي على قيد الحياة.

وفي يوم الأحد الموافق (21 من شهر ربيع الأول 923 هـ = 15 من إبريل 1517م) أخرج طومان باي من سجنه، وسار وسط حرس عدته 400 جندي إلى باب "زويلة"؛ حيث نصبت له مشنقة فتقدم لها هادئ النفس ثابت الجنان والناس من حوله يملئون المكان حيث لقي حتفه وسقط ميتا؛ فصرخ الناس صرخة مدوية تفيض حزنا وألما، وظلت جثته معلقة ثلاثة أيام ثم دفنت في قبة السلطان الغوري، وبموته انتهت دولة المماليك وسقطت الخلافة العباسية، وأصبحت مصر ولاية عثمانية
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 07-03-2010, 07:17 AM   #67
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الكامل.. والتفريط في بيت المقدس

في ذكري عقد معاهدة تسليمه :22 ربيع الأول 626 هـ


يذكر التاريخ الإسلامي بكل تقدير وإعجاب نجاح صلاح الدين الأيوبي في استرداد بيت المقدس في يوم مبارك وافق ذكرى الإسراء والمعراج، في (27 من رجب 583هـ = 2 من أكتوبر 1187م)، وزاد من جلال الفتح العظيم روح السماحة الكريمة، والنبل الرفيع، والأخلاق العالية التي أضفاها الفاتح النبيل على انتصاره الخالد؛ فلم تغلب عليه شهوة الثأر والانتقام من الصليبيين الذين مارسوا أحط الأخلاق وحشية وأخسها فعلاً، حين استولوا على القدس في (22 من شعبان 492هـ = 15 من يوليو 1099م)، حيث أقيمت المذابح للمسلمين العزل، وأبيحت المدينة المقدسة للسلب والنهب والقتل عدة أيام، حتى امتلأت الشوارع بجثث المسلمين وقتلاهم.

الكامل وبيت المقدس

ولم يكد يمضي على عودة مدينة القدس إلى أحضان المسلمين خمسة وثلاثون عامًا حتى كانت عرضة للمساومة والتفريط من قبل السلطان الكامل بن العادل الأيوبي سلطان مصر، في واحدة من أعجب التنازلات التي يقدم عليها حاكم مسلم حين تشتد به الأزمة، وتحيط به الملمات من كل جانب، فيقدم على عمل طائش، بعيد عن الحكمة والسداد، ويفرط في المقدسات التي لا يملك التصرف في أمرها شيئًا.

هذا ما أقدم عليه السلطان الأيوبي قبل أن تسقط دمياط في يد الصليبيين في (27 من شعبان 616هـ = 5 نوفمبر 1219م) في حملتهم الصليبية الخامسة على مصر، فعرض عليهم -بعد أن يئس من قدرة دمياط على الصمود – استعداده لإعادة بيت المقدس إليهم مقابل الجلاء عن مصر.

لكن هذا العرض السخي المفرط في التنازل لم يلق إجماعًا في قبوله من قبل الصليبيين فرفضوه؛ إذ كانوا يمنون أنفسهم بالاستيلاء على مصر، وظلوا في دمياط ثمانية عشر شهرًا كاملة دون تحرك جادٍ منهم، حتى تمكن المصريون من الانتصار عليهم وطردهم من دمياط، وفشلت الصفقة، ونجا بيت المقدس من المقايضة والوقوع في يد الصليبيين.

انقسام البيت الأيوبي

كان لتضامن أبناء السلطان العادل الثلاثة: الكامل محمد، والمعظم عيسى، والأشرف موسى أثره الواضح في تحقيق النصر في دمياط، وإفشال الحملة الصليبية الخامسة بقيادة "حنادي برين"، وكان المأمول أن يظل هذا التحالف قويًا، لكن ذلك لم يحدث، فانفرط العقد، وانكفأ كل واحد منهم حول ذاته، يعظّم من شأن مصالحه ومكاسبه، دون نظر إلى مصلحة أمته؛ فشب صراع بين الكامل وأخيه السلطان المعظم عيسى صاحب دمشق.

واستعان كل منهما بقوى خارجية لمؤازرته في مواجهة الآخر، فاستنجد الملك المعظم بالسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية، في حين استعان السلطان الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوروبا.

وكان الثمن الذي أعلنه السلطان الكامل للإمبراطور فريدريك هو تسليمه بيت المقدس وجميع فتوح صلاح الدين بالساحل الشامي، وذلك مقابل مساعدته في حربه ضد أخيه المعظم، ويا له من ثمن غالٍ في مقابل هدف غير نبيل.

وإذا كان السلطان الكامل قد عرض تسليم القدس للصليبيين مقابل الجلاء عن دمياط، فإنه قد يلتمس له البعض الغدر فيما أقدم عليه؛ فإن هول المصيبة قد أطاش بلبّه، وأعجزه عن التفكير السليم، ولكن ليس له عذر في عرضه الثاني، فضلاً عن كونه لا يملك الحق في هذا التنازل أصلا، وهذا من أعجب ما يقابله الإنسان في تصفحه للتاريخ الإسلامي: تفريط دون حاجة، وتنازل مقابل أهداف غير نبيلة.

