العودة   حوار الخيمة العربية > القسم العام > الخيمة الفـكـــريـة

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية على المريخ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في بحث العقد النفسية ورعب الحياة الواقعية (آخر رد :رضا البطاوى)       :: خوارزمية القرآن وخوارزمية النبوة يكشفان كذب القرآنيين (آيتان من القرآن وحديث للنبي ص (آخر رد :محمد محمد البقاش)       :: نظرات في مقال السؤال الملغوم .. أشهر المغالطات المنطقيّة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: قراءة فى مقال البشر والحضارة ... كيف وصلنا إلى هنا؟ (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال التسونامي والبراكين والزلازل أسلحة الطبيعة المدمرة (آخر رد :رضا البطاوى)       :: نظرات في مقال الساعة ونهاية العالم (آخر رد :رضا البطاوى)       :: عمليات مجاهدي المقاومة العراقية (آخر رد :اقبـال)       :: نظرات في مقال معلومات قد لا تعرفها عن الموت (آخر رد :رضا البطاوى)      

المشاركة في الموضوع
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
غير مقروءة 30-01-2010, 01:42 PM   #11
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

القسم الثاني: المجتمع المدني والحداثة

الفصل الرابع: نشوء (الإنسان الاقتصادي)

عندما أخضع نيكولاي مكيافيللي الإيمان لمصالح الأمير والجمهورية المدنية، أحدث قطيعة مع العصور الوسطى. وأفرَد تشديد مارتن لوثر على حرية الضمير الفردي قوة كبيرة للسلطات السياسية التي كانت مسئولة عن تنظيم المجتمع المدني حول الحاجات الظاهرية لمجتمع مؤمن. والكثير من هذا يصدق على إعلان (هوبز) أن المجتمع وُجِدَ بسبب فاعلية قوة السلطة التي يتمتع بها صاحب السيادة وحده. ما من شخصية من هذه الشخصيات الانتقالية الثلاث السابقة قد عول على القوى السماوية لتطبيق المعايير العامة التي تمكن من تعيين الأهداف الجزئية والسعي وراءها.

الحقوق، والقانون، والميادين المحمية

(1)

في دفاع (جون لوك) عن (الثورة المجيدة) في إنجلترا، لم يبدأ بمهاجمة (هوبز) بل هاجم حجة البلاط القائلة أن السيادة شكلٌ للملكية يمكن أن يورث من ملك الى ملك، وهي حجة كانت أسرة ملوك ستيوارت (1603ـ1688) تسوقها لحقبة طويلة لدعم مزاعمها بالسلطة المطلقة.

جادل (جون لوك) بأن سلطة الدولة اللامحدودة سوف تقوض الأمن الذي صُممت هذه السلطة لحمايته أصلاً، وسوف تجعل من قيام المجتمع المدني أمراً مستحيلاً. كان (هوبز) قد فشل في مسألة أن الحفاظ على الذات لم يعد بحاجة الى سلطة صاحب السيادة، السياسية الآمرة، فالحفاظ على الذات يمكن أن يندمج الآن مع حماية الملكية.

إن الأرض وُهبت في الأصل لجميع بني البشر كي ينعموا بطيباتها، ولكل فرد الحق في أن ينال رزقه من هبات الطبيعة. يقول (لوك): (لكني سأحاول أن أبين كيف تسنى للناس أن يتملكوا بضعة أجزاء مما وهبه الله للبشر جميعاً، ومن دون أي اتفاق صريح بين عامة الناس)!

تعليق مبكر:

حاول لوك أن يبين في الفقرات التي ذكرها مؤلف الكتاب عن الكيفية التي يمكن للفرد أن يتملك بها، فذكر الجهد وحماية الدولة لملكية الفرد، ولم يتطرق لهبات الدولة للأفراد أو استغلال أصحاب المال لحاجات الناس للتخلي عن أراضيهم مقابل بعض المال الذي تحدده الحاجة، ولم يتطرق للأراضي التي تنتقل للإفراد عن طريق الإرث بغض النظر عن الطريقة التي حصل عليها الآباء والأجداد.

وهذه مسائل دار ويدور حولها النقاش الاقتصادي في مدارس الفكر السياسي المختلفة من اشتراكية ورأسمالية وغيرها.

(2)

المجتمع المدني الذي وفر الفعل السياسي فرصة قيامه، وأسسته حاجات المِلكية الخاصة، لم يخلق أي حقٍ جديد، بل سجل فقط نقل السلطة التي كانت بيد الأفراد لحماية أنفسهم في حال الفطرة الى سلطة عامة شرعية. فالناس شكلوا المجتمع المدني لأن قوة مصالحهم الجزئية جعلت من الصعوبة بمكان تنظيم سلطة عامة (لغرض تنظيم المِلكية الخاصة وحفظها).

أراد (لوك) أن يقول: أن الغاية الرئيسية للرابطة الإنسانية، في المجتمع المدني، كما هي الحال قبل التفكير فيه، كانت حماية المِلكية الخاصة، فعندما كان الإنسان العاقل يثق بقدراته للدفاع عن مِلكيته الخاصة لم يفكر في تأسيس تقليد جديد يتم فيه التعاون مع الأفراد الآخرين للدفاع عن تلك المِلكية، وعندما أحس بعقله أنه لم يعد باستطاعته الدفاع عن تلك المِلكية، دون التعاون والتنسيق مع الآخرين، فكر بموضوع المجتمع المدني.

يتدرج لوك في تفكيره لشرح موضوع المجتمع المدني انطلاقاً من (الحفاظ على المِلكية فيقول: (السلطة التي يملكها كل إنسان في حال الفِطرة (الطبيعة) ويتخلى عنها للمجتمع ومن ثم للحكام الذين نصبهم المجتمع عليه بثقة صريحة أو ضمنية، لتستخدم من أجل صالحهم، وحفظ ملكيتهم).

(إن الغاية العظيمة والرئيسية للناس المتحدين في جماعات سياسية، يضعون أنفسهم تحت قيادة حكومة، هي المحافظة على ملكيتهم)

(إن أولئك المتحدين في هيئة واحدة، ولديهم قانون ونظام قضائي راسخان وعموميان يمكنهم أن يحتكموا إليهما، ويتمتعون بسلطة للفصل في النزاعات التي تنشب بينهم، ومعاقبة المعتدين، أقول إن أولئك إنما يعيشون في مجتمع مدني: أما أولئك الذين يفتقرون الى مرجعية في هذا العالم يحتكمون إليها فما زالوا في حال الفطرة. فكل واحد منهم، بمعزل عن الآخرين، يحكم وينفذ لنفسه بنفسه).

(3)

لقد كان لتركيز (لوك) على المِلكية الخاصة، والحقوق التي يجب حمايتها من قبل الدولة، أثرٌ بل آثار في تشكيل الليبرالية الحديثة، حيث أصبحت النظرة الأساسية في هذا النمط من التفكير، هو خلق الثروة ومراكمتها.

لقد راق للمفكرين خلال قرن من الزمان فصل بين (جون لوك) الذي فَصَل في كتابه (رسالة ثانية في الحكم) وبين كتاب (آدم سميث) المدوي (ثروة الأمم)، لقد راق لهم فكرة أن المِلكية مستمدة من الطبيعة وليس من العرف أو الامتياز، فنشط المفكرون خلال قرن كامل والذي يسمى بقرن أو عصر (التنوير) في استخدام الحق الطبيعي لتقويض السلطة القائمة على خرافة التفويض الإلهي للحاكم المفوض بموجب مباركة الكنيسة.

وافق جميع المفكرين تقريباً على أن الملكية الخاصة شرط ضروري للاستقلال الخلقي. فبقدر ما يكون الفرد حائزاً على ممتلكات، يكون حُراً في إعمال عقله ومقاومة الخوف والخنوع.

بيد أن النزعة الفردية لم تفضِ بسهولة الى نشوء نظرية متماسكة عن الواجب السياسي، وكان مفكرو عصر التنوير الأوائل عُرضة لاتهام مفاده أن استقلالية الشخص العقلاني تهدد التكافل والمجتمع. فجاءت محاولة (آدم سميث) الشهيرة في نهاية هذا العصر للتوفيق بين الرغبة الخاصة والفضيلة العامة.

هوامش:
* جون لوك: فيلسوف إنجليزي تجريبي ولد في 29/8/1632 في إقليم سمرست، مارس الطب، كان ناصحاً لأنتوني آشلي (وزير العدل الإنجليزي) بعد أن أجرى له عملية جراحية، ففتحت صداقته معه عيونه للانصراف للفلسفة وأمور الدولة، كان معروفاً بأنه الفيلسوف المعادي للفطرية[ من موسوعة الفلسفة/ عبد الرحمن بدوي/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت ط1/1984 صفحة 375 من الجزء الثاني].
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 20-02-2010, 09:15 AM   #12
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الأسس الأخلاقية للمجتمع المدني

أراد آدم فيرغسون، وهو أحد قادة مفكري عصر التنوير الاسكتلندي في القرن الثامن عشر، أن يقيد السلطة السياسية الجزافية، وأن يخفف نفوذ المصلحة الخاصة عبر تأسيس المجتمع المدني على مجموعة من المشاعر الأخلاقية الفطرية*1

فيما كان (هوبز) و (لوك) يريان في المجتمع المدني وسيلة ينتجها التعاقد وتضمنها السياسة بيد أفراد اجتمعوا لتحصيل غاية مقصودة، ومع أنهما وبسبب تشديدهما على الصراعات الشخصية، فشلا في تقديم تفسير مقنع للروابط الاجتماعية؛ فإن (فيرغسون) شن هجوماً أخلاقياً على فكرة ومنطق (المصلحة الشخصية).

لقد اتفق (فيرغسون) مع العديد من معاصريه على أن (هم العيش والبقاء هو الينبوع الأصلي للفعل الإنساني)، ولكنه كان يدرك بوضوح أن الناس يشكلون المجتمعات لأسباب أوسع من مجرد البقاء. فهم قبل كل شيء، كائنات أخلاقية، ولا يمكن للعقل الذرائعي والتقدم الفردي أن يوفرا حياةً متحضرةً. *2

(1)

أصر فيرغسون على أن الرأفة والتعاون المتبادل، والإحسان هي ما يميز التعاملات البشرية، مثلما يعتورها الجشع والوحشية والقسوة. فالأنانية سوف تدفع الناس الى العيش وحيدين، وفي تنافس مع أقرانهم، ولكن القدرة على الاجتماع الطبيعي تمكننا من العيش مع الآخرين، ومساعدتهم، والإفادة من ميلهم لفعل الشيء نفسه.

