عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-06-2008, 02:09 AM   #2
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

يري شوقي ضيف "ان شيوع الغزل في المدينتين الكبيرتين بالحجاز يرجع الي عوامل نفيسة، كما يرجع الي عوامل اجتماعية، فاما النفسية؛ فترجع فى جملتها الي شعور الفرد فى المدينتين بنفسه اكثر مما كان يشعر بها فى الجاهلية، فقد كان قديماً يفني فى قبيلته ويذوب فيها، ولا يحس لنفسه بوجود الا من ظلالها، وهو ذلك يتغني بمفاخرها ويهجو خصومها ويمدح ساداتها؛ اما فى العصر الحديث فقد شعر شباب المدينتين، انهم ورثة كسري وقيصر. وقد صبت فى حجورهم خزائن الارض، وشعروا كأن الدنيا تدين لهم، فتولد فيهم شعور عميق بأنفسهم. ولذلك فقد تحول الشعر من بعض الوجوه الي الحديث عن النفس لا عن القبيلة، كما تحول الغزل من بعض الوجوه الي التغزل باللذات بدل التغزل بالمحبوبات".

2- تأثر الغنا العربى بالغناء الفارسى والرومى، وانتشرت مجالسه وكثر رواده وكان من اثر شيوع الغناء في هذه البئية الحضارية المترفة والوارعة ازدهار الشعر الذى يعبر عن مشاعر حب حقيقية تولدت فى هذه البيئة المتحررة، إلي حد ما من قيود الإختلاط بين الجنسين، ولم يكن غزلاً تقليدياً يأتي فى مقدمات القصائد مثلما كان الشعر الجاهلي او الشعر التقليدى؛: فلم يكن عسيراً علي الشباب من الجنسين الغناء بوسيلة أو باخري فى هذا المجتمع الحضارى الذى صرف علي متعته قدراً كبيرا من وقته ونشاطه, والذى خفف شيوع الغناء ومجالسه من جهامه الحياة فيه، بل ربما اشاع قدراً كبيراً من اللين والرفق فى عادات الناس وأخلاقهم، حتي قيل من طويس إنه اول عن غني بالعربية فى المدينة واول من القي الخنيث بها.

وكان من الطبيعى أن يغري المغنون الشعراء بتقديم اشعار تصلح للغناء من حيث ايقاعها والفاظها ومعناها ولم تكن هذه المواقف بطبيعتها بحاجة الي قصائد مطولة، بل الي مقطعات قصيرة محدودة تشيع فيها دقة اللفظ وبساطته، وجمال الايقاع الذى يريح صوت المغنى عند انشاده وكل هذه اللمسات الحضارية التى أصابت شعر الحب، كانت تشير الي اقترانه بالحس الشعبى المتحضر الذى يعزف عن النماذج الجاهلية البدوية واشعار الاسلاميين الذين قلدوا واتبعوا موضوعاتها ونهجها.

شهدت بوادى نجد والحجاز فى العصر الاموي تطوراً واضحاً فيما كانت تخوض فيه من فنون الشعر التقليديه ويسبب الهجره النشطة للقبائل، ووجود علاقات قوية مستمرة بالمراكز الحضارية واشاعة ولادة بني اميه الامن والنظام فى هذه البوادى حتي لاتكون مقراً للخارجين علي الدولة. كل ذلك دفع شعراءها الي الابتعاد عن الموضوعات التقليدية كالحماسة والفخر والهجاء لانقطاع الاسباب الداعية اليها، واتصلوا بالمديح حين كانوا يفدون علي الخلفاء والامراء فى الحواضر لتكسب، ولكنهم فى بواديهم فرغوا لانفسهم يعبرون عن هواهم تعبيراً حقيقياً، بعيداً عن التكلف والاصطناع، وينمون ما احسه بعض اسلافهم الجاهليين من مشاعر العشق التى ذاعت بعض قصصها، وربما ما كان ترامي الي اسماع اهل البادية من شعر الغزل الحضرى في مكة والمدينة حاضراً لهم للتعبير عن عواطفهم الصادق.

لكنهم التزموا في هذا التعبير كل المعاني السامية النبيلة التي تجعل من عاطفة الحب علاقة مقدسة سمتها الطهر والنقاء.

و في الختام جدير بالذكر: إن الوجوه التى دعت الى قيام الغزل، هى التى دعت الي قيام الغناء والموسيقي، وان الظروف التى ساعدت علي نموالاول هى التى ساعدت علي نمو الثاني. وان الارتباط بينهما وثيق بقدر الارتباط بين الوعاء وما يحويه، والغزل أشبه موضوعات الشعر بالغناء.و مطلب النفوس من هذا مطلبها من ذاك، ومن هنا كان التجاوب بين حالتيهما، فمن آثار الموسيقي في الحجاز توجيها موضوع الشعر الي الغزل.

فالحجازيون كانوا يتعصبون للغناء تعصبهم للرأي. والعراقيون كانوا يكرهون الغناء كراهة تزمت وضيق الافق، وانحصار تفكير.

