الحل المرحلي الآن هو إعطاء الشعب الكردي حقوقه المشروعة في إطار الدول التي هو منها
لا بدّ عند النظر في قضية أي فريق من أبناء الجسد الإسلامي الواحد من العودة بالعضو إلى جسده أولا. والأكراد بهذا المنظور جزء لم يكن من الممكن فصله عما سواه في عصور سيادة الإسلام وحضارة المسلمين، أيّام برز العلماء الأفذاذ من مختلف الأنساب. فلا يستطيع أن يُفصل من تاريخ الإسلام والمسلمين ما صنع شيخ الإسلام ابن تيمية، أو المؤرّخ الكبير ابن الأثير، أو العالم الفقيه ابن حجر، أو السلطان القائد صلاح الدين الأيوبي، وبعضهم من الأكراد نسبا على الأرجح، وبعضهم بصورة قاطعة كصلاح الدين، وسواه من قائمة طويلة، مثل عيسى الهكاري، وكمال الدين الهرزوري. وكذلك نساء نابغات في ميادين العلم والمعرفة، مثل شهدة الدينورية وعائشة التيمورية، وأسماء وجويرية ابنتي أحمد الهكاري.
هل نعلم من تاريخ البشرية اندماجا عضويا كاملا في بوتقة الإسلام أكثر من هذا الاندماج الذي يجعل بعضنا يتساءل: هل كان هؤلاء من الأكراد فعلا أم من العرب؟
هل نتصوّر من منطلق منهجي أو عاطفي أو حتى تعصبي إمكانية أن نقول: هذا الجزء من تاريخنا الإسلامي جزء عربي، وذاك كردي، وذاك تركي أو فارسي؟
إنّ إعطاء وصف من هذه الأوصاف القائمة على النسب وحده، أو على اللغة، أو على الزعامة والسيطرة في حقبة من الحقب، أو على التاريخ، أو على الأرض.. لا يعني الكذب على التاريخ والحق فقط؛ بل يعني في الوقت نفسه ضربة موجّهة إلى مصالحنا الذاتية الآنية والمستقبلية.
الأرضية المشتركة
لقد تعرّض شعب الأكراد المسلم إلى هضم حقوقه الأساسية على كل صعيد، وتعرّض للمجازر الدامية، وأصبح في الفترة الراهنة بصورة خاصة ما بين السندان والمطرقة، داخل لعبة دولية إقليمية خطيرة، حتى لتكاد الأحداث الجاريةُ توهم المخلصين الصادقين بعدم إمكانية الوصول إلى رأي صائب قاطع في هذه القضية.
فإذا سئل مخلصون من الأكراد عمّا يصنعه بعض زعمائهم، وقد يوصل البلاد إلى السيطرة الأجنبية المباشرة.. جاء الجواب بصدق: وما عساهم يصنعون بعد أن صُنع بالأكراد ما صُنع؟ وإن سئل مخلصون من غير الأكراد عمّا يتطلّع إليه الأكراد من أهداف مشروعة، وحقوق مهضومة.. جاء الجواب بصدق أيضا: وهل يمكن تحقيق مطالبهم، وفصل قضيتهم بذلك عمّا يمكن أن يترتّب عليها في المنطقة بمجموعها؟
إنّ طرح القضية في صيغة "معضلة" لتبرير كلّ ما يمكن أن يجري تحت عنوانها هو بحدّ ذاته جريمةٌ تُرتكب في حق الأكراد وقضيتهم وشعوب المنطقة معا، وليس في الأمر معضلة، وإنّما هو "المنظار" الذي يراد وضعه لها، والحيلولة دون سواه، لا سيما ما يمكن أن يجعل الأهداف المشروعة للأكراد -كالأهداف المشروعة للعرب والأتراك والفرس وغيرهم- أهدافا إسلامية مشتركة لا تميز بين فريق وآخر منهم.