ويسهب فيرغسون في المقارنة بين حالتي المنافسة البغيضة ومع حالة الرأفة، فيتساءل مستنكراً: هل السجايا الرائعة موجودة في مواطن الزيف، أم السلاطة، والخيلاء التي تروج فيها الموضة، ويتبختر فيها اللطف المتكلف؟ أم في المدن العظيمة والغنية حيث يعيش البشر متنافسين، بعرباتهم وهندامهم وصيت ثرائهم؟ هل في أفنية البلاط الباهرة، حيث نتعلم الابتسام بلا شعور بالمسرة، ونبدي الحنو من دون عاطفة، وفي السر يجرح بعضنا بعضا بأسلحة الحسد والغيرة، ولا عماد لرفعة قدرنا غير ظروف ليس بوسعنا نيلها بشرف دائماً؟

(2)

لم يكن فيرغسون راغباً في تأسيس المجتمع المدني على عقد، ورفض أن يتأمل في حال الفطرة (الطبيعة) السابقة على المجتمع والسابقة على السياسة. فمن البلاهة العودة الى زمان كان فيه البشر من دون أواصر اجتماعية، لأنهم من دون هذه الروابط لم يكونوا بشراً.

إن (المشاعر العظيمة) التي تؤسس طبيعة البشر الاجتماعية هي عواطف فطرية. والمجتمع المدني هو نمط الوجود البشري؛ فنحن ولدنا فيه وله، ولا يُتصور أننا نستطيع العيش خارجه. فتطورنا الخُلقي ورفاهنا المادي يتحققان من خلال ارتباطنا الحميمي بالآخرين، وليس ثمة تناقض بين المصلحة الذاتية الفردية والرفاه الأخلاقي للمجتمع.

إن حال الفطرة (الطبيعة) ليست جنة عدن القصية الغائبة، إنما هي موجودة هنا والآن، تتشكل حيث يعيش البشر معاً.

إن لدينا سبباً للنظر الى وحدة الإنسان مع أبناء نوعه بوصفها أنبل جزء من حظه. فمن هذا المصدر لا يستمد القوة وحسب، بل يستمد وجود أسعد عواطفه؛ ولا يستمد منه أفضل شيء في طبيعته، بل يستمد جُل طبيعته العاقلة. فإذا ما أُرسل إنسانٌ الى الصحراء وحيداً، فسيكون نبتةً اجتثت من جذورها، وقد يبقى شكلها الخارجي، ولكن ستسقط كل ملكاته وتذبل؛ فتتلاشى شخصيته الإنسانية الفريدة وطبيعته الإنسانية.

وعند الحديث عن الصقل، يقول فيرغسون: لا بد من التمييز الكلاسيكي بين البربرية والحضارة. فالناس البدائيون كائنات اجتماعية من حيث طبيعتهم، ولكنهم لا يستطيعون تطوير روابطهم الى أبعد من أواصر القرابة لأنهم يعيشون في حال البؤس والخضوع. فلا يمكن تأسيس حياة أخلاقية متطورة تماماً في بيئة كهذه، ولكن الانتقال من البدائية الى المجتمع المدني تميز في الرغبة بالأمان، وعزوف الأفراد عن (زج كل فرد في خدمة المنفعة العامة). وعليه كان ثمن نضج الإمكانات الأخلاقية للمجتمع المدني باهظاً.

(3)

يحاول فيرغسون أن يتفرد بشيء ـ وهو فعلا قد فعل ـ عندما يجعل من النمو الطبيعي للتطور في المجتمع أمراً مسلماً به، وأن التسريع في الوصول الى التطور بمدة أقصر يتطلب إرادة ونضال متواصلين. وأنه عندما يكون المجتمع غير مستعد للتسريع فإن سمات الانحطاط والتخلف ستظهر عليه.

(إن الذي كان أول من قال: سأتملك هذا الحقل، وسأتركه لورثتي من بعدي) لم يدرك أنه كان يضع أسس القوانين المدنية والمؤسسات السياسية. وإن الذي كان أول من يضع نفسه تحت إمرة قائد، لم يدرك أنه كان يضرب المثال على الخضوع الدائم بذريعة أن السَلاَب كان يستولي على ممتلكاته، والمتغطرس يطالب بخدمته.

(4)

من أهم إسهامات فيرجسون بالتطوير السياسي في معظم أنحاء العالم، هو قانون النتائج غير المتوقعة Law of Unanticipated Consequences. حيث يبين فيه، أن من المهم ألا نتوقع الكثير من التفكير المتروي والعقلانية، لأن التقدم الأخلاقي في بلد ما قد يأتي من أفعال الناس المصلحية الرامية الى ضمان ملكيتهم، أو زيادة التجارة، أو حماية حقوقهم. فالمجتمع المدني متشكل عبر ممارسات عرضية وعادات بقدر ما يتشكل بفعل قواعد صارمة.

المِلكية الخاصة، في المسار العام للشؤون الإنسانية، غير موزعة بالتساوي؛ لذلك فإننا مضطرون للمعاناة من تبديد الأثرياء للثروة، ومن وجوب إدامة الفقراء؛ ومضطرون لأن نحتمل وجود أنظمة معينة تضع بعض البشر فوق الحاجة للعمل، كي يكونوا بحسب حالتهم تلك، موضوعاً للطموح، ومرتبة يتطلع إليها من يكد ويعمل. ولسنا مضطرين لذكر أعداد الذين قد يُنظر إليهم في اقتصاد صارم على أنهم فائضون عن الحاجة في القائمة المدنية، والعسكرية، والسياسية، ولكن لأننا بشر، ونفضل الشغل، والترقي، والسعادة لطبيعتنا على مجرد كونها موجودة، فيجب أن نتمنى لكل جماعة، أن ينال أكبر قدر ممكن من أعضائها حصتهم من المشاركة في الدفاع عنها وفي حكومتها.

(5)

لم يقتنع فيرغسون بأن التحسن الاقتصادي كان نعمة لا تشوبها شائبة. فلعل الإفراط في الحضارة يمثل كارثة للمجتمع المدني نفسه بسبب التشظي الذي تطلق عنانه المصلحة الفردية وتقسيم العمل. والنمو الاقتصادي غير المُقيد يعني أن (المجتمع قد خُلق ليتألف من أجزاء، لا شيء فيها من المجتمع نفسه).

كان فيرغسون قلقاً بشأن النزعة الفردية ذاتها التي كانت ينبوع التقدم الذي لا ينضب. (إن أعضاء جماعة ما قد يشبهون، بهذه الطريقة، مواطني إقليمٍ محتل، فقدوا الإحساس بأي ترابط، سوى رابطة الدم أو الجيرة؛ ولا يشتركون في شؤون معينة يتعاملون بها، سوى التجارة: إن الترابطات، أو في الحقيقة الصفقات، قد تحوي الأمانة والصداقة؛ ولكن تفتقد الروح الوطنية التي نعاين الآن جَزْرَها ومَدها).

نحن نعيش في مجتمعات لا يكون فيها البشر وُجهاء حتى يكونوا أغنياء؛ حيث تُلتمس اللذة نفسها بدافع الخيلاء؛ وحيث الرغبة في سعادة مفترضة تُلهب أبشع الأهواء، فتغدو هي نفسها أساس البؤس؛ حيث العدالة العامة، مثل القيود المطبقة على الجسد، ربما تحول دون الارتكاب الفعلي للجرائم، ولكن دون استلهام مشاعر الصدق والتكافؤ.

كان فيرغسون يقف على أعتاب بدايات التطور الناضج لمجتمع السوق، واستبق ما سيفعله مجيء الرأسمالية بالجماعة الأخلاقية المتجسدة التي كانت بالنسبة له نموذجاً للمجتمع المدني. ولكنه لم يستطع أن يرى المستقبل بوضوح أكبر.

يتبع




هوامش من تهميش المؤلِف

*1ـ Adam B. Selingman, The Idea of Civil Society (New York: Free Press; Maxwell Macmillan International; Toronto: Maxwell Macmillan Canada, 1992. pp25-36

Adam Ferguson, An Easy on the History of Civil Society (New Brunswick, NJ: Transaction Publishers, 1995 p205
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 13-03-2010, 10:27 AM   #13
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

ظهور المجتمع المدني البرجوازي


كان (آدم سميث) أول من صاغ الفهم البرجوازي للمجتمع المدني بصورة دقيقة. وسعيه الى دمج النشاط الاقتصادي وعمليات السوق في فهم وتشريح الحياة المتمدنة مَعْلَمٌ مهم في مسار تطور الفكر الحديث. فعمله الذي انصرف الى ملاحظة انحلال (المركنتلية) [ المركنتلية أو الاتجارية، هي مذهب سياسي واقتصادي ساد بين القرنين السادس عشر والثامن عشر في أوروبا، يرى أن مقدار قوة الدولة يُقاس بما في خزائنها من ذهب ومعادن نفيسة، ولا يقاس بما تنتج الدولة من سلع كما هو سائد الآن].

وقبل أن ندخل في الموضوع دعنا نلقي الضوء على الحراك الفكري والسياسي الذي كان سائداً في الفترة التي ظهر فيها آدم سميث، ونتعرف على شخصية آدم سميث.

كانت معظم دول أوروبا الغربية تعيش حالة ثورات متعددة الأشكال، رافقت التوسع الاستعماري والاستكشافات الجغرافية ونقل الذهب والمعادن من المستعمرات، وخصوصا أمريكا، كما كانت الكنيسة قد بدأت تفقد سيطرتها ومكانتها في التدخل بتنصيب الملوك والأمراء بشكل نهائي، وقد رافق هذه التغيرات حراك فكري وفلسفي سياسي واجتماعي، بدا وكأنه مساجلة، فما أن يخرج أحد المفكرين بنظرية حول الدولة أو الاقتصاد أو فيما يخص الملكيات وهياكل المجتمع المدني، حتى يظهر من يرفض تلك النظرية أو يوافق عليها مع بعض التعديل.. كان المجتمع الفكري والفلسفي منشغلاً في دراسة النظريات القديمة ومواضعتها على ما هو قائم وراهن، وكان هناك من يستنبط نظريات جديدة تستفيد من الماضي وتراعي ما حدث من تطور.

آدم سميث: (1723ـ1790) مفكر اقتصادي بريطاني، من أبرز المنظرين التاريخيين للرأسمالية، درس في جامعة غلاسكو وأكسفورد، من أشهر أعماله، (ثروة الشعوب).. رغم أن الرأسمالية تجاوزت أفكار سميث لكن أفكاره لم تفقد مكانتها التاريخية [من موسوعة السياسة/ عبد الوهاب الكيالي وآخرون/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/الجزء الثالث/ ص239].

(1)

إن غزارة الموضوعات التي تناولها سميث تكشف الى أي مدى كان تقسيم العمل الفكري لا يزال ناقصاً. ولكن القرن الثامن عشر كان قرن رجال الاقتصاد السياسي، وكشف هيمنة علم الاقتصاد على الفروع العلمية الأخرى.

