شخصيات القصة :
ياسين (بطل القصة والمتحدث الرسمي) , زليخة (أُخت ياسين) , معلمة التعبير .
نرجس (مذيعة بالراديو) , كريمو (أحد التلاميذ بصف ياسين) .
_ يااااه .. أيّ حظّ وايّة متعة يشعر بها الإنسان حتّى وهو بعيد عندما يطمئن أنّ على هذه الكرة الأرضيّة أناس يحبّوننا ويفكرون فينا باستمرار . يبدو لي أنّ الحبّ هو أجمل عزاء وجده الإنسان لتوازن .
_إيه , أين كنتُ ؟
_في نرجس طبعاً .
أعجبني ما سمعته منها وتأكّدت أنها فرصتي لموضوع الإنشاء . نقلت كل الكلمات التي قالتها نرجس في ذلك المساء . قصّة الرّجل الذي كان يريد أن يصعد السلم بسرعة لكي يصل إلى القمّة قبل الآخرين . السلّم كان عالياً جداً ووصل منهمكَا فداخ ثمّ تدحرج من الأعلى فمات . الحكمة المبطّنة هي أنه على الإنسان أن يصعد في الحياة بهدوء وبثقة حتى يحتفظ بكامل قواه ويصحح مزالقه الممكنة . قد لا تبدو القصّة الآن مهمة ولكنّها في وقتها لم تكن عادية. وأمام معلّمة مرتبطة بالحكم وبلافونتين وابن المقفع وزهير ابن أبي سلمى كنت متأكداً أن الرضى سيكون كاملاً . كان من الصعب عليّ تتبع كل كلام نرجس ونقله , فكنت أجد متعة خاصّة في ملء الفراغات .
كان الصوت يضعني داخل حالة من الوجد تقرّبني من متعة الكتابة والتخيّل , وتدفع بي إلى الحفر عميقاً في تفاصيل حالة الفقدان. تأكدّت مع الزمن أنّي مصابًا بها . بشيء غامض يشبه الإحساس الذي شعرت به حيال المهبولة . انتقلت من أكسل تلميذ في الإنشاء على الكرة الأرضية كما كانت معلمتي تردّد دائماً , إلى أشطر تلميذ استطاع في وقت قصير أن يتفوق وأن يسترجع ثقته في موروثة الثقافي الأكثر خطورة : الإنشاء . عندما تصل المعلمة إلى كلمة إنشاء تتوقف طويلاً, تتنهّد وتتمتم: آه واش من خسارة لا تعوض . ثم تواصل بنفس الانبهار والحماس .
التلاميذ الذين كانوا في القسم يقاسمون المعلّمة تنهّداتها , يتمسخرون بي ومن عبقريّتي المفاجئة : صحَّ , الناشف ولى عالم ؟ قل لنا يرحم والديك كيف نزل عليك الوحي ؟ واش من حمار مات .منين دخلتك الفهامة ؟ علم كبير هذا . خبزة طاحت على كلب راقد . لم أكن لأردّ على الاستفزازات ليس خوفاً منهم ولكن خوفاً من انفضاح السرّ الذي كنت أستكين إليه كل مساء . مع الزمن آمنوا أن الإنشاءات التي كنت أكتبها لم تكن من شخص غيري .
صارت العمليّة دورة يومية مكرورة كان من المستحيل التخلص منها . حتى زليخة اندهشت من التصاقي ببرنامج آخر الليل ولكنّها كانت سعيدة أنّي وجدت حلاً لمعضلة الإنشاء ولتركها تشتغل بدون إزعاج بأسئلتي المقلقة . مع ذلك , نبّهتي ذات مساء لشيء كنت أخافه دائماً وأعمل جاهداً على تغيير الاستراتيجيات باستمرار لإبعاد حصوله .
-النهار اللي يفيقوا بك يبهدلونك . معلّمتك راح تنتف شعرها مسكينة . الرجل اللي اتكلت عليه باش يحرّر الوطن العربي بالإنشاء طلع لها فالسو zero
-أنا لا أسرق , واش راني ندير . أستمع وأكتب وأغيّر قليلاً.
-وإذا حصل ونقل مهبول مثلك كلمات نرجس وقدّمها للمعلمة ؟
-الكلام ليس لنرجس , هي كذلك تأتي به من الكتب .
كلام زليخة لم يكن بلا معنى. في مرّة من المرات جاءني كريمو , أحد التلاميذ ليقول لي بطريقة خبيثة :
-أنا عارف المرأة التي تنقل عنها . عشرين دورو كلّ صباح وأسكت وإلاّ أطربقها على دماغك .
فكرت في لحظة من اللحظات أن أقتله وأتخلّص منه . لم يتوقّف إلاّ عندما أخذ مني العشرين دورو التي حوّلها مع الزمن إلى ضريبة كان عليّ نزعها من لحمي لأتقي شره . في القسم , كلّما بدأنا مادّة الإنشاء , يرفع أصبعه, فأرتعش وأقول في خاطري : ياربّي تحفظ . خلاص , كارثة اليوم سيفضحني . ثمّ يقول أي تفاهة وهو ينظر إليَّ بابتسامة فيها الكثير من الملعنة والخبث , وعندما نغادر المدرسة يطالب بحق السرّ كما كان يسمي ضريبته . ولما بلغ ابتزازه درجة لا تطاق , اعترضت طريقه في رحبة السوق. كان المكان خالياً . وصرخت في وجهه : بلا يمّاك مانزيد لك دقيقة . ماعندكش خيار, تقول واش تعرف وإلاّ راح يكون نهارك الأخير . لم أكن أعرف أنه بذلك الجبن . بدأ يرتعش ويصرخ : كل الناس يقولون بللّي هي اللي تكتب لك . زليخة .. زليخة .. زليخة .. رددّها ثلاث مرّات متتالية ثم صمت . تركته وعدت إلى البيت بعد ان هدّدته بعقاب أفظع إن هو أخبر المعلّمة بما حصل بيننا .
ذات مرة سألتني المعلّمة بنوع من اليقين . فأربكتني لحظة شعرت فيها بأن الأرض تنفتح تحت أقدامي ونظرت إلى غريمي فأحنى رأسه كان التلاميذ مثل الذي ينتظر فرصة العمر للسخرية منّي , قالت :
ما تفزعش إذا سألتك عن إنشاءاتك ؟
قرأت في عينيها أشياء غامضة أرعبتني . ماذا لو يكون ابن الكلب قد قال لها حقيقة أخرى غير التي أسر بها لي لإيهامي ؟ في لحظة من اللحظات فكرت أن أعترف لها وأخلّص نفسي من هذا القلق المستمر . لكنها أنقذتني إذ سبقتني إلى الحديث.
-هل تحب الإنشاء حقيقة.
لا أدري لماذا لم أرتبك , سؤالها لك يكن بريئاً .
- ولكن أنا أكتب ذلك كله برغبة كبيرة .
- لا أشك في ذلك أبداً , أ،ا سعيدة جداً بما تقوم به . حتى إمكانياتك تطوّرت كثيراً. لكن.. قل لي .. زليخة .. زليخة
أختك تساعدك في عملك ؟ قصدي هل تكتب لك ؟
وضعت يدي على فمي وحمدت الله أن سري الكبير لم يكشف .
-زليخة مسكينة ماتعرفش تكتب حتى اسمها. شوي أحسن من يمّا .
-ضحك كل القسم . شعرت بعدها أنّي حققت أكبر انتصار لي في حياتي .
-أعرف . قلت ربما إنها تساعدك قليلاً وهذا ليس عيباً .
-تعرفين يا أستاذة لو كانت زليخة تعرف الكتابة لتغيّرت حياتها وحياتنا معا كلّيّة .
صمتت المعلمة ولم تقل كلمة واحدة ولكنّها نظرت بكره إلى كريمو .
عندما خرجنا احتفظت به . عرفت أنها غسلته وبهدلته ونصحته بأن يغار ولا يحسد. قبضته من أذنه اليمنى وقالت له إقرأ ماكُتب على الحائط القسم, وبدأ هو يفكك الحروف ويتألم لأذنه التي كانت تُلوى : الح .. سود...لا..ي...سو..د .
ملاحظة:
القصة مقتبسة من رواية "شرفات بحر الشمال" لروائي العظيم واسيني الأعرج .