هل يمكن للحياة السياسية أن تستقيم دون أحزاب؟
هل يمكن للحياة السياسية أن تستقيم دون أحزاب؟
لو تم وضع مائة نقطة معيارية للحياة الطبيعية لبني البشر، لوجدنا أن الناس سيلتقون عند خمسين أو ستين نقطة منها على الأقل، فالكثير منهم يريدون حياة نظيفة خالية من المنغصات، بيئة نظيفة، فرص للعمل متساوية، فرص لتبوء المراكز القيادية متساوية، الاستفادة من موارد البلاد بطرق عادلة، تأمين لقمة بسعر معقول ونوعية خالية من مسببات الأمراض، فرص للعلاج متيسرة لأغلب الناس، تأمين سكن وتعليم لأبناء البلد الخ.
ستكون مطالب الناس متشابهة تقريباً في حدها المتوسط، بغض النظر عن انتماء كل منهم لدين أو طائفة أو عِرق أو عشيرة، ولا يُعقل أن يظهر من يُبشر بالبطالة وتلوث البيئة وإشاعة الجهل والفحش والفساد.
حسناً، سيجد كل مواطن في بداية وعيه أن هناك إدارات ومؤسسات سبقت وجوده على هذه الأرض، وتوارثت نُظمها الإدارية وفلسفات تلك النُظم وقواعدها. ويحس المواطن أنه في حالة تأمل لتقييم تلك النُظم وإبداء رأيه فيها، فيتأثر بما تشاهده عيناه وما يسمع من المنتقدين لتلك الأنظمة، فتبدأ أحاسيسه بالتشكل تجاه ما هو محيط به، فهو يؤيد لدرجة مُطلقة ما هو قائم، أو يعترض بشكل مطلق على ما هو قائم، أو يتمنى أن يتم تغيير معين في بعض المسائل.
كيف يتم رصف الناس في مجموعات أو زمر تجاه المسائل السياسية؟
في مسألة الرضا أو الرفض لما هو قائم، من الخطأ التسليم بتقسيم الناس حسب مهنهم، فتجد بعض الأطباء يرتاحون لما هو قائم و (راهِن) وتجد منهم ما هو يتحفظ على كثيرٍ من المسائل، وكذلك تكون الحال بين المزارعين والعمال والمهندسين والمقاولين والمحامين وغيرهم. إذن، فلا تقسيم حسب المهنة يصلح للمناقشة في المسائل السياسية، خصوصاً عندما نعلم أن هناك نقابات مهنية ونوعية يُفترض أنها تمثل تلك الشرائح المهنية.
كذلك، لا يمكن التسليم بتقسيم الناس حسب اتجاهاتهم العرقية أو الطائفية أو الجغرافية أو العشائرية فآلام ابن مدينة في شمال البلاد وأحلامه لا تختلف عن الآلام والأحلام عن ابن مدينة في شرقها أو جنوبها، بغض النظر عن اسم عشيرته أو طائفته أو دينه.
وتتفنن إدارات البلاد في تمزيق مبكر لحالات التعبير عن وجهات النظر من قِبل أبناء الشعب، عندما تناغي أبناء طائفة أو جهة فترفع من شأن بعض أبناء طائفة أو جهة أو دين، وتنتقيهم بعناية بحيث يقوموا بكبح حالات الاعتراض عند من ينتمون لتلك المجموعات، فتكون مصلحة النظام هي من يقرر شكل واسم ونمط التعامل مع تلك المجموعات، وقد تبتكر الإدارات ما يسمى ب (الكوتة) فهذه مقاعد في البرلمان لأبناء الأرمن أو الشيشان أو البدو الخ، وهذه مقاعد للنساء الخ، وكأن هؤلاء لا يتساوون في إنسانيتهم ومواطنتهم مع الآخرين.
مجلس إدارة مُقنن لجمعية عامة مشتتة
في الأساس أن الدولة والتي تتكون من أرض وشعب وإمكانيات وحكومة أو (مجتمع سياسي) يقود شؤون تلك الدولة، تشبه لحد كبير شركة مساهمة تختار مجلس إدارتها لتنمية أموالها وتحقيق الربح للمساهمين. وأن أعضاء الجمعية العامة (المجتمع الكلي) يجب أن يطمئنوا على مساهماتهم بين فترة وأخرى من خلال تلقي تقارير مفصلة ومعلومات دقيقة عن نشاطات الشركة وأرباحها وتفحص إمكانية وجود هدرٍ للأموال الخ.
ولأنه من الصعوبة بمكان، أن تلتقي الحكومة (مجلس إدارة الشركة) بكل أفراد المجتمع ونقل أدق التفاصيل إليهم، والخضوع لرغباتهم والاستماع لانتقاداتهم والرضوخ لمطالبهم بتغيير مجلس الإدارة ومحاسبته، فقد ابتكر بنو البشر مجالس الممثلين، فكان في اليمن القديمة قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة، ما يسمى ب (المزود) وهو مجلس يشرع وينتخب رئيسه بشكل دوري، وهي تجربة تسبق التجربة الرومانية واليونانية بحوالي سبعة قرون.
سيقول قائلٌ، توجد البرلمانات الحديثة، وهي ما يقوم بتلك المهمة. صحيح، لكن من يتفحص التجارب البرلمانية في العالم، فإنه سيكون أمام عدة حالات يكون اختيار النواب فيها وِفق قواعد لا تمثل تمثيلاً دقيقاً ـ في معظمها ـ المجتمع، فسلطة المال ورغبة الحكومة في توصيل ما يريحها مستقبلاً يجعلها تسهل مهام مرشحين دون غيرهم.
من جهة أخرى، فإن البرلمانيين لا يعودون في أغلب الأحيان الى مرجعيات شعبية تنتقد أدائهم وتوجههم الى ما هو مفيد للمصلحة الشعبية. لكن في حالات أن يكون البرلماني منتخباً من خلال قنواتٍ حزبية فإن سياسات الحزب الذي رشحه ستجعله يعود إليه بشكل مستمر لتحديد موقفه من القضايا المطروحة في البرلمان.
لماذا فشلت التجربة البرلمانية الحزبية في البلدان العربية؟
لم يكن العمل الحزبي في البلدان العربية مرغوباً فيه جماهيرياً، لأسباب:
1ـ ارتباط اسم الحزب دينياً وتراثياً بغزوة الأحزاب، وكل ما يتعلق بلفظ الحزب في القرآن الكريم، من خبث ومكائد للأنبياء والرسل، فانسحبت تلك النظرة الى الموقف الراهن.
2ـ قلة عمر الأحزاب العربية، وتأثر أيديولوجياتها بأيديولوجيات عالمية، وعدم تسجيلها لإنجازات واضحة جماهيرياً.
3ـ تحالف القوى الغربية والحكومات المحلية والقوى الاجتماعية التي تخشى من خطر الأحزاب على وضعها، جعل من خطاب تلك القوى والذي أتاحت له قوانين الإعلام العربية أن يشيطن عمل الأحزاب، جعل من جماهيرية الأحزاب محدودة وتكاد لا تُرى.
4ـ قد تكون بعض النماذج لأحزاب استلمت الحكم، أو التي تكونت أجسامها حول حكمٍ معين سبباً في تعميق الكراهية وعدم الالتفاف حولها.
5ـ النماذج العالمية التي استلمت الحكم وتناوبت عليه لا توحي بوجاهة التجربة لأن يتم تبنيها من قبل الجماهير العربية، فالحزب الشمولي في الصين والاتحاد السوفييتي السابق، لم يسمح بتداول السلطة بين أبناء المجتمع ولم يستطع الحفاظ على كيان النظام (إلا في حالة الصين الراهنة).
والأحزاب في الدول الليبرالية، يتقاسم الحكم فيها أقوى حزبين أو ثلاثة، وعند تفحص حقيقة الأمر، فإن ثبات الحالة السياسية لا يعود لقوة الحزب، بقدر ما يعود للقوة المالية والإعلامية والصناعية.
كلمة أخيرة
قد لا تكون الحياة الحزبية هي الحالة المُثلى، كما هي الحال عند قبول الطلبة في الجامعات، حسب مجموع العلامات، فمن يستطيع الدفع لأستاذ خصوصي أو لمدرسة راقية يستطيع أن يزيد من مجاميع علاماته، أما الفقراء والبائسين من الطلبة فسيحتاجون الى مزيد من الجهد المضاعف لكي يلحقوا بغيرهم، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يقدم نموذجاً أفضل كأساس لقبول الطلبة في الجامعات بالوقت الحاضر.
كذلك هي الأحزاب، فلن يستطيع المجتمع محاسبة أعضاء برلمانه إلا من خلال مرجعيات حزبية تعي ما تريد، وتعلم أن الجمهور لن ينتخب ممثليها إذا لم تطور أدائها لخدمة جمهورها.
__________________
ابن حوران
|