فرصة فريدريك الثاني

أرسل السلطان الكامل مبعوثه الأمير "فخر الدين يوسف" بهذا العرض إلى الإمبراطور فريدريك الثاني، فأحسن فريدريك استقباله في صقلية، ورد على السلطان بسفارة مماثلة، وقد دعم هذا العرض السخي ما كان يعتمل في نفس الإمبراطور من القيام بحملة صليبية إلى الشام، وقطعَ تردده في النهوض بهذه المهمة التي كان يستحثه البابا جريجوري التاسع في النهوض بها؛ فغادر صقلية في (رجب 625هـ = يونيو 1228م) قاصدًا بلاد الشام، ممنيًا نفسه ببيت المقدس، وبمجدٍ يحققه، يظل التاريخ الأوروبي يلهج بذكره.

وكانت تلك الحملة التي عُرفت في تاريخ الحروب الصليبية بالحملة الصليبية السادسة من أعجب الحملات؛ فلم يتجاوز أفرادها ستمائة فارس فقط، وأسطول هزيل، وكأن الإمبراطور فريدريك جاء إلى الشام ليفاوض لا ليحارب، أو أتى إلى الشرق في نزهة جميلة.

وعندما وصل إلى "عكا" وجد الأمور على غير ما يتمنى، فالسبب الذي من أجله استدعاه السلطان الكامل قد زال وانتهى، فالملك المعظم عيسى الذي كان يعمل على التوسع على حساب إخوته وأهل بيته قد توفي، فلم تعد هناك حاجة تدعو السلطان الكامل إلى الوفاء بوعده للإمبراطور فريدريك، بعد أن اقتسم الأخوان الكامل محمد والأشرف موسى ممتلكات أخيهما المعظم عيسى مثير القلاقل، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء والاستقرار.

سلاح المفاوضة والاستعطاف

ساء موقف الإمبراطور فريدريك الثاني من تغير الأوضاع، ولم يبق له سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف، لتحقيق الهدف الغالي والأمل المنشود؛ فأرسل سفارة إلى السلطان الكامل تحمل له هدايا نفيسة، وتطلب منه الوفاء بما تعهّد به للإمبراطور، وتسليم بيت المقدس له، وكان طبيعيًا أن يرفض السلطان الكامل هذا الطلب بعدما تبدلت الأحوال التي ألجأته إلى القيام بهذا العرض، غير أن رفض السلطان زاد من إصرار الإمبراطور على تكرار الطلب، والمبالغة في استمالة السلطان واستعطافه إلى حد التذلل والبكاء، وبلغ به الأمر إلى أنه كتب للسلطان الكامل في أثناء المفاوضات: "أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي، فإن رجعت خائبًا انكسرت حرمتي بينهم!… فإن رأى السلطان أن ينعم عليّ بقبضة البلد والزيارة، فيكون صدقة منه، ويرتفع رأسي بين ملوك البحر".

تسليم بيت المقدس


أفلحت هذه السياسة وأثمرت استعطافات فريدريك في استمالة قلب السلطان الكامل، وكان رجلاً متسامحًا، ففرّط فيما لا يملكه، وتسامح فيما لا يجوز التسامح فيه، ووافق على تسليم بيت المقدس دون أن يبذل الإمبراطور في الاستيلاء عليه قطرة دم، أو ضربة سيف، أو طعنة رمح، وإنما فاز ببيت المقدس بدمعة عين، وخداع نفس، وحقق ما عجز عن تحقيقه ريتشارد قلب الأسد بجيوشه الضخمة وإمكانياته الكبيرة.

واتفق الفريقان على عقد اتفاقية يافا في (22 من ربيع الأول 626هـ = 18 من فبراير 1229م) بمقتضاها تقرر الصلح بين الطرفين لمدة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا.

ونصت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه، فلا يُجدّد سورها، وأن يظل الحرم بما يضمه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، وتُقام فيه الشعائر، ولا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط.

وبعد عقد الصلح اتجه فريدريك إلى بيت المقدس، فدخل المدينة المقدسة في (19 من ربيع الآخر 626هـ = 17 من مارس 1229م)، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة، ليُتوّج ملكًا على بيت المقدس.

الحزن عادة!!

استقبل المسلمون نبأ تسليم المدينة المقدسة بالأسى والحزن، وعم السخط أرجاء العالم الإسلامي، وأقيمت المآتم في المدن الكبرى.

ويصور المقريزي ما حل بالمسلمين من ألم بقوله: "فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان.. واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار".

ولما أحس السلطان الكامل أنه تورط مع ملك الفرنج أخذ يهوّن من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يعط الفرنج إلا الكنائس والبيوت الخربة، على حين بقي المسجد الأقصى على حاله.. غير أن هذه المبررات لم تنطلِ على أحد من الناس.

وظل بيت المقدس أسيرًا في أيدي الصليبيين نحو خمسة عشر عامًا يشكو إلى الله ظلم الحكام وسوء تصرفهم، حتى نجح الخوارزميون في تحريره في (3 من صفر 642هـ = 11 من يوليو 1244م).. ولهذا الفتح حديث آخر
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 08-03-2010, 11:13 AM   #68
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الغزنوي.. فاتح الهند

(في ذكري وفاته: 23 ربيع الأول 421هـ)

اهتم الخلفاء الراشدون بفتح بلاد الهند؛ فبعثوا منذ عهد عمر بن الخطاب عدة حملات على أطراف هذه البلاد، غير أن الفتح المنظم بدأ في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، حيث قام عامله على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي بهذه المهمة العظيمة، فأعد حملة عسكرية وجهزها بما يكفل لها النجاح من عدة وعتاد، وأسند قيادتها إلى واحد من أكفأ القادة وأمهرهم هو ابن أخيه محمد بن القاسم، وكان دون العشرين من عمره، فنهض بهذه المهمة على خير وجه، وتمكن من التوغل في بلاد الهند، وفتح مدينة "ديبل" وأقام بها مسجدا، وترك بها حامية من أربعة آلاف جندي، وأصبحت ديبل أول مدينة عربية في الهند.

وهذه المدينة كان موقعها قريبا من "كراتشي" لكنها اندرست ولم يعد لها وجود الآن، وواصل القائد المظفر حملته الناجحة في شمال الهند، وهو ينتقل من نصر إلى نصر، وأهالي البلاد تقبل عليه؛ فرحًا به لسماحته وحسن سياسته، وتعدّه محررَها من ظلم الهندوس واستعبادهم.

غير أن هذا الحلم الجميل بدا يتحطم ويتبدد؛ فقد توفي الحجاج الثقفي صاحب اليد البيضاء في هذا الفتح، ومن بعده الخليفة الوليد بن عبد الملك، وتولى العراق حاكم جديد، فأوقف الفتح وعزل محمد بن القاسم عن ولاية السند.

وظلت السند تابعة للدولة الأموية ومن بعدها الدولة العباسية، وحافظ المسلمون على ما فتحوه، وتوسعوا قليلا في ضم أجزاء أخرى إلى دولتهم، حتى سيطر المسلمون على المنطقة الواقعة بين كابل وكشمير والملتان.

قيام الدولة الغزنوية


الدولة الغزنوية باللون الأصفر


كانت "غزنة" بأفغانستان ولاية نائية، تخضع للدولة السامانية التي تحكم خراسان وما وراء النهر، ويقوم عليها ولاة من قِبلها، وشاءت الأقدار أن يلي غزنة سنة (366هـ= 976م) والٍ يسمى "سبكتكين" كان يتمتع بهمة عالية وكفاءة نادرة، وطموح عظيم، فنجح في أن يبسط نفوذه على البلاد المجاورة، وشرع في غزو أطراف الهند، وسيطر على كثير من المعاقل والحصون هناك، حتى تمكن من تأسيس دولة كبيرة في جنوبي غرب آسيا، وتوفي سنة (387هـ=997م).

ولاية محمود بن سبكتكين

بعد موت سبكتكين خلفه ابنه إسماعيل، بعد أن عهد إليه أبوه بالملك من بعده، غير أن أخاه الأكبر محمود -وكان سند والده في غزواته وحروبه- رفض أن يقر لأخيه بالملك لضعفه وسوء تدبيره، فنهض عليه واستطاع بعد سبعة أشهر أن ينتزع الملك لنفسه، ويقبض على زمام الأمور، وبدأ عهد جديد لم تشهده المنطقة من قبل، فلم يكد يستقر الأمر له، حتى بدأ نشاطًا واسعًا في الفتوح، وأثبت أنه واحد من كبار الفاتحين في تاريخ الإسلام، حتى قيل إن فتوحه تعدل في المساحة فتوح عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قضى محمود الغزنوي الفترة الأولى من حكمه في تثبيت أركان دولته، وتوسيع رقعتها على حساب الدولة السامانية التي دبّ الضعف في أوصالها، فرأى الفرصة سانحة للقضاء عليها، وتم له ذلك في (جمادى الأولى 389هـ= أبريل 999م) بعد انتصاره على عبد الملك بن نوح الساماني في موقعة حاسمة عند مرو، وأصبحت خراسان خاضعة له، ثم تصدى للدولة البويهية، وانتزع منها الري وبلاد الجبل وقزوين.

فتح الهند

بعد أن استقرت الأحول لمحمود الغزنوي واستتب له الحكم، وأقرته الخلافة العباسية على ما تحت يده من بلاد، تطلّع إلى بسط سيطرته على بلاد الهند، ومد نفوذه إليها ونشر الإسلام بين أهلها؛ ولذلك تعددت حملاته على الهند حتى بلغت أكثر من سبع عشرة حملة، وظل يحارب دون فتور نحوًا من سبع وعشرين سنة، بدأت من عام (390هـ= 1000م)، حيث قاد حملته الأولى على رأس عشرة آلاف مقاتل، والتقى عند مدينة بشاور بجيش "جيبال" أحد ملوك الهندوس، وحقق نصر غاليا، ووقع الملك الهندي في الأسر، الذي لم يستطع أن يتحمل هزيمته والعار الذي لحق به، فأقدم على حرق نفسه، بعدما أطلق الغزنوي سراحه مقابل فدية كبيرة.

ثم تعددت حملات الغزنوي، وفي كل مرة كان يحقق نصرا، ويضيف إلى دولته رقعة جديدة، ويبشر بالإسلام بين أهالي المناطق المفتوحة، ويغنم غنائم عظيمة، حتى توج فتوحاته في الهند بفتح بلاد "الكجرات"، ثم توجه إلى مدينة "سومنات" سنة (416هـ= 1025م) وكان بها معبد من أكبر معابد الهند، يحوي صنما اسمه "سومنات" وكان الهندوس يعظمونه ويحملون إليه كل نفيس، ويغدقون الأموال على سدنته، وكانت مدينة سومنات تقع في أقصى جنوب الكجرات على شاطئ بحر العرب، فقطع الغزنوي الصحاري المهلكة حتى بلغها، واقتحم المعبد، وهزم الجموع الغفيرة التي حاولت إنقاذ المعبد، ووقع آلاف الهندوس قتلى، وسقط المعبد في أيدي المسلمين.

وغنم الغزنوي أموالا عظيمة قُدرت بنحو عشرين مليون دينار، وعاد إلى غزنة سنة (417هـ=1026م) وظلت ذكرى هدم معبد سومنات عالقة في ذاكرة الهندوس لم يمحها كرّ السنين، ولا تغيرها الأحول، حتى إذا ما ظفرت الهند باستقلالها عمدت إلى بناء هذا المعبد من جديد في احتفال مهيب.

ولم يكن الغزنوي مدفوعا في فتوحاته برغبة جامحة في كسب الغنائم أو تحقيق مجد يذكره له التاريخ، ولكن قاده حماسه لنشر الإسلام، وإبلاغ كلمة التوحيد في مجتمع وثني، وكانت تلك الحملات مسبوقة بطلب الدخول في الإسلام، وإلى هذا أشار السير "توماس أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" بقوله: وفي الحق أن الإسلام قد عُرض في الغالب على الكفار من الهندوس قبل أن يفاجئهم المسلمون.

وكانت حصيلة جهود محمود الغزنوي أن أتمّ فتح شمال شبة القارة الهندية، ففتح إقليم كابلستان، وملتان، وكشمير، وأخضع البنجاب، ونشر الإسلام في ربوع الهند، وفتح طريقا سلكه من جاء بعده.

وقد نظر المؤرخون المسلمون إلى أعماله نظر إعجاب وتقدير، فقد بلغ بفتوحاته إلى "حيث لم تبلغه في الإسلام راية، وأقام بدلا من بيوت الأصنام مساجد الإسلام".

النهضة الحضارية والثقافية

اكتسب الغزنوي مكانته في التاريخ بفتوحاته التي لم تُسبق، وبجهوده الحضارية التي لم يشغله عنها فتوحاته وغزواته، وكان العزنوي نفسه مولعا بعلم الحديث، يستمع إلى علمائه كما كان فقيها له مؤلفات، ولا يكاد يسمع بعالمٍ له مكانة حتى يستدعيه إلى دولته، فاستقدم "أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني" المتوفى سنة (440هـ= 1049م) الذي نبغ في علوم كثيرة، في مقدمتها الرياضة والفلك، وعُدّ من أعظم رجال الحضارة الإسلامية، وتُرجمت كتبه إلى اللغات الأوروبية، وأطلقت روسيا اسمه على جامعة أنشأتها حديثا.

وعني السلطان بالشعر وكان له به شغف، ومن أشهر الشعراء الذين ازدانت بهم دولته الشاعر الفارسي "عنصري" وكان نديما للسلطان وشاعرا له، منحه لقب "ملك الشعراء" في مملكته، و"المسجدي"، و"الفرخي" وهو شاعر فارسي عظيم قيل فيه: إن الفرخي لدى الفرس بمثابة المتنبي لدى العرب.

أما أبرز الشعراء في هذا العصر فهو "الفردوسي" صاحب "الشاهنامة" التي نظمها في خمسة وعشرين عاما من الجهد والإبداع، وتشمل أخبار الفرس القدامى، وهي من عيون الأدب العالمي.

ومن أبرز كتّاب الدولة ومؤرخيها "أبو الفتح البستي" وكان كاتبا للسلطان وموضع سره ومستشاره في كثير من الأمور، وله شعر رائق ونظم جيد، و"أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي" مؤرخ الدولة الغزنوية وكاتب السلطان مع أبي الفتح البستي، له كتاب "اليميني" نسبة إلى يمين الدولة لقب السلطان محمود الغزنوي، تناول فيه تاريخ الدولة الغزنوية.

وأصبحت غزنة في عهد السلطان محمود منارة للعلم ومقصدا للعلماء، وغدت عامرة بالمساجد والقصور والأبنية التي لا تقل بهاءً وجمالا عن المنشآت الهندية التي اشتهرت بدقة التصميم وجمال العمارة.