ما هي العوامل التي ادت الي نشأة الغزل الا باحي في الحواظر والغزل العذري في البوادي؟

و قد ذهب الغزل فى الحجاز مذهبين رئيسين اطلق عليهما اسما الغزل العذري او البدوى او العفيف وهو حب عذرى ام طاهى وهذا الحب هو ثمرة الاسلام الذى زرع العفة فى نفس المؤمن، هذا او ذاك من الشعراء كان يحب بحسه، بل بعقله بل بقلبه، بل بروحه فقط، ولا نجد شاعراً او مؤمناً واحداً كان يحب بهذه جميعاً.

الغزل الحضرى او الماجن او غزل اباحي، صريح او محقق او حس عابث او جنسى او مطلق مفحش؛و حب عمرى وغزل عمرى. وهذا الحب والغزل هو ردة جاهلية وخروج علي الاسلام.

وهذا الغزل الحضري فهو الذي يصدر عن تعلق الشاعر بأمره تستهويه فيتودد اليها ويتغني بمحاسنها وقديصور حرقته وألمه وشوقه وعنف حبه ولكن هذا الحب يفتقر في العفة والاخلاص، فهذا الحب قد تتبدل عواطفه فلايستقر علي حبه بل سرعان ما يمضي عنه الي حب جديد.

إن هذين القسمين من الغزل كانا متقاربين لامتجاوزين، اريد ان العذريين والاباحيين كانوا جميعاً فى الحجاز ومايليه، ولكنهم لم يكونوا يعيشون في بيئة واحدة، وانما كان فريق منهم يتحضر، وفريق منهم يبدو، فإما المحققون او الإباحيون، فكانوا يتحضرون، يعيشون في مكة والمدينة، واما العذريون فكانوا يبدون في بادية الحجاز اونجد. وفى الحق ان عمر بن ابي ربيعة كان مكياً قضي حياته كلها في مكة، وان الأحوص بن محمد كان مدنياً قضي حياته فى المدينة، وفى الحق ايضاً ان جميلاً كان بدوياً فى وادى القري وان قيس بن دريج كان بدوياً يعيش فى بادية المدينة، وان المجنون- ان صحت اخباره- كان نجدياً يعيش فى بادية نجد، وان هذا الغزل بقسميه قد نشأ فى جزيرة العرب خاصة فأما عفيفه كان في البادية، واما القسم الاخر فكان فى الحاضر.

كان اهل مكة والمدينة يائيسين، ولكنهم كانوا اغنياء فلهوا كما يلهو كل يائس وكان اهل البادية الحجازية يائيسين، ولكنهم كانوا فقراء لم يتح لهم اللهو، وقد حيل بينهم وبين حياتهم الجاهلية، وقد تأثروا بالاسلام، وبالقران خاصة، فنشأ فى نفوسهم شيء من التقوي ليس بالحضرى الخالص، وليس بالبدوى الخالص، ولكن فيه سداجة بدوية، وفيه رقة الاسلامية، وانصرف هؤلاء الناس عن حروبهم واسباب لهوهم الجاهلى، كما انصرفوا عن الحياة العلمية في الاسلام إلي أنفسهم، فانكبوا عليها واستخلصوا منها نعمة لاتخلو من حزن ولكنها نغمة زهد وتصوف. قل انهم انصرفوا الي شيء من المثل الاعلي فى الحياة الخلقية.

وظهر هذا الزهد او هذا الميل الي المثل الاعلي في مظهرين مختلفين، اختلافاً شديداً: احدهما الزهد الدينى الخالص الذى قد تجد له صدي في اشعار هؤلاء الخوارج الذين كانوا يتركون هذه البوادي لينضموا الي جيوش الخوارج فى بلاد الفرس، والذين يظهر فى شعرهم شيء من الزهد والتقوي وشدة الايمان وسذاجة لاتجده فى شعر غيرهم من الشعراء؛ والاخر هذا الغزل العفيف الذى هو في حقيقة الامر مرآة صادقة لطموح هذه البادية الي المثل الاعلي فى الحب من جهة، ولبراءتها من الوان الفساد التى كانت تغمر اهل مكة والمدينة من جهة اخري. واذن فهذان القسمان من الغزل اثر من آثار الحياة السياسية فى ايام بنى اميه, اضطرت هذه الحياة السياسية اهل الحجاز الي الابتعاد عن العمل وأوقعت فى قلوبهم اليأس ولكنها أغنت قوماً فلهوا وفسقوا، وافقرت قوماً آخرين فزهدوا وعفوا وطمحوا الي المثل الاعلي.

طه حسين- خلاصة القول: ان أليأس والفقر قد احدثا فى البادية فعل ما احدث اليأس والغني في الحاضرة من نشأة هذا الفن الشعري. لكن يأس البادية وفقرها احدثا هذا الغزل العفيف علي حين قد احدث ياس الحاضرة وغناها هذا الغزل العابث الما جن.
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس