الرابعة : تأمّلـوا جريمة ساسة الغرب المنافق الكذاب ، كيف أنه كان يتستَّر على هذا الطاغية العربي ، ولم ينشروا عنه أيَّ نقـد ، بل كانوا يمدحـونه ، ويثنون على (نهجه التنمـوي) زورا وكذبـا ، وهم يعلمون جيـداً كيف كان يحكم شعبه بالإرهاب ، والفـتك ، وإنتهاك الحـقوق ، ومصادرة الحريـّات ، لا لشيء ، إلاّ لأنه كان ينفذ مخططهم الخبيـث في حـرب الإسلام .
فمن يحارب الإسلام ، وينفـّذ مخطّطات الغـرب ، فهـو _ عند ساسة الغرب _ زعيم الإصـلاح المرضي عنه ، حتى لو كان أشد الحكام جُرما في شعبه ، وأقذرهـم يـداً ، ومن يحب الإسلام ويسمح بإنتشار التديُّن ، فإنهـم يحاربـونه حتى لو كان أعـدل الحكام ، وأنزههـم يداً .
هذه هي حقيقة السياسة الغربية المنافقة ، ولكن الحمد لله الذي فضحـها بكلمة الشعـب التونسي ، وثورته ضد الطغيـان .
الخامسة : تُـرى ماذا في نفوس بقية الطغاة العرب في هذه اللحظات بينـما صديقهـم وحبيبهـم _ الذي كان يجتمـع عنـده كـلَّ عام وزراء الداخلية العرب لتبادل الخبرات في قمع الشعـوب ! _ يهـرب من شعبه خائفـا من أن يسحلـوه ؟!
وأحسب أنَّ منهـم من لم يستوعب الصدمـة حتى الآن ، فقـد طال الأمـد منذ أن سمعنـا بإزاحـة حاكم عربي على يـد غيـر ملك الموت عليه السلام ، عجـّل الله بـه ليريحـنا من بقيـتهم !
ومنهـم من ملأ أرجاء صدره الخـوف ، وبدأ يتذكّـر جرائمه ويتحسَّس رقبته !
ومنهـم من هـو خائف أن يـتمَّ الإستيلاء على وثائق تثبت تورُّطه في أمر ما مع الطاغية الهـارب ، ثم ينفضـح أمـرُه !
ومنهـم من لم يزده ما جـرى إلاّ غيـّا ، فأمـر بتشديد الرقابة على الشعـب ، وإحكـام القبضة لئلاّ يثور شعبـه كما ثار الشعب التونسي !
ومنهـم من أمـر بزيـادة العلـف للشعب حتى يهدأ ! لأنـّه _ كما هي نظرية الحكم في النظام العربي _ لايرى الشعب إلاّ قطيعا ، أهمـله بن علي فتمـرَّد ، ولو أطعـمه لتعبـَّد !!
ومنهـم من أمـر بتجهيـز خطة للهروب ، ومأوى للمنـفى !
ومنهـم من هـو في غمـرة غروره ، فهو يظن أنـّه الإمام العادل ! الذي في (ظلِّ الله يوم لاظل إلاّ ظـلُّه) ! ، من كثرة ما يردِّد عليه (شيوخ بني أمية ) أنه وليُّ الأمر الذي طاعته من طاعة الله ، وتوقيره من توقيـر الله ! تعالى الله عما تقول ( اللّحى المستأجرة ) علــوَّا كبيـراً .
فهو يقول لمن حوله : ( الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به بن علي وفضَّلني تفضيلا ) !!
وما يعلم أنه هـو ممن قال الله تعالى فيهم ( قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالا ، الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعـا ) !
بل هم والله يعلمون في قرارة أنفسهـم أنهـم طغاة ، ما لهم في الإسلام حـظّ ، ولا في العـدل نصـيب.
ومنهـم من يفكـر : بماذا أسخـط (بن علي) سادتنا الغربيين حتى تخلُّوا عنه ؟!! خشية أن يـقع في مثـل وقعـته !!
وأحسب أنَّ أكثـرهم هذا هـو هاجسـهم الأكبـر !
والأحرى بهم أن يخافوا من الله تعالى الذي يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويأخذ الظالم فلا يفلـته ، ليتقـوا الله في شعوبهـم ، في إقامة العـدل ، ونصرة الضعيف ، والملهـوف .
السادسة : أنَّ ثورة المعلومـات والإتصالات أخذت تعجِّـل بالتغييـر السياسي ، ذلك أنها غيرت المعادلات الإجتماعية التي كانت تسيـّر حياة المجتمعات فيما مضـى ، تلك التي أقام عليها الطغاة نظم الحكم البوليسية التقليدية ،
فقد غـدت الشعوب اليـوم تصل إلى المعلومة قبل أن تزيّفها السلطات ، كما تتعرف على الحقائق كما هي بالصوت والصـورة ، ثـم تتواصل بسرعة مدهشة بطرق لا تستطيع السلطات أن تمنعها ، أو تلاحقها .
ولهذا فإنَّ الشعوب اليوم تستطيع أن تشكل وعيها بنفسها ، وتتواصل للإتفاق على وسائل الإحتـجاج ، والتغيير ، من غيـر أن تستطيع أجهزة الأمـن أن تسيطر عليها ، وهذا من أهـم وسائل التغييـر ، ولهـذا نجحـت الثورة التونسية بسرعة مذهـلة ،
فليسمع الطغـاة هذا جيدا ، وليدرسـوه مليـَّا ، عسى أن يرعووا عن طغيـاهم وما أظنـهم بفاعليـن ! كما قال تعالى ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحـق ، وإنْ يروا كلَّ آية لايؤمنوا بهـا ، وإنْ يروا سبيل الرشد لايتخذوه سبيلا ، وإن يروْا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ..الآيـة )
السابعـة : التغيير السياسي الذي يريد الخلاص من الطغـاة ، لايحدث بلا ثـمن ولا يأتي بغيـر تضحيات عظيمة ، فقـد قدم الشعب التونسي أكثـر من مائة قتيل ومئات الجرحـى من أجل أن يخـلع الطاغيـة .
هي الحرية الغـرَّاءُ تأتـــي ** دماً ملأ الخناجرَ والنصالا
يلوح دمُ الأسود على العوالي ** فأمُّ المستبـدِّ مـع الثكالى
والشعب التونسي عمل بمقتضـى الشرع إذ أمرت الشريعة بالخروج على الطغاة وخلعهـم ، فمن مات منهم بهذه النيـة فهو شهيـد بإذن الله تعالى ، وكذلك كل من يموت في هذا السبيل الراشـد .
الثامنـة : إذا أراد الله أمـرا من السمـاء ، بإنـزال العقوبـة على الظـلم ، وقضى من عرشـه بزوال المـلك ، فلـن ينفع الطغاة (بوليسهم) ، ولـن تنجـدهم مخابراتهم وتقاريرها السرية ، ولـن تخلّصـهم جيوشهـم ،
بل يسلُّهم العزيز الجبار من بين كلَّ هذه الجنود المجنـَّدة ، في لمـح البصـر ، من العـزّ إلى الذلّ ، ومن الأمـن إلى الخـوف ، ومن سعـة القصـور ، إلى الحسـرة وضيـق الصدور .
التاسعـة : عقوبة هذا الطاغيـة لم تكتـمل بعد ، فسيفضح الله ستره ، وسيلاحـق بما جنـى من فساد ، وظلم ، حتى يمـوت بشـر حال ، جزاء وفـاقا على ما فعل في حربـه دين الله تعالى ، وظلمه عباد الله .
العاشـرة : لايعني ما حدث في تونس أنَّ العدل قد قامت أركانه ، والحكم الراشد قد وضح بيانـُه ، فالأمر لم يتبين بعـد وجهُه ، وقد جرت العادة أن الثورات الشعبية التي تنفجـر هكذا ، يتلقف ثمارها تجـَّار السياسة ، وسماسرة المكـر ، ووكلاء القوى الأجنبيـَّة ،
ثـم يحاولون استثمارها في مشاريعهـم تحت شعارات جديدة تخـدّر الشارع ، وتهدِّىء الشعـوب ، ريثـما يتمّ تقاسم مكاسب الوضع الجديد بين المستفيدين الجـدد.
غير أنـّه بلا ريب ستخـفّ القيـود ، ويرتاح الناس من آصار عهد ( أفجـر العابثين ) ، ولو قليـلا ، وسيعقـب ما مضى ، عهـد جديد سيسمح بأجواء مفيـدة للمشروع الإسـلامي إن أحسـن قراءة المشهد السياسي ، وأجـاد إستثماره بذكـاء وفق موازين الشريعة الحكيمـة ، على أساس ترتيب الأولويـات ، فتقديم الأهـمّ .
والله أعـلم والمستـعان في كلِّ الأمـور ، وهـو المسؤول سبحـانه أن يحسن عاقبة الشعب التونسي ويكتب له التوفيق والراحة والرزق الحسن والعيش الطيب وكلّ شعوب المسلمين آمـين
والله حسبنا عليه توكّلنا وعليه فليتوكّـل المتوكّـلون .
حامد بن عبدالله العلي