ولعمري إن هذا كله حق وصواب ، ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين بإعداد القوة ، لبقاء التحفز للعدو ، ولهذا أيضا حذّر من عداوة الكفار للمسلمين ، وأخبـــر أنها مستمرة ، كما قال تعالى : ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ) ، وأطلق على عداوتهم في مواضع كثيرة في القرآن أنها كيد ، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنهم يسلكون سبلا خفية للمكر بهذا الدين ، وهو كما نرى هذه الأيام ، مزاعمهم عن السلام العالمي ، بينما هم يمكرون لهذا الدين . ولهذا امر الله تعالى بجهاد الطب ، وكان الذين أنكروه من المتفقهين المعاصرين جهلاء بواقع الامر في السياسة العالمية .
ولهذا أيضا صرح فقهاء الشريعة الإسلامية في باب الهدنة ، انه لا يصح للحاكم أن يهادن الكفار هدنة أبديّة ، وهذا حكم متفق عليه بين المذاهب ، لان الهدنة الأبدية تفضي إلى تعطيل الجهاد ، وأيضا فإنه حينئذ جهل بواقع السياسة الدولية ، لا يجوز أن يتصف به الحاكم المسلم .
والمقصود من هذا كله ، أنه إذا كان واقع السياسة الدولية ما ذكر، من أنه عداء مستمر في حقيقته وإن أظهر خلاف ذلك ، ومعلوم أن الدول الغربية المستعلية بجاهليتها في هذا العصر ، تريد تحقيق هدف الهيمنة على بلاد الإسلام ، وأنها تستغل المعاهدات ، ووجودها الفعلي بسبب هذه المعاهدات ، في بلاد الإسلام ، لتكون قريبة من أماكن أطماعها ، لتنفيذ مخططاتها الخبيثة .
إذا كان ذلك كذلك ، فيجب أن يعلم أن المعاهدات التي توقعها الدولة مع الكفار ، لن تكون شرعية بحال ، إن كانت الدولة الكافرة ، ماكرة بهذا الدين ،معادية لاهله ، مستغلة وجودها على أرض الدولة التي تعاهدها ، لخدمة مراكزها الاستخباراتيه ، جاعلة سفارتها ، ومؤسساتها التابعة لها ، وقواعدها في خدمة أنشطة التجسس التي تغذي استعلاءها بالقوة ، الذي هو استعلاء للكفار في الأرض ، وتمكين لهم من ظهور كفرهم واحكامهم الطاغوتية ، ومن يفتي بأن شريعة رب العالمين ، الآمرة بجهاد الكفار والمشركين ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، أن هذه الشريعة تقر هذا الكفر و الإفك المبين ، فذلك والله الذي لا إله إلا هو ، إعانة على هدم دين الإسلام من أصله .
إذا علم هذا ، فليعلم السائل أن الواقع السياسي للعالم الإسلامي اليوم ، إنما هــو بقية آثار من تداعيات سبقت في القرن الماضي، عندما كانت البلاد الإسلامية تحت الاحتلال الصليبي السابق ، وقد فرض قبل رحيله أوضاعا تخدم مستقبل مصالحه في المنطقة كلها ، ومن ذلك تنحية الشريعة الإسلامية عن أن تكون مهيمنة بأحكامها على الدول ، خوفا من أن تكون المعاهدات بين تلك الدول والعدو الصليبي ، لاتخدم أطماعه فيما لو كانت المعاهدات مبنية على أحكام الشريعة الإسلامية وشروطها الصارمة لاسيما في اشتراط النظر لصالح الاسلام والمسلمين باعتبارهم أمة واحدة في الارض كلها.
ومن هنا فقد وقعت هذه الاشكالات التي نراها اليوم ، وفيها هذا التناقض الهائل بين واقع تصرف الكفار في بلاد الإسلام ، مع ادعاء الدول التي توقع مع الكفار هذه المعاهدات : من أن تصرف الكفار ، هو وفق معاهدات يجب احترامها ، وبين ما هو في كتب الفقه الإسلامي من شروط شرعية تعدها الشريعة أساسا لصحة المعاهدات الدولية ، فإن خلت منها هذه المعاهدات كانت باطلة غير ملزمة .
وحينئذ فإنه من الظلم المبين أن تُُضفى على هذا الوضع المعوج ، القائم في اصله على غير الأحكام الإلهية الشرعية المستقاة من الوحي ، الذي جاء فيه ( وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين ) ، أن تُُضفى عليه الصبغة الشرعية ، من قبل من لاعلم له بواقع الحال، وإنما طلب منه أن يضع توقيع الشريعة على ما يجهله ، فبادر إلى ذلك راغبا أو راهبا ، فجنى على شريعة رب العالمين ، وسيحكم فيه رب العالمين ، ملك يوم الدين ، يوم يجمع العالمين .
فهذه مقدمة رأيت أنه من المناسب ذكرها .
ز-وأذكر فما يلي ، جوابين سابقين عن ضابط الحكم على الشخص بأنه من الخوارج ، وحكم المعاهدة مع الكفار وبهما يتم الجواب إن شاء الله :ز!-
ثمة فرق بين الخوارج ، والبغاة على الإمام الشرعي بغير تأويل ، والبغاة عليه بتأويل ، والخارجين على من لاإمامة له . فهذه أربعة أصناف :
الخوارج :
وهم فرقة عقدية ، لها اعتقادات ضالة ترجع إليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب , ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب , ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب - وإن كانت متواترة - ويكفرون من خالفهم ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم { يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان } ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما ; وكفروا أهل صفين - الطائفتين - في نحو ذلك من المقالات الخبيثة ) انتهى .
فمن اعتقد ما يعتقدون كان خارجيا ، ومن كانت فيه شعبة من عقيدتهم ، يقال : وافقهم في بعض قولهم ، والناس مولعون هذه الأيام بنسبة المخالفين إلى الفرق الضالة ، إمعانا في التنفير منهم ، اتباعا لاهواء التحزبات والتعصبات للجماعات والشيوخ ، فكل طائفة تريد أن تظهر فضلها على غيرها ، فيحملها ذلك إلى البغي والعدوان والظلم على الطائفة الأخرى بنسبتها إلى الفرق الضالة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
القسم الثاني :
وهم البغاة بتأويل ، مثل ما حدث في صفين .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين " الخوارج المارقين " وبين " أهل الجمل وصفين " وغير أهل الجمل وصفين . ممن يعد من البغاة المتأولين . وهذا هو المعروف عن الصحابة وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم : من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم . وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق } وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من جنس أولئك ; فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية ) . انتهى
ومعلوم أنه قد صح الحديث ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ) رواه البخاري من حديث أبي سعيد ، وتلك كانت فئة معاوية رضي الله عنه وأرضاه ،ولكن قد مضى الإجماع على عدالة الصحابة رضي الله عنهم ، فإذن هو بغي بتأويل .
ومثل الذين يخرجون على الإمام الشرعي لشبه قامت لديهم ، ولهذا قال الفقهاء لا يجوز أن يقاتلهم الإمام إلا بعد أن يراسلهم فإن ذكروا شبهة أوضحها ، أو منكرا نقموه أزاله ، فإن أبوا الدخول في الطاعة قاتلهم.
كما قال الإمام ابن قدامه في المغني : ( الخارجون عن قبضة الإمام أصناف ، أحدها : قوم امتنعوا وخرجوا عن طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الأرض بالفساد يأتي حكمهم في باب مفرد ، ثم ذكر الخوارج وقال : الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم ، ثم ذكر اختلاف الفقهاء هل هم كفار ويقاتلون قتال الكفار لهم أحكامهم ، أم يقاتلون قتال البغاة ولهم أحكام قتال البغاة ، ثم ذكر نوعا آخر ، فقال : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيوش فهؤلاء الذين نذكر في هذا الباب حكمهم ثم ذكر جملة أحكامهم وقال : ولا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب ، إلا أن يخاف كلبهم - يعني عدوانهم - فلايمكن ذلك في حقهم ، فأما إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك ، وأزال ما يذكرونه من المظالم وأزال حججهم ، فإن لجّوا قاتلهم حينئذ لان الله تعالى بدأ بالأمر بالإصلاح قبل القتال ) انتهى .
ثم ذكر اتفاق العلماء على انهم لا يتبع لهم مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل لهم أسير ، ولا يغنم لهم مال ، ولا تسبى لهم ذرية ، وأن من قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه ، وذكر شيخ الإسلام أن عدالتهم لاتسقط إن كان بغيهم بتأويل .
والمقصود أن الفرق بين الخوارج والبغاة على الإمام الواجب الطاعة ، فرق كبير جدا ، وإن كان يخلط بينهما من يخلط لجهله أو طمعا في موافقة السلطان في هواه بالظلم والطغيان والخروج على أحكام الشرعية نسأل الله تعالى أن يعافينا من الأهواء .
والقسم الثالث البغاة بغير تأويل .
أما القسم الرابع :
فهم الذين يخرجون على من لا إمامة له لظهور الكفر البواح منه ، فهؤلاء قد يصيبون من جهة اجتهادهم في القدرة والوقت المناسب لإزاحة من لا تحل إمامته على المسلمين ، فينصرون ، ويكون لهم بذلك أجر عظيم ، إذ كانت إزالة الكفر البواح من أعظم الجهاد ، ومن إنكار المنكر ، وقمع الفساد في الأرض .
وقد يخطئون فيحبس عنهم النصر وتدور الدائرة عليهم ، فإن أخطأوا فهم من جنس من يخطئ من المجاهدين ، إن علم الله منهم اتباع الهوى ، وطلب الملك ، والجنوح إلى الانتقام لأنفسهم ، فعليهم من الله تعالى ما يستحقه أمثالهم ممن يطلب الدنيا بالدين من أهل الأهواء .
وإن علم الله منهم أنهم اجتهدوا يبتغون وجه الله ، فالله تعالى يغفر لهم خطأهم، ويثيب على حسن قصدهم ، وما بذلوه في نصر الدين ، والله يعلم المفسد من المصلح .
أما من يقاتل الكفار ، ثم قد يتجاوز حدود الشريعة ، أو يعتدي في القتل ، أو يصيب من لا يحل قتله ، فهذا من جنس العدوان في القتال ، كما قال تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } ، وكما حصل لخالد بن الوليد رضي الله عنه ، فقد أصاب دماء محرمة في فتح مكة ، وتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ، مع أنه سماه سيفا من سيوف الله تعالى . وبسبب أن القتال الذي يحدوه الغضب ، ويجلله العنف البالغ، هو مظنة الوقوع في العدوان ، قال تعالى { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } .
والواجب على المجاهد ، أن يغلّب النظر الشرعي على غضبه ، ويراعي حدود الشريعة في قتاله ، وينضبط بدلالة النصوص ، ولا يحمله حنقه على عدوه ، ورغبته في الانتقام منه ، في التساهل في اختيار مواضع القتال المشروع ، وتميزها عن غيرها .
وإلاّ يفعل ذلك فقد تقع فتنة وفساد ، وقد يرتد عليه ضرر القتال ، أو على المسلمين ، أكثر مما ينكى في عدوه ، ومعلوم أن كثيرا من خيار المجاهدين في تاريخ الإسلام ، خسروا في معارك كثيرة ، وأصاب المسلمين من ذلك شر ، بسبب سوء تقديرهم للمواقف ، أو استعجالهم الورود بالجند في مواضع لا تصلح ، أو إلى عدو لاطاقة لهم به ونحو ذلك والله أعلم .
وهذه هي الفتوى الثانية :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .