مصـرائيل وإسـراهيل

[سيدي حرازم يطرونس]

مصرائيل و إسراهيل

حين سمعت الرئيس المصري العظيم حسني مبارك يصر على منع غزة من التنفس عبر ثقب صغير في جدار الحصار اسمه رفح، ورأيته يدخل في معادلات حسابية ممتدة من طهران إلى القاهرة قد تهدد كرسيه إذا أضاف مزرعة صغيرة اسمها غزة إلى حساب مملكته.. تمنيت أن أشتمه فترددت.

ماذا لو قرأ المصريون شتائمي ؟ بالتأكيد كنت سأشعل أزمة ديبلوماسية بيني ومصر وكافة المصريين... وسيذكرني الجميع ساعة لا تنفع الذكرى بأن مصر هي أم الدنيا والجنة تحت أقدام الأمهات.

الملك ابن الحسين عبد الله الحكيم، يكاد يمر الاسبوع الثاني على المجازر ولا زال لسانه يقول : الأعمال الاسرائية قد تهدد مسار السلام.. حين أحسست به يشجع الصهاينة على ممارسة جنونهم ليفهم أهل غزة خطأهم بالالتفاف حول حماس، شعرت بالرغبة في تكسير التلفزيون على رأسه، لكنني مرة أخرى تراجعت.

ماذا سيقول الأردنيون عني ؟ وملكهم الذي تبرع بدمه في تضحية جبارة.. حتى قال أحد الصحفيين مهللا : هاهو الدم الهاشمي يسري في عروق الغزاويين.

وسيذكرني "العقلاء" بأن الزعيم المصري والأردني بمثابة أخينا الأكبر الذي ينبغي وفق تربيتنا أن نحترمه ونخجل منه ولا نعارضه...

سيذكرونني بكل هذا ويشتمونني وسوف أندم.. ولذلك كتمت غيظي ولعنت الشيطان.

لكنني أريد أن أشكر الحكومة المغربية الطيبة على كل ما بذلته من أجل غزة بالسماح لنا بالصراخ طوال الأيام الماضية بل منذ بداية المجزرة... مظاهرات من دون إذن من الداخلية وفي كل المدن..
يا سلااام.

لن أنسى خير الحكومة المغربية أبدا.

فقط، لي طلب بسيط من حكومتي؛ وهو بعد أن تهدأ النيران في غزة، أناشدها أن تمنحني إذنا واحدا فقط لأعبر عن غضبي من نيران أخرى لا تنطفئ، أريد أن ترخص للمغاربة بمسيرة مليونية ثانية بالرباط الأحد القادم مثلا ليهتفوا ضد الزيادة الرهيبة في الأسعار. الزيادة في ثمن الحافلات والبنزين، رغم انخفاض أسعاره في السوق.

سنهتف ضد الأغنياء واللصوص، والموت للإقطاعيين ومصاصي الدماء والظالمين والمضاربين... هؤلاء الذين استغلوا هذه الأحداث بطريقتهم، ومرروا من دون شعور أحد، قرارات بالرفع من ثمن الحليب والسكر والبنزين والطرق السيارة وغيرها.. كل ذلك في آن واحد.

ولا زال العرض ساريا.. من يريد التظاهر لأجل غزة... فليتفضل.
كل يتاجر بقصية فلسطين.. إنما لكل واحد طريقته.

ولازالت أرض الحرمين على حالها.. تفتي بحرمة المظاهرات، تعتقل من يحرض المومنين، وتحول القضية كلها، إلى مسألة دواء يرسل، وأغطية تهدى.. في اختزال عجيب لمأساة التاريخ.

لا زلنا هناك.. نمارس التفكير بجمجمة شرقية معدة مهجعا نهاريا للخفافيش والاستهلاك والتشدق بكنا وكنا وكنا.. فيما نتهادى الموت بيننا ونخرج سيفنا البتار من رايته الخضراء لا لشيء إلا لنرقص به مع رؤساء قتلتنا الذين نستقبلهم في أسواقنا.

ويصيح أقزام آخرون بالكف عن كل هذا.. فهم أصحاب الحل والعقد، هم أصحاب العقل، هم أهل النهى والألباب.. عندما يقول الشعراء شعرا فشعرهم عبث، وعندما تخرج النساء للتنديد بالمذابح والمجازر فهي أصوات عبث، وعندما تبكي النساء الأجساد المتفحمة والأشلاء المتناثرة في غزة فبكاؤها عبث، وعندما ترد المقاومة على الحصار والتجويع بما لديها من إمكانات ذاتية فصواريخها عبث، وعملياتها عبث، وحتى عندما ألقى صحفي عراقي حذاءه في وجه رئيس أمريكي استعمر بلاده وهتفت الجموع بهذا العمل الذي يعد تعبيرا عن نبض الشارع العراقي، اعتبر ذلك كله عبث.

عجبا ماذا يريد أصحاب هذه الآراء أن تفعله الشعوب غير ما تستطيع، ولو كان أضعف الإيمان ؟ وأضعف الإيمان الجهر باللسان، والصراخ.
وهل يأتي التغيير إلا بالمقاومة.. والصمود والثبات ؟

أصحاب المنطق العبثي يقولون لنا كفوا أيديكم واقتلوا إحساسكم واطمروا مشاعركم...
يقولون لنا ناموا... إلى أن تفيقوا يوما ما فتجدوا أنظمتكم وقد أصبحت تملك الأساطيل الضخمة والصواريخ العابرة للقارات، وتملك قبل ذلك قرارها، لتخوض بكم معركة التحرير..
أليس هذا هو منطق العبث حقا ؟

ماذا يضير حماس وقادتها أن يستسلموا كما استسلم المستسلمون، ويبيعوا كما باع البائعون، ويخونوا كما خان الخائنون، فتنهال عليهم الأموال بدل صواريخ الاغتيال، ويحتفى بهم على أنهم الأبطال، وربما حازوا جائزة نوبل للسلام، وتفرش لهم الأرائك والزرابي في كل العواصم والبلدان، وتمنحهم الدول العربية وقبلها الكيان العبري الأوسمة والامتيازات ويحصلون على الألقاب والكراسي بالمجان ويدرس أولادهم في أحسن المدارس وأرقى الجامعات في أوربا وأمريكا وتعزف لهم الموسيقى والألحان عند كل استقبال ؟

ما يضيرهم لو فعلوا ذلك إلا أنهم اختاروا العزة على الذلة والوفاء على الخيانة والكرامة على المهانة ؟ رضوا بالعذاب والتنكيل من أجل الاستقلال والتحرير وضحوا بالغالي والنفيس في سبيل الله والوطن، وهم لذلك رمز للشرف والمقاومة ضد التهويد والتقييد والتبديد.

صحيح أن فلسطين ليست قضية شعرية، لكن الشعر والنثر والكلمة والصورة والصراخ والتعبير والتظاهر والتنديد والكتابة والنشر، كل ذلك مهم في هذه القضية من جانب الشعوب، وهو يعبر عن حياتها واستعصائها على التطويع بالرغم من مشاريع التفقير والترهيب والتفسيق. كل ذلك مهم لأنه قبل كل شيء، رسالة إلى الجلاد، بأن القلب مازال ينبض، ورسالة إلى الضحية بأنها ليست وحدها في ساحة الوغى.

إن هؤلاء الذين يريدون من الشعوب أن تصمت، أو تتحرك فقط عندما يأذنون، هؤلاء الراقصون على جرح فلسطين، أصحاب الطلقات النارية تجاه فكر المقاومة، أو حركة بعينها، إنما تزعجهم حياتكم أيها الشرفاء المقاومون، وتؤرقهم يقظتكم، ويغضبهم إباؤكم، وهم ليسوا منكم وإن كانوا مثلكم، يسكنون جواركم ويلبسون مثلكم ويتحدثون لغتكم.
إنهم يقاتلون مع إسراهيل، هناك وإن كانوا هنا، هم ضمير الغائب وإن انهوا كلامهم معكم بـ "نا"
هؤلاء هم زراع العبث، دعاة اليأس، صناع الخلل، ولو خرجوا معكم فقلوبهم ضدكم، وفي أمثالهم قال تعالى : "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم".

صدق الله العظيم.