وما قضية الأكراد في كلياتها الكبرى إلا واحدة من قضايا الشعوب الإسلامية الأخرى؛ فالحرمان من تقرير المصير بات مشتركا، حتى مع كثير من الشعوب التي تعيش فيما يوصف بالدولة المستقلة. والاستبداد يجثم على الصدور، حتى وإن صوّرت وسائل الإعلام أصحابها وهم يتوجهون إلى صناديق الاقتراع في هذا البلد أو ذاك، بل حتى الحرمان من اللغة الأم كما صُنع بالأكراد وهم يعيشون في أرضهم داخل حدود "دول إسلامية"، ويجمعهم مع غيرهم الإسلام الذي لم ينتشر قطّ في أرض وحرم أهلها من لغتهم أو تميُّزهم.
إنّ كل نظرة "تجزيئية" تفصل بين قضية الأكراد وسواها، أو بين قضية فلسطين وسواها، أو بين قضية الشيشان وسواها من قضايا الإسلام والمسلمين في واقعنا المعاصر.. إنّما هي نظرة تصبّ في مصلحة توجيه مزيد من الضربات لكل قضية على حدة، ولنا جميعا في الوقت نفسه.
اللعبة الدولية
وهذا بالذات ما يفرض على أصحاب كل قضية من هذه القضايا الحرص على الانطلاق من المنطلق الإسلامي الجامع الشامل، لا المنطلق المحليّ والإقليمي الضيق، فضلا عن العرقي أو القومي الذي ثبت أنه منطلق "انتحاري" تاريخيا وسياسيا، كما يشهد القرن الميلادي العشرون بكامله من تاريخ العرب والأتراك على سبيل المثال.
ولا ينبغي بالمقابل الانسياق وراء المحاولات المتواصلة لدفع المسلمين من غير الأكراد إلى اتخاذ موقف عدائي واستعدائي تجاه قضيتهم، بتكرار الحديث عن أنّ قضية الأكراد ليست سوى "ورقة" في اللعبة الدولية. فكل قضايا المسلمين أصبحت "أوراقا" في لعبة دولية، تستهدف سائر قضايانا، وضرب بعضها ببعض. وكيف يقبل مسلم من أي جنس كان أن يعتبر قضية استعادة أسباب الحرية والكرامة والسيادة -بل حتى الحقوق المعيشية اليومية البسيطة- مجرّد "ورقة في لعبة سياسية"؟!
لا تختلف اللعبة الدولية في قضية الأكراد عن اللعبة الدولية في القضايا الأخرى، بل إنها لعبة قديمة متكررة، محورها الحيلولة -ما أمكن- دون اجتماع أطراف المنطقة الواحدة على أهداف مشتركة توحّد قوى أبنائها أمام القوى الأجنبية، وذلك جنبا إلى جنب مع تحريك أهداف بديلة؛ أهداف جزئية لفريق دون فريق، هي في الأصل مشروعة، ولكن يستحيل تحقيقها في ظروف معينة إلا عبر الصدام مع الأطراف الأخرى، وهذا ما يحوّلها في اللعبة الدولية الجارية إلى أداة لتحقيق مآرب أبعد مدى من تلك الأهداف بكثير، بل إنّ تحقيق تلك المآرب الأجنبية يمكن أن يصبح بين ليلة وضحاها هو العقبة العظمى في وجه تحقيق تلك الأهداف المشروعة في المستقبل.
إنها معادلة سياسية تمثل أقدم الوسائل وأبسطها للإيقاع بين طرفين، ورغم ذلك لا يكاد ينقطع استخدامها وتطبيقها في معظم مناطق أرضنا الإسلامية، ولا يزال يوجد في صفوفنا من يجعلون أنفسهم أدوات لتنفيذها، مع ما يسبّبه ذلك من خسائر مدمّرة.
الأكراد مطالبون اليوم في إطار هذه اللعبة الدولية بالتحرّك في بلد كالعراق، والتراجع في آخر كإيران، والتحالف في ثالث كتركيا، وأن يكون تيسير وجود ما يشبه الكيان المستقلّ بهم على حساب الحيلولة دون تيسير أبسط أسبابه هناك؛ بحيث لا يمكن في الحصيلة أن يصلوا وأن تصل المنطقة معهم إلاّ إلى "صدامات"، سيّان من يكون أطرافها؛ فالمهم أن تقع صدامات، وهو ما يساهم في أن تصل القوى الدولية المعادية إلى أهدافها في المنطقة على حساب الجميع.
قضية محرمات
إنّ في مقدّمة ما نسجّله على صعيد الأكراد، وما نعتقد بأن كثيرا ممّن يوصفون بالحركيين الإسلاميين وقعوا فيه.. أنّ كثيرا منّا جعل من هذه القضية نوعًا من أنواع "المحرّمات" زمنا طويلا. وربّما كانت الحساسية المميزة في اتخاذ موقف في قضية الأكراد أنّ الظلم الواقع عليهم قائم وهم في بلدان إسلامية مستقلة؛ فهو يصيبهم بأيدي المسلمين عموما، بغض النظر عن التيارات التي حكمت وسيطرت، أو عن الدور الأجنبي في إيجاد هذه القضية من حيث الأساس عبر وضع "خطوط" على خرائط جغرافية، تحولت إلى "حدود" سياسية بين بلاد المسلمين، وتحوّل الأكراد في هذا الإطار إلى شعب ممزّق الأوصال ما بين دول المنطقة.
وهذه الحساسية تركت آثارها السلبية -بحق- في نفوس كثير ممّن ينطلقون من المنطلق الإسلامي داخل صفوف الأكراد أنفسهم، لا سيما أنها حساسية غيبت مواقف كان من المفروض أن تكون قوية حاسمة من بعض الصور المأساوية الصارخة، كما في مأساة "حلبجة" والحملات العسكرية التركية المتعاقبة على الأكراد في مدنهم وقراهم داخل الحدود التركية، وداخل الحدود العراقية على السواء.
كذلك فإن المطالبة الإسلامية الحركية عموما عندما تطرح من وقت لآخر بأن يكون التعامل مع قضية الأكراد على أساس أنّها "جزء من قضايا المسلمين المشتركة" وليست قضية انفصال أو اضطهاد واستقلال، كما هو الحال مع كشمير مثلا.. هذه المطالبة مطروحة بصورة مماثلة عندما يتكرّر الحديث عن قضية فلسطين مثلا، فلا ينقطع التأكيد عن استحالة الوصول بها إلى الأهداف المشروعة، إلا بالرجوع بها إلى مكانتها الأصيلة؛ قضية إسلامية؛ أرضا، وتاريخا، وشعبا، وحاضرا، ومستقبلا، وكذلك من حيث الوسائل المطلوبة لتحقيق الأهداف المشروعة.
وفي جميع الأحوال ينبغي التأكيد على أنّ فتح باب "المحاسبة المتبادلة" على المواقف لا يوصل إلى نتيجة مفيدة، وإنّما قد توصل إليها النظرة الجادّة فيما يقع من أحداث معاصرة، والسعي لاتخاذ موقف إسلامي قويم مشترك ونشره تجاهها.
الموقف الإسلامي
إنّنا في بلادنا الإسلامية بمجموعها - وليس في قضية دون قضية، أو بلد دون بلد - نودّع عصر الانحطاط ونتهيّأ لاستقبال الصحوة والنهضة من جديد. فهل رصدنا عبر عشرات السنين الماضية من تاريخنا المعاصر خطوة حققت أو تحقق شيئا راسخا باقيا على طريق النهوض إلا ما كان يستمدّ قوّته وفعاليته وتأثيره من الإسلام، ومن الانتماء إلى الإسلام؛ عقيدة أو انتماءً حضاريا، دون تغليب أي نسب أو انتماء أو مصلحة جانبية أخرى؟!