التقى جهد سميث في الهجوم على المركنتلية مع جهد الفيزيوقراطيون الفرنسيون [ جمعية ملخص أفكارها أن ثروة الأمم تأتي بشكل رئيسي من الزراعة]. وقد قال هؤلاء: (إن كل فرد يعمل من أجل الآخرين، حتى لو تخيل أنه يعمل من أجل نفسه فقط. فالنظام الاقتصادي سلس، ومتناغم، ويصحح نفسه بنفسه؛ فينتج من ذلك أنه كلما اقتربت أمة ما من تنظيم نفسها طبقاً لقوانين الطبيعة، زادت استقراراً وازدهاراً) وهؤلاء هم أصحاب الشعار الذي لا يزال ماثلاً حتى أيامنا هذه (دعه يعمل .. دعه يمر).

رغم أن سميث قد التقى مع هؤلاء في الكثير من أفكارهم، لكنه تفوق عليهم في عجزهم في تفسير معقول للرسوم الجمركية والضوابط المقيدة للأصناف، في حين أن سميث استطاع أن يأخذ باعتباره انتشار التسليع والاتجار بالأرض والعمل والأشياء النافعة الأخرى.

وقد تلخص جهد سميث في تأسيس نظرية عن المجتمع المدني تقوم على النشاط الاقتصادي المدفوع بالمصلحة الذاتية والمسند من طرف دولة فاعلة ومؤيدة.

(2)

يرى سميث أن (المجتمع المدني شبكة من الاعتماد المتبادل تنظمها السوق. وإن ما تنقله هذه الشبكة من عمل يقتضي معنى حديثاً دقيقاً للحرية الفردية، ينبغي ألا تكون هناك تقييدات اعتباطية تحول دون أن يزاول أي فرد ما يختاره من عمل)

ويقول في مجال الملكية الفردية (إن ملكية كل فرد لعمله الخاص، باعتبارها الأساس الأصلي لكل ملكية أخرى، مقدسة ومحرمة على أي انتهاك. ويكمن ميراث الفقير في قوة يديه وبراعتهما؛ وإن منعه من استخدام قوته وبراعته بالطريقة التي يعتقد أنها مناسبة من دون إلحاق الحيف بجاره، هو انتهاك سافر لهذه الملكية بالغة القداسة).

فالمجتمع المدني في نظر سميث يشكله تقسيم العمل وتنظمه الأسواق وهو الذي يحيل التبادلات الطوعية بين الأفراد الأحرار الى جوهر حياة متحضرة كلياً.

وعناصر الإنتاج في نظره هي: الأرض، والعمل، ورأس المال. وتؤدي الى ثلاثة أشكال من المكافئات: الريع، والأجور، والأرباح.

(3)

لم يعلق سميث كثيراً على الجانب الأخلاقي، كما فعل من سبقوه، فهو لا يتوقع تشكيل نظام اجتماعي متين بالاعتماد على إحساس فطري بالرفقة أو الأخلاقية، فلا أحد يتوقع أن يحصل على عشائه من مطعم بشكل صدقة ولا على قطعة لحم من جزار، ولا رغيف خبز من خباز مجاناً، إن كل هؤلاء يبحثون عن مصالحهم الذاتية، فلا يجب التوجه الى إنسانيتهم إنما لحبهم لذواتهم، ولا يجب التكلم معهم على ضرورياتنا وإنما لفوائدهم.

لقد كانت النظريات التي سبقت سميث تفترض أن السوق هي التي تنظم ذاتها بذاتها وهي المحرك الدائم للتقدم والازدهار الاقتصاديين. لقد وافق سميث هذه المقولة وزاد عليها لينجز مهمته في تأسيس المجتمع المدني على (نزوع ) إنساني أساسي (نحو التعامل، والمقايضة، والتبادل).

وفي ما يتعلق بالإسراف، أي المبدأ الذي يحض على الإنفاق [نهج متبع في اليابان الآن]، فهو ولعٌ بمتعة حاضرة، هي عموماً مؤقتة وعرضية فقط، على الرغم من أنها أحياناً عنيفة ومن الصعب جداً كبحها. أما المبدأ الذي يحض على الادخار فهو الرغبة في تحسين حالنا، وعلى الرغم من أنها رغبة ساكنة وهادئة عموماً، فهي تصاحبنا منذ ولادتنا ولا تفارقنا إلا بموتنا.

إن عدم الرضا بالحاضر يقف وراء (الرغبة في تحسين حالنا) وعدم الرضا هذا هو السمة الدائمة للحياة الإنسانية. فهو أمر طبيعي لدى البشر.

(4)

إن نظرية النتائج غير المقصودة مكنت سميث من تجسيد الهوة القائمة بين الحافز الفردي والنتائج المنهجية. فالعقل لا يؤدي أي دور في تنظيم الحياة الاجتماعية أو الموازنة بين المصلحة الفردية والصالح العام، أو بين الشهوة الخاصة والرفاه العام.

إن كل فرد يجهد نفسه باستمرار كيما يجد الاستخدام الأكثر ربحاً لأي رأسمال يستطيع أن يديره. فما يدور في ذهنه هو منفعته الخاصة وليس في الحقيقة منفعة المجتمع. ولكن معرفته لمنفعته تقوده بشكل طبيعي، أو بالضرورة، الى تفضيل الاستخدام الأكثر نفعاً للمجتمع.

في الحقيقة أن الفرد بشكل عام، لا يقصد تشجيع المصلحة العامة، ولا يعرف مقدار تشجيعه لها. وبتفضيله دعم الصناعة المحلية على الصناعة الأجنبية يقصد أمانه الخاص فقط؛ فهو يعلم بالفطرة كيف يكون مردود ذلك على كيانه الشخصي ضمن مجتمعه.

ويُعرف سميث على نطاق واسع بأنه مُنظر (اليد اللامرئية) والسوق التي تصحح ذاتها بذاتها.

(5)

يتطرق سميث لواجبات الدولة تجاه المجتمع المدني ويحددها بثلاث واجبات: الأولى أن تحمي المجتمع المدني من الخطر الخارجي، وهذا يقتضي جيشاً، كما يقتضي رفع الحيف عن المواطن بوضع نظام قانوني عادل يراقبه الشعب من خلال مؤسسات متينة. والثانية: إحساس أصحاب الملكية بالأمان، وعدم تكييف القوانين للدفاع عن الأغنياء ضد الفقراء الذين لا يملكون شيئاً. والواجب الثالث: هو إقامة وصيانة المؤسسات العامة والأشغال العامة.

في أغلب البلدان، نجد أن الدخل الحكومي كله، أو تقريباً كله، يُنفق لديمومة أيدٍ غير منتجة، وهذا يهدد في انهيار الدول والمجتمعات.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 10-04-2010, 10:10 PM   #14
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل الخامس: المجتمع المدني والدولة

المجتمع المدني والجماعة الأخلاقية

أدركت المفاهيم الكلاسيكية عن المجتمع المدني أن الحياة الاجتماعية تدور في ميادين منفصلة، ولكن المنظرين لم ينظموا فكرهم حول المصالح الفردية. فالإغريق والرومان، في أغلب الأحوال، وضعوا الصراعات الخاصة في إطار مفاهيم واسعة عن المواطنة.

لم تكن ظاهرة عدم الاتفاق على أساسيات مفهوم المواطنة والمجتمع المدني متعلقة بالفترات التاريخية. بل كانت أيضاً متفاوتة في الأقطار الأوروبية نفسها وفي وقت وتاريخ بعينه، ففرنسا وبريطانيا اللتان كانتا تصدر مفاهيم نظرية عن المواطنة والمجتمع المدني، لم يتفق معها فلاسفة ألمانيا التي لم تتطور الأسواق والصناعة فيها بنفس الدرجة التي كانت في بريطانيا وفرنسا، فكانت الاختلافات في وجهات النظر عند (كانط وهيغل وماركس) تختلف عنها عند آدم سميث وغيره.

(1)

كان (ديفيد هيوم 1711ـ 1776) المؤرخ والفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي، قد خالف من سبقه بإثارته وجوب التمييز بين العقل والمبدأ الأخلاقي، بقوله عن لزوم التمييز بين (ما هو كائن Is) و (ما يجب أن يكون Ought) إذ ثمة حد قاطع يفصل المفاهيم الخلقية المتجذرة في (مشاعر النوع الإنساني وعواطفه) عن الحقائق التي يكشفها العقل.

فكيف يمكن صوغ مفهوم عن الصالح العام تصورياً في بيئة كهذه؟ عن هذا أجاب (هيوم) بأنه لا يمكن الكشف عن الصالح العام من خلال التفكير الخُلقي، كما أنه لا يوجد بمعزل عن مجموع المصالح الفردية. فالقواعد التي يسير وفقها المجتمع المدني غير مستمدة من القانون الخلقي الطبيعي؛ فهي (مصطنعة)، والمجتمع المدني ليس غير تنظيم اتفاقي لغرض السعي وراء الأهداف الخاصة.

لأن العقل الذرائعي يساعد الأفراد على تشخيص مصالحهم، ويدلهم على السبيل الأفضل لتطمينها. لقد حلت الخبرة والعادة محل المبدأ الأخلاقي والفضيلة بوصفهما معيارين للحقيقة. ولا يُتوقع من الناس إتباع القواعد الأخلاقية إلا إذا تم تلبية حاجاتهم المباشرة.

(2)

كان (إيمانويل كانط) أعظم فلاسفة عصر التنوير، وبدأ رده على (هيوم) بالقناعة القديمة القائلة إنه ليس بوسع المصلحة الذاتية أن تقدم أساساً مقبولاً للحياة الإنسانية. أراد كانط تأسيس المجتمع المدني على إحساس باطني بالواجب الخلقي يوحد البشر معاً.

أعلن كانط أن البشر أحرار خلقياً لأنهم يستطيعون معرفة الحق، من دون أن يطلعهم أحدٌ عليه، وأنهم يستطيعون أن يستخلصوا القواعد الخلقية الصحيحة باعتبارها متطلبات يفرضونها على أنفسهم. كان الاسكتلنديون قد قالوا أشياء كثيرة مماثلة، ولكنهم فشلوا في تمييز الحد الذي يمكن أن تتصادم عنده الواجبات الخلقية مع الأهواء، والتحيزات، والشهوات، والرغبات الجامحة. فقد جعلوا الأمور غاية في اليسر والسهولة، ولكن كانط أدرك أن المعنى الأخلاقي لا يُنال بسهولة؛ إنها حالٌ نقاوم فيها بعنف ضبط سلوكنا.

بشر (كانط) بعصر التنوير وعرف التنوير بأنه (هو خروج الإنسان من قصوره المولد ذاتياً) أما تعريف القصور عند كانط فهو (عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه من دون توجيه شخص آخر. فهذا القصور مُوَلَد ذاتياً إذا لم تكن علته الافتقار الى الفهم، إنما الافتقار الى العزم والشجاعة في استخدام قدرة الفهم من دون توجيه خارجي. وإن شعار عصر التنوير هو (( كن شجاعاً واستخدم عقلك)).

(3)

عند تطرقه للحرية، يؤكد (كانط) بأن الحرية (هي إمكانية الاستقلال عن الضرورة التي تحكم العالم المحسوس. وإذا كانت الإرادة تتحدد بقانونها الخاص، فإنها تظل محدودة، لأننا لسنا مثل الله كي نعرف دائماً ما هو الحق بوضوح تام. أدرك كانط أن لنا رغباتنا وأهدافنا التي تفرض علينا مراعاتها. إذ لا يمكن تجاهل المصلحة الخاصة ولا محوها، فشرطنا الإنساني موسوم بتوتر دائم بين ما نريد فعله وما يجب فعله.

إن الإرشاد الى الفعل الخُلقي يناسب الكائنات الناقصة عقلياً، ذلك أن (الفريضة المنطقية) تقدم معيار الحكم الوحيد الذي سيختاره الكائن التام عقلياً، وهو: (اجعل من القاعدة التي تسير على هديها إرادتك مبدأ يوفر القانون الكلي في الوقت نفسه).

كان المجتمع المدني، من وجهة نظر كانط، يمثل مجموعة من الممكنات الملائمة لأناسٍ متحضرين، وقد لاحظ العديد من دارسي كانط أن فكرة (الفريضة المنطقية) هي في الواقع مجموعة من الإجراءات. وقال إنه من السذاجة أن نستطيع الاعتماد على خيرية الآخرين. صحيح أن الفعل الخيِّر مهم، لكن لا يمكن أن يكون منبعاً للعدالة، أو مبدأ يُنظم المجتمع المدني.

إن الاستخدام الحُر للعقل النقدي لا يضمن الاتفاق، إلا أنه يوفر ببساطة مجموعة من قواعد السجال. لأن السجال يمكنه تلطيف المصلحة الفردية المناهضة للمجتمع. هذا السجال سيكون سبباً في قيام نظام اجتماعي يحكمه القانون. وهذا التناحر أو السجال هو ما يسميه كانط (الاستعداد الاجتماعي للااجتماع) لدى الإنسان: أي التناقض بين النزوع الإنساني الى تشكيل المجتمعات المدنية ومقاومة ذلك النزوع في الوقت نفسه.

(4)

إن المشكلة الكبرى للجنس البشري، الذي تجبره الطبيعة على البحث عن حلٍ لها، هي مشكلة إيجاد مجتمع مدني قادر على تطبيق العدالة بشكل كلي. وهذا لن يتحقق إلا في مجتمع يتمتع بأعظم حرية ويتناحر فيما بين أفراده ومؤسساته.

ودولة القانون (Rechtsstaat) هي وحدها التي تستطيع أن توفق بين استقلالية الفرد الأخلاقية ومتطلبات النظام العام؛ حيث يقتضي العقل أن تتحكم المعايير بالعلاقات الإنسانية وتحل النزاعات العامة الكلية ل (الفريضة المنطقية). ويتشكل المجتمع المدني من خلال (علاقة تقوم بين أناسٍ أحرار يخضعون للقانون القسري، بينما يحتفظون بحريتهم ضمن وحدة عامة مع أقرانهم).
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 25-04-2010, 06:16 AM   #15
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

المِكنسة العملاقة


إن الوعد الذي بثته الثورة الفرنسية بإمكانية تأسيس المجتمع المدني والدولة نهائياً على أساسٍ عقلاني ساهم في قلب أفكار جيلٍ كاملٍ من المنظرين. فإذا كانت المؤسسات الاجتماعية والسياسية تستطيع أن تعكس حرية الفرد ومصلحته، فإن الثورة وسمت بطابعها أيضاً الظهور المميز للدولة الحديثة التي جاء انفصالها الرسمي عن العمليات ليغذي التطور المتسارع للمجتمع المدني. فسار البناء كما في الثورات كلها جنباً الى جنب مع التدمير.

وتطَلّب انبثاق الفرد تحطيم البُنَى التراتبية ونقابات الأصناف (Corporate) التي كانت قد شكلت الحياة الفرنسية طيلة قرون. لم تختفِ المؤسسات الوسيطة كلها، ولكن تلك المؤسسات القائمة على الحسب والنسب لم يُكتب لها البقاء طويلاً أمام (مِكنسة الثورة العملاقة).

(1)

لقد أُلغي تقسيم الشعب الفرنسي الى ثلاث طبقات في ليلة الرابع من أغسطس/ آب 1789، وأُنهي رسمياً بمرسوم صدر بعد ثلاثة أشهر. وأُعلن عن مساواة جميع المواطنين في النسب. وأُلغيت امتيازات المدن كُلها، والأقاليم، والمقاطعات، والمديريات، والإمارات.

ولم تعد الدولة مُلكاً شخصياً للملك، ولا إرادته تعبيراً عن السيادة. ومن الآن فصاعداً ستكون الدولة، كما أعلن المجلس التأسيسي، في خدمة مواطنيها. وستتصرف الدولة على وِفق ما يريدون ما دامت قد غدت الممثل للمجتمع بأسره، والهيئة التي تصون القيم الكلية. وألغت الدولة أو حوّلت العديد من الهيئات الوسيطة التي تقوم بينها وبين الفرد.

(2)

أثر إلغاء الامتيازات الإقطاعية في مصائر الكنيسة بشكل مباشر. فقد كانت الكنيسة (دولة ضمن الدولة) بما لها من ممتلكات ومجالس ومؤسسات مالية مستقلة بالإضافة الى نظام (العُشر Tithes) وما الى ذلك.

تلاشت هذه الامتيازات كلها، وبدأت الكنيسة مشوار تحولها الطويل الى مؤسسة روحية. واختفت الأخوات (الطرق) الدينية والأبرشيات التعليمية والخيرية، وأخوية مالطا والكليات القديمة والمشافي، وكل شيء مما كانت ترعاه الكنيسة. وانتقل جزء كبير من ملكية الكنيسة الى الأمة، وكان أعضاء (الأكليروس) موظفين لدى الدولة لفترة من الزمان.

(3)

لم يكن للنبلاء تعبير موحد ناطق باسمهم على غرار الكنيسة، ولكن (النبالة) كانت ممثلة في المجلس العام والمجالس المحلية. فقدت النبالة ألقابها الخاصة، وأزياءها المميزة، وامتيازاتها.

وأُنهيت حقوق القنانة والمزارع الشخصية من دون تعويض، واختفت البلاطات الأرستقراطية. وأُزيلت التمييزات الرسمية كلها بين أراضي النبلاء الإقطاعيين وأراضي العامة، واختفت الاقطاعات والحقوق العرفية وحق الابن البكر بوراثة أبيه، وغيرها من الامتيازات الإقطاعية.

إن قيام المجلس التأسيسي بإزالة التمييزات الرسمية بين النبلاء والعوام مهد الطريق للدولة الحديثة للمواطنة الكلية والقوانين الموحدة. كما حفزت إزالة هذه التمييزات في الوقت نفسه تطور مجتمع مدني تضرب جذوره في الملكية الخاصة وليس في امتيازات الحسب والنسب، مجتمع تديمه العمليات الاقتصادية لا السلطة السياسية.

(4)

كانت البنية السياسية التي انبثقت من الأحداث الأولى للثورة الفرنسية ضعيفة ولا مركزية، ولكن منطق تباطؤ انبثاقها اتجه الى المركزية. فأخضعت الدولة الاقتصاد للإشراف السياسي على امتداد فترة الأزمة الثورية، وبعد الانقلاب ضد (روبسبير) انهارت البنية المركزية واستبدلت لبعض الوقت ببنية ليبرالية حررت الاقتصاد من قيود التوجيه السياسي.

لكن، حروب نابليون بونابرت تطلبت تشديد المركزية، وقد عزز نابليون لجانبها ما سماه بالدولة العقلانية، من خلال تنظيم العلاقة بين الحكومة المركزية والإدارات المحلية، ودوَّن منظومة من القوانين القومية الموحدة، وأسس نظام التعليم الابتدائي، وشجع لغة قومية واحدة، ودشن نظاماً موحداً للموازين والمقاييس، ووضع أسس لنظام صحي قومي ورعاية الأطفال.

(5)

كانت الثورة الفرنسية ثورة من أجل وحدة الأمة من بين أشياء أخرى. وسهل إلغاء الامتيازات المختلفة، وكانت المحصلة تشعباً في الميادين حداثياً بالتحديد. وغدا بالإمكان توسيع الحريات السياسية لتعم القارة الأوروبية برمتها لأن المواطَنة كانت قد فصلت رسميا عن توزيع السلطة السياسية، وباتت دالة على الإقامة في إقليم الدولة.

كانت الثورة الفرنسية جبارة لأن الدولة، على وجه الضبط، لم تعد تقوم على الثروة والمكانة والألقاب الإقطاعية (الخاصة). وإن الفصل الرسمي للسياسة عن الاقتصاد كان بمثابة الإعلان عن ظهور دولة حديثة ومجتمع مدني جزئي منفصل.

__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 12-05-2010, 03:36 PM   #16
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

نظام الحاجات

بدت الثورة الفرنسية وكأنها أتمت حركة الإصلاح الديني بجعل الفرد سيد نفسه وحياته سواء أكان ذلك في شؤون العالم الدنيوي أم الروحي. ودلت على أن النشاط العقلاني الحر يمكن أن يعبر بالملموس عن الحرية الباطنية. ورأى جيل كامل من المفكرين، من بينهم كانط، أن الثورة الفرنسية قد وسمت ظهور الكائنات البشرية باعتبارها (ذوات) تتحكم بتطورها الخُلقي. وبدا الناس، للمرة الأولى، قادرين على أن يكونوا أحراراً ينظمون العالم طبقا لمتطلبات العقل.

(1)

يدخل المؤلف، (جون إهرنبرغ)، في مرحلة جديدة، من تتبع تطور مفهوم المجتمع المدني وأداءه، فيستعرض تحت هذا العنوان الحراك الفكري الأوروبي الذي رافق التغيرات الاقتصادية والسياسية والاستعمارية، ليؤشر على محاولة حسم للمفاهيم التي مهدت لتلك المرحلة والكيفية التي تعامل معها الفلاسفة في تفسير الدوافع لما حدث وسيحدث، ويتناول تحت هذا العنوان، جهود (هيجل)، ومساهماته العظيمة، التي استطاع فيها أن يبين طريقته في الربط بين الماضي الفلسفي القديم (منذ أرسطو) الى المرحلة التي كان يعيشها ويناقش فيها بقوة آراء المفكرين والفلاسفة. مما جعله موضعاً لتبني أفكاره من قبل كل التيارات الفكرية المتصارعة.

ويعتمد المؤلف على كتاب (فنومينولوجيا الروح) لهيجل، والذي صدر في عام 1806، وبالمناسبة لقد صدرت ترجمة لهذا الكتاب المهم باللغة العربية عام 2006 عن المنظمة العربية للترجمة.

(2)

لم يقف هيجل عند موضوعات مختلفة وكأنها مسلمات لا نقاش فيها، فقد اعتبر أن إنزال الأخلاق الى مستوى التشريع الداخلي، يجعلها مفتقرة الى أي مرجع ملموس في عالم العلاقات الاجتماعية الحقيقي. كما توقف هيجل عند مصطلح (كُلِّي) فقال: لا يمكن للكلي أن يوجد باعتباره تجريداً قائماً بذاته، ومستقلاً عن الجزيئات التي تركبه.

ويقول هيجل بصدد الحرية: (الإنسان لا يُولد حراً. إنما نحن نصير أحراراً هكذا إلا من خلال وعينا بتاريخنا، بوصفنا كائنات اجتماعية).

فتح تصوُر هيجل للحرية البابَ واسعاً أمام النظريات الحديثة كلها التي تدرس المجتمع المدني بمعزلٍ عن الدولة. فكان أول من طوّر مفهوم الحداثة بإحكام بوصفها ميادين متميزة، ووضع بذلك نهاية للاتجاهات النظرية المبكرة السائدة. وأن ميادين الحياة الاجتماعية الثلاثة ـ العائلة، والمجتمع المدني، والدولة ـ هي بُنى مختلفة للتطور الأخلاقي.

(3)

تشكل العائلة [عند هيجل] الحياة الأخلاقية في طورها الطبيعي، وتميل العائلة الى كبت الخلافات بين أعضائها لأنها مبنية على حب الجميع، وإيثارهم، والحرص عليهم. وفي حالة نشوب صراع، فإن حاجات الآخرين، وحاجات الجميع، يجب أن تفوق حاجات الفرد. ويتوجب على كل فرد أن يكون مستعداً للتضحية من أجل أي عضو آخر؛ فما من عائلة يُكتب لها البقاء طويلاً إذا كان أعضاؤها مسوقين بالمصلحة الشخصية.

والمبدأ الخُلقي العائلي (يكمن في الشعور والوعي والإرادة، غير المقصورة على شخصية فرد ومصلحته، بل تشمل المصالح المشتركة لأعضاء العائلة عموما).

لكن الحياة الأخلاقية ليست دائمة وتنحل ما إن ينضج الأطفال ويميزون أنفسهم عن آبائهم ويخرجون الى العالم ليكسبوا ملكيتهم ويكونوا عوائل جديدة.

(4)

إن المجتمع المدني هو (نفي) للحظة الأخلاقية الجوهرية للعائلة. وإذا كانت العائلة تتشكل عبر نكران الذات والوحدة، فإن المجتمع المدني هو الحياة الأخلاقية متجسدة في حال من التنافس والخصوصية. ويتصرف أفراد المجتمع المدني طبقا لمصالحهم الذاتية التي يرونها، ويعنون بتوفير حاجاتهم الفردية، وينساقون على الدوام وراء معاملة الآخرين باعتبارهم وسائل لتحقيق غاياتهم.

وحيث توحد العائلة أعضاءها على أساس ما يشتركون فيه، يقسم المجتمع المدني أعضاءه على أساس اختلافاتهم. ويضطر الأفراد الى التصرف بأنانية وذرائعية أحدهم مع الآخر، ولكنهم لا يستطيعون توفير حاجاتهم، ولا تحسين مصالحهم المتبادلة، ولا بناء مجموعة من العلاقات الاجتماعية المتينة.

إن العائلة في الأصل هي الوحدة الذاتية التي تعيل الفرد في جانبه الجزئي بأن تقدم إليه الوسائل أو المهارة الضرورية التي تؤهله لكسب رزقه من موارد المجتمع، أو العيش في حال الكفاف إن كان يشكو من عوق دائم. ولكن المجتمع المدني ينتزع الفرد من صلاته العائلية، ويبعد أعضاء العائلة أحدهم عن الآخر، ويعترف بهم بصفتهم أشخاصاً قائمين في ذواتهم. وهكذا يصير الفرد ابناً للمجتمع المدني الذي يُحَمّله أعباءً كثيرة ويقدم إليه حقوقاً [كتاب هيجل المذكور صفحة148].

(...يفرخ المجتمع المدني اللامساواة على الدوام، واكتشاف هيجل أن البؤس هو المشكلة الكبيرة التي يطرحها المجتمع المدني ولكن لا يستطيع حلها، هو اكتشاف استبق انعطافه نحو الدولة). [الكتاب 123]

عندما ينحط المستوى الحياتي للسواد الأعظم من الناس الى ما دون مستوى الكفاف، وعندما ينعدم بالتالي الإحساس بالحق والباطل، وينعدم الإحساس بالاستقامة واحترام الذات الذي يجعل الإنسان يصر على إعالة نفسه بعمله وجهده الخاصين، فإن النتيجة هي خلق حشد من المعوزين. وهذا سيجلب معه، في الوقت نفسه، في الطرف الآخر من السلم الاجتماعي، شروطاً تسهل بشكل كبير من تركيز الثروة غير المتكافئة في يد القلة. [ص 150].

(5)

إن نظام الحاجات هو حال من الاعتماد المتبادل، لأن عمل الفرد لم يعد يضمن له توفير حاجاته. وفي النهاية يغدو المجتمع المدني ميداناً مغترباً، وغير حر، وغير عادل، فالسلطة المغرّبة عن الفرد، الذي لا سلطان له عليها، هي التي تحدد ما إذا كانت حاجاته سوف تُلَبَى أم لا.

والمجتمع المدني الذي يتحول بفعل ديناميته الى نفي للحرية، ينتج جمهرة بالغة الخطورة من الفقراء المسيسين والمغربين؛ (( تتكون الحشود الفقيرة عندما يرتبط البؤس بموقف فكري، وسخط داخلي ضد الأغنياء، وضد المجتمع، وضد الحكومة الخ)).

((عندما تأخذ الجماهير بالانحطاط الى مستوى البؤس، فإن عبء المحافظة على مستواهم الحياتي الطبيعي يُلقى مباشرة على عاتق الطبقات الأغنى، أو أنهم يتلقون وسائل العيش من مصادر الثروة العامة (الأديرة، المستشفيات، المؤسسات الخيرية الخ).

إن عجز المجتمع المدني عن التغلب نهائياً على اللامساواة الطبيعية للهمجية يؤدي الى تضاؤل إمكاناته الأخلاقية. وإن ارتكاز المجتمع المدني على الخصوصية والأنانية يقوض الإمكانات الرسمية للحرية. وما دامت فوضى المصالح متفشية بشكل عام، فإن الثروة المفرطة ستقترن بالبؤس المفرط. ولسوف يتكللان في ما يسميه هيجل (البربرية).

(6)

والدولة، كما يراها هيجل، هي الميدان الأخلاقي للكلية والتكامل الذي يختتم الضرورة المتحكمة بالمجتمع المدني وحق الخصوصية السائد فيه. إن الدولة العادلة هي التحقق النهائي للروح في التاريخ لأنها قائمة على الحرية وليس القسر. فالدولة مقولة أخلاقية لأنها توفق بين تناحرات المجتمع المدني، وتغطي المشاغل الكلية للبشر بالمعنى الأوسع لهذا المصطلح.

وإن الدولة هي استكمال للحظة العائلة ولحظة المجتمع المدني، من حيث هما لحظتان أخلاقيتان، وهي تستكمل ذلك لأنها تقف بمعزل عن الاثنتين. إن منطق الدولة يختلف عن منطق المجتمع المدني، وإذا ما أعلن عن الغاية المحددة للدولة هي تأمين الملكية والحرية الشخصية وحمايتهما، تصبح مصلحة الأفراد بحد ذاتها هي الغاية النهائية لترابطهم.

فما دامت الدولة هي العقل الموضوعي، فإن الفرد نفسه، بوصفه أحد أعضائها، يتمتع بالوجود الموضوعي، والفردية الأصيلة، والحياة الأخلاقية.

قد تصل مصالح المنتجين والمستهلكين المختلفة حد التصادم؛ وعلى الرغم من أن التوازن العادل بينها قد يحدث آلياً، يظل توافقها بحاجة الى سيطرة تقف فوق كل منها، وتدار بشكل واعٍ، وهو دور الدولة.

في العائلة يختفي العقل وراء الشعور والعاطفة؛ وفي المجتمع المدني يظهر العقل باعتباره أداة للمصلحة الفردية الذاتية. ولكن في الدولة فقط يصبح العقل واعيا بذاته ويفيد في التحرر الإنساني.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 12-05-2010, 03:40 PM   #17
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

نظام الحاجات

بدت الثورة الفرنسية وكأنها أتمت حركة الإصلاح الديني بجعل الفرد سيد نفسه وحياته سواء أكان ذلك في شؤون العالم الدنيوي أم الروحي. ودلت على أن النشاط العقلاني الحر يمكن أن يعبر بالملموس عن الحرية الباطنية. ورأى جيل كامل من المفكرين، من بينهم كانط، أن الثورة الفرنسية قد وسمت ظهور الكائنات البشرية باعتبارها (ذوات) تتحكم بتطورها الخُلقي. وبدا الناس، للمرة الأولى، قادرين على أن يكونوا أحراراً ينظمون العالم طبقا لمتطلبات العقل.


(1)

يدخل المؤلف، (جون إهرنبرغ)، في مرحلة جديدة، من تتبع تطور مفهوم المجتمع المدني وأداءه، فيستعرض تحت هذا العنوان الحراك الفكري الأوروبي الذي رافق التغيرات الاقتصادية والسياسية والاستعمارية، ليؤشر على محاولة حسم للمفاهيم التي مهدت لتلك المرحلة والكيفية التي تعامل معها الفلاسفة في تفسير الدوافع لما حدث وسيحدث، ويتناول تحت هذا العنوان، جهود (هيجل)، ومساهماته العظيمة، التي استطاع فيها أن يبين طريقته في الربط بين الماضي الفلسفي القديم (منذ أرسطو) الى المرحلة التي كان يعيشها ويناقش فيها بقوة آراء المفكرين والفلاسفة. مما جعله موضعاً لتبني أفكاره من قبل كل التيارات الفكرية المتصارعة.

ويعتمد المؤلف على كتاب (فنومينولوجيا الروح) لهيجل، والذي صدر في عام 1806، وبالمناسبة لقد صدرت ترجمة لهذا الكتاب المهم باللغة العربية عام 2006 عن المنظمة العربية للترجمة.

