وبين قيام الشعوب العربية بالثورة ، كيف أحدثت التغيير إلى الصلاح ، وأثمـرت كلَّ النجـاح ، مع الحفاظ على الوطن ، ورعايـة ما يحتاجه الناس من الأمن ، حتى أكمـلت مشروع التغيير ، والناس جميعا تحمـد ما فعلوا ، وتشكر ما صنعـوا.
لقد أراد الله تعالى أن يدافع عن الذين آمنوا ، أعني أمـّة محمـّد صلى الله عليه وسلم ، فبعدمـا بذل الغـرب مالا يُحصى من المال ليشوِّه صورة المسلمين ، بإظهارهم في صورة الأمـّة المتوحّشـة المتخلفـّة !!
جاءت ثوراتـُنا لتثبـت للعالم أننـا نحن الأمـّة المتحضرة ، وأننـا نحـن في الحقيقة هنـا العالم الحـرّ ، كما أثبت الغرب في أفغانستان والعراق ، وبدعمه لجرائم الصهاينة في فلسطين أنـّه العالم المتخـلّف المتوحّش المجرم .
وصدق الحق سبحانه : ( إنّ الذيـن كفـروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، ثـمّ يغلبـون ، والذين كفروا إلى جهنـم يحشـرون ) .
والخامس : أنَّ الشعوب العربية قـد نضج اليوم وعيُهـا أنه لايمكن أن يصلح حالها في ظل هذه الأنظمـة المتعفّنـة ، فلا حلّ إلاّ أن ترحـل ، وأصبحت قناعة الشعـوب لايخالجها شكّ ، أنّ كلّ خطوة تعـدّ بهـا هذه الأنظمة للإصلاح ، ما هي إلاّ حلقة من سلسلة الدجـل ، والكذب الذي لايحسنون سواه .
وقـد تيقّنـت الشعوب العربية أنَّ إجهاض نهضتهـا يبـدأ إذا صدقت الشعـوب أنَّ هذه الأنظمة التي حكمت طيلة عقود بالنفاق ، والكذب ، و الظلم ، والفساد ، صادقة في عزمها التغيير ، والإصلاح !
لقد أيقنـت الشعوب العربية أن لا حـلّ لهذه الأنظمـة ، إلاّ أن تُخـلع وتحُاكـم على جرائمها ، وإلاَّ فلـن يُشـرق على الأمـّة فجـرٌ جديد بكلّ ما تحمله كلمة جديد من معنـى .
ألا ترون هذه الشعوب الثائرة قـد حزمـت أمرهـا ، وأكـَّدت عزمها ، أن لا تنازل عـن : ( الشعب يريد إسقاط النظـام ) ، وهي تعلم علم اليقين أنهـا إذا تراجعت وهي في طريق الثورة ، وركنت ولو قليلا إلى الذين ظلموا ، فسوف تُسحق سحقا لاتكون لهم بعدها قائمـة أبـداً .
والسادس : تأملوا كيف أنّ من بركات ترك الجـدل ، وبدء الجهاد والعمـل أنه يثمر الوصول إلى الهدف بأيسر الطـرق ، ذلك أنّ الله تعالى في عون الكادح يطلب الحـقّ ، والخلاص من الظلـم ، لايتخلّى عنـه ، ويبغض أهل الجـدل الذين غاية طلب أحدهم الإنتصار على خصمه ليرضي غروره !!
فلو بقيت الشعوب الثائرة تجادل في ( حكم الخروج ) ! ( وفائدة المظاهرات ) ..إلخ ، لبقيـت في ذلهـّا إلى يوم الدين ، لكنها عملت بقوله تعالى ( ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنـكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتـم مؤمنين ) ، ففُتِحت لها أبواب لم تكن في حسبانـها ، وما خطرت على بالهـا.
كما قال الحق سبحانه ( إنّ الله لايغيـّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهـم ) !
والسابع : تأملوا كيف أنّ الشعوب العربية رغم كـلّ محاولات الفصل بينها ، وزرع العداوات ، ورغم هذه الحدود السياسية المصطنعة التي وضعها المستعمر ليمـزّق الأمّـة إلى دويلات متناحـرة ، لازال وجدانها الشعوري ينبض بإتحادهـا ، وشعورها يهتف بوحـدة مصيرهـا ، وأنها أمـّة و احـدة ، فهم في توادّهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم ، مثل الجسد الواحـد ، ولهذا ترى أهل كلِّ قطر يمدون أيديهـم لغيرهـم من الثـَّوار ، يشاطرونهم فرحة الثورة ، وينبئونهـم بما يحتاجونه من أدوات المعرفة ، والتنظيـم ، لينجحــوا !
