العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة في كتاب رؤية الله تعالى يوم القيامة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى مقال فسيولوجية السمو الروحي (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى توهم فريجولي .. الواحد يساوي الجميع (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال ثقافة العين عين الثقافة تحويل العقل إلى ريسيفر (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات بمقال هل تعلم أن مكالمات الفيديو(السكايب) كانت موجودة قبل 140 عام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى بحث مطر حسب الطلب (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى مثال متلازمة ستوكهولم حينما تعشق الضحية جلادها (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال مستعمرات في الفضاء (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال كيفية رؤية المخلوقات للعالم من حولها؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال حوار مع شيخ العرفاء الأكبر (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 03-09-2008, 02:30 PM   #1
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي مؤازرة

مؤازرة

كانت أرضية مكان الاجتماع مرشوشة بالماء، والسرادق منصوبة بشكل حرف u والكراسي مرقمة بأرقام وضعها متعهد المناسبات ووضع على ظهر كل كرسي اسمه ورقم تلفونه ، ووضعت في الوسط عدة مناضد لتحمل أواني حفظ الماء البارد، وسخانات القهوة المعدة سلفا، وعدد من علب المناديل الورقية، وثبتت في الواجهة الداخلية لصدر السرادق الأوسط قطعة قماش كتب عليها بخط واضح آية قرآنية (واعتصموا بحبل الله جميعا) وبجانبها وضعت صورة رأس الدولة وقطع قماش كتب عليها عبارات التأييد والولاء له وللدولة.

كان صاحب الدعوة (أبو يوسف) قد تعهد منذ مدة بإقامة مثل تلك الولائم لتقريب وجهات نظر المدعوين، في اختيار مرشح البرلمان من بين عدة عشائر تتحالف فقط في أيام الانتخابات سواء الانتخابات البرلمانية أو البلدية أو غرفة التجارة، وكون أبناء تلك العشائر يعرفون أنه ليس بالإمكان أن ينجح أحدهم دون تأييد باقي تلك العشائر، فقد اكتشف صاحب الدعوة أهمية مثل تلك المبادرات التي يقوم بها لتقريب وجهات نظرهم، دون أن يتدخل في شيء، لا في مزاحمتهم على ترشيح نفسه أو أحد أقربائه (القليلين). فكان يكتفي بتقديم المكان والطعام، ويأخذ مجده من تلك الناحية فقط، حيث يبقى الناس يربطون ما تم في هذه الدعوة باسم صاحبها.

كان هناك من يقول: أن تلك الدعوات يتم الإعداد لها بالخفاء من قبل أشخاص يتخفون وراء اسم صاحب الدعوة حتى لا يُكتشف أمرهم، وأن المدعوين يتم انتقائهم بعناية، في حين كان هناك من يقول أن تلك الدعوات كانت عامة وليس هناك بطاقات دعوة مخصصة بالأسماء.

(1)


كان لافي أول الحاضرين، لم تستطع سترته ذات اللون الأخضر الداكن أن تخفي بروز كرشه، رغم أنه كان يعتقد إذا أدخل الأزرار بالعروات سيخفي ذلك البروز.. لم يستفد لافي من التمارين التي قام بها أمام المرآة حيث كان يقف مرة بمواجهة المرآة ومرة يجعل جنبه الأيمن أمامها ومرة الأيسر، يبتسم ويعبس، ويراقب بروز الجزء الخلفي من رقبته التي كانت تبدو كرقبة (رباع بلغاري) من الوزن الثقيل.. حاول أن يغطي رأسه بكوفية لتتدلى فوق رقبته..

رآه أبو يوسف من وراء زجاج شرفة منزله في الطابق الثالث، فلم يأمر أحدا من أولاده الستة الذين كلفهم بخدمة الضيوف أن ينزل ويجامل ضيفه الأول، فأبو يوسف يعلم أن لافي لم يكن من المدعوين، كما يعلم ذلك لافي نفسه.. فالدعوات يقوم بتبليغ أصحابها أشخاص آخرون يعلم أسماءهم مجموعة ممن يعدون لتلك الاجتماعات، كما يعلمهم أبو يوسف نفسه.

حاول لافي إشغال نفسه في عد الكراسي ريثما يأتي بعض المدعوين، وكان بين حين وآخر يشفط بروز كرشه للداخل، لكنه يفشل في إبقاءه على وضعه، فيحاول تعديل جلسته، يشد أكتافه للخلف ويدفع بعجزه الى الأمام، كي يقلل من ظهور المنحنى المتشكل من جلسته، يفك أزرار سترته ويعود لتثبيتها من جديد..

(2)

حضر المدعوون تباعا، ولم يكن أحد منهم يحفل أو ينتبه لوجود لافي، رغم ضخامة جسمه، فقد تعودوا على رؤيته في مثل تلك المناسبات فأصبح كأنه جزء من ديكور السرادق.

وقف أبو يوسف بعد اكتمال حضور المدعوين، واكتفى بقول ( أهلا وسهلا) رغم أنه ذبح ما يقرب من خمسين خروفا، ولم تكن تلك المرة الأولى بل سبقها سبع مرات شبيهة بتلك الدعوة.

لم يسأل أحد عن سبب الدعوة، فهم يعرفون السبب جيدا. ولم يبادر أحد لاقتراح جدول للأعمال أو انتخاب أو اختيار رئيس للاجتماع، فمثل هذا النوع من الاقتراحات سيعجل ظهور الخلافات بين المجتمعين وقد تكلفهم انفضاض الاجتماع قبل تناول الطعام.

(3)

وقف (واثق) يصطنع ابتسامة ويتجول بعينيه دون أن يحرك رقبته، عله يعثر على بؤرة تخطط لتخريب الاجتماع كما يحلو له دائما أن يطلق على معارضيه إذا ما أبدوا معارضتهم لخططه، ثم التفت الى يمينه ليقول لا شيء لمن كان يقف جنبه، ثم يلملم ابتساماته ليعيد سحنته الى شكل صارم يتناسب مع وضع القائد المفروض على الآخرين ..

أنتم تعلمون أن الانتخابات البرلمانية على الأبواب، وأن غيرنا من التكتلات العشائرية قد أكمل صفوفه، وليس أمامنا إلا عدة أسابيع عن موعد الانتخابات، وإن صدقنا نوايانا فإن النجاح حليفنا بإذن الله وإن استمعنا الى المغرضين فإننا سنكون على خصومة مع النجاح.

إن (واثق) يعلم ما يقول، فالمعركة الانتخابية اشتقت اسمها من المعارك القتالية، لا بد من خطاب إثارة همم يسبق التعبئة العامة والنفير ولا بد أن يكون هناك خصم أو عدو أو هدف في كل معركة. فما هو الهدف ومن هو العدو وكيف سيتم الارتفاع بهمم الحاضرين لجعلهم مقاتلين أشداء في معركتهم؟
ليس هذا التجمع العشائري حزبا سياسيا له أهدافه وبرامجه أو نقابات تابعة له ومريدين يحترفون العمل السياسي احترافا. إنهم مواطنون عاديون جدا، ليس لهم علاقة بالعمل العام إلا في مناسبات متباعدة، فلذلك لا بد أن يكون العمل على كسبهم يخاطب واقعهم دون المس بمقام الدولة، ودون الاستخفاف بأي من الحضور كي لا تتسرب أصواتهم خارجا.

(4)

كان دكتور الجامعة عبد القادر يجلس في المقاعد الخلفية وبجانبه زميل له، فتمتم له قائلا: (هذه الأفلام مرت علينا كثيرا).. الى متى سيبقى مجتمعنا بتلك السذاجة؟ ما فائدة تلك الاجتماعات؟

أجابه زميله(حسن) متسائلا: والمطلوب؟ هل تعتقد أن مجتمعنا جاهز لتجارب أفضل من هذه التي نعيشها؟ وهل تعتقد أن التجارب التي تخوضها الشعوب الأكثر تقدما تختلف كثيرا عن تجربتنا هذه؟ إنها شبيهة كثيرا بتجربتنا، وبالعكس، فإن كانت تجمعاتهم هي تجمعات اصطناعية، فتجمعاتنا طبيعية، والهدف عند الطرفين هو نفس الهدف: هو المزاحمة على تبوء مراكز سلطوية عليا. ماذا يعني؟ إنه حق مشروع وفق رؤية إنسانية قديمة جدا تتجدد وفق أنظمة تخترعها المجتمعات لتقاسم مواقع النفوذ فيما بينها.

قال الدكتور عبد القادر: إن تحالف العشائر كان قبل الإسلام، وكان له ضرورة ووظيفة بنفس الوقت، فلغياب الدولة كانت العشيرة تحمي نفسها بإعداد مقاتلين يذودون عن حياضها ويصدون المعتدين، فإن استطاعت العشيرة أن تقوم بذلك وحدها وكان لديها ما يزيد عن أربعمائة مقاتل كان تستحق اسم (جمرة)، وإن لم تستطع، اضطرت للتحالف مع غيرها لتكوين حلفا يحمل (طوطما) يسمي التحالف باسمه، فإن كان الطوطم بشكل ( ثور أو أسد أو جحش) أصبحت العشائر المتحالفة تحمل اسم (بني ثور، بني أسد، بني جحش).