وفاة الغزنوي

ظل السلطان محمود الغزنوي يواصل جهاده حتى مرض، وطال به مرضه نحو سنتين، ومع ذلك لم يحتجب عن الناس أو يمنعه المرض من مباشرة أمور رعيته حتى توفي قاعدًا في (23 من شهر ربيع الأول 421هـ= 29 من أبريل 1030م) بعد أن أنشأ دولة واسعة، ضمّت معظم إيران وبلاد ما وراء النهر وشمال الهند كله، ونشر دينًا لا يزال له أتباع كثيرون في الهند.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 09-03-2010, 07:24 AM   #69
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

قيام دولة المماليك في مصر والشام

(في ذكرى وفاة أيبك: 24 من ربيع الأول 655هـ)


يرجع ظهور المماليك في العالم الإسلامي إلى ما قبل دولتهم في مصر والشام بأمد بعيد؛ إذ استخدمهم الخلفاء العباسيون الأوائل، واعتمدوا عليهم في توطيد دولتهم، واستعانوا بهم في الجيش والإدارة، ولعلَّ الخليفة المأمون العباسي (198-218هـ= 813-833م) هو أول من استعان بهم، ثم استكثر منهم الخليفة المعتصم (218-227هـ= 833-843م)، وشكّل فرقا عسكرية من الأتراك، وكان يُعنى بشرائهم صغارا ويستجلبهم من سمرقند وفرغانة والسند، وغيرها من أقاليم ما وراء النهر، حتى بلغ عددهم بضعة عشر ألفا، فلمّا ضاقت بهم بغداد، وزاحموا الناس في الطرقات نقلهم المعتصم معه إلى "سامراء" عاصمته الجديدة التي بناها لتكون حاضرة لملكه.

ولم يلبث أن شاع استخدام المماليك في كثير من أجزاء العالم الإسلامي، وكانت مصر ممن انتهجت هذا النهج، فأكثر "أحمد بن طولون" الذي تولَّى حكم مصر سنة 254هـ = 868م من شراء المماليك الديالمة، سكان بحر قزوين حتى بلغ عددهم أكثر من 24 ألفا، والتزم الإخشيديون سُنة أسلافهم الطولونيين في جلب المماليك الأتراك والاستعانة بهم في الجيش.

وفي الهند قامت لهم دولة قبل أن تقوم في مصر بعد أن نجح "قطب الدين أيبك" في إنشاء دولة عُرفت باسم دولة "الملوك المماليك"، وظلَّت دولتهم قائمة مدة 84 عاما، بدأت عقب سقوط الدولة الغورية سنة 602هـ = 689م.

الصالح أيوب والمماليك

عُني الصالح أيوب (638-647هـ = 1240 – 1249م) منذ أن تولّى حكم مصر بالإكثار من شراء المماليك الأتراك بعد أن ساندوه في توطيد سلطانه، حتى صار معظم جيشه منهم، وبنى لهم قلعة خاصة بجزيرة "الروضة" في وسط النيل وأسكنهم بها، وجعلها مقرا لحكمه، وعُرف هؤلاء المماليك الجدد باسم المماليك "البحرية الصالحية".

وقد برز هؤلاء المماليك البحرية وتعاظم شأنهم في خضم أحداث الحملة الصليبية السابعة التي مُنيت بهزيمة بالغة سنة 648هـ = 1250م، وانتهت بأسر الملك "لويس التاسع" قائد الحملة في المنصورة، وتبدد قواته بين القتل والأسر.

نهاية الدولة الأيوبية

تُوفي الصالح أيوب في أثناء المعركة وخلفه ابنه توران شاه في حكم مصر، لكنه لم يحسن معاملة المماليك البحرية، الذين كان لهم الفضل الأكبر في تحقيق النصر، وحسدهم على مكانتهم التي بلغوها بفضل شجاعتهم وقوة بأسهم، وخشي من نفوذهم فأعرض عنهم، وأوجس منهم خيفة وأضمر لهم السوء، غير أنه لخفته ولهوجته كان يجاهر بذلك عند سكره بالليل فينفلت لسانه بما يضمره قلبه من قتلهم والتخلص منهم.

يُضاف إلى ذلك سوء تدبيره وفساد سياسته بإبعاده كبار رجال دولته من الأمراء وأهل الحل والعقد، وتقريبه رجاله وحاشيته وإغداقه عليهم بالأموال والإقطاعات ولم يكن أمام المماليك سوى التخلص من توران شاه قبل أن يتخلص هو منهم، فنجحوا في قتله في فارسكور في صباح يوم الإثنين الموافق (28 من المحرم 648هـ = 2من مايو 1250م)، وبمقلته انتهت الدولة الأيوبية في مصر وبدأ عصر جديد.

قيام دولة المماليك

وجد المماليك أنفسهم أمام وضع جديد لم يعهدوه من قبل، فهم اليوم أصحاب الكلمة النافذة والتأثير البالغ، ولم يعودوا أداة في أيدي من يستخدمهم لمصلحته وتحقيق هدفه، وعليهم أن يختاروا من بينهم سلطانا جديدا للبلاد، فاتفقت كلمتهم على اختيار أرملة أستاذهم "شجرة الدر" سلطانة للبلاد، في سابقة لم تحدث في التاريخ الإسلامي إلا نادرا، وبايعوها بالسلطنة في (2 من صفر 648هـ = 5 مايو 1250م).