إنهم رائعة هذه الأمـّة العظيـمة ، يبقون يشعرون أنهم يعيشون همـّا واحداً ، ويتطلّعون إلى غاية واحدة ، وتجمعهـم هويّة واحـدة ، وكيف لا ؟! ودينهم واحـد ، وكتابهم واحـد ، وقائدهـم واحد هو قائد البشرية كلّها .
والثامن : تأملوا كيف جعل الله تعالى هذه الثورات التي تنشد قيم الإسلام العليا : تحرير الشعوب من الطغاة ، وإستعادة الكرامة ، والإطاحة بكلّ صور الظلم وإغتصاب حقوق الشعـوب ، جعلها الله باسم الأمـّة ، ليس لأحد أن يدّعيها زورا ، ولا أن يتسلـّق عليها ليزعمها له من دون الناس ، لينكسر هذا الغرور الذي ملأ أرجاء الأحزاب ، والحركات _ حتى الإسلامية منها _ إذ تضخَّمت ( الأنا الكبرى ) في كلّ حركة فلا ترى إلاّ شعارهـا شعاراً ، ولا تبصر إلاّ إنجازهـا إنجـازاً ، واستحوذ على كلِّ حزب حبُّ الإستئثار بثمرة متوهَّمـة _ لازال بينهم وبينها أمـدٌ بعيد _ لمشروع تزاحموا على بعض مكاسبه العاجلة ، بالشحِّ الذي أهلك من قبلهم ، فضربوا للناس _ في أحايين كثيرة _ أسوء مثل لمشروعهـم !
وتباغضوا حتى جار بعضُهم على بعضهـم وبغـوْا ، وتحاسدوا حتى تقاتلـوا ، وقد أمرهم الله أن يكونوا متراحميـن ، أذلـةً علـى المؤمنيـن ، أعـزةً على الكافرين ، ( فنسوا حظـَّا مما ذكـروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء ) ، ونزع الله البركة من آثار كثيـرٍ منهـم _ إلاّ من رحم الله _ وردَّها إلى أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّـم ، التي فيها الخيـر إلى يوم القيامة .
التاسع : فليبصر كلَّ عاقل ما في هذه الثورات من درس عظيم فيما يحدثه حسن التنظيم من الإنجازات الحضارية ،
تنظيم الفكـر على : مستوى الأهداف المستقبلية والمرحلية ، والصياغة الملائمة للخطاب بحسب المقام ، وحسن إختيار العناوين والشعارات وفق معادلة المشهد المتغيـِّر .
وتنظيم الوسائل والآلات : على مستوى الإعلام ، وعلى مستوى الحراك الشعبي ، وعلى مستـوى توظيف الطاقات وعدم إهمال أيِّ منها .
وتحت كلِّ جانب من هذه الجوانب ، تفصيلٌ طويـل يضيق عنه المقام ، غير أنَّ الذكي تكفيه الإشاره ، كما تُذكي النار الشراره .
وقد صـدق من قال : الضعف المنظَّم قـوَّة ، والقـوَّة غير المنظمة ضعـف !
فليتعلم حملة المشروع الإسلامي من هذه الثورات الدرس الأهـمّ ، وليدعوا الفوضى التي جعلتهـم في تيه يشبه تيه بني إسرائيل !!
والعاشر : أنّ هذه الثورات الشعبية نجحت لأنها أدارت الصراع مع الطغاة بكفاءة عالية : فاستعملت السلاح المناسب ، ونصبت الفخ المناسب ، ورفعت الشعار المناسب ،
أما السلاح المناسب فهو قـوَّة إرادة الجماهيـر في مقابل قوة العسكر ، إذ الإرادة الصادقـة إذا تكاثـرت بالجماهيـر الصامدة فهي غالبة لامحالة ، لاسيما إذا كان (مفهوم) العسكر يتداخل مع (مفهوم) الجماهير ، ولم يأخـذ إلاَّ القذافي حـذره من هذا التداخل بإستعماله المرتزقة ، ولهذا تأخرت ثمار الثورة عليه !
وأما الفـخّ فهو إستعمال السلطة للعنف ضد المظاهـرات السلميّة ، فإنـَّها إن فعلت ذلك وقعت فـي المصيـدة ، كما تقع الفريسة في الشباك ، لايزيدها حراكُها إلى تورُّطـا فيما هـي فيه !
وكلَّما زاد النظام الطاغية من مواجهة المظاهرات السلمية بسفك الدماء ، زادها إصرارا على طريقها ، لأنه أعطاها اليقين أن طريق التراجع أشد دمويـة ، من المضيِّ قُدُماً .!
فهو إن تركها تتظاهر مجتمعةً عليه ، زحفت عليه فخلعته ، وإنْ واجهها بالعنف زادت إصرارا وعزمـا !!