التفت الدكتور حسن بعينيه فقط، دون تحريك رأسه وابتسم قبل أن ينهي صمته المفتعل ليقول: نعم، إنها كذلك، فطالما يوجد هناك دولة ونظام يقوم بتأمين الحماية للمواطنين، فإن العشائر تتحالف من أجل الانتخابات فقط (المعارك الانتخابية).

(5)

قام الجميع لتناول الطعام، وكان يجري حديث جانبي بين أكثر المدعوين أهمية، وبعد تناول الطعام والشراب الذي يتبعه، أعلن أحدهم عن وجوب تسجيل ممثلين عن العشائر والأفخاذ لكي يحصر الاجتماع بهم مستقبلا، فكان العدد حوالي خمسين رجلا، ثم بادر بعضهم بتسمية لجنة من عشرة أشخاص، لم يعترض أحد على تلك الأسماء، وقد كان وراء عدم اعتراض أحدهم، هو الطقس الذي يتبع تناول الطعام وانخفاض جهوزية التفكير.

عاد الرجال الى بيوتهم، وكل واحد منهم سيتكلم عن الاجتماع بطريقته الخاصة، فقد يختزل ما قاله الكثير من الرجال، أو حتى لا يذكرهم أنهم كانوا في الاجتماع أصلا، وسيضيف على مساهمته المتواضعة عدة إضافات فيقول ما قاله داخل الاجتماع وما كان يود أن يقوله، وقد يضيف ما كان يقصد كل واحد من المتكلمين وفق نهج تحليلي يتناسب مع الشخصية التي أراد أن يطبعها في أذهان الذين يستمعون له.
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة السيد عبد الرازق ، 04-09-2008 الساعة 12:19 AM.
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 04-09-2008, 12:22 AM   #2
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

تحياتي لأخي الفاضل الكريم ابن حوران .
كل عام سيدي وأنت بكل خير .
مررت علي هذه المؤازة المصلحية المنفعية .
تحياتي لكم ومودتي
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 04-09-2008, 08:08 PM   #3
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

ابن حوران ..

قلم يصعب جدا أن تقرأه بعينيك فحسب ..

فمع صفحته دائما يسبقنى تحفز وإعمال فكر وتشويق وإستسلام ذهنى تام ..

بل كثيرا ما أعجز عن الرد والتعقيب فأخرج محتضنا صمتى ..

كى أخرج كل مرة بأكثر من فكرة وكى يكبر صاحب القلم فى عينى أكثر وأكثر ..

ابن جوران ..

تقدير من هنا وإلى هام الثريا

محبتى
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 08-09-2008, 10:09 PM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفاضل الشاعر السيد عبد الرازق

شكرا لتفضلكم بالمرور و تنسيق الخط

احترامي وتقديري

الفاضل قوس المطر

تخجلني في كلمات التبجيل والإطراء

ما أنا إلا مواطن يرى ما حوله ويحاول وصفه بطريقة
يتوفق بها أحيانا ويخفق أحيانا أخرى

احترامي وتقديري
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 08-09-2008, 10:14 PM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

[

أخبر الزعيم زوجته وأولاده أنه سيستقبل حوالي ستين شخصا في منزله اليوم، وهم لجنة ممثلي العشائر، فعليهم أن يتهيئوا في عمل القهوة (السادة) وتجهيز ما يلزم لمثل هذا الاجتماع، وعليهم أن ( يبيضوا وجهه) أمام المدعوين.

لم يحضر أعضاء لجنة الممثلين (الخمسين) في آن واحد، وهي عادة معروفة في كل الاجتماعات. فمنهم من يعتقد أنه إن حضر مبكرا فإنه سيضع نفسه في موضع المتلهف لمثل تلك الاجتماعات، كما أن عليه أن يقوم من مكانه عدة مرات ليصافح من يأتي بعده، أو يفسح المجال لغيره للجلوس بمكانه، وهي إشارة ستفضح مكانة الرجال وتراتبهم فيما بينهم، وقد يكون التبكير في نظره مجالا لفتح أحاديث والإجابة عن تساؤلات من يصادفهم قبل حضور الكل، وبذلك سيجعل من نفسه مكشوف النوايا أمام أشخاص لا يريد أن يعلموا طبيعة موقفه من المرشحين.

ومنهم من يجعل من تبكيره في الحضور مصدرا لمنافع عدة، فاحتلال مقعد في الصدارة ورصد ما سيقول الحضور منذ بدء الاجتماع أو ما يسبقه من تصريحات لأشخاص يحاولون تقديم أنفسهم على أنهم أشخاص يعلمون ما لا يعلمه غيرهم، كلها مزايا تفيد ولا تضر.

(7)

التفت أبو محمد وهو رجل في السبعين من عمره يسرة ويمنى، وفرك (مسبحته) بين راحتيه، وتساءل: هل يطول انتظارنا؟ فأجابه الزعيم: لا إننا ننتظر السيد واثق، وقد أخبرني قبل دقائق بواسطة الهاتف أنه قادم في الطريق.

سارع أبو محمد في تقليب (مسبحته) بين يديه، وابتسم ابتسامة مقتصدة، وروى قصة قصيرة جدا مفادها أن قيادة الأسود للجماعات أفضل من قيادة الثعالب. ابتسم الدكتور حسن ولم يعلق على قصة أبي محمد.

ما هي إلا دقائق قليلة، حتى حضر السيد واثق، فقام الجميع بوجهه عدا أبو محمد الذي اعتذر لعدم قدرته على الوقوف بسهولة، ابتسم واثق له وقبل اعتذاره بعد أن طبع قبلة على جبينه.

بعد أن جلس واثق، وقدم له أحد أبناء الزعيم فنجانا من القهوة السادة، وحياه من كان يجلس في الصالة تحية المجاملة، انتبه واثق لململة أبي محمد، وقبل أن يعلن أبو محمد عن ضجره، بادر واثق بالطلب من أبي محمد أن يبدأ الحديث. لم يعتذر أبو محمد عن قبول تلك المهمة بشكل صريح، حتى لا يفهم الآخرون أنه فوض السيد واثق بها. لكنه بادر بالتساؤل عن سبب وجود المجتمعين، أليس للاهتداء لطريقة توفيقية يختارون فيها مرشحا يمثل هذا التجمع العشائري الذي تزيد أًصوات من ينتمون إليه عن خمسة عشر ألف صوتا.

(8)

ساد جو يكثر فيه الحديث دون تنظيم، فأحدهم يقول: يا جماعة دعونا نتسامح ونختار شخصا كفؤا يمثلنا ونتوكل على الله. فيرد أبو محمد ويقول: لماذا نحن هنا؟ أليس لعمل ما تطلب؟ ولكننا نريد أن (نبرجم) وكان يقصد (نبرمج) عملنا.

يخرج صوت من زاوية، لماذا لا يكون لكل عشيرة صوت واحد، ونقترع على المتقدمين الثمانية.
يجاوبه أحدهم من طرف آخر: هذا ليس عدلا، فلا يجوز أن تتساوى عشيرة لديها آلاف الأصوات مع عشيرة تكاد أصوات أبنائها لا تصل الى المائة صوت.
يعترض آخرٌ كان لا ينوي الحديث: وما بال أصحاب المائة صوت؟ ألا يكفيكم أنهم وقفوا معكم في كل المعارك الانتخابية ك (مصفقين) دون مزاحمتكم، حتى على عضوية مجلس بلدي، هل تستكثرون عليهم أن يكون لكل عشيرة منهم صوت يصوتون به لكم ( ويقصد هنا العشائر الأكثر عددا).

التقط (واثق) المداخلة الأخيرة، وحاول بسرعة استثمارها، فوافق عليها بصوت عال أسكت فيه كل المتكلمين، وجاءت أصوات التأييد من محبي ومؤيدي واثق لتتحول طريقة تمثيل كل عشيرة بممثل ـ بغض النظر عن عدد أصوات أبنائها ـ إلى نهج سيباشر فيه فورا.

هناك من همس لمن بجانبه، أن هذا سيناريو معد مسبقا من (واثق) ومن معه، فكل المداخلات التي صرح بها أصحابها كان متفقا عليها.

(9)

دخل الشيخ (صالح) ومعه خمسة رجال يشهد لهم بالنزاهة الى داخل غرفة، وتم استدعاء المندوبين واحدا تلو الآخر ليقترعوا على واحد من ثمانية تقدموا لترشيح أنفسهم مبدئيا، وقد أقسموا أغلظ الأيمان أمام الجميع أنهم سيقبلون بهذا التصويت المبدئي وسيقفون الى جانب من يقع عليه الاختيار بكل ما أوتي أحدهم من قوة.

كان (ناهي) ابن عم (واثق) أحد المرشحين الثمانية، ولدى عشيرتهما أكثر من ألف صوت، وهو أحد أهم ثلاثة رجال في إحدى الوزارات، وقد طلب التقاعد لنفسه ليتفرغ لحملة الانتخابات.

كما كان الى جانبه من بين الثمانية، رئيس بلدية قديم لم ينه فترة رئاسته للبلدية بل فر لاجئا سياسيا الى إحدى الدول العربية قبل ثلاثين عاما، وكان مشهورا بقوة حجته وطرافة ما يسوق من كلام. وكانت أصوات عشيرته لا تزيد عن ثلاثمائة صوتا.

كما كان (غانم) من بين المرشحين،وهو مساح في دائرة الأراضي، طلب إحالته على التقاعد، ليرتب سفرا الى دولة خليجية. كانت أصوات عشيرته أكثر من أربعمائة صوت بقليل، لكن تلك العشيرة تكرر القول أن أقاربهم في القرى التابعة للدائرة الانتخابية تفوق أي تجمع عشائري.

وكان هناك خمسة مرشحين، تزيد أصوات عشيرة كل منهم عن ألف صوت، أما الباقون فلم يكونوا مثيرين للانتباه.

( 10)

عدّل الشيخ (صالح) من وضع عباءته، بعد أن خرج من غرفة الاقتراع، وابتسم وسلم وبسمل ثم أعلن النتيجة: إن من اختاره الخمسون كان (غانم).

تعالت أًصوات الاحتجاج من أطراف متعددة، ولكن الوزير المتقاعد الوحيد الذي خرج من تلك البلدة (في وقتها) أنقذ موقف الشيخ (صالح) وأعلن تأييده لاختيار الجميع لغانم، كانت كلمته طويلة بعض الشيء، وكان يستغل ما برصيده من هيبة ليبقي الجو هادئا ريثما ينهي كلمته على الأقل.

انتبه (مقبل) وهو واحد من السياسيين الذين يمقتون هذا النمط من العمل الجماهيري بشكله البدائي، وقام وأعلن تبرعه بألفي دولار، فأحدث صدمة كبيرة للحاضرين، فارتبك الناس بين متبرع -حتى لا يوصف بالبخل أو عدم التأييد-وبين صامت خصوصا أولئك الذين أعلنوا اعتراضهم على الفور، وانفض الاجتماع عن تسجيل تبرعات بما يقارب عشرين ألف دولار.
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة السيد عبد الرازق ، 09-09-2008 الساعة 10:39 PM.
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 18-09-2008, 02:07 PM   #6
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(11)

مرت ثلاثة أسابيع على تسمية (غانم) مرشحا لعشرات العشائر، واعترف الخصوم أن هذا الشخص قد ضمن النجاح منذ الآن، ومنهم من نقل خبرا عن الإذاعة الإسرائيلية عن تسمية غانم مرشحا يضمن النجاح!

التقى (مقبل) مع مجموعة من السياسيين الذين خاضوا عدة تجارب انتخابية وفشلوا فيها جميعا، لسيادة الجو العشائري، الذي لا يقر بانتخاب أمثالهم لأي منصب. وأخذوا يقلبون الأمور ويقيمون ما حدث، وما هي الخطوات القادمة الواجب اتباعها,

سأل (يوسف) : لماذا تبرعت بألفي دولار لهذا المرشح الذي يتصف بعدم القدرة، وليس هناك أمل في أن يتعاون معنا مستقبلا؟

أجابه مقبل: لقد جربنا ترشيح أنفسنا في أكثر من مناسبة انتخابية وفشلنا بها جميعا، فلا عشائرنا تكن لنا احتراما شديدا ولا أعداد أصواتها تكفي لنجاحنا حتى لو التفت حولنا، وما دامت رئاسة البلدية وعضوية البرلمان للعشائر الكبيرة، فلا أمل لنا بالنجاح في أي مهمة. فمؤازرتنا لهذا المساح المتواضع وعشيرته قليلة الأصوات، ستكسر تقليد سيادة العشيرة الكبيرة ونتخندق وراء العمل من أجل الجميع. وبهذا نكون غير بعيدين عن الأوساط الجماهيرية، وبنفس الوقت ننمي مهارات كوادرنا ونعرف الناس عليهم، خير لنا من الاختفاء وإعلان اشمئزازنا.

وصى مقبل جماعته أن لا يجلسوا قرب بعضهم البعض في الدواوين، وأن لا يعلنوا تأييدهم لبعضهم بشكل مكشوف، وأن يتجنبوا الضحك أو الابتسام إن تكلم أحد الشيوخ، فالمكان سيكون مليئا بالحضور، فإن انكشف أمر الاستخفاف بالمتكلمين، فإن هذا الموقف سيكون له شأن كبير في تقديم أحدهم للجمهور دون أن يجد معارضة.

وافق الجميع سريعا على هذا التوجه، وبدأ التخطيط للخطوات المقبلة.

(12)


ركب مقبل سيارته بصحبة يوسف، وتوجها الى عشيرة (غانم)، وعندما مرا من زقاق وجدا منهم مجموعة تزيد عن عشرة أشخاص يجلسون على رصيف الزقاق، وكان لمقبل دالة على واحد منهم، وبعد أن سلما على المجموعة خاطب مقبل من له دالة عليه: هل تعتقدون أنه بوضعكم هذا تستطيعون إنجاح مرشحكم للبرلمان؟ إنكم لا تستطيعون إنجاح (مختار). استغرب يوسف تلك اللهجة من مقبل تجاه هؤلاء، كما استغرب قسم من أقارب غانم تلك اللهجة، ولكن صاحب مقبل ضحك وأيد قول مقبل، وطلب من الجميع أن يدخلوا الى ديوان بيته بصحبة مقبل ويوسف.

أدرك يوسف، أن تبرع مقبل بالألفي دولار قد أثمر مبكرا، فلو لم يعلم هؤلاء عن مبادرة مقبل بافتتاح حفل التبرعات الذي سيكون له شأن في تسيير أمور الحملة الانتخابية، لكانت ردة فعلهم مختلفة تجاهه وتجاه صاحبه ـ أٌقلها زجره وعدم استضافته لديهم .

امتلأ الديوان بأبناء عشيرة غانم، ولم يكن (غانم) موجودا، لم يكن لدى معظمهم علم أو خبرة مسبقة في إدارة شؤون الانتخابات. وكان أكثر من ثلثيهم لا يعرف من هما الضيفان!

طلب صاحب الديوان من (مقبل) أن يتفضل بالحديث الى الحاضرين وينصحهم بالكيفية التي سيقومون بها لتسيير الحملة الانتخابية.

حياهم مقبل تحية المساء وأضاف: إن الجميع قد زكى ابنكم ليكون مرشحا للجميع، وقد برأ الناس ذمتهم تجاهكم، وها هي قد مضت عدة أسابيع وأنتم لم تأتوا بحركة تدل على جديتكم واهتمامكم وخبراتكم بمتابعة المشوار. وتأكدوا أن هناك من ينتظر فشلكم في المبادرة ليفكر بإعادة تسمية شخص آخر غير ابنكم!

كانت تلك الكلمات كقنبلة رميت في الديوان، فتعالت الأصوات المذعورة: والحل .. الحل يا أستاذ .. خطيئة من لا يعرف برقبة من يعرف!

(13)

سارع مقبل مع يوسف لزيارة (أبي محمد)، قبل أن يتخذ موقفا يصعب تغييره، وأقنعاه بضرورة تبني المساح المرشح وتفويت الفرصة على (واثق) وجماعته الذين يرددون أنه لا نجاح لأي مرشح لا نرضى عنه.

يعلم مقبل، أن أفضل طريقة لكسب تأييد أحدهم، هي التصرف معه كشريك وبسرعة قبل إعادة تقييمه للحديث الأخير الذي دار معه، فلذلك كلف أبا محمد بالذهاب لإقناع أبي نواف وأبي سليم وأبي ابراهيم.

لم يكتف مقبل بتكليف أبي محمد، بل زار كل من كلفه بزيارتهم وطلب منهم ما طلبه من أبي محمد. كان يحفظ الكثير من المناسبات التي تحتم على من يستمع اليه ان يقف الى جانب مقبل ضد الطرف الذي ينتقي القصص المحرضة ضده. فمن قصة طلاق قديمة الى قصة اعتداء بالأيدي في مناسبة العرس، الى تكرار قول قاله أحد رموز الطرف الآخر بحق من يكلمه (مقبل)، ويحرص أن تكون الأقوال والأحداث حقيقية يعرفها من يحدثه جيدا.

استطاع الفريق الذي تحرك مع مقبل أن يصنع حالة واضحة في التجمع حول المرشح (غانم)، فكان الفريق يستخدم وسائل تعبئة خاصة تعتمد على دغدغة الآمال والأحلام لمن تتم زيارته، وأحيانا تستخدم الأرشيف في نبش إساءات حصلت لمن يتحدثون له من أجل تهيئته وتعبئته ليكون جاهزا.

(14)

اختار فريق العمل الذي ترأسه مقبل مكانا لنصب سرادق ضخم، ثم أسست لجنة للمقر مهمتها استقبال الزوار والمؤيدين والإعلان (من إذاعة المقر) عن أسمائهم وتبجيل من قام بالزيارة وتقديم الحلوى والقهوة.

لقد تم وضع وصايا صارمة للمكلفين باستقبال الزوار والمؤيدين، وذلك بالاحتفاء بمن يأتي ومرافقته واختيار مكان جلوس يليق به، ثم تقديم القهوة له، وعدم إغفال خدمة أي زائر حتى لا يكون هناك مبرر يجعل الناس ينفضّون عن مؤازرة المرشح، كما تم توصية أبناء عشيرة غانم بعدم الرد على من يهمسون غمزا أو تصريحا برأي لا يوافق أقارب غانم، وأن يبتعد أقارب غانم عن خوض نقاشات داخل السرادق ويتركون تلك المهمة للمؤيدين.

امتلأت جوانب السرادق بقطع القماش التي تعلن تأييد كل عشيرة أولا بأول، وكان الخطاط ومن يساعده لا يوفرون جهدا في إنجاز عملهم بسرعة كبيرة.

لقد كان للإذاعة الداخلية واعتماد أسلوب الكتابة على القماش أثرٌ كبير في تزايد حجم كرة الثلج في تأييد المرشح غانم، حتى إنه في أحاديث التوقعات عمن سيفوز في المقاعد الثلاثة المخصصة للدائرة الانتخابية، كان غانم يحتل المكان الأول في لائحة التوقعات كلها.

(15)

تأخر واثق وأبناء عشيرته عن إعلان تأييدهم مدة تزيد عن شهرين، ولم يكن تأخيرهم إلا من باب الرهان على أن غانم وعشيرته لن يستطيعوا البدء بمشوار المعركة الانتخابية دون مساعدة واثق وأقاربه، وإن بدأوها فإنهم سيرتكبون من الحماقات ما يجعل الناس تبتعد عن تأييدهم.

كان واثق وهو محامي من طراز رفيع، يسافر كل عام لدولة عربية لحضور مؤتمر أو لقاء على صعيد الدول العربية. ولكنه لم يستخدم تلك الميزة في تقديم نفسه للمواطنين محليا، بل هو إضافة لكونه محام جيد، وابن عشيرة يحسب حسابها في المعارك الانتخابية، فإنه كان في فترة رئيسا للبلدية شهد له الجميع بنزاهته وعدم انجراره وراء العواطف والمحاباة، وهناك من يقول أن تلك الفترة كانت سببا في جعل واثق يفشل في أي انتخابات تلت تلك المرحلة التي لم يستغلها لإقامة علاقات تفيده انتخابيا.

لم يكن واثق متأكدا من وجود من يستطيع الوقوف في وجه خططه الانتخابية، أو التأثير في عموم الناس المحسوبين على التكتل العشائري الذي ينتمي له واثق. فقد كان يعتمد أسلوبا يرتكز على قاعدة (إذا مت عطشان فلا نزل القطر) أي إن لم يضمن واثق النجاح لنفسه، فلن يجعل أحدا يفرح بنجاح. لكنه بعد التنامي الملحوظ لمؤيدي (غانم) تيقن أن الركب قد سار دون انتظاره، فجمع عشيرته وقرروا الذهاب لمقر غانم من أجل تأييده.

سارع أهل غانم بالترحيب بواثق وعشيرته، وقد تجاوزوا كل التعليمات التي وضعها لهم (مقبل) مع جماعته، فرحبوا من خلال الإذاعة الداخلية للمقر الانتخابي بنفسهم دون الاعتماد على المذيع (أستاذ اللغة العربية).

وقف مقبل مع مجموعة من أصحابه المقربين، واكتفوا بمقابلات عيونهم لبعضها، لتنقل ما يحدث بشكل بث مباشر ودون كلام!
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 08-10-2008, 12:10 AM   #7
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(16)

تشكلت لجان ووضعت جداول لزيارات المواطنين لكسب تأييدهم، والتجول في القرى المحيطة بالقصبة. كان النظام الانتخابي يجيز انتخاب ثلاثة مرشحين بورقة اقتراع واحدة، لذا فإن المرشحين ومن يديرون حملاتهم الانتخابية كانوا منشغلين في عقد صفقات. والمرشح القوي كان محط أنظار المرشحين الآخرين لعقد الصفقات معه.

لم يهتم بمسألة تبادل الأصوات غير الذين يأخذون من اللعبة الانتخابية طريقا للتسلية والشهرة واختبارات توكيد الذات، فكما أن ألعاب الكمبيوتر بها مستويات كل مستوى جديد أعلى من سابقه يزيد تعقيدا عنه ويؤكد مهارة من يجتازه، فإن موضوع تبادل الأصوات يجعل من دائرة معارف من يقومون بالتوسط والتنسيق في عقد مثل تلك الصفقات أوسع، وتبقى شهرتهم ماثلة إذا نجح المرشحان لفترة طويلة فيستفيدون من مثل تلك النجاحات في التوسط في فض النزاعات العشائرية أو الحضور الاجتماعي وربما السياسي.

تناول الجمهور موضوع التبادل والزيارات لإدارات حملات المرشحين الآخرين بسخرية لاذعة، فمنهم من قال: أنهم يبيعون ويشترون بأصواتنا وكأننا عبيد لهم فلم يكتفوا بأن ينتزعوا منا مؤازرتنا لهم بالتخجيل والرجاء ولكنهم صاروا يساومون الغير على أصواتنا وكأنها أموال موجودة في رصيدهم بشكل مضمون.

(17)


في صالة النساء المخصصة لهن في مجلس عزاء، وبعد انتهاء موجة ولولة، وسرد تفاصيل اللحظات الأخيرة لموت المرحوم التي ترويها أرملته بين حين وآخر، وجدت النساء متسعا من الوقت لكي يتكلمن بموضوع الانتخابات.

قالت امرأة غانم (مرشح الإجماع) موجهة كلامها لزوجة الشيخ صالح عندما سألتها الأخيرة عن آخر أخبار الحملة الانتخابية: الحمد لله طالما أن الشيخ صالح يقف بجانب زوجها، فإن كل الأمور بخير، وأخذت زوجة المرشح تكيل المديح للشيخ صالح والحديث عن مناقبه، ولم تكن تعلم أنها كانت تغيض النسوة الجالسات اللواتي ينتظرن نصيب أزواجهن من المديح، دون جدوى. ولعل ما لم تستطع زوجة المرشح التنبؤ به هو تأثير حديثها السلبي على مواقف تلك النسوة، وربما مواقف أزواجهن أو حتى عشائرهن!

لم يكن (غانم) مصلحا اجتماعيا أو مخترعا أو قائدا عسكريا أو مرشح حزب سياسي تلتف القواعد حوله. إنه مجرد اسم من بين الأسماء وقف الحظ أو سياق التحرك الانتخابي بشكله معه، وأي خطوة لم تحسب جيدا قد تؤثر على النسوة وحتى الرجال.

كانت هناك امرأة تراقب انفعالات زوجة الشيخ صالح وهي تتلقى دفقات المديح من زوجة المرشح، فقد كانت زوجة الشيخ صالح تترنم على سماع مديح زوجها وتمثل دور التي لم تسمع جيدا ما قالته زوجة المرشح، فتطلب منها أن تعيد ما قالته، وقد استحت أن تطلب السكوت من النسوة للإصغاء لما تقوله زوجة المرشح، فكانت تهمهم بنشوة: "آخ لو تقول لهم واحدة يسكتوا.... آخ لو كان صوتها عالي شوي، ولا لو كانت تحكي في التلفزيون"
لكنها كانت ترغب بأن تتطوع إحدى النساء بالطلب من النسوة بالإصغاء،كرغبتها وتمنيها أنه لو كانت زوجة المرشح ذات صوت أعلى أو أنها تجلس خلف جهاز التحدث الآلي.

كانت المرأة التي تراقب زوجة الشيخ صالح، من إحدى قريباتها، لكن زوجها قد تزوج عليها أخت الشيخ صالح، فأخذت تفكر بالكيفية التي تشق موقف العشيرة نكاية بأخت الشيخ صالح (ضرتها) ونكاية بالشيخ صالح وزوجته، وليذهب غانم وفرصه للنجاح الى جهنم.

(18)

كان أبو محمد لا يخفي فرحته باستقبال (مقبل) و (يوسف) وأصحابهما، إذ كان يعتني بتحضير القهوة والشاي وتقديم بعض الحلويات، ومشاورة زواره بتحضير عشاء، وإن كانوا يزورونه يوميا بعد العشاء. ورغم أنه اعتاد النوم بعد العشاء بقليل، لكنه كان يستفيد من تردد هذه العينة من الناس، والتي من بينها الطبيب والمهندس والمحامي والكاتب المشهور في الصحف، وسياسيون تم استضافتهم بالمعتقلات. وكان يروق له الإحساس بأنه من يحركهم ويساهم في مجهودهم، وكان يبتسم فرحا عندما يأتي أحد أحفاده ويخبر الحاضرين عن (دوريات) المرشحين الآخرين ومرورها من جنب ديوان (أبي محمد) لمعرفة من يسهر عنده.

لم يكن أصحاب مقبل من صنف سياسي واحد، كان منهم من ينتظم بشكل دائم، ومنهم من لم يحضر اجتماعا حزبيا طيلة حياته، لكنه كان يحب أن يوهم كل الناس بأنه حزبي، أما المخابرات فكان مطمئن من جهتها لأنه بكل بساطة لم يكن حزبيا.

كان هؤلاء الرجال في معارك توكيد لذاتهم اجتماعيا، فيحبون أن تذكر أسماؤهم مع الأسماء الفاعلة في حملات الانتخابات، وكانوا يتبادلون المعلومات عن مواقف الناخبين، كونهم من عشائر مختلفة، لكن روح الفريق عندهم تتفوق على ولاءهم لعشائرهم، فلا يتورع أحدهم عن كشف موقف معاد يقوم به أحد أقاربه، وهذا ما يقوي روح المواءمة لديهم وظهورهم أمام الآخرين كفريق.

(19)

بينما كان أبو محمد منشغلا في تلقيم الشاي بالإبريق الرابض فوق الجمر أمامه، كان يدور حديث غير هام كثيرا بين ضيوفه الدائمين، بل كان يتناول ما يجري في الدوائر الانتخابية الأخرى.

ففي إحدى الدوائر الانتخابية كانت تضم مجموعة من القرى، لا تزيد أصوات القرية الواحدة عن ألف صوت في أحسن الأحوال، وليس هناك أمل في أن ينجح مرشح أي قرية من تلك القرى إلا بالتوافق مع القرى الأخرى، فكان المرشح يتم اختياره بعد ضرب القرعة على اسم القرية التي ستقدم مرشحا، وبعد أن يرسو الاختيار على تلك القرية يتم اختيار ذلك المرشح عن طريق قرعة أخرى.

وفي دائرة أخرى يتم وضع أدوار يلتزم بها أهل القرى والعشائر، فالدورة التي يتم فيها اختيار المرشح من قرية أو عشيرة لها الدور فإن القرى الأخرى أو العشائر الأخرى لا تتحرك إلا في حدود ما تطلبه منها تلك القرية أو العشيرة صاحبة (الحق أو الدور)!

ضحك يوسف وهو يستمع لمثل تلك الأحاديث، وقال أي مشرع سينتخب الناخبون دون أن يتعرفوا على قدراته الفكرية، كيف سيقوم بالتعامل مع القوانين والقضايا المطروحة عليه، وقد تم اختياره عن طريق (الحصوة) [كناية ساخرة عن ما تقوم به البصارة في رمي الودعٍٍٍ ]؟

تناول مقبل الحديث فقال: في اليابان لا يسمح للمتقدمين بالترشيح للبرلمان بقبولهم بقوائم المرشحين، إلا إذا أبرز شهادات تؤكد أنه كان عضوا في إدارة جمعية أو نقابة أو بلدية أو غيرها لخمس سنوات على الأقل. وفي بريطانيا تقدم الدولة للنائب مبنى خاصا به ومجموعة كبيرة من الموظفين يتابعون القضايا ويفرغون الإحصاءات ويعدون شكل المداخلة للنائب. إذ لا يعقل أن يلم المعلم (النائب بالبرلمان) بأمور الصحة والزراعة والرياضة دون مساعدة فريق متخصص.

ضحك الدكتور عبد القادر وقال: إذا أنتم تعرفون تلك المسائل لماذا تخوضون هذه التجربة السخيفة وتساعدون مرشحا لا لون ولا طعم ولا رائحة له؟

أحس يوسف بأنه بدأ حديثا كاد أن يزلزل فيه وحدة الجماعة فأراد أن يلطف الجو أو يحرف مسار الحديث فقال: لو فتشنا أدبيات البعثيين والشيوعيين والاخوان المسلمين لوجدنا أنهم يهاجمون الانتخابات بصفتها لعبة استعمارية وليبرالية وخادعة. ولكن إذا نجح لهم أحد المرشحين أو مجموعة من المرشحين لرأينا حديثهم وتقييمهم للتجربة يختلف. لا بد لتلك القوى من حسم لموقفها من موضوع الانتخابات والاستعداد لها واحتراف لعبتها إن أرادوها طريقا لتناقل السلطة.

انتبه أبو محمد الى حديث ضيوفه الذي لم يفهمه بشكل جيد ولم يستوعب ما تعنيه الكثير من المفردات التي قيلت فيه، لكنه فهم أن إيمان ضيوفه بموضوع الانتخابات لم يكن إيمانا راسخا، فتوجه الى أكثرهم شكوكا وهو الدكتور عبد القادر وقال: عمي يا عبد القادر.. إذا مررت على أناس يتقاسمون (البُراز) فقف وخذ حصتك..
رد الدكتور عبد القادر مشمئزا: لماذا تلك النصيحة المقززة؟
بصبر ودون تردد أجاب أبو محمد: يا ابني إن كانوا اليوم يتقاسمون البراز فغدا سيتقاسمون الذهب. أبقى أبو محمد عينيه مركزتين على وجه عبد القادر، ليتفقد أثر ما قاله له.
أُعجٍب مقبل بالطريقة التي عبر بها هذا الشيخ عن المواطنة!
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 20-10-2008, 11:13 PM   #8
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


( 20)

ازدادت حركة الوفود الى المقر الانتخابي للمرشح (غانم)، وأصبح نشاط الإذاعة الداخلية للمقر مخصصا للإعلان عن البطاقات الانتخابية التي أعدتها اللجنة التنظيمية وكان يكتب عليها اسم الناخب أو الناخبة ومكان الاقتراع ورقم الصندوق وتسلسل الناخب بين جداول الناخبين، وذلك لتسهيل عملية لجان الاقتراع الحكومية ولكي لا تعيق عملية التصويت وما يؤثر ذلك على نفسيات المقترعين وعودتهم الى بيوتهم دون أن يدلوا بأصواتهم.

امتلأت البيوت المجاورة للمقر الانتخابي بلجان مختلفة، كون اليوم الذي يليه هو يوم الاقتراع. فمن تلك اللجان ما ترشد المندوبين الذين يشتركون بمراقبة عملية الاقتراع، حيث توزع عليهم قوائم المتوفين أو الطلاب خارج البلاد أو المسافرين، والتي تم استخراج أسمائهم من القوائم النهائية التي أعدتها الهيئة العليا للانتخابات بعد فترة الاعتراض على المرشحين.

في بيت آخر، كانت لجنة أخرى تنظم حركة السيارات والحافلات التي تنقل الناخبين، وكان كل سائق من السواق المتعاقد معهم يستلم نصف المبلغ المتفق عليه، واسم ضابط الارتباط الذي يوجه حركته.

كانت لجنة التنظيم توجه التعليمات للمندوبين الذين يراقبون فرز الأصوات، فكان من بين المرشحين من تتشابه أسماؤهم الأولى (محمد .. كذا) أو من يتشابهوا باسم العائلة، أو اللقب، كأن يثبت المرشح لقبه بأبي محمود، فكانت التعليمات للمندوبين أن يعترضوا بقوة على الأسماء المثيرة للبس لكي يحرموا الخصوم من الاستفادة من الأصوات الموجودة في ورقة الاقتراع.

في ردهات الساحة والشوارع القريبة من المقر، كان أشخاص يطلبون من المرشح أو بعض أعضاء الهيئة العليا التنظيمية تفسيرا للبطء الذي لم يحلّوا فيه مشكلة أحد الموقوفين للتوسط في الإفراج عنه، ويعرضون بعض المشاكل التي تحتاج بعض المال لحلها. لقد عرف هؤلاء، خصوصا إذا كانوا يملكون القدرة على حشد مجموعات من الناخبين، أن تلك الفرصة من أفضل الفرص لابتزاز المرشحين. كما أن منهم من كان يذكر أن بعض أقاربه قد التقى ببعض المرشحين الآخرين وعُرض عليه بعض الأموال للتصويت لصالح ذلك المرشح!

استغل بعض المخبولين تلك المناسبة، للدعاء للمرشح بالنجاح وكيل المديح الطريف له، وكانوا يحظون ببعض النقود لقاء (النِمرة) التي يقدمونها.