وما يسري على العرب أو الأتراك أو الأفغان أو الأمازيغ يسري على الأكراد على هذا الصعيد. فمن أنجز وحقق نتائج إيجابية، كان ينطلق من إسلامه وليس من نسبه وجنسه، ومن أنجز فحقق نتائج سلبية كان لا ينطلق من الإسلام عقيدة أو حضارة، بل من منطلق آخر.
ويسري هذا على الأكراد عندما نتأمل فيما أنجزه أمثال محمد فريد وجدي، وأحمد ومحمد تيمور، وما نكاد نفرّق بينهم وأمثالهم وبين سواهم في ظهور المصابيح الأولى لحركة الإصلاح الإسلامية الحديثة.
وكما كان للمودودي وأقرانه في المشرق، وابن باديس وأقرانه في المغرب من الوطن الإسلامي الكبير الممزق فضلٌ في حمل راية الجهاد المعاصر في مواجهة علمانية غازية تسعى للاستيطان في ديار الإسلام على أيدي ربائبها، كان للأكراد إسهامهم في ذلك الجهاد، كما تعلّمنا ثورة محمود الحفيد عام 1930 في العراق، والشيخ سعيد بيران عام 1925 في تركيا، وقاضي محمد عام 1946 في إيران، ثم ثورة الملا مصطفى بارزاني بين عامي 1961 و1975 في العراق.
وتبقى المسيرة مشتركة بين الأكراد وسواهم، فلا يمكن أن يُلام فريق دون فريق على ما كان في مرحلة التغرير والتضليل والانحراف. فكما غرّرت الدعوات العلمانية الوافدة، برداء قومي أو توجّه ماركسي، بقطاعات من شعوبنا المسلمة بغالبيتها، فنشرت أوهام مواجهة الاستعمار الحديث تحت رايات منحرفة، وقع ذلك أيضا في صفوف الأكراد، فظهرت لديهم الرايات العلمانية، القومية واليسارية، فرفعتها أحزاب من قبيل "الحزب الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني، و"حزب العمل" بزعامة عبد الله أوجلان، و"الحزب الاشتراكي" بزعامة محمود عثمان، و"حزب الاتحاد الكردستاني" بزعامة جلال طالباني.
وتبقى المسيرة مشتركة بين الأكراد وسواهم في المرحلة التالية أيضا، وقد عمّت الصحوة الإسلامية كلّ مكان، فعمّت أوساط الأكراد أيضا، فكان من مؤشراتها في صفوفهم ظهور أحزاب وروابط إسلامية الاتجاه، كـ"الحزب الإسلامي الكردي"، و"رابطة الطلبة المسلمين الأكراد"، و"الحركة الإسلامية في كردستان"، و"الاتحاد الإسلامي الكردي"، و"الرابطة الإسلامية الكردية". بل إنّ هذا التعدد التنظيمي في التوجه الإسلامي المشترك، لا يختلف في واقعه عن حقيقة التعدد التنظيمي في التوجّه الإسلامي المشترك على صعيد الشعوب الإسلامية الأخرى. ونحن نحتاج إلى ما يحقق التعاون والتلاحم سواء بقي التعدّد التنظيمي أم اضمحلّ، بين الأكراد وسواهم.
ولعلّ في مقدّمة ما يعبر عن الموقف الإسلامي الكردي القويم في إطار أوضاع الأمة والمنطقة والتطلعات المشروعة للشعب الكردي المسلم، كلمة أطلقها رئيس الرابطة الإسلامية الكردية في مطلع التسعينيات الميلادية الشيخ علي محيي الدين قره داغي، مؤكّدا "أن الحل المرحلي الآن هو إعطاء الشعب الكردي حقوقه المشروعة في إطار الدول التي هو منها، وهذه تتمثل في الاعتراف بوجوده ولغته وحقه في المساواة.. أما الحل الإستراتيجي فهو عندما تقوم دولة الإسلام، ففي تحكيم الإسلام الحل النهائي لهذه القضية
|