(2)

لم يقف هيجل عند موضوعات مختلفة وكأنها مسلمات لا نقاش فيها، فقد اعتبر أن إنزال الأخلاق الى مستوى التشريع الداخلي، يجعلها مفتقرة الى أي مرجع ملموس في عالم العلاقات الاجتماعية الحقيقي. كما توقف هيجل عند مصطلح (كُلِّي) فقال: لا يمكن للكلي أن يوجد باعتباره تجريداً قائماً بذاته، ومستقلاً عن الجزيئات التي تركبه.

ويقول هيجل بصدد الحرية: (الإنسان لا يُولد حراً. إنما نحن نصير أحراراً هكذا إلا من خلال وعينا بتاريخنا، بوصفنا كائنات اجتماعية).

فتح تصوُر هيجل للحرية البابَ واسعاً أمام النظريات الحديثة كلها التي تدرس المجتمع المدني بمعزلٍ عن الدولة. فكان أول من طوّر مفهوم الحداثة بإحكام بوصفها ميادين متميزة، ووضع بذلك نهاية للاتجاهات النظرية المبكرة السائدة. وأن ميادين الحياة الاجتماعية الثلاثة ـ العائلة، والمجتمع المدني، والدولة ـ هي بُنى مختلفة للتطور الأخلاقي.

(3)

تشكل العائلة [عند هيجل] الحياة الأخلاقية في طورها الطبيعي، وتميل العائلة الى كبت الخلافات بين أعضائها لأنها مبنية على حب الجميع، وإيثارهم، والحرص عليهم. وفي حالة نشوب صراع، فإن حاجات الآخرين، وحاجات الجميع، يجب أن تفوق حاجات الفرد. ويتوجب على كل فرد أن يكون مستعداً للتضحية من أجل أي عضو آخر؛ فما من عائلة يُكتب لها البقاء طويلاً إذا كان أعضاؤها مسوقين بالمصلحة الشخصية.

والمبدأ الخُلقي العائلي (يكمن في الشعور والوعي والإرادة، غير المقصورة على شخصية فرد ومصلحته، بل تشمل المصالح المشتركة لأعضاء العائلة عموما).

لكن الحياة الأخلاقية ليست دائمة وتنحل ما إن ينضج الأطفال ويميزون أنفسهم عن آبائهم ويخرجون الى العالم ليكسبوا ملكيتهم ويكونوا عوائل جديدة.

(4)

إن المجتمع المدني هو (نفي) للحظة الأخلاقية الجوهرية للعائلة. وإذا كانت العائلة تتشكل عبر نكران الذات والوحدة، فإن المجتمع المدني هو الحياة الأخلاقية متجسدة في حال من التنافس والخصوصية. ويتصرف أفراد المجتمع المدني طبقا لمصالحهم الذاتية التي يرونها، ويعنون بتوفير حاجاتهم الفردية، وينساقون على الدوام وراء معاملة الآخرين باعتبارهم وسائل لتحقيق غاياتهم.

وحيث توحد العائلة أعضاءها على أساس ما يشتركون فيه، يقسم المجتمع المدني أعضاءه على أساس اختلافاتهم. ويضطر الأفراد الى التصرف بأنانية وذرائعية أحدهم مع الآخر، ولكنهم لا يستطيعون توفير حاجاتهم، ولا تحسين مصالحهم المتبادلة، ولا بناء مجموعة من العلاقات الاجتماعية المتينة.

إن العائلة في الأصل هي الوحدة الذاتية التي تعيل الفرد في جانبه الجزئي بأن تقدم إليه الوسائل أو المهارة الضرورية التي تؤهله لكسب رزقه من موارد المجتمع، أو العيش في حال الكفاف إن كان يشكو من عوق دائم. ولكن المجتمع المدني ينتزع الفرد من صلاته العائلية، ويبعد أعضاء العائلة أحدهم عن الآخر، ويعترف بهم بصفتهم أشخاصاً قائمين في ذواتهم. وهكذا يصير الفرد ابناً للمجتمع المدني الذي يُحَمّله أعباءً كثيرة ويقدم إليه حقوقاً [كتاب هيجل المذكور صفحة148].

(...يفرخ المجتمع المدني اللامساواة على الدوام، واكتشاف هيجل أن البؤس هو المشكلة الكبيرة التي يطرحها المجتمع المدني ولكن لا يستطيع حلها، هو اكتشاف استبق انعطافه نحو الدولة). [الكتاب 123]

عندما ينحط المستوى الحياتي للسواد الأعظم من الناس الى ما دون مستوى الكفاف، وعندما ينعدم بالتالي الإحساس بالحق والباطل، وينعدم الإحساس بالاستقامة واحترام الذات الذي يجعل الإنسان يصر على إعالة نفسه بعمله وجهده الخاصين، فإن النتيجة هي خلق حشد من المعوزين. وهذا سيجلب معه، في الوقت نفسه، في الطرف الآخر من السلم الاجتماعي، شروطاً تسهل بشكل كبير من تركيز الثروة غير المتكافئة في يد القلة. [ص 150].

(5)

إن نظام الحاجات هو حال من الاعتماد المتبادل، لأن عمل الفرد لم يعد يضمن له توفير حاجاته. وفي النهاية يغدو المجتمع المدني ميداناً مغترباً، وغير حر، وغير عادل، فالسلطة المغرّبة عن الفرد، الذي لا سلطان له عليها، هي التي تحدد ما إذا كانت حاجاته سوف تُلَبَى أم لا.

والمجتمع المدني الذي يتحول بفعل ديناميته الى نفي للحرية، ينتج جمهرة بالغة الخطورة من الفقراء المسيسين والمغربين؛ (( تتكون الحشود الفقيرة عندما يرتبط البؤس بموقف فكري، وسخط داخلي ضد الأغنياء، وضد المجتمع، وضد الحكومة الخ)).

((عندما تأخذ الجماهير بالانحطاط الى مستوى البؤس، فإن عبء المحافظة على مستواهم الحياتي الطبيعي يُلقى مباشرة على عاتق الطبقات الأغنى، أو أنهم يتلقون وسائل العيش من مصادر الثروة العامة (الأديرة، المستشفيات، المؤسسات الخيرية الخ).

إن عجز المجتمع المدني عن التغلب نهائياً على اللامساواة الطبيعية للهمجية يؤدي الى تضاؤل إمكاناته الأخلاقية. وإن ارتكاز المجتمع المدني على الخصوصية والأنانية يقوض الإمكانات الرسمية للحرية. وما دامت فوضى المصالح متفشية بشكل عام، فإن الثروة المفرطة ستقترن بالبؤس المفرط. ولسوف يتكللان في ما يسميه هيجل (البربرية).

(6)

والدولة، كما يراها هيجل، هي الميدان الأخلاقي للكلية والتكامل الذي يختتم الضرورة المتحكمة بالمجتمع المدني وحق الخصوصية السائد فيه. إن الدولة العادلة هي التحقق النهائي للروح في التاريخ لأنها قائمة على الحرية وليس القسر. فالدولة مقولة أخلاقية لأنها توفق بين تناحرات المجتمع المدني، وتغطي المشاغل الكلية للبشر بالمعنى الأوسع لهذا المصطلح.

وإن الدولة هي استكمال للحظة العائلة ولحظة المجتمع المدني، من حيث هما لحظتان أخلاقيتان، وهي تستكمل ذلك لأنها تقف بمعزل عن الاثنتين. إن منطق الدولة يختلف عن منطق المجتمع المدني، وإذا ما أعلن عن الغاية المحددة للدولة هي تأمين الملكية والحرية الشخصية وحمايتهما، تصبح مصلحة الأفراد بحد ذاتها هي الغاية النهائية لترابطهم.

فما دامت الدولة هي العقل الموضوعي، فإن الفرد نفسه، بوصفه أحد أعضائها، يتمتع بالوجود الموضوعي، والفردية الأصيلة، والحياة الأخلاقية.

قد تصل مصالح المنتجين والمستهلكين المختلفة حد التصادم؛ وعلى الرغم من أن التوازن العادل بينها قد يحدث آلياً، يظل توافقها بحاجة الى سيطرة تقف فوق كل منها، وتدار بشكل واعٍ، وهو دور الدولة.

في العائلة يختفي العقل وراء الشعور والعاطفة؛ وفي المجتمع المدني يظهر العقل باعتباره أداة للمصلحة الفردية الذاتية. ولكن في الدولة فقط يصبح العقل واعيا بذاته ويفيد في التحرر الإنساني
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 27-05-2010, 11:48 AM   #18
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

سياسة الثورة الاجتماعية


كان لنظرية هيجل عن المجتمع المدني الدور الأكبر في صياغة البيان الشيوعي في العام 1848. فقد وجد به ماركس كما وجد به الجمهوريون واليساريون والاشتراكيون ثغرات كثيرة؛ وقد كان لعجز الثورة الفرنسية في تحقيق المساواة والعدالة، مع التطورات الصناعية الكبرى، الأثر في إطلاق العنان لجهود الفلاسفة والمفكرين في محاكمة نظريات هيجل، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الكل كان متفقاً معه على نظام الحاجات.

(1)

لم يكن نقد ماركس لهيجل في نظرته فيما يخص المجتمع المدني فحسب، بل كان نقده لمفهوم هيجل عن الدولة ودورها، كما كان نقده منصباً على فكرة المجتمع المدني نفسه. فقد أنكر ماركس المجتمع المدني الذي تحدث عنه هيجل، فقال: إنه مجتمع مدني برجوازي. وقد جاء هذا المجتمع بتشكيلاته من خلال تطور مناهضة البرجوازية للأرستقراطية، فلهذا السبب لا يستحق اسم المجتمع المدني.

كما أنه انتقد فكرة هيجل عن الدولة باعتبارها دولة تحقق العدالة والمساواة، فلو حققت الدولة العدالة والمساواة فلا حاجة للدولة عندها، لأنه لن يكون لها دور، طالما أن العدالة والمساواة هما السائدتان. لكن كون هناك لا مساواة ولا عدل، فإن الدولة تستحق ضرورتها التي اقترحها هيجل!

أما أن الدولة هي التي تشكل المجتمع المدني، حسب رؤية هيجل، فهو قول مغلوط، لأن المجتمع المدني هو الذي يشكل الدولة.

(2)

لم يكتفِ ماركس بنقد هيجل في موضوع الدولة والمجتمع المدني، بل انتقده كما انتقد تلاميذه وأتباعه ولاحق أفكارهم عن تلك المقولات وعن رؤيتهم عن معنى الحرية. فدعوة هيجل وتلاميذه عن عزل الدين عن الدولة وترك الحرية للأفراد أن يزاولوا ما يرون من معتقدات دينية، هي دعوة تحمل تناقضها داخلها (حسب رأي ماركس).

أحد تلاميذ هيجل ويدعى (برونو باور) امتدح الثورة الفرنسية بعزلها الدين عن الدولة وإعطاء الحريات الدينية للطوائف (اليهود مثلاً) حيث قال: إن التحرر من كل دين يمكن أن يحمي الديمقراطية من الرجعية الإقطاعية. تهكم ماركس من هذا الرأي وقال: (إن باور رأى الأشجار ونسي الغابة، فإبعاد الدين عن السياسة لن يمحو اللامساواة الاقتصادية والسياسية. كما أن تحرر الدولة من الدين لا يعني تحرر الإنسان من الدين) [ماركس وإنجلز: في المسألة اليهودية].

في رأي ماركس، لم تمس الثورة الفرنسية المجتمع المدني البرجوازي، وادعائها بتحقيق الحرية لم يتأسس على ارتباط الإنسان بالإنسان، إنما على فصل الإنسان عن الإنسان. إنه حق (الانفصال)، حق الفرد المتقهقر الى ذاته.

(3)

وسم ماركس الثورة الفرنسية، بأنها ثورة جزئية، تلك الثورة التي تترك دعامات البيت قائمة في مكانها. أما الثورة الشاملة، فهي تلك الثورة التي تطال كل مناحي الحياة، يتحرر الإنسان الحقيقي فيها من خلال ما أسماه (الانعتاق الإنساني).

ما هي واسطة هذا الانعتاق؟ إن التحولات المبكرة في أوروبا جرت بقيادة ذلك الجزء من السكان الذي جعله موقعه المتقدم يزعم أنه يجسد العلاقات الاجتماعية للمجتمع. ولاحظ ماركس بهذا الصدد: (أنه ما من طبقة في المجتمع المدني يمكن أن تقوم بهذا الدور، من دون أن تثير في نفسها وفي الجماهير لحظة من الحماسة، لحظة تتآخى فيها وتندمج مع المجتمع بعامة، فيتصورها الناس أنها هي كل المجتمع المدني، ويعدونها ويعترفون بها بوصفها ممثله العام، لحظة تكون فيها مطالب وحقوق هذه الطبقة هي بالفعل حقوق المجتمع نفسه ومطالبه؛ لحظة تصبح فيها فعلاً رأس المجتمع وقلبه ولا يمكن لطبقة معينة أن تعلن هيمنتها إلا باسم حقوق المجتمع عامة).

عن أي طبقة يتحدث ماركس هنا؟ إنه يتحدث عن طبقة (البروليتاريا) عديمة الملكية، والتي لم تشملها جهود التطوير في القوانين والنظريات التي قام بها البرجوازيون لصالح البرجوازية نفسها.

(4)

في النظريات البرجوازية، لا تبرز أسماء البرجوازيين فيها، بل يبرز إنتاجهم من السلع، والنظريات تنظم علاقة السوق لتبادل تلك السلع. حسناً، إن (البروليتاريا) لديها أكبر السلع وأعظمها وأكثرها أهمية، إنها العمل، فالعامل يبيع جهده في سوق السلع كسلعة، وكون جهده يدخل كمادة خام في كل السلع، فتستحق الطبقة العاملة أن تكون هي من يقرر شكل العلاقات العامة، وتستحق أن تكون هي من يمثل المجتمع.

إن التحرر في رأي ماركس، هو إلغاء المجتمع المدني، بل وإلغاء الطبقات، وهي دعوة شاملة لتدمير النظام العالمي الذي كان قائماً لذاك الوقت.

كان الاقتصادي السياسي الكلاسيكي يرى الإنتاج، والاستهلاك، والتوزيع، والتبادل بوصفها عمليات منفصلة، ولكن ماركس كان مقتنعاً بأن أي نظام اجتماعي لا يمكن أن يُفهم إلا بوصفه (نمط إنتاج). ذلك أن الفوضى التي تخلقها السوق تُظهر أن المجتمع المدني يشكل بفعل أنواع من العمليات الاقتصادية غير المترابطة. أما ماركس فكان يرى ببصيرته أن العلاقات الاجتماعية كلها كانت تؤلف لحظات إنتاج مهما بدت مستقلة.

(5)

يقول ماركس: إن كل طبقة تهدف الى الهيمنة، حتى عندما تكون هيمنتها، كما في حال البروليتاريا، مفضية الى إلغاء الشكل القديم للمجتمع بتمامه ولكل الهيمنة بشكل عام. أقول (القول لماركس) إن هذه الطبقة يجب أولاً أن تنتزع السلطة السياسية لتمثل مصلحتها بوصفها المصلحة العامة.

إن الخطوة الأولى في ثورة الطبقة العاملة هي رفع البروليتاريا الى موقع الطبقة السائدة لتحقيق الانتصار في معركة الديمقراطية. سوف تستخدم الطبقة العاملة سيادتها السياسية لتنزع تدريجيا كل رأسمال البرجوازية، ولمركزة وسائل الإنتاج كلها بيد الدولة، أي بيد البروليتاريا المنظمة باعتبارها طبقة سائدة.

عندما تتلاشى التمايزات الطبقية في مجرى التطور، ويوضع الإنتاج بأسره بأيدي اتحاد واسع من الأمة كلها، تفقد السلطة العامة طبيعتها السياسية.

وبدلاً من المجتمع البرجوازي القديم، بطبقاته وتناحراته، سيكون لدينا اتحاد يكون فيه أي تطور حر للفرد شرطاً للتطور الحر للمجموع.


تعليق:
أكثر ماركس في كتاباته، استخدام كلمة (عندما) وذلك لصعوبة تحقيق مثل تلك الخطوات أو تنفيذ ذلك الجهد النظري وتحويله لإجراءات. وقد ثبت ذلك في المشاهد المتلاحقة منذ محاولة الثورة البلشفية تبني تلك الأطروحات. فقد أصبح الإتحاد السوفييتي من أكثر الدول صرامة وتنظيماً، في حين كان في النظريات (لا للدولة ولا للقومية ولا للدين)، أما في موضوع القومية: فرأينا كيف تحالفت القوميات غير الروسية مع هتلر وتعاونت ضد الدولة السوفييتية، وفي الدين: لم تستطع 73 سنة من حكم الشيوعيين أن تمحو من الذاكرة الدين الإسلامي من نفوس سكان الجمهوريات الخارجة من الاتحاد السوفييتي أو الجمهوريات ضمن روسيا الاتحادية (الشيشان، الأنجوش، داغستان، تتارستان، بشكيريا الخ). أو حتى عودة الأرثوذكس لتغيير أسماء مدن (لينينغراد: سان بطرس بورغ) (ستالينغراد: فولغا) الخ.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 14-06-2010, 12:45 PM   #19
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل السادس: المجتمع المدني والتنظيمات الوسيطة

الجمهورية الأرستقراطية

يربط المؤلف (جون إهرنبرغ) وحدات كتابه بعناية فائقة، متجولاً بين مفكري أوروبا بشكل متتابع لكل مفكر ومتجادل مع من سبقه، ليصل في نهاية كتابه الى رسالته التي أراد الوصول إليها من خلال كتابه.

يتحدث المؤلف في هذا الباب من هذا الفصل، عن (شارل لوي دي سيكوندا: المعروف باسم مونتسكيو) والمولود في جنوب غرب فرنسا قرب (بوردو) عام 1689، والذي يُعتبر أول داعية بوضوح لمسألة (فصل السلطات)

(1)

كان مونتسكيو ابن القاضي، ورئيس المحكمة البرلمانية، مثقفاً ساخراً، يميل للتورية في كتاباته، فهو ابن عائلة برجوازية قريبة من البلاط الفرنسي. كان يريد تقديم النصح للملك الفرنسي، ولكن بطريقة غير مباشرة، وكان معجباً بالنتائج التي أسفرت عنها الثورة الإنجليزية، حاله حال كثير من فلاسفة عصر التنوير.

بدا لمونتسكيو أن النظام الاجتماعي المتسامح والمرن في إنجلترا قد أنهى قرناً صاخباً من دون السقوط في مهاوي التطرف والاستبداد أو الفوضى. فقد تأسس في إنجلترا مجتمعٌ مقسمٌ الى ثلاث طبقات: الملك والنبلاء والعامة، وكلها تتبع لمؤسسات العرش: مجلس اللوردات ومجلس العموم. وهذا قد جسَد بضم الواحد، والقلة، والكثرة في دستور سعيد وحكيم. كانت الدولة والمجتمع واحداً؛ والنشاط الاقتصادي والسلطة السياسية يحددان بعضهما بعضاً، على نحو متبادل، ففقدت الأرستقراطية دورها المهيمن ولكنها لم تتعرض للتدمير.

لقد برَّرت الأرستقراطية، على الدوام، احتكارها الأرض بالقول إنه ما دامت سلطتها وملكيتها مستقلتين عن كل من إرادة الملك وانفعالات الرعاع، فإنها الطبقة الوحيدة القادرة على التوسط بينهما.

(2)

مَيَّز مونتسكيو بين ثلاثة أشكال من الحكومات: الحكومة الجمهورية التي يمسك زمام السلطة فيها جميع الناس (الديمقراطية)، أو أن عوائل معينة (أرستقراطية) تمسك بسلطة السيادة؛ أو الحكومة الملكية التي يمسك فيها الأمير بزمام السلطة، ولكنه يمارسها طِبقاً لقوانين راسخة؛ وحكومة الاستبداد وهي فساد النظام الملكي الذي لا يحكمه قانون، إنما أهواء الأمير ونزواته هي التي تسيره.

وأفضل وصف للاستبداد هو أنه مَلَكية من دون الهيئات الوسيطة للأرستقراطية؛ (إذا أنت ألغيت صلاحيات اللوردات، ورجال الدين، والنبلاء، والبلدات في نظام ملكي، فسرعان ما سيكون لك دولة شعبية، أو دولة استبدادية)*1

وإن الحرية تقتضي تقسيم السلطة وتوزيعها عن طريق مؤسسات جمهورية أرستقراطية: (تشكل السلطات الوسيطة، والخاضعة، والتابعة، طبيعة أي حكومة ملكية، أي طبيعة الحكومة التي يحكم فيها واحد أوحَد اعتماداً على قوانين أساسية. وأقول سلطات وسيطة، وتابعة؛ لكن الواقع أن الأمير، في نظام ملكي، يكون مصدر السلطة السياسية والمدنية بأسرها.)

(إن السلطة الطبيعية، الوسيطة، الخاضعة، هي سلطة النبلاء. فطبقة النبلاء تمثل، بطريقة ما، جوهر النظام الملكي، الذي تقول بديهيته الأساسية: لا ملكية من دون نبلاء، ولا نبلاء من دون ملكية، فمن غير ذلك سيكون هناك مستبد أوحد)*2

(3)

رأى مونتسكيو أن الأنظمة الملكية أكثر استقراراً من أنظمة الاستبداد؛ وذلك لأن هيئاتها الوسيطة تمكنها من تشكيل علاقات منفعة متبادلة بين الملك والنبلاء. ويقتضي هذا توزيع السلطة السياسية طبقا للمكانة الاجتماعية والثروة.

لن يشعر المستبد دائما بالرضا، لكن ملكاً حكيماً يتفهم أن الحفاظ على الامتياز المحلي والتفاوتات الاجتماعية هو أمر جوهري لسلامة الدولة برمتها.

المستبد هو الرجل الخاص الذي ارتقى الى سدة القيادة العامة؛ وهو لا يستطيع أن يحكم مملكة مستقرة لأنه لا يعرف غير رغباته الخاصة، ولا يمكن أن يسمح بقيام مراكز أخرى للسلطة. أما المَلِك، الذي يعرف كل مقاطعة من مقاطعاته، فيمكن أن يضع قوانين متنوعة، وأن يجيز أعرافاً مختلفة.

إن الاستبداد الذي يسوِّي الجميع في مرتبة واحدة خصم لدود للتحرر والاستقرار، لأنه يهاجم التراتبيات التي تسند قاعدة الحكم المعتدل والمسئول.

وهكذا عندما يجعل الإنسان من نفسه مستبداً بلا حدود، تكون فكرته الأولى أن يبسط القوانين. وفي هذه الدول، ينشغل المستبد بإقامة العوائق الجزئية أكثر من انشغاله بحرية رعاياه*3

(4)

البشر متساوون في الحكومة الجمهورية؛ وهم متساوون لدى الحكومات المستبدة؛ في الأولى لأنهم كل شيء، وفي الثانية لأنهم لا شيء.

يطرح مونتسكيو فكرة (مجتمع المجتمعات) أي إقامة فدرالية الهيئات الوسيطة التي تستطيع أن تخدم التحرر بتقييد كل من السلطة التنفيذية وعنف الدهماء. والدولة المختلطة المتشكلة على هذا النحو ستجمع الفضيلة المدنية للنظام الجمهوري مع السلطة الخارجية للنظام الملكي، وهي تقاوم التحلل الداخلي والغزو الأجنبي.

ويميل بل ينحاز مونتسكيو في التنظيمات الوسيطة الى تأسيس مجلسين تشريعيين: (هناك دائماً، في دولة معينة، بعض الناس يتميزون بقوتهم أو ثروتهم أو شرفهم، لكنهم إذا اختلطوا بين الناس، وإذا كان لهم صوت واحد مثل الآخرين، فإن الحرية العامة ستكون استعباداً لهم، ولن تكون لهم مصلحة في الدفاع عنها، ذلك أن أغلب القرارات ستكون ضدهم. ولذلك، فإن دورهم في التشريع يلزم أن يكون بمقدار ما لهم من ميزات، وهو أمرٌ سيحدث إذا ما شكلوا هيئة لها حق في فحص مشروعات الشعب، مثلما أن للشعب الحق في فحص مشروعاتهم.

من الواضح أن لتلك الأفكار أهميتها حتى في عصرنا الحاضر، فمجلس الشيوخ في أمريكا مع مجلس النواب ومجلس الأعيان (في الأردن مثلاً) محاذي لمجلس النواب، وفي كل البلدان التي لها تجارب ديمقراطية معينة، والأصل في تسمية الشيوخ والأعيان و (التشريعي في مصر) كان اسمها (مجلس الملك). حيث عندما أُعطي الحق للشعب في اختيار ممثليه فإن للملك الحق في اختيار ممثليه باعتباره (مؤسسة العرش أو الحكم).




هوامش من تهميش المؤلف

*1ـ روح الشرائع/ مونتسكيو/ كمبردج 1989 ص 18( التهميش مُتَرْجَم).
*2ـ المصدر نفسه.
*3ـ نفس المصدر صفحة 74.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
غير مقروءة 07-07-2010, 03:23 PM   #20
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


المجتمع المدني والجماعة

(1)

أقام جان جاك روسو نظريته الأخلاقية عن المجتمع المدني ماداً جذورها في مفهوم الجماعة (Community)، في محاولة لتكييف الفضيلة الرومانية والنزعة الجمهورية المكيافيللية مع متطلبات انتشار الأسواق، وترسخ سلطة الأرستقراطيين والملوك. كانت نظرته للعالم بكليتها تستمد حيويتها من قضية بسيطة، ولكن معقدة، مفادها: (الإنسان خَيِّر بطبيعته، والسبب في تحوله شريراً إنما هي مؤسساته).

ربط روسو حال الفطرة بأفراد منعزلين لا أخلاقيين، وكانت لامبالاتهم بعضهم ببعض تعني أنهم لا يضرون ولا ينفعون. فالناس في حال الفطرة عاشوا لأنفسهم، ورغبوا في ما هو ضروري لحفظ ذواتهم الفردية. وإن افتقارهم الى الصلات الاجتماعية أدى بطريقة عجيبة، الى إنقاذهم.

(كان الإنسان البدائي يمشي مطوّفا في الغابات، بلا صناعة، ولا كلام، ولا مسكن، بلا حرب ولا صلات، وبلا حاجة لأقران، وبلا رغبة أيضاً في إلحاق الأذى بهم، وربما لا يدرك أبداً فردانية أي آخر، خاضعاً لانفعالاته واكتفائه الذاتي، ولتوافق مشاعره وذكائه مع حال الفطرة التي هو فيها، لم يكن يشعر بغير حاجاته الحقيقية، ولم يرَ إلا ما اعتقد بأن له مصلحة في رؤيته، ولم يحقق ذكاؤه تقدماً أكثر من خيلائه. وإذا حقق اكتشافاً ما مصادفةً، فإنه لم يكن قادراً على إيصاله، لأنه لا يميز حتى أطفاله. فمهاراته تموت بموته. لم يكن ثمة تربية ولا تقدم؛ والأجيال تتكاثر بلا نفع؛ وكل واحد يبدأ دوماً من النقطة نفسها...)*1

(2)

قال روسو قوله الشهير (يولد الإنسان حُرَاً وهو مقيد بالأغلال في كل مكان). (إذ ليس كافياً توحيد الأفراد بالقسر وبالتهديد بالقوة الغالبة... يتشكل المجتمع المدني على يد أفراد هم أحرار بالطبيعة وأخلاقيون بالقوة)*2

(سيكون هناك دوماً اختلاف كبير بين إخضاع حشود الناس وحكم مجتمع ما. وإذا استعبد فرد واحد بشراً متفرقين، مهما كثُر عددهم، فإني لا أرى غير سيِّدٍ وعبيد، ولا أرى بشراً وقائدهم. إنهم جَمْعٌ، إن شئت، وليس رابطة متحدة. ليس لهذا الجمع صالح عام، ولا هيئة سياسية. وليس ذلك الرجل، حتى لو استعبد نصف العالم، سوى فرد خاص. وليست مصلحته، المنفصلة عن مصالح الآخرين، غير مصلحة خاصة. ولو مات هذا الرجل، لغدت إمبراطوريته، منذ لحظة موته، وبلا روابط)

أراد (روسو) تقديم إجابات عن بعض المفاهيم التي انتشرت في عصر التنوير، بشكل مختلف. فلم يرضَ بمصطلح (صاحب السيادة) عند (هوبز) ولم يرض بمفهوم (الحقوق الطبيعية) عند (لوك)، ولم يقبل بأحقية (طبقة النبلاء) عند (مونتسكيو).

لقد لخص روسو موضوع الترابط الاجتماعي ب (التنازل الكلي لكل شريك، بكل ما له من حقوق الى الجماعة ككل). وعن الحرية يقول: (الشخصية الحرة لا يمكنها أن توجد إلا قرب الآخرين). فالحر يمنح نفسه طوعا (لا قسرا) للسلطة الأخلاقية.

عندما يمنح كل فردٍ نفسه للجميع، فإنه لا يمنح نفسه لأحد؛ وما دام لا يوجد امتياز لفرد على آخر، لأن الفرد يعطي الحق ذاته على نفسه وعلى الآخر، فإنه يكتسب معادل كل ما يفقده.

(3)

يناقش روسو مفهوم (الإرادة العامة General Will)، مبتعداً عن مفهوم (المصلحة العامة) و لا (حكم الأغلبية) و لا (السلطة الملكية) وكلها دلالات عن الصالح العام، لكن الإرادة العامة هي توفر الصلة الأخلاقية بين الفرد والجماعة.

ليس هدف العقد الاجتماعي لدى روسو أن يحافظ على الإنسان الطبيعي، بل كان يتوخى أن ينتزعه من حال الفطرة ليجعله بشراً كامل الإنسانية. ويستلزم (العقد الاجتماعي) وجود جماعة تنظمها الإرادة العامة؛ لأن صالح الكل يتيح لكل فرد أن يحقق أعمق أهدافه وأصدقها. والتوجه الشامل هو وحده الكفيل بتمكين الأفراد من تنظيم مصالحهم الخاصة المتقلبة. وإن الإرادة العامة تحمي الأفراد والجماعة من التدمير المحدود الذي ينجم عن النزعة الجزئية وسوء الظن، والتعصب، والتحامل، والإقصاء.

يهجم روسو على المصلحة الشخصية، وعلى الاستثناءات في تطبيق القوانين. (ليس من المناسب لمن يسن القوانين أن يكون هو من ينفذها، وليس مناسباً لمجموعة من البشر أن يصرفوا انتباههم عن الاعتبارات العامة ويعنون بأشياء الجزئية).

(4)

يقول روسو (كلما تشكلت الدولة على نحو أفضل، طغت الشؤون العامة على الشؤون الخاصة في عقول المواطنين. وفي مدينة حسنة الإدارة، يسارع كل شخص بالذهاب الى الجمعيات العامة. أما في ظل حكومات فاسدة، فلا أحد يرغب في أن يخطو خطوة واحدة نحوها، إذ لا مصلحة له في ما يجري فيها... إن القوانين السليمة تؤدي الى سن قوانين أفضل، أما القوانين السقيمة فتولد القوانين الأسوأ. وحالما يقول المرء ما لي وشؤون الدولة؟ تكون الدولة قد ضاعت).

في القول السابق، يرسم روسو العلاقة أو الخطوط بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني. فعندما تعتبر الدولة (مؤسسة الحكم) أن منظمات المجتمع المدني هي منظمات تابعة لها، فإن النفاق والمداهنة ستكون هي السائدة، وسيعزف الأحرار عن ارتياد تلك المؤسسات.

وعن شرذمة الأحزاب وكثرتها ومؤسسات المجتمع المدني وكثرتها، دون أن يوحدها (إرادة عامة)، ستصبح الإرادة العامة عند كل منها محصورة في حدود تلك الكيانات، وستصبح الإرادة العامة لعموم الوطن ذات معطى ثانوي وهامشي.

كان روسو عدواً لتراتبية النظام القديم، وأعرافه وظلاميته، وكان ناقداً لتعويل زملائه، بصورة أحادية على العقل والمصلحة الفردية.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
 
  . : AL TAMAYOZ : .