اصطف أكثر من مئة رجل في حلقة (جوفية) وهي حركات رقص بطيئة تعتمد على رتابة الخطوات، مع ترديد عبارات التبجيل والمديح بالمرشح، وتنتقل تلك العبارات للافتخار بهمة وقوة هذا الجمع الواسع.

يقوم عشرات الشباب بتوزيع الحلوى على كل الموجودين، وكان هذا الطقس يتم يوميا دون أن تدفع اللجنة المالية ثمن تلك الحلوى، بل كان بعض الوجهاء من المؤازرين هم من يشترونها لإثبات التفافهم حول المرشح بصدق.

(21)

في ديوان أبي محمد، وبعد أن خف التواجد بالمقر الرئيسي للمرشح، اجتمع أصدقاء أبي محمد (مقبل وجماعته)، وقد كانت تبدو على وجوههم علامات من المشاعر غير المصنفة بدقة، فلم يعودوا يعلموا إن كان فضلهم في هذا الالتفاف الجماهيري واضحا أم لا. فتكتّل الناس بهذا الشكل أخفى أثر القيادات المحركة للعمل الانتخابي.

ضحك أستاذ الرياضيات فجأة، فانتبه الجميع إليه، فكرر ضحكته، فشاركه الجميع بالضحك دون أن يعلموا ما هو دافع ضحكه المفاجئ.

بعد انتهاء نوبة الضحك، قال معلم الرياضيات: إن نجح غانم في تلك الانتخابات ستكون مصيبة، وإن رسب ستكون كارثة!

أدرك الجميع ما قصده معلم الرياضيات بما فيهم الشيخ (أبو محمد)، فعلّق مقبل على ذلك بقوله، إن نجح وهذا مؤكد حسب المؤشرات الظاهرة، فسنكون أحد أركان المجتمع المحلي التي لا يمكن تجاوزها في اتخاذ قرارات تعني بشؤون الانتخابات، وعندها نستطيع أن نثبت أقدامنا كقوة وطنية حقيقية مؤثرة في الساحة.

انتبه الدكتور عبد القادر لما قاله مقبل، وفكر بأنه ليس ممن يؤمنون بما يؤمن به مقبل، فلماذا يترك له تلك الفرصة ليجير ذلك الانتصار له، وبالأساس لماذا استمر بمجاراة تلك العصبة بما ذهبت إليه، بلع الدكتور عبد القادر أفكاره ولم يعلن عن ردة فعله، وإن كانت تبدو تعبيراتها على وجهه.

أطرق أبو محمد وعبث في جمرات النار أمامه، وقام بسكب القهوة السادة وناولها ليوسف الذي كان جنبه، فارتشف يوسف ما في الفنجال ثم ناوله الآخر ليناوله لمن في جنبه حتى شرب الجميع. كان أبو محمد بحركته تلك يداري عدم رضاه عما صرح به مقبل، فالشيخ لم يكن من المصنفين من المعارضين السياسيين، ولم يكن يخشى مساءلته عن صحبته مع تلك الجماعة، فسنّه وتعدد نشاطاته لا تجعله في دائرة الشبهات، لكنه لم يرغب أن يعتبره الغير (متراسا) ينفذون من ورائه خططهم!

(22)

صلى الشيوخ الفجر، وتوجهوا الى صناديق الاقتراع، يلبسون ملابسهم الثقيلة حيث إن صباحات نوفمبر/تشرين الثاني باردة جدا.

تفاجأ أعضاء اللجان التنظيمية عندما أفاقوا مبكرين على غير عادتهم أن الطوابير أمام المدارس (مراكز الاقتراع) يصل بعضها عدة مئات، وموعد بدء الاقتراع لا يزال أمامه حوالي الساعة.

دخل أعضاء اللجان مع المراقبين من قبل المرشحين واحتلوا مقاعدهم، فيما انتشر أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية ضمن الخطط الأمنية التي وضعت لهم.

تتابع الناخبون في الدخول الى الغرف المخصصة للاقتراع، يسأل رئيس اللجنة الناخب عن اسمه وإبراز بطاقته الشخصية. كان الناخبون مهيئين سلفا لمثل هذا الموقف، حيث يمسكون بطاقاتهم الشخصية والبطاقة التي استلموها من اللجان التنظيمية للمرشحين، لكي يسهلوا مهمة مساعدي رئيس اللجنة في إيجاد أسمائهم ضمن القائمة التي يحق لها الاقتراع في هذا الصندوق، فبدل من أن يفتش المساعد في خمس وثلاثين صفحة ليعثر على الاسم، فإن البطاقة الانتخابية سترشده بسرعة أفضل.

يبتسم أحد المراقبين المخصصين للمرشحين في وجه من يدخل، عله يتذكر مرشحه ويصوت له، وهو يعرف حق المعرفة أن كل ناخب يدخل الى قاعة الاقتراع وهو يعرف لمن سيعطي صوته.

دخل أحد الرجال، وبعد أن تم إيجاد اسمه، ناوله رئيس اللجنة بطاقة الاقتراع ليذهب الى (الخلوة) ويكتب من يريد بكل سرية، لكنه رفض وقال أنه لا يستطيع الكتابة فسأله رئيس اللجنة: هل أنت أمي؟ وقبل أن يجيب، اعترض أحد المندوبين لمرشح آخر وقال: "سيدي هذا جامعي كل البلد بتعرفه"، ولكن الناخب اعتذر فقال: أعاني من (خدر) في يدي فلا أستطيع الكتابة، قبل رئيس اللجنة العذر وطلب من المعترض السكوت. ذكر الجامعيّ من يريد انتخابهم بصوت عال، لكي يثبت للمرشح أنه انتخبه!

(23)

أغلقت قوات الأمن المداخل التي تفضي الى المدرسة التي سيجري فيها فرز الأصوات، ووصلت السيارات الحكومية تحمل الصناديق المجمعة من سبع وثلاثين قرية ومدينة، ومعها مرافقون من القضاء ومراقبون من أطراف المرشحين.

وزعت اللجنة العليا الصناديق والمندوبين على الغرف المعدة لفرز الأصوات، وكان رئيس اللجنة يذكر للجالسين من المراقبين لوائح الانضباط داخل قاعة الفرز، وبعد أن أكمل قراءته اللائحة، قلب الصندوق وأظهر الشمع الأحمر الذي ثبتته لجنة الاقتراع، استخرج منها تقرير اللجنة التي بيّنت أن عدد المقترعين كان 554 من أصل 682 مسجل كان له حق الانتخاب، وبعد تعداد الأوراق وضعها فوق بعض بنسق معين، حتى يطلع الموجودون على مطابقة العدد مع التقرير.

طلب رئيس اللجنة من الموجودين أن يتطوع منهم اثنان ليسجلوا ما تمليه عليهم اللجنة من أصوات، خرج شابان يتمتعان بطول كاف وقدرة على الانتباه والتقاط الاسم ووضع إشارة مائلة على كل صوت، فكلما أصبحت أربع الإشارات وضعت الخامسة بشكل يتقاطع مع الأربع.

كان بعض المندوبين، يضعون أمامهم علبتين من السجائر وورقة عريضة بها أسماء المرشحين كلهم معدة للتشطيب، وكانت آذانهم صاغية لسماع نطق رئيس اللجنة، ومتابعة تشطيب من يقف أمامهم على (السبورة)، فإن حدث سهو أو خطأ يُسمع اعتراض مفاجئ لكل الحضور، حتى يتم تعديله.

كان كل مندوب مهيأ لنجاح مرشحه إلا مندوب (مفضي) الذي كان يعرف أن مرشحه لن يرى النجاح، فكان لا يكتب ولا يتابع، بل يعلق تعليقات ساخرة، فيضحك الجميع من طرافته، حتى أن رئيس اللجنة كان متسامحا معه.

في أطراف المدرسة، كان يقف لا يقل عن ثمانية آلاف من الجماهير المترقبة للنتائج، كانوا يملؤون الفضاء بأهازيجهم. وما أن انتصف الليل، حتى قاموا بإشعال إطارات السيارات، فأضفوا على المشهد طقسا استثنائيا.

(24)

انتهى الفرز، وكان غانم قد حصل على أكثر من 14 ألف صوت ومن تحالف معه كان قد حصل على 11 ألف صوت، أما الفائز الثالث فحصل على سبعة آلاف صوت، ومن يليه كان ثلاثة أحسنهم حصل على خمسة آلاف صوت، في حين لم يحصل (مفضي) إلا على 250 صوت.

خرج بعض المندوبين قبل إعلان النتيجة الرسمية بحوالي ساعة، وذهبوا لكي يداروا خيبتهم، وأطفأ المرشحون المخفقون أنوار بيوتهم، في حين سارت مواكب السيارات للفائزين الثلاثة في الشوارع، وبقيت حتى بعد الفجر.

في مقر الانتخاب للفائز (الآن) غانم، حمل المحتفلون نائبهم على أكتافهم وهتفوا له، وامتلأت الأجواء بزغاريد النسوة.

لم يحضر واثق ولا مقبل ولا يوسف ولا الدكتور عبد القادر مهرجان النجاح، كما لم يترددوا على بيت النائب غانم طيلة الأربع سنوات التي أمضاها في مجلس النواب.

لكن الشيخ أبا محمد حضر الاحتفالات ووليمة الغداء الكبرى، وكان يتردد على منزل النائب، ويحكي لأصحابه (مقبل وجماعته) الذين لم ينقطعوا عن التواصل معه ما كان يسمع ويشاهد في منزل النائب.

كانت حكايات أبي محمد عما يراه في منزل النائب في مجملها ذات طابع تهكمي، فأحيانا يتندر بما أكل في القصر، وأحيانا يروي لزواره عن كيفية فرح النائب بهدية الرئيس الفلاني أثناء زيارة الوفد البرلماني لبلاده. ومن القصص التي كان أبو محمد ينقلها تلك التي تتناول طلبات الحضور من أقارب النائب، فأحدهم يريد أن يوظف ابنه حارسا في مدرسة والآخر قدم للتوسط بالإفراج عن ابنه الذي شتم القاضي فلان الخ.


انتهى القسم الأول
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 20-10-2008 الساعة 11:58 PM.
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 19-11-2008, 10:32 AM   #9
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الجزء الثاني

انتخابات البلدية

قال أحد الحكماء: لا تناقشوا نضالكم من أجل الحرية، بل ناقشوا ما ستفعلون بحريتكم عندما تحصلون عليها.

وقال آخر: إن الرابحين يتقاربون والخاسرين يتباعدون.

(1)

تأمل الدكتور عبد القادر الجموع الغفيرة التي تواجدت هذه المرة، دون دعوة وليمة كبرى كما جرت العادة، بل جاءت لأنها انتصرت بمعركة الانتخابات البرلمانية، فاستحلت طعم الانتصار، وراق لها فكرة الكلام من أجل الكلام الذي سينسب لمن يتكلم عندما يتحقق نصرٌ. ابتسم ابتسامة سخرية متسائلا بينه وبين نفسه: هل هؤلاء يعرفون عن تخطيط المدن؟ وهل هؤلاء يعرفون عن صفات القادة المحليين؟ وهل هؤلاء يقبلون إن جاءهم من يستطيع القيام بأعمال رئاسة أو عضوية المجلس البلدي بشكل يتناسب مع المعطيات الحضارية؟ أم أن لعبة الصوت وتوزيع (الكوتة) هي الأمور التي تقرر من هو المرشح للرئاسة ومن هم المرشحون لعضوية المجلس؟

نقر (مقبل) بأصابعه على (الحاكي) وأراد أن ينبه الحضور لوجوب الاستماع لما سيقول. وبعد أن قدم (ديباجة) افتتاحية كلمته قال: إن مدينتنا بها ما يزيد عن 600 حامل دكتوراه، وأكثر من خمسة آلاف حامل شهادة جامعية أولية وهي نسبة تزيد عما في (بلجيكا)، ودأبتم كل دورة انتخابات بلدية على تقديم وجهائكم الذين يفتقرون للدراية العلمية والثقافية، وقد علمتم أن إدارة المدن تحتاج الى المزيد من المعرفة والقدرة على التخطيط واستنبات مشاريع العمل لتستوعب أبناء مدينتكم.. إن توزيع تلك الشهادات الجامعية العليا لا يقتصر على عشيرة دون غيرها، لذا نهيب بالحضور الذين سيزكون مندوبي عشائرهم للترشح لعضوية المجلس البلدي أن يراعوا هذا الجانب، وليتنحى آباؤنا وأعمامنا من الوجهاء والذين نكن لهم خالص الاحترام عن مزاحمة أبنائهم ليجربوا القيام بتحديث عمل البلدية الذي بدأ منذ عام 1927.

تعالت صيحات الهتاف والتصفيق بالموافقة، فمن يتكلم هو من مَهَد لغانم أن يصل للبرلمان وكلامه في محله. وهناك من علق على ذلك بالقول: إن أول المتكلمين هو من يرسم خط بداية الانتخابات، ولو وقف أحد غير (مقبل) ورفع من شأن الوجهاء ورجاحة عقلهم لحظي بنفس القدر من الهتاف والتصفيق.

اتفق الجميع على تسمية لجنة لتستقبل أسماء المرشحين، وقسمت العشائر التي تزيد عن 50 عشيرة الى عشرة دوائر، تكون أعداد الناخبين في كل دائرة حوالي ألف وخمسمائة صوت. وقد روعي وضع أربع عشائر يزيد عدد الناخبين فيها عن ألف ليكون لهم مرشح دون مزاحمة أحد (دول كبرى!).

(2)

تعفف الكثير من الشيوخ عن قبول تسميتهم كمرشحين لدوائرهم، ويبدو أن كلمة مقبل قد تركت أثرا في نفوسهم. وقدم إلى اللجنة أسماء 14 مرشحا، كان من بينهم محامي و مهندس ورئيس لجنة نقابية عمالية وثلاثة عقداء متقاعدين من الجيش والشرطة، ومعلم متقاعد وموظف موانئ متقاعد (ينتمي لجماعة دينية) وسكرتير بلدية متقاعد، وشيخ كان عمره فوق الثمانين وهؤلاء الذين أصبحوا فيما بعد القائمة (الشعبية) المعتمدة لهذا التجمع العشائري، فيما تم إقناع الأربعة الآخرين بالانسحاب.

أما في الجهة الأخرى، فكان هناك (فهمي) رئيس البلدية التي كانت قائمة، ومعه تسعة معظمهم من الشيوخ الذين تم انتقاءهم وفق (الكوتات) العشائرية القديمة.

كثرت الحلوى التي تقدم للمؤازرين الذين كانوا يأتون لخيمة الكتلة الشعبية، واستمرت اللجان في إعداد الخطط وأسماء المندوبين ومرافقي الحافلات التي ستنقل الناخبين والناخبات الى مراكز الاقتراع.

ودرّب المدربون الناخبات والناخبين على حفظ الأسماء، والألقاب المعتمدة في الفرز بالتنسيق مع اللجان الحكومية المشرفة على الانتخابات.

(3)

توجه الناخبون والناخبات الى صناديق الاقتراع، وانتهى الاقتراع في السابعة مساء، بعد أن وصلت نسبة المقترعين 78%.

توزع مندوبو فرز الأصوات على قاعات الفرز، وقام رؤساء اللجان بما يلزم لطمأنة المندوبين، فهذا الشمع الأحمر وهذا تقرير لجنة الاقتراع وأعداد من يحق لهم التصويت في الصندوق كذا وأعداد من صوت كذا، ثم قام بعد الأوراق الموجودة في الصندوق، ويستبعد البيضاء التي ليس فيها أسماء مرشحين. ثم طلب من الحضور أن ينتدبوا اثنين منهم للوقوف عند (الصبورة) ووضع إشارة لكل من يحصل على صوت.

أما البقية من المندوبين، فكانوا على استعداد لمتابعة الفرز، وانتبه كل منهم الى الصبورة والى الورقة التي أمامه وقد وضع عليها أسماء 26 مرشح، ينتسبون لثلاث كتل كتلتين رئيسيتين كل كتلة عشرة أسماء وكتلة للسياسيين الذين لم يستطيعوا إكمال كتلتهم وضمت ستة مرشحين. كانت تلك النماذج من الأوراق من توليف أحد المكتبات الذين لهم دراية في الانتخابات، يحضرونها ويصورونها ثم يعرضونها للبيع في مثل تلك المناسبات المتباعدة الحدوث.

كان من في القاعة يستطيع معرفة العشيرة التي ينتمي لها من كتب الورقة، حيث كان يبدأ بكتابة اسم مرشح عشيرته، ثم يذهب الى المرشحين الآخرين، وهو تكنيك لم تُفهم دوافعه حتى اليوم، فما الذي يجعل الناخب يضع اسمه أو اسم قريبه بالأول، هل كان يخشى أن تأتي أوامر بالتوقف عن الكتابة أو أنه سيصاب بسكتة قلبية قبل كتابة اسم قريبه؟ كان هذا النمط من التدوين يفضح العشائر، فعندما لا يكتب اسم مرشح في ورقة فإن المندوب للمرشح الذي حجب عنه الصوت سيعلم من أي عشيرة جاء الحجب، فيجمعها في الصندوق الذي يراقب فيه ويجمع المندوبون الآخرون مثل ذلك التصرف ويضعونها في وجه العشيرة التي مارست الحجب.

كانت معظم الأوراق تضم أسماء كتلة كاملة، وكان بعضها ينقصه اسم أو أكثر، وكان بعض الأوراق به بعض أسماء المرشحين من كتلة أخرى. وكان حظ فهمي رئيس البلدية المنتهي (دورته) أكثر الأسماء التي تظهر في قوائم الكتل الأخرى.

فازت الكتلة الشعبية بتسعة مقاعد، وفاز فهمي رئيس البلدية السابق بأعلى الأصوات، ولم يفز أحد آخر من كتلته ولا كتلة السياسيين، أما الكتلة الشعبية فقد أخفق منها أحد العقيدين المتقاعدين من الجيش، مما جعل ذويه أن يأتوا الى مكان احتفال مؤازري الكتلة وإفساد الاحتفال، متهمين الآخرين بالحجب
.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 18-12-2008, 12:50 PM   #10
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


(4)

تمنح الحركات المكررة، والأعمال المتراكمة في أي مجال، أصحابها مهارات يتميزون فيها عن غيرهم. وقد يتعب أحدنا نفسه في البحث عن تلك المهارات في بطون الكتب ولن يجدها، فالاصطفاف بحلقات (الدبكة) ومراسيم تحضير طعام شعبي، أو البداية في هتاف تشجيع أحد فريقي كرة قدم في مباراة، كلها مهارات من هذا النوع.

كذلك هي الحيل الشعبية في الانتخابات البلدية أو البرلمانية، لا تخضع لخطوات مكتوبة، ولم يناقشها السياسيون في كتبهم، حتى وإن فسروها بعد حدوثها، فإن التنبؤ بالكيفية التي ستسير عليها، يبقى مجالا لم تتناوله مثل تلك الدراسات المكتوبة.

كان أهل البلدة يعلمون أن من يُزاحم على رئاسة البلدية في الانتخابات سيكون عرضة لعدم النجاح لأن المتحالفين معه سيحجبون عنه الأصوات (هذا في الأنظمة التي تجعل من اتفاق الناجحين على تسمية أحدهم رئيسا كما هي حال البلدة موضوعة السرد). ولكي يتجاوزوا تلك العقبة، اتفقت جميع الأطراف لتسمية العقيد المتقاعد فؤاد مرشحا للرئاسة وكان له ذلك بعد نجاح تسعة من أعضاء كتلته.

(5)

بعد استقبال المهنئين وإتمام الاحتفالات، عقد المجلس البلدي أول اجتماعاته بغياب العضو (فهمي: الرئيس السابق).

كان أكثر من نصف أعضاء المجلس، يرغبون في الخدمة من أجل الخدمة، أو هكذا كانوا يعلنون، فبادر الرئيس المنتخب (فؤاد) بإحضار المصحف الشريف، وأقسم أنه لن يعود لترشيح نفسه مرة أخرى، وانتقل القرآن الى الأعضاء الآخرين فأقسموا عليه مثلما فعل رئيسهم.

انتقل المجلس لتوزيع مسميات العضوية، فابتدءوا بنائب الرئيس الذي تنافس عليه اثنان من الأعضاء، فوضعت ورقتان كتبا على كل منهما اسم مرشح، وتكريما لكبر سن الشيخ (مطيع) اتفق الجميع على أن يسحب ورقة من المغلف ليكون نائب الرئيس من كتب اسمه عليها، وتم ذلك دون أي خلاف.

تناوب معظم أعضاء المجلس على الحديث، فمنهم من قدم مشكلة التمويل على بقية المشاكل، ومنهم من قدم مشكلة مخالفات البناء على بقية المشاكل، ومنهم من اعتبر أن الكادر الوظيفي الذي يبلغ مائتان وخمسون موظفا وموظفة هم من أكبر المشاكل، حيث أن نسبة المعاقين بينهم تزيد عن الثلث، وعدم الكفاءة تسيطر على البقية، وأن هؤلاء الموظفين قد جيء بهم كترضية للمؤثرين في عمليات الانتخابات للتجديد لمن يسعى في توظيفهم، وقد تراكمت تلك العينات على المجالس البلدية فأصبح هذا الكادر يستحق لقب أسوأ جهاز وظيفي في تاريخ البلديات.

هنا، بادر المهندس (العضو المنتخب) وطلب إحضار القرآن ليقسم عليه الجميع، أن لا يسعوا بتوظيف أي مستخدم جديد، وأن يحاولوا تدريب الجهاز الوظيفي القائم قدر المستطاع، وأن من لم يتقدم في كفاءته أن يذهب لبيته وسيأتيه راتبه كل شهر، وأكد أن ذلك أقل ضررا على البلدية وعلى مصالح المواطنين، فهو لن يستهلك مياه ولن يهدر من القرطاسية ولن يقصر من عمر أثاث وبناء البلدية. ابتسم الجميع ووافقوا على ذلك.

استغل رئيس البلدية والذي يترأس الجلسة فرصة التقاط الأعضاء لأنفاسهم، وبلغهم بأن أحد وجهاء البلدة، ينتظرهم لتناول طعام الغداء. لم يعلق أحد على ذلك، فمنهم من اعتبر ذلك من مقتضيات العمل في مثل تلك المؤسسات، ومنهم من اعتبر ذلك تمهيدا لإثقال المجلس بتوسط لغض النظر عن مخالفة ما، ولكنه آثر السكوت، حتى لا تصل كلماته لصاحب الدعوة!

لكن المهندس، علق قائلا: لم يكن هذا الرجل يوجه لنا الدعوات لو لم نفز بانتخابات البلدية، إذن فهو يدعو شخصياتنا الاعتبارية، لا شخصياتنا المجردة، وإني أعلن أنني لن ألبي مثل تلك الدعوات لا هذه ولا ما سيتبعها من دعوات، وأنصحكم أن لا تستجيبوا لمثلها إن أردتم العمل النزيه. استجاب لطلب المهندس كل من نائب الرئيس والعضو (النقابي العمالي).

(6)

بعد مرور أسبوع، كان المجلس أو الأعضاء التسعة قد عقدوا خمسة اجتماعات في بيوتهم (بالتناوب) لبحث مسائل تتعلق بالسياسات الواجب إتباعها، فمنها ما كان يناقش عادات إطلاق الأعيرة النارية في الأعراس والاحتفالات، ومنها ما كان يناقش تعبيد 72 كم طولي من طرقات البلدة، وتقسيم هذه الخطة على أربعة سنوات (مدة الدورة الانتخابية) وكيفية التحايل على التمويل، ومنها ما كان يعني بتسرب التلاميذ من المدارس ومنها ما كان يتعلق بتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة بالاستعانة بالجامعتين القريبتين من البلدة، ومنها ما كان يتعلق بتشجيع الشعراء والكتاب والمبدعين وتنظيم مهرجان سنوي لهم في الملعب الرياضي.

في هذه الأثناء، وبعد أن ابتدأ الاجتماع الرسمي الثاني في مبنى البلدية، دخل الرجل صاحب دعوة الغداء، ومعه أحد أقاربه وكان في الستين من عمره، وقد كان يعمل في قطاع البناء قبل خمسة عشر عاما، فسلم على الجميع وقطع الجميع كلامهم، وأخذوا بمجاملات لا معنى لها معه، فانتبه نائب الرئيس أن ذلك مخالفا، ولكنه لم يشأ أن يكون فجاً ويطلب من صاحب الدعوة أن يخرج لأن المجلس في حالة اجتماع، فنبه الرئيس لوجوب العودة لجدول أعمال الاجتماع.

لكن صاحب الدعوة، التفت إليه، وعاتبه: (أنا زعلان منك)، فرد عليه النائب: لماذا؟ فقال: أطعامنا لا يؤكل؟ فاعتذر أنه كان مشغولا و أضاف (خيرك سابق) ..
أدرك الستة الذين لبوا الدعوة أن الممتنعين لتلبية الدعوة كانوا أكثر حكمة منهم.

قال صاحب الدعوة: أنا لا أريد أن أعطلكم عن اجتماعكم، ولكن حرصي على خدمة البلدية ومصالح المواطنين هو ما دفعني للحضور الى هذا الاجتماع، وأحال الحديث لمن معه، فقال: أعلم أن البلدية تهدر الكثير من الأموال لترميم القنوات والعبارات والأطاريف، وكلكم تعرفون أني خبير بأعمال البناء، وقد اعتزلت هذا العمل منذ مدة، ولكن إسهاما مني في خدمة بلديتكم التي هي بلديتنا والتي لم تحظ في يوم من الأيام بهذا القدر من الكفاءات الممثلة بهذه النخبة الشابة، قررت أن أعدل عن قراري في الاعتزال ووضع نفسي تحت خدمتكم!

قاطعه المهندس ضاحكا: من يسمعك سيقول أننا تحايلنا عليك كثيرا من أجل القبول بمثل هذا العمل. ثم جعل من لهجته أكثر صرامة وقال: أترى هؤلاء الأعضاء ؟ لقد أقسموا أيمانا غليظة على أن لا يوظفوا أحدا طيلة مدة دورتهم، أرح نفسك من تلك المهمة.

تجهم صاحب الدعوة، ونظر الى المهندس شزرا واستأذن وخرج.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .