نظرات في كتاب البيان في حكم التغني بالقرآن
نظرات في كتاب البيان في حكم التغني بالقرآن
المؤلف بشار عواد معروف وهو يدور حول حكم تطريب وتلحين القرآن وقد تحدث عن اختلاف القوم في القديم والحديث في حكم المسألة فقال:
" فالقرآن العظيم هو كتاب الله الدال عليه لمن أراد معرفته وطريقه الموصلة لسالكها إليه ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ...ومعلوم أن تزيين قراءة القرآن الكريم وتحسين الصوت بها والتطريب عند القراءة وقع في النفوس وأدعى إلا استمتاع والإصغاء إليه ففيها تنفيذ للفظ القرآن إلى الأسماع ومعانيه إلى القلوب وذلك عون على المقصود وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفيذه إلى موضع الداء وبمنزلة الأفاوية والطيب الذي يجعل في الطعام تكون الطبيعة أدعى له قبولا
وقد اختلف العلماء في قراءة القرآن بالألحان منذ القديم إلى يوم الناس هذا فنص على كراهتها الإمامان أحمد بن حنبل ومالك بن أنس ورويت هذه الكراهة عن أنس بن مالك -بسند ضعيف كما سيأتي- وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن /66/ البصري ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وتابعهم القرطبي وغيره
وأجاز آخرون رفع الصوت في قراءة القرآن والجهر والتطريب والتغني به لأنه أوقع في النفوس وأسمع في القلوب وهم: أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وعبدالله بن المبارك والنضر بن شميل وأبو جعفر الطبري وأبو الحسن بن بطال وأبو بكر بن العربي وابن قيم الجوزية وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وعطاء بن أبي رباح وغيرهم
وامتد هذا الخلف حتى وصل إلى عصرنا هذا فكتب فيه من كتب كارها مانعا أو مجوزا فممن منعوه وتشددوا في المنع العلامة محمد أبو زهرة وغيره وممن جوزوه العلامة رشيد رضا ولبيب السعيد وأحمد عبدالمنعم البهي وغيرهم "
وقد ذكر لماما تخوفات القدماء فقال :
"وإذا كان بعض الأقدمين قد كرهه استنادا إلى فهمهم لبعض كلمات أو عبارات وردت في بعض الأحاديث وخوفهم من أن بعض القراءات بالألحان قد تؤدي إلى همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بممدود وترجيع الألف الواحد ألفات والواو واوات والياء ياءآت فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن فإن بعض المحدثين -مما يؤسف عليه- ذهبوا إلى محاولة نفي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن المصطفى (ص)واستدلوا بأحاديث ضعيفة وبنوا أحكامهم عليها وهذه بلية كبيرة "
وتحدث معروف عن كون ثبات الأمر أو نفيه مداره الأحاديث متغافلا تماما عن كتاب الله فقال :
"ومعلوم أن مثل هذه الأمور إنما تثبت أو تنفى بالرجوع إلى سنة المصطفى (ص)ومعرفة صحيحها من سقيمها ودراسة الأحاديث والأدلة التي استند إليها الفريقان "
وانتهى معروف إلى أن أحاديث منع التغنى وهو التطريب والتلحين كلها لم يثبت منها شىء بينما ثبت عنده أحاديث الاباحة فقال :
"وقد وفقني الله سبحانه وتعالى إلى دراسة الأحاديث الواردة في هذا الموضوع فثبت عندي من حديثه (ص)ضرورة تحسين الصوت والتطريب والتغني بالقراءة للقرآن الكريم ولم يثبت عندنا حديث واحد في منع ذلك أو كراهته مما يمكن أن ترد به تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة"
واستعرض معروق أدلته في إباحة التغنى فقال :
"فأحببت أن ينتفع بذلك إخواني من محبي كتاب الله والإنصات إليه والحنين إلى سماعه فضلا عما سأسوقه من أقوال الصحابة والتابعين وأدلة العلماء المتشبعين بسنة المصطفى (ص)وما أبينه من العلل في الأحاديث المنسوبة على رسول الله (ص)التي استدل بها بعض العلماء في النكير على من جوز ذلك وإليك دلالات ذلك:
الدليل الأول:
أخرج أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما والنسائي في السنن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص)« لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغني بالقران » /70/
وقد اختلف العلماء في معنى قوله (ص)« يتغنى » على وجهين رئيسين:
أ- الاستغناء به وهو من الاستغناء الذي ضد الافتقار لا من الغناء يقال: تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت وتغانوا: أي استغنى بعضهم عن بعض وإلى هذا التأويل ذهب سفيان بن عيينة كما صرح به البخاري وغيره إذ قال بعد أن ساق هذا الحديث من طريق سفان عن الزهري قال: قال سفيان: تفسيره يستغني به وكان يقول في حديث: « ليس منا من لم يتغن بالقرآن »: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره ولم يذهب إلى الصوت ونصره في ذلك أبوعبيد القاسم بن سلام فقال: وهذا جائز فاش في كلام العرب ...
وبهذا أيضا قال وكيع بن الجراح ولعله اختيار محمد بن إسماعيل البخاري لإتباعه ترجمة الباب بقوله تعالى: { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } وقال أبوالعباس ثعلب: « الذي حصلناه من حفاظ اللغة في قوله (ص)« كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن » أنه على معنيين على الاستغناء وعلى التطريب قال الأزهري: فمن ذهب به إلى الاستغناء فهو من « الغنى » مقصورة ومن ذهب إلى التطريب فهو من « الغناء » الصوت ممدود
ب- تحسين الصوت والتحزن به والتلذذ والاستحلاء كما يستلذ أهل الطرب بالغناء فأطلق عليه تغنيا من حيث أنه يفع عنده ما يفعل عند الغناء كما سيأتي مفصلا
وتفسير سفيان بن عيينة ومن تابعه مردود من عدة وجوه نذكر منها ما يتيسر:
1- إن مسلم بن الحجاج أخرج في صحيحه هذا الحديث بلفظ آخر صرح فيه بحسن الصوت فقال: حدثني بشر بن الحكم قال: حدثنا عبدالعزيز بن محمد قال: حدثنا يزيد وهو ابن العاد عن محمد بن إبراهيم (التيمي) عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله (ص)يقول: « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به »
2- وروى عبدالأعلى عن معمر عن الزهري في حديث الباب بلفظ: « ما أذن لنبي في الترنم في القرآن » أخرجه الطبري وعنده في روياة عبدالرزاق عن معمر عن الزهري: « ما أذن لنبي حسن الصوت » -أي كما أوردناه من صحيح مسلم ووقع عند ابن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار عن أبي سلمة عن أبي هريرة: « حسن الترنم بالقرآن »
قال الطبري: ومعقول عند ذي الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به
3- وأخرجه البخاري هذا الحديث في موضع آخر ومسلم من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة أنه سمع النبي (ص)يقول: « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به »
وأخرج البخاري في موضع آخر من صحيحه من طريق الليث عن عقيل عن الزهري عن أبي سلمة عبارة « يجهر به » /73/ خارجة عن قول النبي (ص)فقال إثر روايته الحديث: « وقال صاحب له: يريد يجهر به »
قال الحافظ ابن حجر: فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره لاسيما إذا كان فقيها وقد جزم الحليمي أنها من قول أبي هريرة والعرب تقول: سمعت فلانا يتغنى بكذا أي يجهر به ومنه قول ذي الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم
أي أجهر ولا أكني
|