(3)
لذلك كان من الطبيعي أن يكون رد الفعل عنيفاً على هذا التشويه والتعسف ضد المسلمين، خاصة في ظل الحكومات الوطنية. ففي عام 1961 منعت حكومة (إبراهيم عبود) منعت الصلوات المسيحية خارج مباني الكنائس. وفي 27 شباط/ فبراير 1962، أعلنت وزارة الداخلية طرد كل البعثات التبشيرية من جنوب السودان، وكان عددها آنذاك 617 بعثة وإرسالية مسيحية تعمل في السودان. وكان الأغلب منها كاثوليكية. وقد برر وزير الداخلية الإجراء بأن عمل تلك البعثات يهدد وحدة السودان واستقراره
ألقت هذه الإجراءات بظلالها على العلاقات الشمالية ـ الجنوبية. وقد وصل الأمر الى قمته بإعلان جبهة الميثاق الإسلامي تطبيق الدستور الإسلامي، مما زاد من مخاوف الجنوبيين بأن الشماليين يسعون الى أسلمة الجنوب. كما تعززت هذه الكراهية بعد أحداث أخرى عدة، مثل أحداث (جوبا) في 8 تموز/يوليو 1965، و (واو) في 11 آب/أغسطس 1965، عندما فقد عددٌ من الجنوب أرواحهم نتيجة عمليات قام بها الجيش والشرطة ضد المتمردين والمتعاطفين معهم.
وعلى الرغم من عدم توفر أية تفاصيل دقيقة عما حدث، إلا أن من المؤكد أنها تركت الكثير من مشاعر المرارة في وجدان الشعب الجنوبي. فكان رد الفعل أن زاد متمردو (الأنانيا) من غاراتهم على الشماليين أينما وجدوا في الجنوب، بينما توحدت الأحزاب الجنوبية في المنفى ـ بعد بطش حكومة عبود بها ـ خاصة الجبهة الإفريقية لتحرير السودان (SALF)، وحزب الاتحاد الوطني السوداني الإفريقي (سانو SANU) اللذين توحدا خارج السودان، وشكلا جبهة تحرير (أزانيا) بهدف تأسيس دولة إفريقية حرة ومستقلة في جنوب السودان.
(4)
منذ أن جاءت حكومة (جعفر النميري) بأطروحتها الشيوعية (أيار/مايو 1969)، سعت الى دمج الشمال والجنوب في مشروعها الداعي للإشتراكية، على الرغم من أنها اعترفت بوجود فوارق تاريخية بين الجنوب والشمال، وأنها هدفت الى تحقيق وحدة انطلاقاً من هذه الحقائق الموضوعية (إن من حق شعبنا في الجنوب أن يبني ويطور ثقافته وتقاليده في نطاق سودان اشتراكي موحد)*2
انطلاقاً من هذا التوجه، أوكلت حكومة 11/أيار ـ مايو وزارة شؤون الجنوب الى القطب الشيوعي الجنوبي (جوزيف غارنغ)، الذي قام بإنشاء عدة مراكز في مدن الجنوب لتدريس الشباب في عددٍ من الدول الشيوعية، لإعداد مؤهلين ينفذون الحل الاشتراكي المرتقب في الجنوب. وقد علق واحدٌ من النخب الجنوبية، وهو (بونا ملوال)، على تلك السياسات بأنها (تنطلق من افتراض أن الجنوب لم يتشكل بعد، وليس فيه ما يمنع من الانتقال من عصر ما قبل الرأسمالية الى الشيوعية).
غير أن تلك السياسات لم تحقق أي تغيير كبير في الجنوب، وبقي الدين المسيحي يشكل عنصراً مهما في الأيديولوجيا الجنوبية، كما اتضح ذلك لاحقاً في أطروحات الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLA) في تعاملها مع نظام الإنقاذ الإسلامي.
في عام 1984 أقيمت صلاة في كنيسة (كتور) في (جوبا) اشتركت فيها كل الفئات الكنسية هناك تحت ستار (السلام والغذاء)، بينما كان مغزى الصلاة سياسياً، إذ صاحبها وضع ملصقات وشعارات تنادي برفض الإسلام والتعريب في الجنوب. وهو التوجه ذاته الذي تبنته الحركة الشعبية في مفاوضاتها مع الحكومة، خاصة في ما عرف بإعلان المبادئ (DOP)، الذي تضمن علاقة الدين بالدولة، حيث دعت الحركة الشعبية الى قيام نظام علماني في السودان، وهي النقطة التي كانت الأكثر جدلية في المفاوضات بين الطرفين طيلة التسعينات من القرن العشرين، وحتى (مشاكوس ونيفاشا ـ كينيا) بين عامي 2002 و 2005، حينما قدمت الحكومة الكثير من التنازلات، وتم توقيع السلام بين الطرفين.
كان العامل الديني في علاقة الشمال بالجنوب في فترة حكم الإنقاذ ـ التي أعلنت تطبيق الشريعة عام 1991 ـ أكثر وضوحاً من فترة حكم النميري، حيث أعلنت الإنقاذ الجهاد ضد المتمردين الجنوبيين، فدخلت العلاقات الشمالية ـ الجنوبية مرحلة جديدة من الأزمة والتعقيد والتدويل.
يتبع
هوامش من تهميش الكاتب
*1ـ Lilian Passmore Sanderson and Nivelle Sanderson, Education, Religion, andPolitics in Southern Sudan, 1899-1964 (London: Ithaca Press,1981 in: Beshir, Ibid, p.17
*2ـ Sanderson and Sanderson, Ibid
__________________
ابن حوران
|