غير أن الظروف لم تكن مواتية لأن تستمر شجرة الدر في الحكم، على الرغم مما أبدته من مهارة وحزم في إدارة شئون الدولة، فلقيت معارضة شديدة في داخل البلاد وخارجها، وثارت ثائرة الأيوبيين في الشام لمقتل توران شاه وجلوس شجرة الدر على سدة الحكم، ورفضت الخلافة العباسية في بغداد أن تُقر صنيع المماليك، فكتب الخليفة إليهم: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نُسيِّر إليكم رجلا".

تنازل شجرة الدر وولاية عز الدين أيبك

لم تجد شجرة الدر بُدا من أن تتنازل عن الحكم للأمير "عز الدين أيبك" أتابك العسكر الذي تزوجته وتلقب بالملك المعز، وكانت المدة التي قضتها شجرة الدر على عرش البلاد 80 يوما، ولم يكن تولِّيها الحكم ناتجا عن موافقة شعبية أو اختيار من الخلافة العباسية، وإنما كان وليد الظروف التى أحاطت بمصر في ذلك الوقت.

تولَّى الملك المعز عرش البلاد، ولم تهدأ أصوات المعارضين لانفراد المماليك بالحكم، بل زاد حدة، وكان على السلطان الجديد للدولة الوليدة أن يواجه بحزم خطر الأيوبيين في الشام وتهديداتهم، وكانوا قد اجتمعوا تحت زعامة "الناصر يوسف" صاحب حلب ودمشق لاسترداد مصر من المماليك، باعتبارهم مغتصبين حق الأيوبيين في حكم مصر، وزحفوا على مصر فالتقى معهم أيبك بقواته في معركة بالقرب من الصالحية في (10 من ذي القعدة سنة 648هـ = 2 من فبراير 1251م)، وانتهت بانتصاره وفرار الناصر يوسف ورجاله إلى الشام.

وقد دفع هذا النصر الملك المعز إلى الزحف إلى الشام للقضاء على المعارضة الأيوبية، غير أن تدخل الخليفة المعتصم العباسي وضع حدًّا للنزاع بين الطرفين؛ فتم الصلح بينهما سنة 651هـ = 1253م على أن تكون مصر والجزء الجنوبي من فلسطين بما في ذلك غزة وبيت المقدس وبلاد الساحل للمعز أيبك، على حين تظل البلاد الشامية في أيدى الأيوبيين، وهكذا انتهت العقبة الأولى في تأسيس الدولة المملوكية الناشئة بإيقاف النزاع والصراع مع ملوك البيت الأيوبي.

عقبات في طريق قيام دولة المماليك

ولم يكد السلطان أيبك يتخلص من هذه العقبة حتى واجهته عدة مشكلات داخلية، بدأت بقيام الأعراب بثورة شعبية في الصعيد والشرقية تحت زعامة "حصن الدين ثعلب"، هددت البلاد؛ فاضطر السلطان إلى أن يرسل حملة عسكرية بقيادة "فارس الدين أقطاي" لقمع هذه الثورة في مهدها؛ فنجح في القضاء عليها قبل أن يستفحل خطرها.

أما العقبة الثانية التي واجهت أيبك في الداخل فهي ازدياد نفوذ المماليك البحرية بزعامة "فارس الدين أقطاي"، خاصة بعد نجاحهم في تحقيق انتصارات داخلية وخارجية، فهدد نفوذهم مكانة السلطان، واشتد خطرهم حتى أصبح يهدد أمن الناس وسلامتهم، وعجز السلطان عن مواجهتهم والتصدي لاستخفافهم به؛ فكان "أقطاي" لا يظهر في مكان إلا وحوله رجاله ومماليكه في أبهة عظمية كأنه ملك متوج، وبالغ في تحقيره للسلطان في مجلسه فلا يسميه إلا أيبكا، وتطلعت نفسه نحو السلطنة، ولقّبه زملاؤه بالملك الجواد.

استشعر السلطان الخطر وأحس بالخوف من ازدياد نفوذ "أقطاي"؛ فعزم على التخلص منه فاستدعاه إلى القلعه بحجة استشارته في أمر من أمور الدولة، وهناك تخلص منه بالقتل في (3 من شعبان 652هـ = 18 من سبتمبر 1254م)، وألقى هذا الحادث الرعب في قلوب كبار المماليك البحرية فسارعوا بالهرب إلى خارج البلاد، والتجأ بعضهم إلى ملوك البيت الأيوبي في الشام، ولجأ بعضهم الآخر إلى دولة سلاجقة الروم، وتعقب أيبك من بقي منهم في مصر فقبض عليهم، وكتب إلى الملوك الذين لجأ إليهم المماليك يحذرهم منهم ومن غدرهم.

نهاية السلطان أيبك

أسلمت البلاد قيادها للمعز، وتخلص من القوى المناوئة له، وكان من المنتظر أن تنعم البلاد بالهدوء بعد الفوضى والقتال، وينعم هو بزعامة بلد له شأن، ولكن ذلك لم يدم، ودخل في صراع مع زوجته شجرة الدر زاد من ضراوته عزمه على الزواج من إحدى بنات البيت الأيوبي، وبدأ يفكر في الخلاص منها، غير أنها كانت أسبق منه، فدبرت مؤامرة لقتله في (24 من ربيع الأول 655هـ = 11 من إبريل 1257م)، ثم لم تلبث هي الأخرى أن قُتلت بعده بأيام قليلة.

وبعد مقتله تعصب المماليك المعزية لابن سيدهم المدعو "نور الدين علي" بن أيبك، وكان في الخامسة عشرة من عمره، وأقاموه سلطانا على البلاد، ولمّا تعرض الشرق الإسلامي لخطر المغول الذي اجتاح الشام وأصبحت مصر على مقربة من هذا الخطر، قام "قطز" نائب السلطنة بعزل السلطان الصغير، وتولى الحكم لمواجهة الخطر المغولى الداهم، وخرج إلى ملاقاة المغول في "عين جالوت" وحقق نصار تاريخيا في (26 من رمضان 658هـ = 3 من سبتمبر 1260م)، وطرد المغول من المنطقة، وضمَّ الشام إلى سلطان المماليك الذين أصبحوا سادة الموقف، ومن بيدهم مقاليد الأمور في مصر والشام.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 10-03-2010, 07:21 AM   #70
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

رضية الدين.. سلطانة الهند!

(في ذكرى وفاتها: 25 من ربيع الأول 638هـ)





يذكر التاريخ الإسلامي لـ "أروى بنت أحمد الصالحية" أنها أول امرأة تحكم دولة في العالم الإسلامي، فقد تولّت عرش دولة اليمن بعد وفاة زوجها الملك "المكرم" سنة (477هـ= 1084م) وتصرفت في أمور الدولة، واتخذت لنفسها ألقابا عديدة، منها الحُرّة، الملكة، والسيدة السديدة، وظلت تحكم البلاد نحو 55 عامًا.

وشاءت الأقدار أن تكون "رضية الدين" هي النموذج الثاني الذي يعتلي الملك؛ حيث تولَّت حكم دولة المماليك بالهند، تلتها شجرة الدر في مصر؛ حيث كانت أول سلطانة لدولة المماليك في مصر سنة (648هـ=1250م) وحكمت ثمانين يومًا.

وتشترك الملكات الثلاث في رجاحة العقل، وحسن التدبير، وسعة الحيلة، والتمتع بالذكاء والبصيرة، وإن افترقن في المدة التي قضينها في الحكم.

قيام دولة المماليك في الهند




قامت الدولة الغورية (543-613هـ= 1148-1215م) على أنقاض الدولة الغزنوية التي كانت تملك بلاد الغور والأفغان والهند الشمالية، واستعان السلطان "محمد الغوري" في حكم بلاده بالمماليك الذين كان يشتريهم ويخصّهم بعنايته، ويعدهم للغزو والجهاد، ويرقي منهم من تؤهله ملكاته ومواهبه للقيادة ومناصب الحكم، وعُرف من بين هؤلاء المماليك "قطب الدين أيبك"، ولاه الغوري ولاية دلهي.

وكان قطب الدين قائدا ماهرا وحاكما عادلا يتمسك بالإسلام ويكره الظلم والعسف، ويبغض نظام الطبقات الذي كان سائدا بالهند، ويُنسب له في دلهي مسجد رائع، ذو منارة سامقة، ما تزال قائمة حتى اليوم تُعْرف باسمه "قطب منار"، ويصل ارتفاعها إلى 250 قدمًا.

ولم تطل الحياة بالسلطان محمد الغوري حيث تعرض لعملية اغتيال في سنة (603هـ= 1206م) وتهيأت الظروف لأن تبرز مدينة دلهي، باعتبارها عاصمة لدولة سلاطين المماليك بالهند، ولم يهنأ قطب الدين أيبك بما هيأته له الظروف، فقد لقي حتفه هو الآخر إثر وقوعه من على ظهر فرسه سنة (608هـ= 1210م) وخلفه ابنه "آرام شاه" لكنه لم يكن مؤهلا لأن يتولى شئون البلاد فقام "التمش" أحد مماليك أبيه البارزين بخلعه من الحكم بمساعدة بقية الأمراء، وجلس على عرش البلاد في عام (614هـ= 1216م).

ولاية التمش


يعد "التمش" المؤسس الحقيقي لدولة الممالك بالهند، وهو في الأصل مملوك اشتراه السلطان قطب الدين أيبك من غزنة، ومكنتّه مواهبه من تولي المناصب الكبيرة، وحظي بثقة سيده؛ فولاه رئاسة حرسه، ثم عهد إليه بإدارة بعض الولايات الهندية.

وما إن أمسك "التمش" بمقاليد الأمور في البلاد حتى كشف عن كفاءة نادرة وقدرة على الإدارة والتنظيم، ورغبة في إقامة العدل وإنصاف المظلومين، فينسب إليه أنه قام بتأسيس مجلس من كبار أمراء المماليك عُرف باسم "الأربعين" لمعاونته في إدارة البلاد، ويُؤثَر عنه أنه أمر أن يلبس كل مظلوم ثوبا مصبوغا، وكان أهل الهند جميعا يلبسون الأبيض، فإذا قعد للناس أو مرّ على جمع من الناس، فرأى أحدا يرتدي ثوبا مصبوغا؛ نظر في قضيته وأنصفه ممن ظلمه.

وقد عاصر "التمش" اجتياح المغول المدمّر لما حولهم من البلاد بقيادة زعيمهم جنكيز خان، غير أن المغول انسحبوا سريعا من الهند، واتجهت أبصارهم نحو الغرب؛ فنجت بلاد التمش من الخراب والدمار، في حين تكفّل هذا الإعصار المغولي بالقضاء على أعداء دولته في الشمال؛ الأمر الذي مكّنه من توسيع رقعة بلاده، وأن يستعيد جميع ممتلكات سيده "قطب الدين أيبك" في شمال الهند.

وبلغ الفوز مداه بأن اعترفت الخلافة العباسية بولايته على الهند، وأقرّته سلطانا على البلاد، وبعث له الخليفة "المستنصر بالله" العباسي بالتقليد والخلع والألوية في سنة (626هـ= 1229م) فأصبح أول سلطان في الهند يتسلم مثل هذا التقليد، وبدأ في ضرب نقود فضية نُقش عليها اسمه بجوار اسم الخليفة العباسي، فكانت أول نقود فضية عربية خالصة تُضرب في الهند.

ولاية السلطانة رضية الدين

توفي السلطان "التمش" سنة (634هـ= 1236م) وخلفه ابنه "ركن الدين فيروز"، غير أنه كان منشغلا عن مسئولية الحكم وتبعاته باللهو واللعب، تاركا تصريف أمور دولته إلى أمّه التي استبدّت بالأمر وهو ما جعل الأحوال تزاد سوءا، وتشتعل المعارضة ضده، وانتهت الأزمة بأن بايع كثير من الأمراء "رضية الدين بنت التمش"، وأجلسوها على عرش السلطنة، وكانت تتمتع بصفات طيبة من رجاحة العقل، وشجاعة النفس، وعلى حظ كبير من الذكاء، تحفظ القرآن الكريم، وتلم بالفقه الإسلامي.

وكان أبوها يسند إليها بعض المهام، حتى إنه فكّر في أن يجعلها "وليّة للعهد" دون إخوانها الذكور الذين انشغلوا باللهو والملذات، وقد تحقق ما كان يراه أبوها ولا يراه سواه ممن كانوا يعترضون عليه إيثاره لها، فما إن آلت إليها السلطنة حتى دلّت على ما تتمتع به من صفات، حتى إن مؤرخي الهند، أطلقوا عليها اسم "ملكة دوران بلقيس جهان"، أي فتنة العالم.

فترة ولاياتها

جلست "رضية الدين" على عرش سلطنة دلهي نحو أربع سنوات (634-637هـ= 1236-1369م) بذلت ما في وسعها من طاقة لتنهض بالبلاد التي خوت خزائنها من المال لإسراف أخيها، وسارت على خطا أبيها في سياسته الحكيمة العادلة، لكنها اصطدمت بكبار أمراء الملوك الذين يشكلون جماعة الأربعين، ويستأثرون بالسلطة والنفوذ، وحاولت الملكة جاهدة أن تسوسهم، وتحتال على تفريق كلمتهم، وتعقُّب المتمردين والثائرين عليها، وكانت تظهر بمظهر الرجال، وتجلس على العرش والعباءة عليها، والقلنسوة على رأسها وتقود جيشها وهي تمتطي ظهر فيلها.

ولما استقرت أحوال مملكتها انصرفت إلى تنظيم شئونها، فعينت وزيرا جديدا للبلاد، وفوضت أمر الجيش إلى واحد من أكفأ قادتها هو "سيف الدين أيبك"، ونجحت جيوشها في مهاجمة قلعة "رنتهبور" وإنقاذ المسلمين المحاصرين بها، وكان الهنود يحاصرون القلعة بعد وفاة أبيها السلطان "التمش".

غير أن هذه السياسة لم تلق ترحيبا من مماليك سلطنتها الذين أنفوا أن تحكمهم امرأة، وزاد من بغضهم لهذا الأمر أن السلطانة قرّبت إليها رجلا فارسيًا يُدعى "جمال الدين ياقوت"، كان يشغل منصب قائد الفرسان، ولم تستطع السلطانة أن تُسكت حركات التمرد التي تقوم ضدها، كما كانت تفعل في كل مرة، فاجتمع عليها المماليك وأشعلوا الثورة ضدها، وحاولت أن تقمعها بكل شجاعة، لكنها هُزمت، وانتهى الأمر بقتلها في (25 من ربيع الأول 637هـ= 25 من أكتوبر 1239م) وتولَّي أخيها السلطان "معز الدين" عرش البلاد.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .