العودة   حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > صالون الخيمة الثقافي

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: نظرات فى مقال فسيولوجية السمو الروحي (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى توهم فريجولي .. الواحد يساوي الجميع (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال ثقافة العين عين الثقافة تحويل العقل إلى ريسيفر (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات بمقال هل تعلم أن مكالمات الفيديو(السكايب) كانت موجودة قبل 140 عام (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى بحث مطر حسب الطلب (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات فى مثال متلازمة ستوكهولم حينما تعشق الضحية جلادها (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال مستعمرات في الفضاء (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال كيفية رؤية المخلوقات للعالم من حولها؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال حوار مع شيخ العرفاء الأكبر (آخر رد :رضا البطاوى)       :: الضفائر والغدائر والعقائص والذوائب وتغيير خلق الله (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 14-10-2008, 04:49 PM   #1
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي ومضات مشرقة من كتاب ً وحي القلم ً لمصطفى صادق الرافعي.

قرآن الفجر

مصطفى صادق الرافعي



كنتُ في العاشرة من سِنِّي، وقد جمعْتُ القرآنَ كلَّه حِفْظًا، وجوَّدتُه بأحكام القراءة، ونحن يومئذ في مدينة "دَمَنْهُورَ" عاصمةِ

البُحَيْرَةِ؛ وكان أبي - رحمه الله - كبيرَ القُضاة الشرعيينَ في هذا الإقليم، ومن عادته أنه كان يعتكِفُ كلَّ سَنة في أحدِ المساجد

عَشْرَةَ الأيامِ الأخيرة من شهر رمضان؛ يدخل المسجد فلا يَبْرَحُهُ إلا ليلةَ عيد الفِطْر بعد انقضاء الصوم؛ فهناك يتأمل،

ويتعبَّد، ويتَّصِل بمعناه الحق، وينظر إلى الزائل بمعنى الخالد، ويُطِلُّ على الدنيا إطلالَ الواقف على الأيام السَّائرة، ويغيِّر

الحياة في عمله وفِكْرِه، ويهجُر تراب الأرض، فلا يمشي عليه، وترابَ المعاني الأرضيَّة فلا يتعرَّض له، ويدْخُلُ في الزَّمَنِ

المُتَحَرِّر من أكثر قيود النفس، ويستقرُّ في المكان المملوء للجميع بِفِكْرَةٍ واحدة لا تتغيَّر؛ ثم لا يرى من الناس إلا هذا النوع

المرطَّبَ الروح بالوضوء، المدعوّ إلى دخول المسجد بدعوة القوَّة السامية، المنحنِي في رُكُوعه ليخضع لغير المعاني الذليلة،

الساجد بين يَدَيْ رَبِّه لِيُدْرِك معنى الجلال الأعظم.

وما حكمة هذه الأمكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنَّها أمكنة قائمة في الحياة، تُشْعِرُ القلبَ البشريَّ في نزاع الدنيا أنه في إنسان لا في

بهيمة...



وذهبتُ ليلةً فَبِتُّ عند أبي في المسجد؛ فلمَّا كنَّا في جَوْف الليل الأخير أَيْقَظَنِي لِلسُّحور، ثُمَّ أَمَرَنِي فَتَوَضَّأْتُ لِصلاة الفَجْرِ، وَأَقْبَلَ

هُوَ عَلَى قِراءَتِه؛ فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ الأعلى هَتَفَ بالدعاء المأثور: اللهم لك الحمد؛ أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد؛

أنت بهاء السماوات والأرض، ولك الحمد؛ أنت زَيْنُ السماوات والأرض، ولك الحمد؛ أنت قَيَّام السماوات والأرض ومن فيهم

ومَن عليهنَّ؛ أنت الحق ومنك الحق.. إلى آخر الدعاء.

وأقبل الناس يَنْتَابُون المسجد، فانحدَرْنا من تلك العليَّة التي يُسمُّونَها الدِّكَّة، وجلسنا ننتظر الصلاة، وكانتِ المساجد في ذلك

العهد تُضاءُ بِقَنَادِيلِ الزيت، في كل قنديل ذُبالة، يرتعش النور فيها خافتًا ضئيلاً يَبصُّ بصيصًا؛ كأنه بعض معاني الضوء لا

الضوء نفسه؛ فكانت هذه القناديلُ، والظلام يرتج حولها، تلوح كأنها شُقوقٌ مضيئةٌ في الجو، فلا تكشف الليلَ؛ ولكن تكشف

أسراره الجميلة، وتبدو في الظلمة كأنها تفسيرٌ ضعيف لمعنًى غامضٍ، يومِئُ إليه ولا يبينه، فما تشعر النفس إلا أن العين تمتد

في ضوئها من المنظور إلى غير المنظور؛ كأنها سِرٌّ يَشِفُّ عن سِرٍّ.

وكان لها منظر كمنظر النجوم، يتِمُّ جمال الليل بإلقائه الشُّعَلَ في أطرافه العليا، وإلباس الظلام زينتَه النورانيةَ؛ فكان الجالس

في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة، ويُحِسُّ في المكان بقايا أحلام، ويَسْرِي حولَه ذلك المجهولُ الذي سيخرج

منه الغدُ؛ وفي هذا الظلام النورانيّ تنكشف له أعماقه مُنْسَكِبًا فيها رُوح المسجد، فتَعْتَرِيهِ حالةٌ رُوحانية يَستكين فيها للقَدَر هادئًا

وادعًا راجعًا إلى نفسه، مجتمِعًا في حواسِّهِ، منفرِدًا بصفاته، منعكِسًا عليه نور قلبه؛ كأنه خرج من سلطان ما يُضِيءُ عليه

النهار، أو كأنَّ الظلمةَ قد طمست فيه على ألوان الأرض.

ثم يَشعر بالفجر في ذلك الغَبَش عند اختلاط آخِرِ الظلام بأول الضوء، شُعورًا نِدِّيًّا؛ كأن الملائكةَ قَدْ هبطت تحمل سحابة رقيقة،

تَمسح بها على قلبه؛ ليَتَنَضَّر من يُبْسٍ، ويَرِقَّ من غِلْظَة، وكأنما جاؤوه مع الفجر ليتناول النهار من أيديهم مبدوءًا بالرحمة،

مفتَتَحًا بالجمال؛ فإذا كان شاعر النفس الْتَقَى فيه النورُ السماويّ بالنور الإنسانيّ فإذا هو يتلألأ في رُوحه تحت الفجر.



لا أنسى أبدًا تلك الساعةَ، ونحن في جَوِّ المسجد، والقناديلُ معلَّقة؛ كالنّجوم في مَناطها من الفلك، وتلك السُّرُج ترتَعِشُ فيها

ارتعاشَ خواطِرِ الحب، والناس جالسون عليهم وَقار أرواحهم، ومن حوْلِ كُلِّ إنسانٍ هُدُوءُ قَلْبِه، وقدِ اسْتَبْهَمَتِ الأشياءُ في نظر

العين، ليلبسها الإحساس الروحانيّ في النفس، فيكون لكل شيء معناه، الذي هو منه، ومعناه الذي ليس منه، فيُخْلَق فيه الجمال

الشعريّ؛ كما يخلق للنظر المتخيِّل.

لا أَنسى أبدًا تلك الساعةَ، وقدِ انْبَعَثَ في جوِّ المسجد صوتٌ غرِدٌ رَخِيم، يَشُقُّ سَدفة الليل في مثل رنين الجرس، تحت

الأُفُق العالي، وهو يُرَتّل هذه الآياتِ من آخِرِ سورة النحل:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ

بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ

عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 125 – 128].

وكان هذا القارئ يملك صوتَهُ أَتَمَّ ما يَملِك ذو الصوت المطرِب؛ فكان يَتصرَّف به أحلى مما يَتصرَّف القُمْرِيُّ وهو يَنوح في

أنغامه، وبلغ في التطريب كلَّ مبلغ يَقْدِر عليه القادر، حتى لا تُفَسَّر اللَّذَّة الموسيقِيَّة بأبدع مما فَسَّرَها هذا الصوتُ؛ وما كان إلا

كالبُلْبُل هَزَّتْهُ الطبيعة بأُسلوبها في جمال القمر، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد.

كان صوته على ترتيبٍ عجيب في نَغَماته، يجمع بين قوة الرِّقَّة وبين رِقَّة القُوَّة، ويَضطرب اضطرابًا رُوحانيًّا؛ كالحزن اعتراه

الفرح على فجأة؛ يَصيح الصَّيْحة تَتَرَجَّح في الجو وفي النفس، وتَتردَّد في المكان وفي القلب، ويَتحوَّل بها الكلامُ الإلهيُّ إلى

شيء حقيقيٍّ، يَلْمَسُ الرُّوح فَيَرْفَضُّ عليها بمثل الندى، فإذا هي ترِفُّ رفيفًا، وإذا هي كالزهرة التي مسحها الطَّلُّ.

وسَمِعْنَا القرآن غَضًّا طريًّا كأوَّلِ ما نزل به الوَحْي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في النفس؛ كأنه بعض السِّرِّ الذي يدور في

نظام العالم، وكان القلب وهو يتلقى الآيات؛ كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه.

واهتَزَّ المكانُ والزَّمانُ كأنَّما تَجَلَّى المتكلِّمُ - سبحانه وتعالى - في كلامه، وبدأ الفجر كأنه واقفٌ يستأذن الله أن يضيء من هذا

النور.

وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما مُحِيَتِ الدنيا التي في الخارج من المسجد، وبَطَلَ باطِلُها، فلم يبقَ على الأرض إلا الإنسانيةُ

الطاهرة، ومكانُ العبادة؛ وهذه هي معجزة الرُّوح، متى كان الإنسان في لَذَّةِ رُوحِه، مرتفعًا على طبيعته الأرضية.



أما الطفل الذي كان فيَّ يومئذ: فكأنما دُعِيَ بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة، ويُؤَدِّيَها إلى الرجل الذي يجيء فيه مِن بَعْدُ؛ فأنا في

كل حالة أَخضع لهذا الصوت: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}؛ وأنا في كلِّ ضائقة أَخشع لهذا الصوت: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا

بِاللَّهِ}.


__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!


آخر تعديل بواسطة ياسمين ، 14-10-2008 الساعة 05:01 PM.
ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 14-10-2008, 05:47 PM   #2
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي

أيـها الـبـحر!

مصطفى صادق الرافعي



إذا احتَدَمَ الصيفُ، جعَلتَ أنت أيها البحرُ للزمنِ فصلاً جديداً يُسمَى "الربيعَ المائي ".

وتنتقِلُ إلى أيامِك أرواحُ الحدائق، فتَنبُتُ في الزمنِ بعضُ الساعاتِ الشهيةِ كأنها الثمرُ الحُلوُ الناضجُ على شجرِه.

ويُوحي لونُكَ الأزرقُ إلى النفوسِ ما كانَ يُوحيهِ لونُ الربيعِ الأخضر، إِلا أتَه أرق وألطف.

ويرى الشعراءُ في ساحلِكَ مثلَ ما يرَونَ في أرضِ الربيع، أنوثة ظاهرة، غيرَ أنها تلِدُ المعانيَ لا النبات.

ويُحِسُّ العشاقُ عندَك ما يُحسونَهُ في الربيع: أنَّ الهواءَ يتأؤَه...



في الربيع، يتحّركُ في الدمِ البشري سرُّ هذِه الأرض، وعندَ "الربيعِ المائي " يتحركُ في الدمِ سر هذهِ السحب.

نوعانِ مِنَ الخمرِ في هواءِ الربيعِ وهواءِ البحر، يكونُ منهما سكر واحدٌ مِنَ الطرَب. وبالربيعَينِ الأخضرِ والأزرقِ

ينفتحُ بابان للعالمِ السحري العجيب: عالمِ الجمالِ الأرضيّ الذي تدخلُهُ الروحُ الإنسانيةُ كما يدخلُ القلبُ المحب

في شعاعِ ابتسامةٍ ومعناها.



في "الربيع المائي"، يجلسُ المرء، وكأنه جالسٌ في سحابةِ لا في الأرض.

ويشعرُ كأنهُ لابسْ ثياباً مِنَ الظلّ لا مِنَ القُماش، ويجدُ الهواءَ قد تنزهَ عن أن يكونَ هواءَ التراب.

وتَخِفُّ على نفسِهِ الأشياء، كأنَّ بعضَ المعاني الأرضيةِ انتُزِعتْ مِنَ المادة.

وهنا يُدركُ الحقيقة: أن السرورَ إِنْ هو إِلا تنبهُ معاني الطبيعةِ في القلب.

وللشمسِ هنا معنًى جديد ليسَ لها هناك في "دنيا الرزق ".

تُشرِق الشمسُ هنا على الجسم، أما هناك فكأنما تطلُعُ وتَغرُبُ على الأعمالِ التي يعملُ الجسمُ فيها.

تطلعُ هناك على ديوانِ الموظفِ لا الموظف، وعلى حانوتِ التاجرِ لا التاجر، وعلى مصنَعِ العاملِ،

ومدرسةِ التلميذِ، ودارِ المرأة.

تطلُعُ الشمسُ هناك بِالنور، ولكنَّ الناسَ- وا أسفاه- يكونونَ في ساعاتِهمُ المظلمة...

الشمسُ هنا جديدة، تُثبِتُ أنَّ الجديدَ في الطبيعةِ هو الجديدُ في كيفيةِ شعورِ النفسِ به.



والقمرُ زاهٍ رفاف مِنَ الحُسن، كاْنهُ اغتسلَ وخرجَ مِنَ البحر.

أو كأتهُ ليس قمراً، بل هو فجرٌ طلَعَ في أوائلِ الليل، فحصرَتْهُ السماءُ في مكانِه ليستمرَ الليل.

فجرٌ لا يُوقِظُ العيونَ من أحلامِها، ولكنه يُوقِظُ الأرواحَ لأحلامِها.

ويُلقي من سحرِهِ على النجومِ فلا تظهرُ حولَهُ إِلَأ مُستَبهِمَةَ كأنها أحلائم معلقة.

للقمرِ هنا طريقةْ في إبهاجِ النفسِ الشاعرة، كطريقةِ الوجهِ المعشوقِ حينَ تقبلُهُ أولَ مرة.



و"للربيعِ المائي" طيورُهُ المغزدةُ وفَراشُهُ المتنقل:

فالطيورُ نساء يَتَضَاحَكنَ، وأما الفَراشُ فأطفال يتواثبون.

نساءٌ إذا اَنغمسنَ في البحر، خُيلَ إليّ أنَّ الأمواجَ تَتَشاحَنُ و تتخاصم على بعضهن...



والأطفالُ يلعبونَ ويصرخُونَ ويضِجونَ كأَنَّما أتسعَت لهُمُ الحياة والدنيا.

وخُيلَ إليهم أئهم أقلقوا البحرَ كما يُقلقونَ الذار، فصاحَ بهم: وَيْحَكُم يا أسماكَ التراب...!

ورأيتُ طفلأ منهم قد جاءَ فَوَكَزَ البحرَ برِجلِهِ! فضحِكَ البحرُ وقال: اَنظروا يا بني آدم!!

أعَلى اللهِ أن يَغبَأَ بالمغرورِ منكم إذا كَفَرَ بِه؟ أعَلَيّ أنْ أعبأَ بهذا الطفلِ

كيلا يقولَ إِئه ركلَني برجلِه...؟

أَيها البحر، قد ملأتك قوةُ اللَّهِ لتُثبِتَ فراغَ الأرضِ لأَهلِ الأرض.

ليسَ فيك ممالِكُ ولا حدود، وليس عليك سلطان لهذا الإنسانِ المغرور.

وتجيشُ بِالناسِ وبِالسفُنِ العظيمة، كائكَ تحملُ من هؤلاءِ وهؤلاءِ قشا ترَمي به.

والاختراعُ الإنسانيُ مهما عَظُمَ لا يُقني الإنسانَ فيك عن إيمانِه.

وأنت تملأُ ثلاثةَ أرباعِ الأرضِ بالعظمَةِ والهَول، ردا على عَظمةِ الإنسانِ

وهولِهِ في الربعِ الباقي، ما أعظمَ الإنسانَ وأصغَرَه!



ينزل في الناسِ ماؤك فيتساوَون حتى لا يختلفَ ظاهر عن ظاهر.

ويركبونَ ظهرَك في السفُنِ فيحِنُ بعضُهم إلى بعضِ حتى لا يختلفَ باطن عن باطن.

تُشعرُهم جميعاًانهم خرجوا مِنَ الكُرَةِ الأرضية ومِن أحكامِها الباطِلة.

وتُفقرُهم إلى الحب والصداقةِ فقراَ يُريهمُ النجومَ نفسَها كانها أصدقاء، إذ عرفوها في الأرض.

يا سحرَ الخوف، أنت أنت في اللجَّةِ كما أنت أنت في جهنم.



وإذا ركبَك المُلحِدُ أيها البحر، فرَجَقتَ من تحتِه، وهَدَزتَ عليه وثُرتَ بِه، وأرْيتَة

رأيَ العين كأنهُ بين سماءينِ ستنطبقُ إحداهُما على الأخرى فَتُقفَلانِ عليه - تركْتَه

يَتَطأطَأُ ويَتَواضع، كائكَ تهزُّهُ وتهز أفكارَه معاَ، وتُدَحرِجُهُ وتُدحرُجُها. وأطَرتَ كل

ما في عقلِهِ فيلجأُ إلى اللهِ بعقلِ طِفل.

وكشفتَ له عنِ الحقيقة: أن نسيانَ اللهِ ليسَ عمَلَ العقل، ولكنهُ عملُ الغَفلةِ والأمنِ وطولِ السلامة.



ألا ما أشبَهَ الإنسانَ في الحياةِ بِالسفينةِ في أمواجِ هذا البحر!

إنِ أرتفعَتِ السفينةُ، أوِ اَنخفضت، أو مادَتْ ، فليسَ ذلك منها وحدَها، بل مما حولَها.

ولن تستطيعَ هذهِ السفينةُ أن تملِكَ من قانونِ ما حولَها شيئاَ، ولكنَّ قانونَها هوَ

الثباتُ، والتوازنُ، والاهتداءُ إلى قصدِها، ونجاتُها في قانونِها.

فلا يَعتِبَنَّ الإنسانُ على الدنيا وأحكامِها، ولكن فَلْيَجتهد أن يحكمَ نفسَه.

__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!


آخر تعديل بواسطة ياسمين ، 14-10-2008 الساعة 06:06 PM.
ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 14-10-2008, 06:31 PM   #3
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي



الطفولتان

مصطفى صادق الرافعي



(عصمت) ابنُ فلان باشا طفل مُترَف يكادُ ينعصرُ لِيناً، وتراهُ يَرِف رَفيفاَ مما نشأَ في ظلالِ العز، كأن لروحِهِ مِنَ الرَقةِ مثلَ

ظل الشجرةِ حول الشجرة. وهو بين لِداتهِ (أصدقائه) منَ الصّبيانِ كالشَوكةِ الخضراءِ في أمُلودِها (غصنها) الريان

(الطري)، لها منظرُ الشوكةِ، على مِجسةِ لينة ناعمةٍ تكَذّبُ أنها شوكةٌ إِلَا أنْ تَيبسَ وتَتَوَقَّح.

وأبوهُ “فلان “ مديرٌ لمديريةِ كذا، إذا سُئلَ عنه ابنُه قال: إنه مديرُ المديرية. لا يكادُ يعدو هذا التركيب، كأنه من غُرورِ النعمةِ

يأبى إِلا أن يجعلَ أباه مديراً مرَتين… وكثيراً ما تكونُ النعمةُ بذيئةً وَقَاحاً سيّئةَ الأدب في أولادِ الأغنياء، وكثيراً ما يكون الغِنى

في أهلهِ غِنى مِنَ السيئاتِ لا غير!

وفي رأي (عصمت) أن أباه من عُلُو المنزلةِ كأنهُ على جَناحِ النسرِ الطائرِ في مَسبَحِهِ إلى النجم، أما آباءُ الأطفالِ مِنَ الناسِ

فهم عنَدهُ من سُقوطِ المنزلةِ على أجنحةِ الذبابِ والبَعوض!

ولا يغدو ابنُ المديرِ إلى مدرستِهِ ولا يَترَوَحُ منها إلا وراءَهُ جُنْديٌ يمشي على أثرِهِ في الغَدوةِ والروحةِ إذْ كانَ ابنَ المدير، أي

ابنَ القوّةِ الحاكمة، فيكونُ هذا الجنديُ وراءَ الطفل كالمَنبَهةِ له عندَ الناس، تُفصِحُ شارتُهُ العسكريةُ بلغاتِ السابِلَةِ (المارة)

جَمعَاءَ أن هذا هو ابنُ المدير. فإذا رآه العربي أو اليونانيُ، أو الطليانيُ أو الفرنسيُ، أو الإنجليزي أو كائن مَن كانَ من أهلِ

الألسنةِ المتنافِرةِ التي لا يَفهَمُ لسانْ منها عن لسانٍ - فهموا جميعاً من لغةِ هذه الشارةِ أن هذا هو ابنُ المدير، وانهُ منَ الجندي

الذي يَتبعُهُ كالمادةِ منَ القانونِ وراءَها الشرحِ...!

ولقد كان يجبُ لابنِ المديرِ هذا الشرفُ الصبياني. لو أنهُ يومَ وُلِد لم يولْد ابنَ ساعتِه كأطفالِ الناس، بل وُلِدَ ابنَ عشرِ سنينَ

كاملةِ لتشهَد له الطبيعةْ أنه كبير قدِ آنصَدعت (جائت) به مُعجزة! وإلا فكيف يمشي الجنديُ من جنودِ الدولةِ وراءَ طفل

ويخدمُهُ ويَنصاعُ لأمِره (يطيعه)، وهذا الجنديُ لو كان طَريدَ هَزيمةِ قد فرَ في معركةِ منَ معارك الوطن، وأريدَ تخليدُه فى

هزيمتِهِ وتخليدُها عليه بالتصوير- لما صُورَ إلا جنديّاً في شارتِهِ العسكريةِ منقاداً لمثلِ هذا الطفلِ الصغيرِ كالخادم، في صورةٍ

يُكتَب تحتها: “نُفَايَة عسكرية!”.



ليس لهذا المنظرِ الكثيرِ حدوثُه في مصرَ إِلا تأويلٌ واحد: هو أن مكانَ الشخصياتِ فوقَ المعاني، وِانْ صَغُرت تلك وجَلًت

هذه، ومِن هنا يكذبُ الرجلُ ذو المنصب، فيُرفَع شخصُه فوقَ الفضائلِ كلها، فيكبُر عن أن يكذبَ فيكونَ كَذِبُه هو الصدق، فلا

يُنكَرُ عليه كَذِبُه أيْ صِدقُه...! ويخرجُ من ذلك أنْ يتقرَر في الأمةِ أن كَذِبَ القوةِ صدق بالقوة!

وعلى هذِهِ القاعدةِ يُقاسُ غيرُها من كل ما يُخذَلُ فيهِ الحق. ومتى كانتِ الشخصياتُ فوقَ المعاني الساميةِ طَفِقَت (بدأت) هذِهِ

المعاني تموجُ مَوجَها محاوِلةً أن تعلو، مُكرَهَة على أن تنزل، فلا تستقيمُ على جهةٍ ولا تنتظمُ على طريقة، وتُقْبِلُ بالشيءِ على

موضعِه، ثم تَكُرُ كَرَها فتُدبِرُ بِهِ إلى غيرِ موضعِه، فتضل كل طبقةِ منَ الأمةِ بكُبرائها، ولا تكونُ الأمةُ على هذه الحالةِ في كلً

طبقاتِها إِلا صغاراَ فوقَهم كبارُهم، وتلك هي تهيئةُ الاْمةِ للاستعبادِ متى أبَتُلِيَت بالذي هو أكبرُ من كبارِها، ومن تلك تَنشأُ في

الأمةِ طبيعةُ النفاقِ يحتمي بهِ الصغَرُ من الكِبَر، وتنتظمُ به ألْفةُ الحياةِ بينَ الذلةِ والصولة (الغلبة و القهر)!



