(يجب أن لاننسى أنّ ما تحقق بالثورة المصرية من مفاهيم عظمى في شريعتنا ، هو أنجاز لحضارتنا ، وليس للشعب المصري فحسـب
ذلك أنّ من أعظم أركان هذه الشريعة العظيمـة :
تحرير إرادة الأمّة من استعلاء الأجنبي عليها ، واستبداد الظلم ، والطغيـان فيها .
وتحرير ثروتها من سطـو اللصوص الذين يفقرونها ، ويذلونها ، ويرجعونها إلى ذيل الأمم
وتحرير أبنائها من حياة الذل ، والمهانة ، والخوف ، والتهميش ، والفقـر ، والتخلُّف.
ولو نجح عهد الثورة الجديد برئاسته الجديدة بتكريس هذه المبادئ في ضمير الشعب المصري ، فالأمّـة ، فقد وضع كلّ أسس العودة الشاملة لنهضة الأمة بإذن الله تعالى ، والعمل بشريعتها ، ويكفيه هذه الإنجاز في هذه المرحلــة ) .
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات ، له الحمد كلُّه ملء السموات ، وملء الأرض ، وملء ما شاء من شيءٍ بعد ، استجابَ الدعاء ، وأتمّ النعمة ، وأعظـم المنّة على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ،
له الملك ، وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، مالك الملك ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعزّ من يشاء ، ويذلّ من يشاء ،
بيده الأمرُ كلُّه ، وإليه يرجع الأمر كلُّه ، علانيته وسرُّه .
لاريب أنّ حدث فوز مرشح الثورة الدكتور محمد مرسي برئاسة مصـر ، حدثٌ جلل ، ونبـأٌ عظيم ،
وأنّ يوم أمس ، قـد كان يوماً من أيام الله تعالى العظمى ، ونعمه الكبـرى ،
غير أننا لابد أن نضع منارات مهمة على الطريق ، هذا الذي سيفتح على الأمـّة ما شاء الله أن يفتح من الخيـر بإذن الله تعالى :
1ـ لقد أذن الله بقدرته العظيمة ، وإرادته العليّة الحكيمة ، يوم أمس ، بأن يفتح على الأمّـة بابـاً ، كان موصداً من قرنٍ من الزمان ،
وهو باب الأبواب لكلّ حضارة ، وهو عمود الأعمدة ، وهو ركن الأركـان.
وأعني به أنها قـد صارت اليوم تقول كلمتها ، وتعبـِّر عن إرادتها ، وتصنع مجدها فيها بنفسها ، لا سلطان لأجنبيِّ عليها ، إلاّ سلطانها على نفسها ،
ولعمري إنَّ هذا _ بحد ذاته _ أعظـم إنجازات الربيع العربي ، وهو مفتاح لكل الإنجازات التي سترقى بأمتنا بإذن الله ، وتعيدها إلى جادتها التي كانت عليها منذ أن بعثت خير أمة أخرجت الناس ، إلى أن سقطت الخلافة ، وتداعت عليها الأمم الأوربية تعمل فيها معاول الهدم ، وتقطع أوصال قوتها ، وتفرق أركان عزّتـها .
وإنّ أعظم واجبات شكر هذه النعمة ، هو المحافظة عليها ، وذلك بأن تسعى الأمة بكلّ سبيل أن لاتسمح بعد اليوم بأن تفقد إرادتها الحرّة ، إرادتها أن تختار من يقودها ، وتراقـبه ، وتحاسـبه ، واستعمال كلّ وسائل العصر الناجحة ، لتُبقي نظامها السياسي في أعلى درجات الفاعليّة ، لتحقيق العدالة ، والحرية ، والكرامة ، ولإبراز رسالتها الحضارية القائمة على هذه الثلاث سعـياً إلى التفوق العالمي .
نعـم إنها الحرية التي إذا فقدتها أي أمـّة ، انحدرت إلى مهاوي الذلّ ، وعاشت عيشة العبيد ، وتحوَّلت إلى قطعان سائمة !
وإنِّ الأمة تبقى مشلولة بلا نظام سياسي يعبـر عن حضارتها ، وينبثق من هويتها ، ويستقل بإرادتها ، ويظهـر كرامتها ، ويوظف كلّ الطاقات لمشروعها .
2ـ يجب أن نعي جيداً أنّ التكاليف التي تحمّلها حزب العدالة والحرية في مصر ، ثم آلت إلى عاتق هذا العبقري الفذ محمد مرسي وفقه الله ، تنوءُ به الجبالُ الشامخة ، وتتشقق الأرض من تحتها ، وتثقـل كاهـل النجوم لو حملتـها .
ذلك أنّ النظام السابق قد ملأ الأرض ظلما ، وجورا ، وألقى على كلّ شبرٍ من مصر بفساد عريض ، أفسد الناس ، وأفسد الأرض ، وأفسد النيل ، وأفسد البيئة ، وأفسـد الجوّ ، وأفسد النسيج الإجتماعي ، وأفسد البنية التحتية ، وأفسد التعليم ، وأفسد الصحة ، وأفسد الأمـن ، وأفسد ضمائر الناس .
وأفسد السياسة الخارجية ، حتـى قزّم مصر ، وألغى دورها القيادي للعالمين العربي والإسلامي ، ثـمّ حوّل هذه السياسة الخارجيّة إلى مكتب ملحق بتل أبيب ، وواشنطن !
تُعقد فيه الصفقات بين الرئيس ونجليه ، ومافيا العسكر ، ورجال الأعمال الذين يحيطون به ، وبين الصهاينة والغرب ، وصار كلّ ما سوى ذلك من قضايا أمـتنا ، وكرامة حضارتنا ، يباع بأرخص الأثمان في ذلك المكتب الصغيـر !!
ولهذا فإنّ الرئيس الجديد ، سيحتاج إلى جهود عظيمة ، وزمن طويل ، وصبـر دؤوب ، لتغييـر ذلك ، ولابد أن يمر بأربـع مراحـل :
أحدها : تشتيت كلَّ الأكاذيب ، والإفتراءات ، والدعاية السيئة ، التي تسربت في أذهان الناس ، حتى وصلت إلى أعماق بواطنهم ، عن الإسلاميين وخطرهم على المجتمع ، والعالم ، وقد بدأ بذلك في خطابه أمـس .
ولاريب أنّ هذه المهمة هي أشقُّ مهمة سيواجهها الرئيس الجديد ، ومَنْ حولَه ، إذ قـد جاءت رئاسته في أجواء صخبٍ شديد ، تضـجّ بـ (فوبيا) الإسلاميين عامة ، والإخوان خاصة!
الثانية : إيقاف التدهور للهاوية الذي لم يزل في مصر من عقـود .
والثالثـة : البدء بإصلاح البنية التحتية المدمّرة تماما للدولة في جميع السياسات.
والرابعـة : إنشاء وتحريك مشاريع التنمية ليشعر الناس أنهم استفادوا من الثورة ، وأنها غيرت حياتهم إلى الأفضـل بالمقارنة مع ما كانوا عليه من بؤس ، وضياع.
ولهذا .. فلاريب لن تظهـر ثمرات الثورة إلاّ بعد مدة ليست باليسيرة ، فعلينا بالصبـر على مراحـل المشروع ، وتفهّم المعوقات ، وإدراك عِظم التكاليف ، والوعي التام بجسامة المهمّـة.
وإنه لمن الحماقة والجهالة _ ونحن متيقنون أنّ الثورة لم تتجشّم كلّ هذه التضحيـات ، وتقدم الشهداء ، وتبذل الدماء ، إلاّ وهي تريد خيرا بمصر ، وبشعب مصـر ، وبأمّتنا _ أن نستعجل النقد ، ونتصيّد الأخطاء ، ونترصد للتصريحات ، فنجعل المناورات السياسية التي يضطر إليها الساسة لدفع الأخطار ، وجلب المصالح ، نجعلها ميادين التشويش ، ومواضع التخريب ، نعين بها أعداء الثورة عليها ، وننقض غزلها من بعـد قوتها .
وإنـّه ليكفينا الآن من إنجازات الثورة المباركة ، أنّ أوّل ثمراتها قد ظهرت بتحرير إرادة الشعب المصري ، وإخضاع جميع مؤسسات الدولة لشفافية تامة في كلّ التفاصيل ، لفضح كلّ خفافيش الظلم ، والظلام ، التي عبثت في مصر سنين طويلة .
ولعمرو الحق إنّ هذه الثقافة العظيمـة الجليلة ، لو أنفقنـا عليها ملء الأرض ذهبا لن نجـد من يبيعها بثمـن ، فهي لاتنال إلاّ بدماء الأحرار الطاهـرة .
وهنا نوجّه كلمة مهمة لأبناء الحركة الإسلامية عامة ، وللسلفيين خاصة ، أن يكونوا جميعا خير عون للرئاسة الجديدة في صبرهم عليها ، والتماسهم الأعذار لأخطائها ، ودعوة الناس للإلتفاف حولها ، ريثما تنجز ما ثارت الناس من أجله :
العدالة ، والكرامـة ، والحياة الشريفـة
وليعلموا أنه _ فقط _ إذا تحقق هذا لهـم ، فسيتوجه الناس بكلّ قلوبهم للإسلام ، وسيقبلون كلّ ما يدعوهم إليه ، وسيضحـُّون من أجـله .
أما إذا لم يتحقق ما من أجله ثاروُا على النظام السابق ، فسيرفضون كلَّ شيء يأتي من قِبَلِكم ، وإن كان حقّا ، وسيقبلون ما يقوله خصمكُم ، وإن كان من أبطل الباطل!
وليكن لنا في نجاح حزب العدالة في تركيا عبرةٌ ، فقد أحبّه الناس ، وقبلوا ما ألغاه من حرب شعواء كانت على الدين ، فامتلأت المساجد ، ورجعت المحجبات للجامعات ، وانتشر الدعاة ، وفُتحت معاهد الخطباء ، وساءت العلاقات مع الصهاينة ، ويمَّمت تركيا وجهـها شطـر العرب بما لم تفعله في ماضيها منذ سقوط الخلافة .