وتخلَفَ الجنديُ ذاتَ يوم عن موعدِ الرواحِ مِنَ المدرسة، فخرج (عصمت) فلم يجدْه، فبدا له أن يتسكَّعَْ (يتجول على غير

هدى) في بعضِ طرقِ المدينةِ لِينطلقَ فيه ابنُ آدمَ لا ابنُ المدير، وحن حنينَه إلى المغامرةِ في الطبيعة، ولبسَتِ الطرقُ في

خيالِهِ الصغيرِ زينتَها الشعريةَ بأطفالِ الأزقةِ يلعبونَ ويَتهوَشون ويَتعابَثون ويتشاحنون (يتشاجرون)، وهم شتَى وكأنهم أبناءُ

بيتٍ واحدِ مستْ بكل منْ كل رَحِمٌ ، إذ لا ينتسبونَ في اللهو إِلا إلى الطفولةِ وحدَها.

وانساقَ (عصمت) وراءَ خيالِه، وهرَبَ على وجهِهِ من تلكَ الصورةِ التي يمشي فيها الجندي وراءَ ابنِ المدير، وتَغَلْغَلَ في

الأزِقةِ (توغل) لا يُبالي ما يعرفُهُ منها وما لا يعرفُه، إِذ كان يسيرُ في طرقٍ جديدةٍ على عينهِ كأنَما يَحلُمُ بها في مدينةٍ من مدنِ

النوم.

يتبع

__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 14-10-2008, 06:48 PM   #4
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي




وانساقَ (عصمت) وراءَ خيالِه، وهرَبَ على وجهِهِ من تلكَ الصورةِ التي يمشي فيها الجندي وراءَ ابنِ المدير، وتَغَلْغَلَ في

الأزِقةِ (توغل) لا يُبالي ما يعرفُهُ منها وما لا يعرفُه، إِذ كان يسيرُ في طرقٍ جديدةٍ على عينهِ كأنَما يَحلُمُ بها في مدينةٍ من مدنِ

النوم.

وأنتهى إلى كَبكَبَةٍ (جماعة) مِنَ الأطفالِ قدِ اَستجمعوا لشأنِهمُ الصبيانيّ، فانْتَبذَ (انزوى) ناحيةً ووقفَ يُصغي إليهم متهيّباَ أنْ

يُقدِمَ، فاَتَّصلَ بسمعِه ونظرِهِ كالجبان، وتسمَّعَ فإِذا خبيثٌ منهم يعلمُ الآخرَ كيف يضربُ إذا اعتدَى أو اعتُدِيَ عليه، فيقول له:

اضربْ اْينَما ضرَبت، من رأسِه، من وجهِه، منَ الْحُلقوم، من مَرَاق البطن، قال الآخر: وإذا مات؟ فقال الخبيث: فإذا مات فلا

تقُلْ إني أنا علَّمتُك...!

وسمع طفلاً يقول لصاحبه: أمَا قلتُ لك: إنه تعلَّمَ السرقةَ من رؤيتَهِ اللصوصَ في السيمإ؟ فأجابَهُ صاحبُه: وهل قال له أولئك

اللصوصُ الذين في السيّما كن لصا واعمل مثلَنا؟

وقام منهم شيطان فقال: يا أولادَ البلد، أنا المدير! تعالَوا وقولُوا لي: “يا سعادةَ الباشا، إِن أولادنا يُريدونَ الذهابَ إلى

المدارس، ولكنا لا نستطيعُ أنْ ندفعَ لهم المصروفات.. “ فقالَ الأولادُ في صوب واحد: “يا سعادةَ الباشا، إِن أولادَنا يُريدونَ

الذهابَ إلى المدارس، ولكنا لا نستطيعُ أن ندفَعَ لهمُ المصروفات “ فرد عليهم (سعادته): اشتروا لأولادِكم أحذيةَ وطرابيشَ

وثياباَ نظيفة، وأنا أدفعُ لهمُ المصروفات.

فنظرَ إليه خبيث منهم وقال: يا سعادةَ المدير، وأنت فلِماذا لم يشترِ لك أبوك حذاء؟

وقال طفلْ صغير: أنا ابنُك يا سعادةَ المدير، فأَرسلْني إلى المدرسةِ وقتَ الظهر فقَط...!



وكان (عصمت) يسمعُ ونفسُه تعتز بإحساسِها، كالورقةِ الخضراءِ عليها طَل الندى، وأخذَ قلبُه يتفتح في شعاعِ الكلامِ كالزهرةِ

في الشمس، وسَكِرَ بما يسكَرُ بهِ الأطفالُ حين تُقدمُ لهمُ الطبيعةُ مكانَ اللهوِ مُعَدا مهيَّا، كالحانةِ ليسَ فيها إلا أسبابُ السكرِ

والنَّشوة، وتمامُ لذتها أن الزمنَ فيها منسي، وأن العقلَ فيها مُهمَل..ْ.

وأحس ابنُ المديرِ أنَّ هذه الطبيعةَ حين ينطلقُ فيها جماعة الأطفالِ على سَجيّتهِم وسجيَّتِها - إنما هي المدرسةُ التي لا جُدرانَ

لها، وهي تربيةُ الوجودِ للطفلِ تربيةً تتناوَلُهُ من أدق أعصابهِ فتُبَددُ قواهُ ثم تجمعُها له أقوى ما كانت، وتُفْرِغُهُ منها ثم تملؤُهُ بما

هو أتمّ وأَزيدُ وبذلكَ تكسِبهُ نموَ نشاطِه، وتُعلّمُهُ كيف ينبعِثُ لتحقيقِ هذا النشاط، فتَهديهِ إلى أن يُبدعَ بنفسِه ولا ينتظرَ مَنْ يُبدعُ

له، وتجعلُ خُطاه دائماَ وراءَ أشياءَ جديدة، فتُسددُهُ من هذا كلهِ إلى سر الإبداع والابتكار، وتُلقيه العِلمَ الأعظمَ في هذه الحياة،

عِلمَ نَضْرةِ نفِسهِ وسرورِها ومرَحِها، وتطبعُه على المزاجِ المتطَلقِ المتهلّلِ المتفائل، وتَتدَفقُ به على دنياه كالفَيَضَانِ في النهر،

تفورُ الحياةُ فيهِ وتفورُ به، لا كأطفالِ المدارسِ الخامدينَ، تعرفُ للواحدِ منهم شكلَ الطفل وليسَ له وجودُهُ ولا عالَمُه، فيكونُ

المسكينُ في الحياةِ ولا يجدُها، ثم تراهُ طفلأَ صغيراً، وقد جمعوا له همومَ رجلِ كامل!

ودبت روحُ الأرضِ دبيبَها في (عصمت)، وأوحَت إلى قلبِه بأسرارِها، فأدركَ من شعورهِ أنَّ هؤلاءِ الأغمارَ (الجاهلين

الأغرار) الأغبياءَ مِنْ أولادِ الفقراءِ والمساكين، همُ السعداءُ بطفولتهِم، وأنه هو وأمثالُه همُ الفقراءُ والمساكِينُ في الطفولة، وأن

ذلك الجندي الذي يمشي وراءَه لتعظيمِه إنما هو سجن، وأن الألعابَ خيرٌ منَ العلوم، إِذْ كانت هي طِفْلِيةَ الطفلِ في وقتِها، أما

العلومُ فرُجولةٌ مُلزَقَة به قبلَ وقتِها تُوقرُه وتحوُلُهُ عن طباعِهِ، فتقتلُ فيهِ الطفولةَ وتهدمُ أساسَ الرجولة، فينشأُ بينَ ذلك لا إلى

هذه ولا إلى هذه، ويكونُ في الأولِ طفلاَ رجلا، ثم يكونُ في الاَخرِ رجلاً طفلاَ.

وأحس مِما رأى وسمَع أن مدرسةَ الطفلِ يجبُ أن تكونَ هي بيتَه الواسعَ الذي لا يتحرجُ أن يصرخَ فيه صُراخَه الطبيعي،

ويتحركَ حركتَه الطبيعية، ولا يكونَ فيه مدرسون ولا طَلَبة، ولا حاملو العصِي منَ الضباط، بل حق البيتِ الواسعِ أنْ تكونَ

فيه الأبوةُ الواسعة، والأخوةُ التي تَنفسِحُ لِلمئات، فيمرُ الطفلُ المتعلمُ في نشأتِهِ من منزلٍ إلى منزلِ إلى منزل، على تدريجٍ في

التوسعِ شيئاَ فشيئأ، منَ البيت، إلى المدرسة، إلى العالم.



وكان (عصمت) يحلمُ بهذه الأحلامِ الفلسفية، وطفولتُهُ تَشِب وتسترجِل، ورَخاوتُه تشتد وتتماسكُ، وكانَتْ حركاتُ الأطفالِ كأنها

تُحركُهُ من داخِلِه، فهو منهم كالطفلِ في السيما حينَ يشهدُ المتلاكمين والمتصارعين، يَستطيرُه الفرحُ، ويتوثُب فيهِ الطفلُ

الطبيعيُّ بمرَحِهِ وعُنفُوانِه، وتتقلصُ عضَلاتُه، ويتكَشفُ جِلدُه، وتجتمعُ قوتُه، حتى كأنه سيُظاهرُ أحدَ الخصمينِ ويَلكمُ الآخرَ

فيُكَورُه ويصرعُه، ويفُضُ معركةَ الضربِ الحديدي بضربتِه اللينةِ الحريرية..!

فما لبثَ صاحبُنا الغريرُ الناعمُ أن تخشن، وما كذبَ أنِ اقتحم، وكأنما أقبلَ على روحِه الشارعُ والأطفالُ ولهوهُم وعبثُهم، إقبالَ

الجوّ على الطيرِ الحبيسِ المعلَّقِ في مسمارٍ إذا انفرجَ عنه القفص، واقبالَ الغابةِ على الوحشِ القَنَيصِ إذا وثبَ وثبةَ الحياةِ

فطارَ بها، وإقبالَ الفلاةِ على الظبِي الأسيرِ إذا ناوَصَ (رفع رأسه و تحرك للجري) فأفلَتَ مِنَ الحِبلة.

وتقدم فادغَمَ (انضم) في الجماعةِ وقال لهم: أنا ابنُ المدير.

يتبع

__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 14-10-2008, 07:05 PM   #5
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي




وتقدم فادغَمَ (انضم) في الجماعةِ وقال لهم: أنا ابنُ المدير. فنظروا إليه جميعاً، ثم نظرَ بعضهُم إلى بعض، وسَفَرت (بدت)

أفكارُهم الصغيرةُ بَين أعينِهم، وقال منهم قائل: إن حذاءَه وثيابَه وطربوشَه كلها تقول إِنَّ أباهُ المدير.

فقال آخر: ووجهُه يقول إِن أمَهُ امرأةُ المدير....

فقال الثالث: ليسَت كأمك يابعطيطي ولا كأم جُعلُص!

قال الرابع: يا ويلك لو سمع جُعلص، فإن لَكَماتِه حينئذِ لا تتركُ أمك تعرفُ وجهَك مِنَ القفا!

قال الخامس: ومن جُعلصُ هذا؟ فليأتِ لأرِيَكم كيف أُصارِعُه، فأجتذبُه فأعصِرُه بين يدي، فأعتقلُ رِجلَه برجلي، فأدفعُه،

فيتخاذل، فأعرُكُه، فيخِرُّ على وجهِه، فاأسمره في الأرضِ بمسار!

فقال السادس: هاها! إنك تصفُ بأدق الوصفِ ما يفعلُه جُعلصُ لو تناولَك في يدهِ...!

فصاحَ السابع: ويلَكم! هاهو ذا. جُعلص، جُعلص، جُعلص!

فتطَايَر الباقونَ يميناً وشِمالاَ كالوَرقِ الجاف تحت الشجرِ ضرَبتهُ الريحُ العاصف.

وقهقهَ الصبي من ورائِهم، فثابوا إلى أنفسِهم وتراجعوا. وقال المُستَطيلُ منهم: أما إني كنتُ أُريدُ أن يعدوَ جعلصُ ورائي،

فأستطرِدُ إليه قليلا أُطمِعُه في نفسي، ثم أرتدُ عليه فآخذُه كما فعل “ماشيست الجبار” في ذلك المنظرِ الذي شاهدناه.

وقهقهَ الصبيانُ جميعاً...! ثم أحاطوا (بعصمت) إحاطةَ العشَاقِ بمعشوقة جميلة، يحاولُ كلُّ منهم أن يكونَ المقربَ

المخصوصَ بالحظوة، لا من أجلِ أنهُ ابنُ المدير فحسبُ، ولكن من أجل ان ابنَ المديرِ تكونُ معه القروش… فلو وجدَتِ

القروشُ معَ ابن زبالِ لما منعه نسبُه أن يكون أميرَ الساعةِ بينهم إلى أن تنفَدَ قروشُه فيعودَ ابن زبال...!

وتنافسوا في (عصمت) وملاعبتِه والاختصاصِ به، فلو جاءَ المديرُ نفسُه يلعبُ مع آبائِهم ويركبُهم ويركبونه، وهم بين نجارِ

وحداد، وبناءِ وحمال، وحوذي وطباخ، وأمثالِهم من ذوي المهنةِ المُكسِبَةِ الضئيلة- لكانَت مطامعُ هؤلاء الأطفالِ في ابن

المدير، اْكبرَ من مطامعِ الاَباءِ في المدير.



وجرتِ المنافسةُ بينَهم مجراها، فاَنقلبت إلى مُلاحاة (جدال)، ورجَعت هذه الملاحاةُ إلى مشاحنة، وعاد ابنُ المدير هَدَفاً. للجميعِ

يُدافعونَ عنه وكأنما يعتدونَ عليه، إذ لا يقصدُ أحد منهم أحداً بالغيظِ إلا تَعمدَ غيظَ حبيبِه، ليكونَ أنكأَ له وأشد عليه!

وتظاهرَوا بعضُهم على بعض، ونشأت بينهمُ الطوائل، وأفسدَهم هذا الغنيُ المتمثلُ بينهم. وياما أعجبَ إدراكَ الطفولةِ

وإلهامَها! فقدِ اجتمعَت نفُوسهم على رأي واحد، فتحولوا جميعاً إلى سفاهةٍ واحدةِ أحاطَت بِابنِ المدير، فخَاطره أحدُهم في اللعبِ

فَقمرَه (خسره في المقامرة)، فأبى إِلا أن يعلوَ ظهرَه ويركبَه، وأبى عليه ابنُ المدير ودافَعه، يرى ذلك ثَلماً في شرفِهِ ونسبِه

وسَطوةِ أبيه، فلم يكذ يعتل بهذه العلةِ ويذكُرُ أباه ليعرفَهم آباءَهم… هاجت حتَى كبرياؤُهم، وثارَت دفائنُهم، ورقصَت شياطينُ

رؤوسِهم، وبذلك وضَع الغبيُّ حِقدَ الفقرِ بإزاءِ سُخريةِ الغِنى، فألقى بينهم مسألةَ المسائلِ الكبرى في هذا العالم، وطرَحَها

للحل....!

وتَنفشُوا (تهيئوا للمبارزة) للصولةِ عليه، فسخِرَ منه أحدُهم، ثم هزأ بهِ الآخر، وأخرجَ الثالثُ لسانَه، وصدمَه الرابعُ بمنكبِه،

وأفحشَ عليه الخامس، ولكَزهُ السادس، وحثا السابعُ في وجهِه التراب!

وجهِدَ المسكينُ أن يفر من بينِهم فكأنما أحاطوه بسبعةِ جُدرانٍ فبطَلَ إقدامُه وإحجامُه، ووقفَ بينَهم ما كتبَ اللّه… ثم أخَذتُه أيديهم

فانجدَل على الأرضِ، فتجاذبُوه يُمرغونَه في التراب!



وهم كذلك إذِ انقلب كبيرُهم على وجهِه، وَأنكفأَ الذي يليه، وأُزيحَ الثالث، ولُطِمَ الرابعُ، فنظروا فصاحوا جميعاَ: “جُعلُص،

جعلص! ! وتواثبوا يشتدون هَرباً. وقام (عصمت) يَنتَخِلُ الترابُ من ثيابِه وهو يبكي بدمعِه، وثيابُه تبكي بترابِها...! ووقفَ

ينظرُ هذا الذي كشفَهم عنه وشردَتهم صَولتُه، فإذا جُعلصُ وعليه رَجَفَانْ مِنَ الغضب، وقد تَبرطمَت شفتُه، وتَقَلضَ وجهُه، كما

يكونُ “ماشيست” في مَعاركِهِ حين يدَفعُ عنِ الضعفاء.

وهو طفل في العاشرةِ من لدات (عصمت)، غير أنه مُحتَنكٌ في سن رجل صغير، غليظْ عَبلٌ شديدُ الجِبلةِ متراكِبْ بعضُه على

بعض (مفتول العضلات مكتنز اللحم)، كأنَّه جِنيّ مُتقاصِر يَهم أن يطولَ منه المارد، فأنِسَ به (عصمت)، واطمأن إلى قوتهِ،

وأقبلَ يشكو له ويبكي!

قال جعلص: ما اسمُك؟

قال: أنا ابن المدير...!

قال جعلص: لا تبكِ يا أبنَ المدير. تعلم أن تكون جَلْداً (قويا صبورا)، فإِن الضربَ ليس بذُل ولا عار، ولكن الدموعَ هي

تجعلُه ذلا وعاراً، إِن الدموعَ لَتجعلُ الرجلَ أنثى. نحن يا ابنَ المديرِ نعيشُ طولَ حياتِنا إما في ضربِ الفقرِ أو ضربِ الناسِ،

هذا من هذا، ولكنك غني يا ابنَ المدير، فأنتَ كالرغيفِ (الفِينو) ضخمٌ مُنتفخٌ ، ولكنهُ ينكسرُ بلمسة، وحَشوُهُ مثلُ القطن!

ماذا تتعلمُ في المدرسةِ يا ابنَ المديرِ إذا لم تعلمك المدرسةُ أن تكونَ رجلاً يأكلُ مَن يريدُ أكلَه، وماذا تعرفُ إذا لم تكن تعرفُ

كيف تصبرُ على الشر يومَ الشر، وكيف تصبرُ للخيرِ يومَ الخير، فتكونَ دائماً على الحالتينِ في خير؟

قال عصمت: آهِ لو كان معي العسكري!

قال: جعلص: ويحكَ؟ لو ضربوا عنزاً لما قالت: آه لو كان معي العسكري!

قال عصمت: فمن أين لك هذه القوة؟

قال جعلص: من أني أعتمِلُ بيدي (أخدم نفسي بنفسي) فاْنا أشتدّ وإذا جعتُ أكلتُ طعامي، أما

أنت فتسترخي، فإذا جعتَ أكلَك طعامُك، ثم من أني ليس لي عسكري..!

قال عصمت: بل القوةُ مَن أنك لستَ مثلَنا في المدرسة؟

قال جعلص: نعم، فأنت يا ابنَ المدرسةِ كأنك طفل من وَرَقٍ وكراساتٍ لا من لحم، وكأن عظامَك من طَباشير! أنت يا ابنَ

المدرسةِ هو أنتَ الذي سيكونُ بعدَ عشرينَ سنةً، ولا يعلمُ إِلا اللهُ كيف يكون، وأما أنا ابنُ الحياة، فأنا منَ الآن، وعلي أن

أكونَ “أنا” من الآن!

أنتَ…



وهنا أدركهما العسكريُ المسخرُ لابن المدير، وكان كالمجنونِ يطيرُ على وجهِهِ في الطرقِ يبحثُ عن (عصمت)، لا حُبا فيه،

ولكن خوفاً من أبيه، فما كاد يرى هذا العَفَرَ على أثوابِهِ حتى رنت صفعتُه على وجهِ المسكينِ جُعلص.

فصعَّر هذا خدَهُ (مال بخده تكبرا)، ورشقَ عصمت بنظرِه، وانطلق يعدو عَدوَ الظَّليم (ذكر النعام)!

يا للعدالة! كانتِ الصفعةُ على وجهِ ابنِ الفقير، وكان الباكي منها ابنَ الغني..!



وأنتم أئها الفقراء، حسبُكمُ البطولة، فليس غِنى بَطَلِ الحربِ في المالِ والنعيم، ولكن بالجراحِ والمشقاتِ في جسمِه وتاريخِه.


__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 21-10-2008, 09:28 PM   #6
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

jasmine-36
شكرًا لا كفاء له لو أن إحسانكم يجزيه شكران ُ

حقيقة أنا أرى هذا الجهد العظيم من أجمل ما كتب في الخيمة كلها لا الخيمة الثقافية فقط وذلك لما يمثله كتاب وحي القلم من قيمة نثرية ثرية للغاية قلما نجدها في مثل هذا العصر .
وهذا الكتاب وقد تعرض للمشكلات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية الموجودة في عصره فإنه جمع بين جادة الأدب ورواحة النفس وقوة الحجة وملحة الدعابة حتى كأن الليل في نهاره والنهار في ليله .

"ولكنك غني يا ابنَ المدير، فأنتَ كالرغيفِ (الفِينو) ضخمٌ مُنتفخٌ ، ولكنهُ ينكسرُ بلمسة، وحَشوُهُ مثلُ القطن!

ماذا تتعلمُ في المدرسةِ يا ابنَ المديرِ إذا لم تعلمك المدرسةُ أن تكونَ رجلاً يأكلُ مَن يريدُ أكلَه، وماذا تعرفُ إذا لم تكن تعرفُ"

كان مما أعجبني في خاطراته عن البحر الخواطر المرسلة خاطرة معناها وليس نصها :رأيت طفلاً يركل البحر فقلت وكما لم يضر البحر من ركل الطفل شيء .. أوضر الله شيئًا إن كفر به كافر ؟

تصف واقعنا المدرسي والحياتي بشكل كبير حيث البساطة والفلسفة والجد والسخرية الباكية
ابن المدير قصة من أجمل ما قرأته له وأجمل منها الزواج وفلسفة المهر .
لي عودة لاحقة لهذا الموضوع الثري والرائع والذي أثر بلا شك في طريقة كتابتي ... وحتى اللقاء أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار





آخر تعديل بواسطة المشرقي الإسلامي ، 21-10-2008 الساعة 09:35 PM.
المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 22-10-2008, 01:54 AM   #7
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي

أخي المشرقي الإسلامي

يسرني تعقيبكم على الكتاب والحقيقة أنني أعتقد بأن الرافعي رحمه الله لم يأخذ نصيبه من الاهتمام الكافي الذي يستحقه ففيه من

الحذق والذكاء ما قل مثيله في الكتابة النثرية ومهما يكن فقد حصل الرجل على النزر القليل من الاهتمام بعد كتابته لوحي القلم،

والمشكلة تكمن في وجود أقلام جادة تكتب أدبا رفيعا ولكنها تبقى مغمورة فلا يحصل أصحابهاعلى الشهرة إلا من كانت لديه

توجهات بعيدة عن روح الدين وقضايا المجتمع المسلم.

ختاما أقول بأن الشكر يوجه إلى صاحب الكتاب رحمه الله وقد أعجبني كثيرا نصه ً قرآن الفجر ً ففيه من المعاني الجليلة

التي تكشف عن عظمة هذا الدين حيث تنعم الروح بالسعادة الأبدية في حضرة خالقها، والملائكة تحمل السحاب لتمسح به على

قلوب المصلين..إنه بحق لتوصيف رائع فيه لمسة تصوفية رقيقة،

وما أثار انتباهي حقا هو كون هذه المعاني السامية يستشعرها طفل في العاشرة من عمره، حيث تلتقي النفحات

الروحية لتمتزج بفطرة طفل نشأ في حب الله وحفظ القرآن فتخيل معي حجم الارتواء الروحي لو كان الأطفال يتلقون ذات

التربية الدينية .

فما أظن شبابنا يغدون إلا قلما لامعا كالرافعي أو شبابا ينفقون أعمارهم في خدمة هذه الأمة.

أشكر تعقيبك على الموضوع، وأعلم أنك تملك قلما عندما قرأت إحدى تدخلاتك وبما أنك متأثر بالرافعي فجد علينا بشء من

كتاباتك في باب الأدب لكي نستمتع بأسلوبك ونلامس أفكارك عن كثب.

تحياتي وتقديري إليك
__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 22-10-2008, 08:19 AM   #8
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

لك كل الشكر على هذا التعليق ولعل إسلامية توجهه جعلته مطرودًا من مسقط الضوء لذلك لم يشتهر بما اشتهر به غيره من الكتاب والأدباء وإن كانوا أقل منه بكثير .
مما أذكره له قوله "وتجد الواحد من الشباب تحتج رجولة جسمه على طفولة عقله"هذا قاله منذ كم سنة ؟ ولقد صدق

لا أدعي أني أستطيع مجاراة هذا الكاتب العظيم لكن سأطلعك على بعض ما كتبت فيما بعد بإذن الله .
لي عودة لاحقة لأتحدث عن أبرز خصائصه في كتابه هذا وفي كتب أخرى قرأت مقتطفات منها.
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 28-10-2008, 08:18 PM   #9
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي

إقتباس:
المشاركة الأصلية بواسطة المشرقي الإسلامي مشاهدة مشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم

لك كل الشكر على هذا التعليق ولعل إسلامية توجهه جعلته مطرودًا من مسقط الضوء لذلك لم يشتهر بما اشتهر به غيره من الكتاب والأدباء وإن كانوا أقل منه بكثير .
مما أذكره له قوله "وتجد الواحد من الشباب تحتج رجولة جسمه على طفولة عقله"هذا قاله منذ كم سنة ؟ ولقد صدق

لا أدعي أني أستطيع مجاراة هذا الكاتب العظيم لكن سأطلعك على بعض ما كتبت فيما بعد بإذن الله .
لي عودة لاحقة لأتحدث عن أبرز خصائصه في كتابه هذا وفي كتب أخرى قرأت مقتطفات منها.
وأنا في انتظار ما تجود به علينا ريشتك حول الموضوع

لتعميم الفائدة وللاستمتاع أيضا بقلمك المبدع

تحياتي وتقديري إليك

__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 29-10-2008, 12:03 AM   #10
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي





من روائع الرافعي

اليمامتان



جاء في تاريخ الواقدي أن (المُقَوْقِسَ) عظيم القِبط في مِصر، زوّج بنتَه (أرمانوسة) من (قسطنطين بن هِرَقْل) وجهزها

بأموالها حَشَما لتسيرَ إليه، حتى يَبْنيَ عليها في مدينة قَيْسَارِيَة بفلسطين; فخرجت إلى بُلْبَيْسَ (مدينة بمحافظة الشرقية) وأقامتْ

بها... وجاء عَمْرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حِصَاراً شديداً، وقاتلَ مَن بها، وقتل منهم زُهاء ألفِ فارس، وانهزم مَن

بقي إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسةُ وجميع مالَها، وأُخِذَ كلُ ما للقبط في بلبيس. فأحبُّ عَمرْو ملاطفةَ المقوقس، فسير إليه

ابنتَه مكزَمة في جميع مالَها، (مع قَيْس بنِ أبي العاص السهْمي); فسُرّ بقدومها...



هذا ما أثبتَه الواقدي في روايته، ولم يكن مَعنِياَ إلا بأخبار المَغزى والفُتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية; أما ما أغفله فهو ما

نَقُصُه نحن:

كانت لأرمانوسةَ وصيفة مُوَلَّدة تُسَمَى (ماريَة)، ذاتُ جمال يوناني أتمَته مصرُ ومَسَحَتْه بسحرها، فزاد جمالُها على أن يكون

مصرياً، ونَقَصَ الجمالُ اليوناني أن يكُونَه; فهو أجملُ منهما، ولمصرَ طبيعة خاصة في الحسن; فهي قد تُهمِل شيئاً في جمال

نسائها أو تُشَعث منه، وقد لا توفيه جُهدَ محاسنها الرائعة; ولكن متى نشاً فيها جمال ينْزعُ إلى أصل أجنبي أفرغت فيه سحرَها

إفراغاَ، وأبت إلا أن تكون الغالبةَ عليه، وجعلتهُ آيتَها في المقابلةِ بينه في طابَعِه المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة

ما كانت; تغارُ على سحرها أن يكون إلا الأعلى.


وكانت ماريةُ هذه مسيحيةً قويةَ الدين والعقل، اتخذها المقوقسُ كنيسة حيةَ لابنته، وهو كان والياً وبَطْرِيَرْكاً على مصر من قِبَلِ

هِرَقْل; وكان من عجائب صُنْع اللّه أن الفتحَ الإسلاميّ جاء في عهده، فجعل اللهُ قلبَ هذا الرجل مِفتاحَ القُفْل القبطي، فلم تكن

أبوابُهم تُدافِعُ إلا بمِقدار ما تُدفعَ، تُقاتل شيئاً من قتال غيرِ كبير، أما الأبوابُ الروميةُ فبقيتْ مستَغلِقةً حصينةً لا تُذْعِنُ إلا

للتحطيم، ووراءها نحوُ مائة ألفِ رومي يقاتلون المعجزةَ الإسلاميةَ التي جاءتهم من بلاد العرب أوّلَ ما جاءت في أربعة

آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخِرَ ما زادوا على اثني عشر ألفاً. كان الروم مائة ألف مُقاتل بأسلحتهم- ولم تكن المدافع معروفة-

ولكن رُوح الإسلام جعلت الجيش العربيّ كأنه اثنا عشر ألفَ مِدْفع بقنابلها، لا يقاتِلون بقوّة الإنسان، بل بقوّة الروح الدينية التي

جعلها الإسلامُ مادة منفجرةَ تُشْبه الدينامِيتَ قبل أن يُعرفَ الدينامِيت!



ولما نزل عمرو بجيشِه على بُلبيس جَزِعتْ مارية جزَعاَ شديداً; إذ كان الروم قد أرجفوا أن هوّلاء العربَ قوم جياع يَنْفضهُم

الجدْبُ على البلاد نَفضَ الرمالِ على الأعين في الريح العاصف; وأنهم جَراد إنساني لا يغزو إلا لِبَطْنِه; وأنهم غِلاظُ الأكباد

كالإبل التي يمتطونها; وأن النساء عندهم كالدواب يُرْتَبَطْن على خَسْف; وأنهم لا عهدَ لهم ولا وفاء، ثَقُلت مطامعُهم وخَفت

أمانتُهم; وأن قائدَهم عَمْرَو بن العاص كان جزاراً في الجاهلية، فما تَدَعُه روحُ الجزار ولا طبيعتُه; وقد جاء بأربعة آلاف سالخ

من أخلاط الناسِ وشُذاذِهم، لا أربعةِ أَلاف مقاتل من جيش له نظامُ الجيش!!



وتوهَّمتْ ماريةُ أوهامَها، وكانتْ شاعرةَ قد درست هي وأرمانوسةُ أدبَ يونانَ وفلسفتَهم، وكان لها خيال مشبوبٌ متوقد يُشْعِرُها

كلَّ عاطفة أكبرَ مما هي، ويضاعف الأشياء في نفسها، وينزعُ إلى طبيعته الموّئثة، فيبالغُ في تهويل الحزنِ خاصة، ويجعل

من بعض الألفاظ وَقُوداَ على الدم...

ومن ذلك اسْتُطِيرَ قلبُ مارية وأفزعتها الوساس، فجعلت تَنْدُبُ نفسَها، وصنعت في ذلك شعراَ هذه ترجمتُه:


جاءك أربعةُ آلافِ جزار أيتُها الشاةُ المِسكينة!

ستذوق كلُّ شعرة منكِ ألمَ الذبح قبل أن تُذبَحي!

جاءك أربعةُ آلاف خاطف أيتها العذراء المسكينة!

ستموتين أربعة اَلاف مِيتة قبل الموت!

قَوّني يا إلهي، لأغمِدَ في صدري سِكيناَ يردّ عني الجزارين!

يا إلهي، قَوّ هذه العذراءَ، لتتزوّج الموتَ قبل أن يتزوجَها العربي...!



وذهبت تتلو شِعرَها على أرمانوسةَ في صوت حزين يتوجَّع; فضحكتْ هذه وقالت: أنتِ واهمة يا مارية; أنسيتِ أن أبي قد

أهدَى إلى نبيهم بنتَ (أنْصِنا) –مارية القبطية و كانت من أنصنا بالوجه القبلي-، فكانت عنده في مملكة بعضها السماء

وبعضُها القلب; لقد أخبرني أبي أنه بَعَثَ بها لتكشفَ له عن حقيقة هذا الدين وحقيقةِ هذا النبي; وأنها أنفذتْ إليه دَسِيساَ يُعْلِمهُ

أن هوّلاء المسلمين هم العقلُ الجديد الذي سيضع في العالم تمييزَه بين الحق والباطل، وأن نبيهم أطهرُ من السحابة في سمائها،

وأنهم جميعاَ ينبعثون من حُدود دينهم وفضائلِه، لا من حدود أنفسهمِ وشهواتِها; وإذا سَلُوا السيفَ سَلُّوه بقانون، وإذا أغمدوه

أغمدوه بقانون. وقالت عن النساء: لأن تخافَ المرأةُ على عفّتها من أبيها أقربُ من أن تخافَ عليها من أصحاب هذا النبي;

فإنهم جميعاً في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضميرُ الإسلاميُ في الرجل منهم- يكون حاملاً سلاحاً يَضرِبُ صاحبَه

إذاً هم بمخالفته.

وقال أبي: إنهم لا يُغيِرُون على الأمم، ولا يحاربونها حربَ المُلْك; وإنما تلك طبيعةُ الحركة للشريعة الجديدة، تتقدَم في الدنيا

حاملةً السلاحَ والأخلاق، قويةً في ظاهرها وباطنها، فمن وراء أسلحتِهم أخلاقُهم; وبذلك تكون أسلحتهم نفسُها ذاتَ أخلاق!

وقال أبي: إن هذا الدينَ سيندفعُ بأخلاقِه في العالَمِ اندفاعَ العُصارة الحيةِ في الشجرةِ الجرداء; طبيعة تعملُ في طبيعة; فليس

يَمضي غيرُ بعيد حتى تَخضَر الدنيا وترميَ ظِلالها; وهو بذلك فوق السياسات التي تُشْبه في عملها الظاهر المُلَفقِ ما يُعَدُّ

كطلاء الشجرة الميتةِ الجرداء بلون أخضر... شَتَانَ بين عمل وعمل، وإن كان لون يشبه لوناَ...

فاسترْوَحَتْ ماريةُ واطمأنت باطمئنان أرمانوسة، وقالت: فلا ضَيْرَ علينا إذا فتحوا البلد، ولا يكون ما نَسْتَضِرُ به؟


قالت أرمانوسة: لا ضيرَ يا مارية، ولا يكون إلا ما نُحِب لأنفسنا; فالمسلمون ليسوا كهوّلاء العُلوج من الروم، يفهمون متاعَ

الدنيا بفكرة الحِرص عليه، والحاجة إلى حلاله وحرامه، فهم القُساةُ الغِلاظُ المُستكلِبون كالبهائم; ولكنهم يفهمون متاعَ الدنيا

بفكرة الاستغناء عنه والتمييز بين حلاله وحرامه، فهم الإنسانيون الرُّحماء المتعففون.

قالت مارية: وأبيك يا أرمانوسةُ، إن هذا لعجيب! فقد مات سقراط وأفلاطونُ وأرِسْطو وغيرُهم من الفلاسفة والحكماء، وما

استطاعوا أن يؤّدبوا بحكمتهم وفلسفتهم إلا الكتبَ التي كتبوها...! فلم يخرِجوا للدنيا جماعةَ تامةَ الإنسانية، فضلآ عن أمة كما

وصفْتِ أنتِ من أمر المسلمين; فكيف استطاع نبيُّهم أن يُخرِجَ هذه الأمةَ وهم يقولون إنه كان أميّا; أفتسْخَرُ الحقيقةُ من كبار

الفلاسفةِ والحكماء وأهل السياسة والتدبير; فتدعُهم يعملون عَبَثاَ أو كالعبث، ثم تستسلم للرجل الامي الذي لم يكتُب ولم يقراً ولم

يدرُس ولم يتعلم؟

قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئةِ السماء وأجرامِها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يَشُقون الفجر ويُطلعون الشمس; وأنا

أرى أنه لا بد من أمة طبيعية بفطَرتها يكونُ عملُها في الحياة إيجادَ الأفكار العمليةِ الصحيحةِ التي يسير بها العالم، وقد درستُ

المسيحَ وعملَه وزمنَه، فكان طِيلةَ عمره يحاول أن يوجِد هذه الأمة، غير اِّنه أوجدها مُصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عملُه

كالبدء في تحقيق الشيء العسير; حَسْبُه أن يُثبِتَ معنى الإمكان فيه.



وظهورُ الحقيقة من هذا الرجل الأمي هو تنبيهُ الحقيقة إلى نفسها; وبرهانها القاطعُ أنها بذلك في مظهرها الإلهي. والعجيبُ يا

مارية، أن هذا النبي قد خذله قومُه وناكروه وأجمعوا على خلافِه، فكان في ذلك كالمسيح، غير أن المسيحَ انتهى عند ذلك; أما

هذا فقد ثبت ثباتَ الواقع حين يقع; لا يرتدُّ ولا يتغير; وهاجرَ من بلده، فكان ذلك اْول خُطَا الحقيقةِ التي أعلنت أنها ستَمشي

في الدنيا، وقد أخذتْ من يومِئذ تمشي. ولو كانت حقيقةُ المسيح قد جاءت للدنيا كلَّها لها جرتْ به كذلك، فهذا فرق آخر بينهما.

والفرقُ الثالثُ أن المسيح لم يأت إلا بعبادة واحدة هي عبادةُ القلب، أما هذا الدينُ فعلمتُ من أبي أنه ثلاثُ عبادات يشُدُ بعضها

بعضاً: إحداها للأعضاء، والثانيةُ للقلب، والثالثةُ للنفس; فعبادةُ الأعضاء طهارتُها واعتيادُها الضبط; وعبادةُ القلبِ طهارتُه

وحبُّه الخير; وعبادةُ النفسِ طهارتُها وبذلُها في سبيل الإنسانية. وعند أبي أنهم بهذه الأخيرة سيملكون الدنيا; فلن تُقهرَ أمة

عقيدتُها أن الموتَ أوسعُ الجانبين وأسعدُهما.

قالت مارية: إن هذا والله لسِر إلِهي يدل على نفسه; فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعثَ نفسُه غيرَ مباليةٍ الحياةَ والموتَ إلا في

أحوال قليلة، تكون طبيعة الإنسان فيها عمياء: كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبُّرِ الأعمى; فإذا كانت هذه الأفةُ

الإسلاميةُ كما قلتِ منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعورُ بذاتيتها العالية- فما بعد ذلك دليل على أن الدينَ هو شعورُ

الإنسان بسموّ ذاتيتِه، وهذه هي نهايةُ النهاياتِ في الفلسفة والحكمة.

قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليلْ على أنكِ تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية!

فاستَضحَكَتَا معاَ وقالت مارية: إنما ألقيتِ كلاماَ جاريتُكِ فيه بحَسَبِه، فأنا وأنت فكرتان لا مسلمتان


يتبع


***
__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .